التفسير المنير - ج ٢٢

الدكتور وهبة الزحيلي

٧ ـ إن نظام العالم البديع ، وكتابة الأعمال والآجال غير متعذر على الله ، وإنما هو سهل يسير هيّن ؛ لأن علم الله مطلق غير نسبي كعلم البشر ، وشامل غير محدود ، وعام غير خاص يشمل الماضي والحاضر والمستقبل.

من دلائل الوحدانية والقدرة الإلهية

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤))

الإعراب :

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) الشرك : مصدر بمعنى الإشراك ، وهو مضاف إلى الكاف والميم ، وهي الفاعل في المعنى ، وتقديره : بإشراككم إياهم ، فحذف المفعول.

البلاغة :

(هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) بينهما ما يسمى بالمقابلة وهي كالطباق ، لكنها بين أكثر من شيئين.

المفردات اللغوية :

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ) العذب والمالح. (عَذْبٌ فُراتٌ) شديد العذوبة ، والعذب:

٢٤١

الحلو اللذيذ الطعم ، والفرات : المزيل للعطش. (سائِغٌ شَرابُهُ) سهل انحداره. (أُجاجٌ) شديد الملوحة ، وذلك مثل للمؤمن والكافر. (وَمِنْ كُلٍ) منهما (تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) هو السمك. (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) أي من البحر الملح ، وقال الزجّاج : إنما تستخرج الحلية منهما إذا اختلطا ، والحلية هنا : هي اللؤلؤ والمرجان ، وهي في الأصل : كل ما يتحلى به من سوار أو خاتم. (وَتَرَى) تبصر. (الْفُلْكَ) السفن. (فِيهِ) في كل من البحرين. (مَواخِرَ) عابرات شاقات تشق الماء بجريها ، مقبلة ومدبرة بريح واحدة. (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) تطلبوا من فضل الله تعالى بالتجارة والتنقل فيها. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لتشكروا الله على ما أنعم عليكم به من ذلك.

(يُولِجُ) يدخل ، فيزيد في كل من الليل والنهار بالنقص من الآخر. (سَخَّرَ) أجرى. (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) كل منهما يسير في فلكه هي مدة دورانه ، أو منتهاه ، وقيل : إلى يوم القيامة. (ذلِكُمُ) الفاعل لهذه الأفعال. (اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) أي هذا الصانع لما تقدم هو الخالق المقدر ، والقادر المقتدر ، المالك للعالم ، والمتصرف فيه. (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي تعبدون من غيره وهم الأصنام. (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) القطمير : لفافة النواة ، أي القشرة البيضاء الرقيقة التي تكون على النواة ـ البزرة. وهذا دليل التفرد بالألوهية والربوبية.

(لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) لأنهم جماد. (وَلَوْ سَمِعُوا) على سبيل الفرض. (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) ما أجابوكم. (يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي يجحدون بإشراككم إياهم مع الله ، وعبادتكم لهم ، والمعنى : يتبرءون منكم ومن عبادتكم إياهم. (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي ولا يخبرك بالأمر ، ويعلمك بأحوال الدارين مخبر مثل الخبير العالم به ، وهو الله تعالى.

المناسبة :

بعد إيراد أدلة إثبات البعث ، أورد الله تعالى الأدلة والبراهين الدالة على وحدانيته وعظيم قدرته ، بخلقه أشياء متحدة الجنس ، لكنها مختلفة المنافع ، من الماء الواحد ، والليل والنهار ، والشمس والقمر. وأردفه بالرد على عبدة الأصنام التي لا تملك شيئا ، ولا تسمع دعاء ، ولا تجيب نداء ، وتتبرأ من عابديها يوم القيامة.

٢٤٢

التفسير والبيان :

نبّه الله تعالى على قدرته العظيمة في خلقه الأشياء المختلفة ، فقال عن اختلاف البحرين:

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ : هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) أكثر المفسرين على أن المراد من الآية ضرب المثل في حق الكفر والإيمان ، أو الكافر والمؤمن ، فالإيمان لا يتساوى مع الكفر في الحسن والنفع ، كما لا يتساوى البحران العذب الفرات ، والملح الأجاج ، وقال الرازي : والأظهر أن المراد منه ذكر دليل آخر على قدرة الله تعالى ، وذلك من حيث إن البحرين يستويان في الصورة ، ويختلفان في الماء ، فإن أحدهما عذب فرات ، والآخر ملح أجاج.

والمعنى : لا يتساوى ولا يتشابه البحران في الحقيقة ، فأحدهما عذب الماء شديد العذوبة ، سائغ الشراب ، يجري في الأنهار بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار ، وثانيهما ملح شديد الملوحة ، وهو البحر الساكن الذي تسير فيه السفن الكبار.

وبعد اختلافهما في هذا يتشابهان في أمور : مثل أخذ اللحم الطري والحلية منهما ، والذي يوجد في المتشابهين اختلافا وفي المختلفين تشابها لا يكون إلا قادرا مختارا ، فقال تعالى :

(وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا ، وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) أي يصاد السمك من كل منهما ، وتستخرج الحلية الملبوسة منهما ، وهو اللؤلؤ والمرجان ، كما قال عزوجل : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن ٥٥ / ٢٢ ـ ٢٣].

(وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ ، لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي تبصر أيها الناظر السفن في البحر شاقّة الماء ، مقبلة مدبرة ، حاملة المؤن

٢٤٣

والأقوات وأنواع التجارة من قطر إلى آخر ، لتطلبوا بأسفاركم بالتجارة بين البلدان من فضل الله ، لتشكروا الله أو شاكرين ربكم على تسخيره لكم هذا البحر العظيم ، وعلى ما أنعم به عليكم من النعم ، فإنكم تتصرفون في البحر كيف شئتم ، وتذهبون أين أردتم دون عائق ولا مانع ، بل بقدرته تعالى قد سخر لكم جميع ما في السموات والأرض من فضله ورحمته.

ثم ذكر تعالى دليلا آخر على قدرته التامة وهو اختلاف الأزمنة ، فقال :

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يدخل أحدهما في الآخر فيكون أطول منه ، فيزيد في زمن كل منهما بالنقص من الآخر ، فيطول هذا ويقصر هذا ، ثم يتقارضان صيفا وشتاء.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي سيّر الشمس والقمر وبقية الكواكب السيّارة ، والثوابت الثاقبة بإرادته وقدرته ، يجري كل منهما بمقدار معين ، ومنهاج مقنن ، ومدة محددة هي زمن مدارها أو منتهاها ، لتعلموا عدد السنين والحساب ، وقيل : (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى يوم القيامة.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ، لَهُ الْمُلْكُ) أي الذي فعل هذا من خلق السموات والأرض وخلق الإنسان من تراب وغير ذلك هو الرب العظيم ، الذي لا إله غيره ، وهو صاحب الملك التام ، والقدرة الشاملة ، والسلطان المطلق ، وكل من عداه عبد له.

ثم أبان تعالى في مقابل ذلك ما ينافي صفة الألوهية ، فقال :

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) أي والذين تعبدونهم من الأصنام والأوثان التي هي على صورة من تزعمون من الملائكة المقربين ،

٢٤٤

لا يملكون شيئا من السموات والأرض ، ولو كان حقيرا بمقدار هذا القطمير ، وهو قشرة النواة الرقيقة.

ثم أبطل ما يقولون : إن في عبادة الأصنام عزة ، وأبان عجزها وضعفها وحقارتها ، فقال:

(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) أي إن تدعوا هذه الآلهة من دون الله تعالى لا تسمع دعاءكم ؛ لأنها جماد لا تدرك شيئا ، ولو سمعوا لم يقدروا أن ينفعوكم بشيء مما تطلبون منها ، لعجزها عن ذلك ، فهي لا تضر ولا تنفع ولا تغني شيئا ، فكيف تعبدونها؟!

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي وفي اليوم الآخر يجحدون كون ما فعلتموه حقا ، وينكرون أنهم أمروكم بعبادتهم أو أقروكم عليها ، ويتبرءون منكم ، كما قال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) [الأحقاف ٤٦ / ٥ ـ ٦] وقال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم ١٩ / ٨١ ـ ٨٢].

وتقريرا عاما لهذه المعاني ، وتأكيدا لهذه الأخبار ، قال تعالى :

(وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي ولا يخبرك عن أمر هذه الآلهة وعن أمر عبدتها يوم القيامة ، أو لا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها إلا خبير بصير بها ، وهو الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية في الحال أو في الاستقبال ، وقد أخبر بالواقع لا محالة.

٢٤٥

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ من أدلة القدرة الإلهية العظيمة الدالة على وحدانية الخالق خلق الأشياء المتفاوتة ، التي منها خلق البحرين : العذب الزلال وهو الأنهار ، والملح الأجاج وهو البحار ، ومع اختلافهما وتمايزهما حينما يتجاوران ، فيهما تشابه بوجود الأسماك في كل منهما ، واستخراج الحلية وهي اللؤلؤ والمرجان منهما ، أي من اختلاطهما وتمازجهما ونزول مطر السماء ، وإن كانت الحلية من البحر المالح.

٢ ـ في قوله تعالى : (تَلْبَسُونَها) دليل على أن لباس كل شيء بحسبه ، فالخاتم يجعل في الإصبع ، والسوار في الذراع ، والقلادة في العنق ، والخلخال في الرّجل.

٣ ـ من نعم الله تعالى ودليل قدرته : تسيير السفن في البحر ، لتبادل التجارات بين الأقطار البعيدة في مدة قريبة ، وكسب الأرزاق ، الذي يستدعي الشكر على ما آتانا الله من فضله وعلى تسخيره البحر للانتقال فيه ، وحرية الحركة في أنحائه.

٤ ـ ومن أدلة القدرة الإلهية أيضا : اختلاف الأزمنة بتعاقب الليل والنهار ، واختلاف الفصول ، وتفاوت زمن الليل والنهار صيفا وشتاء ، وتسيير الشمس والقمر وسائر الكواكب السيارة والثابتة في مدة دوران معينة تنتهي في اجتياز مدارها ، وبقائها على هذا النحو الدقيق إلى يوم القيامة.

٥ ـ إن صانع كل ما ذكر من خلق السموات والأرض ، وإنزال الغيث ، وخلق الإنسان من تراب ، وإيجاد الماء العذب والماء الملح وما يحققان من ثروة مائية ومعدنية ونفطية وحلي ، ودورة الأرض واختلاف الليل والنهار بين نصفي

٢٤٦

الكرة الأرضية ، وفي النصف الواحد في مدار السنة وغير ذلك ، إن هذا الصانع هو الخالق المدبر ، والقادر المقتدر ، والمالك القاهر ، فهو الذي يستحق أن يعبد.

٦ ـ ما أقل عقول الوثنيين وما أبسطها حين يعبدون الأصنام الصماء من الحجارة والمعادن وغيرها ، وهي لا تقدر على شيء ولا على خلقه ، ولا تنفع ولا تضر ، ولا تبصر ولا تسمع ، فلا تغيث أحدا إذا استغاث بها ؛ لأنها جمادات ، ولا تجيب إن ناداها عبّادها ؛ لأنها لا تنطق. والداهية العظمى أنها يوم القيامة تتبرأ من عابديها ، وتنكر أفعالهم ، وتتنصل من تبعة المسؤولية الموجهة إليهم ، والله أصدق مخبر بذلك.

سبب العبادة والمسؤولية الشخصية

وانتفاع العابدين بالإنذار

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨))

البلاغة :

(يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ) بينهما طباق.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) بينهما جناس الاشتقاق ، وكذا (حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ).

٢٤٧

المفردات اللغوية :

(أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) المحتاجون إليه في جميع أمور الدين والدنيا ، وفي كل حال على الإطلاق. وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم كأنهم لشدة افتقارهم وكثرة احتياجهم هم الفقراء.

(وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُ) على الإطلاق عن خلقه. (الْحَمِيدُ) المستحق للحمد من عباده بإحسانه إليهم ، المحمود في صنعه بهم.

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) إن يشأ يفنكم ، ويأت بقوم آخرين من جنسكم بدلكم ، أطوع منكم ، أو من جنس آخر غير ما تعرفونه. (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي وما ذلك الإذهاب لكم والإتيان بآخرين بمتعذر ولا بمتعسر على الله تعالى.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس آثمة ذنب أو إثم نفس أخرى. (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها) أي وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفسا أخرى ، لتحمل عنها بعض الذنوب التي تحملها. (لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) لم تحمل تلك المدعوة من تلك الذنوب شيئا. (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي ولو كان المدعو قريبا لها في النسب كالأب والابن ، فكيف بغير القريب؟! وهذا حكم مبرم من الله تعالى. (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) يخافونه غائبا عنهم ؛ لأنهم المنتفعون بالإنذار. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) احتفلوا بأمرها ، وأداموها ، ولم يشتغلوا عنها بشيء مما يلهيهم. (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) ومن تطهر من الشرك وغيره من المعاصي ، واستكثر من العمل الصالح ، فإنما يتطهر لنفسه ؛ لأن نفع ذلك مختص به ، كما أن وزر من تدنس بالذنب لا يكون إلا عليه. (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) إلى الله المرجع والمآل ، فيجزي على تزكيهم وعملهم في الآخرة.

المناسبة :

بعد بيان كون العبادة واجبة لله تعالى ؛ لأنه المالك المطلق ، والأصنام لا تملك شيئا ، أبان الله تعالى حكمة العبادة للرد على الكفار القائلين بأن أمر الله بالعبادة أمرا بالغا ، والتهديد الشديد على تركها ، لاحتياجه إلى عبادتنا. ثم أوضح أن كل إنسان مسئول عن نفسه فقط ، وأرشد إلى أن البشارة والإنذار إنما تنفع الذي يخشى الله بالغيب وأقام الصلاة.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن غناه المطلق عمن سواه ، وافتقار جميع المخلوقات إليه ، فقال :

٢٤٨

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ، وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي يا أيها البشر جميعا ، أنتم المحتاجون إلى الله تعالى على الإطلاق ، في منح القدرة على الحياة والبقاء ، وفي جميع الحركات والسكنات ، وفي جميع أمور الدين والدنيا ، لذا فاعبدوه وحده ؛ لأن ثمرة العبادة عائدة إليكم وحدكم ، والله هو المنفرد بالغنى وحده لا شريك له عن عبادتكم وغيرها ، وهو المحمود المشكور على نعمه وعلى جميع ما يفعله ويقوله ويقدره ويشرعه. وذكر (الْحَمِيدُ) ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه ، الجواد المنعم عليهم ، المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه.

ثم أبان غناه وقدرته التامة بإمكانه استبدالكم ، وأنه غير محتاج إليكم ، فقال :

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ، وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ، وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي لو شاء لأفناكم أيها الناس ، وأتى بقوم غيركم ، يكونون أطوع منكم ، وأجمل وأحسن وأتم ، وما ذلك بصعب عليه ولا ممتنع ، بل هو يسير هيّن عليه.

وفي هذا تهديد ووعيد وتبديد لأوهامكم أنه لو أذهب البشر لزال ملكه وعظمته.

ثم دعاهم إلى النظر والتأمل في المستقبل ، وأخبرهم بمسؤولية كل إنسان يوم القيامة عن نفسه فقط دون غيره ، فقال :

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي ولا تحمل نفس آثمة أو مذنبة إثم أو ذنب نفس أخرى. وهذا لا يمنع مضاعفة الإثم للمضلين القادة ، كما قال تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) [العنكبوت ٢٩ / ١٣].

(وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي وإن طلبت نفس مثقلة بالأوزار والذنوب مساعدة نفس أخرى في حملها ، لتحمل

٢٤٩

عنها بعض الذنوب ، لم تحمل تلك المدعوة من تلك الذنوب شيئا ، ولو كانت قريبة لها في النسب كالأب والابن ؛ لأن كل امرئ مشغول بنفسه وحاله ، وله من الهموم ما يغنيه.

ونظير الآية : (لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) [لقمان ٣١ / ٣٣] وقوله سبحانه : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس ٨٠ / ٣٤ ـ ٣٧].

قال عكرمة في قوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها) : هو الجار يتعلق بجاره يوم القيامة ، فيقول : يا رب سل هذا لم كان يغلق بابه دوني ، وإن الكافر ليتعلّق بالمؤمن يوم القيامة ، فيقول له : يا مؤمن ، إن لي عندك يدا ، قد عرفت كيف كنت لك في الدنيا ، وقد احتجت إليك اليوم ، فلا يزال المؤمن يشفع له عند ربه ، حتى يرده إلى منزل دون منزله ، وهو في النار ، وإن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة ، فيقول : يا بني ، أي والد كنت لك؟ فيثني خيرا ، فيقول له : يا بني ، إني قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك أنجو بها مما ترى ، فيقول له ولده : يا أبت ، ما أيسر ما طلبت ، ولكني أتخوف مثل ما تتخوف ، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا ، ثم يتعلق بزوجته ، فيقول : يا فلانة أو يا هذه ، أي زوج كنت لك؟ فتثني خيرا ، فيقول لها : إني أطلب إليك حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أنجو بها مما ترين ، قال : فتقول : ما أيسر ما طلبت ، ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا ، إني أتخوف مثل الذي تتخوف ، يقول الله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها) الآية.

ثم أبان الله تعالى من يجدي عنده الإنذار ، فقال :

(إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي إنما يتعظ بما جئت به أيها الرسول أولو البصيرة والعقل الذين يخافون من عذاب ربهم قبل

٢٥٠

معاينته أو في خلواتهم عن الناس ، ويفعلون ما أمرهم به ، ويقيمون الصلاة المفروضة عليهم على النحو الأتم المشروع ، إقامة فيها احتفال بأمرها ، وبعد عن الاشتغال بغيرها.

ثم ذكر الله تعالى أن فائدة العبادة تعود عليهم ، فقال :

(وَمَنْ تَزَكَّى ، فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ، وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي ومن تطهر من الشرك والمعاصي ، وعمل صالحا ، فإنما يتطهر لنفسه ؛ لأن نفع ذلك يعود على نفسه ، لا غيره ، وإلى الله المرجع والمآب ، وهو سريع الحساب ، وسيجزي كل عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يأتي :

١ ـ الناس قاطبة فقراء محتاجون إلى ربهم الخالق الرازق في بقائهم وكل أحوالهم ، والله هو الغني عن عباده ، المحمود على جميع أفعاله وأقواله ونعمه الكثيرة التي لا تحصى.

وغنى الله لا يعود عليه ، وإنما ينفع به عباده ، فاستحق الحمد التام والشكر الكامل من أعماق النفوس.

٢ ـ الله قادر على إفناء الخلق ، والإتيان بخلق جديد آخر أطوع منهم وأزكى ، وليس ذلك بممتنع عسير متعذر على الله تعالى.

٣ ـ من مفاخر الإسلام مبدأ (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي مبدأ المسؤولية الشخصية في الدنيا والآخرة ، فلا يسأل إنسان عن جريمة غيره ، ولا يتحمل امرؤ عقوبة جان آخر : (قُلْ : لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا ، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سبأ ٣٤ / ٢٥].

٢٥١

٤ ـ كل إنسان في الآخرة مشغول بنفسه ، فلا يستطيع أن يتحمّل شيئا من آثام غيره ، ولو كان أقرب الناس لديه ، كالأب والابن وغيرهما.

٥ ـ إنما يقبل إنذار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنذارات القرآن الكريم : من يخشى عقاب الله تعالى في السرّ والعلن وقبل معاينة العذاب ، كما قال تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ، وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) [يس ٣٦ / ١١].

٦ ـ من تطهر من أدناس المعاصي فإنما يتطهر لنفسه ، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، وتظهر الفائدة في الآخرة ؛ إذ إلى الله مرجع جميع الخلق ، فيحاسبهم على ما فعلوا.

مثل المؤمن والكافر وإرسال الرسل في الأمم

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦))

البلاغة :

(الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الظُّلُماتُ) و (النُّورُ الظِّلُ) و (الْحَرُورُ الْأَحْياءُ) و (الْأَمْواتُ) بين كل طباق.

٢٥٢

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) استعارة تصريحية ، استعار المشبه به وهو الأعمى للكافر ، لعدم الاهتداء إلى الطريق الصحيح ، واستعار البصير للمؤمن لاهتدائه إلى منهج الاستقامة ووضوح الطريق أمامه.

وزيادة (لَا) في الآيات [٢٠ ـ ٢٢] في المواضع الثلاثة للتأكيد.

(نَذِيرٌ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) توافق الفواصل ذو التأثير في جمال الكلام والوقع على النفس.

المفردات اللغوية :

(الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) الأول : فاقد البصر ، والثاني له ملكة البصر ، والمراد تشبيه الكافر بالأعمى ، وتشبيه المؤمن بالبصير. (الظُّلُماتُ) و (النُّورُ) شبه الباطل بالظلمات ، وشبه الحق بالنور. (الظِّلُ) و (الْحَرُورُ) أراد بالظل الجنة وأراد بالحرور النار. و (الْحَرُورُ) السموم ، إلا أن السموم بالنهار ، والحرور بالليل والنهار. (الْأَحْياءُ) و (الْأَمْواتُ) شبه المؤمنين بالأحياء ، وشبه الكافرين بالأموات. (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) هدايته ، فيجيب بالإيمان. (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي الكفار ، شبههم بالموتى الذين لا يجيبون.

(إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) أي ما أنت إلا منذر لهم ، أو ما عليك إلا الإنذار والتبليغ ، أما الإسماع فليس إليك ، ولا قدرة لك عليه ؛ لأن الهدى والضلالة بيد الله عزوجل. (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) أي إرسالا مصحوبا بالحق ، وهو الهدى ، فيشمل المرسل والمرسل ، فكلاهما محق. (شِيراً وَنَذِيراً) مبشرا من أجابك بالجنة ، ومنذرا من لم يجبك بالنار. (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ) أي ما من جماعة كثيرة أو أهل عصر. (إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) سلف ومضى فيها منذر مخوف من نبي أو عالم ينذر عنه ، واكتفى بالنذير ؛ لأن الإنذار قرين البشارة ، سيما وقد قرن به من قبل ، أو لأن الإنذار هو المقصود الأهم من البعثة.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي إن يكذبك أهل مكة فقد كذبت الأمم الماضية أنبياءهم. (بِالْبَيِّناتِ) المعجزات الدالة على صدقهم في نبوتهم. (وَبِالزُّبُرِ) أي الكتب المكتوبة ، كصحف إبراهيم ، جمع زبور : أي كتاب ، والكتاب : ما فيه شرائع وأحكام. (أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بتكذيبهم. (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) فكيف كان إنكاري عليهم بالعقوبة والإهلاك.

المناسبة :

بعد بيان طريق الهدى وطريق الضلالة ، واهتداء المؤمن الذي يخاف ربه ،

٢٥٣

وجحود الكافر المعاند ، ضرب الله تعالى الأمثال للكافر والمؤمن ، وللباطل والحق ، وللجنة والنار ، وللمؤمنين والكافرين ، وعدّد الأمثلة ، للتعريف بأن المؤمن بصير الطريق ، والكافر أعمى الطريق ، وأن الإيمان نور فلا يخفى على المؤمن ، والكفر ظلمة فيزيد الأعمى حيرة ، ثم ذكر مآلهما ومرجعهما ، فالمؤمن بإيمانه في ظل وراحة ، والكافر بكفره في حر وتعب ، ثم جعل الكافر أسوأ حالا من الأعمى فشبهه بالميت ؛ لأنه غير مدرك إدراكا نافعا ، فهو كالميت ، أما الأعمى فقد يدرك شيئا ما كالبصير. ثم أوضح تعالى أن الهداية بيده يمنحها من يشاء ، ولكنه لم يترك سبيلا لأحد بالاعتذار ، فقد أرسل الرسل والأنبياء في كل أمة من الأمم ، فمن آمن نجا ، ومن عصى عذب في النار.

التفسير والبيان :

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمنين وللكافرين ، فكما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة في حقيقتها وفائدتها ، كذلك لا يتساوى الكافر الذي عمي عن دين الله ، والمؤمن الذي عرف طريق الرشاد فاتبعه وانقاد له ، ولا تتساوى ظلمات الكفر ونور الإيمان ، أو الباطل والحق ، ولا يتساوى الثواب والعقاب أو الجنة والنار.

فالمؤمن سميع بصير يمشي في نور على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة ، حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال الوارفة والعيون المتدفقة ، والكافر أصم أعمى يمشي في ظلمات لا خروج له منها ، بل يتيه في غيه وضلاله في الدنيا والآخرة ، حتى ينتهي به الأمر إلى الحرور والسموم والحميم.

(وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) أي ولا يتساوى المؤمنون أحياء القلوب والنفوس والمشاعر ، والكافرون أموات القلوب والحواس.

٢٥٤

فهذه أمثال للمؤمن والإيمان والعاقبة ، والكافر والكفر والمصير ، كما قال تعالى : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ ، وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً)؟! [هود ١١ / ٢٤] وقال عزوجل : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ، وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) [الأنعام ٦ / ١٢٢]. قال قتادة : هذه كلها أمثال ؛ أي كما لا تستوي هذه الأشياء ، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن.

ثم بيّن تعالى مصدر الهداية ، فقال :

(إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ ، وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي إن الله يهدي من يشاء إلى سماع الحجة وقبولها والانقياد لها ، وكما لا ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم ، وهم كفار ، بالهداية والدعوة إليها ، كذلك هؤلاء المشركون لا تستطيع أيها النبي هدايتهم ؛ لأن الكفر أمات قلوبهم.

وأما مهمة الرسول فهي :

(إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) أي ما أنت إلا رسول منذر عذاب الله ، ليس عليك إلا الإنذار والتبليغ ، أما الهدى والضلالة فهي بيد الله عزوجل.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) أي أرسلناك أيها الرسول إرسالا مصحوبا بالحق ، والمرسل محق ، وكذا المرسل محق ، مبشرا المؤمنين أهل الطاعة بالجنة ، ومنذرا الكافرين أهل المعصية بالنار.

والإرسال منهج عام في البشرية ، فقال تعالى :

(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) أي ما من أمة من بني آدم سبقت إلا وقد بعث الله إليهم النذر ، وأزاح عنهم العلل ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) [النحل ١٦ / ٣٦].

٢٥٥

ثم سلّى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلقاه من صدود قومه وتكذيبهم وإعراضهم عن دعوته ، فقال:

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي وإن يكذبك أيها الرسول قومك فقد كذبت الأمم الماضية من قبلهم أنبياءهم ، جاءتهم رسلهم بالمعجزات الواضحة والأدلة القاطعة ، وبالكتب المكتوبة كصحف إبراهيم ، وبالكتاب الواضح البيّن ، كالتوراة والإنجيل. وكرر الزبر والكتاب ، وهما واحد ، لاختلاف اللفظين.

ثم هدد مخالفيه وأوعدهم بالعقاب ، فقال :

(ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا ، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي ومع كل هذه الأدلة كذب أولئك رسلهم فيما جاءوهم به ، فأخذتهم بالعقاب والنكال ، فكيف رأيت إنكاري عليهم شديدا بليغا؟!

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ لا مساواة بين الكافر والمؤمن والجاهل والعالم ، ولا بين الكفر والإيمان أو الحق والباطل ، ولا بين الثواب والعقاب أو الجنة والنار ، ولا بين العقلاء والجهال أو أحياء القلوب وأموات القلوب.

٢ ـ إن الله يسمع أولياءه الذين خلقهم لجنته ، ويهدي أحباءه لطاعته ، ولن يستطيع النبي إسماع الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم ؛ أي كما لا يسمع من مات ، كذلك لا يسمع من مات قلبه. والمراد بالآية : أن الكفار الذين حجبوا نور الهداية عن قلوبهم هم بمنزلة أهل القبور في أنهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه.

٢٥٦

٣ ـ ما الرسول إلا مجرد رسول منذر ، فليس عليه إلا التبليغ ، ليس له من الهدى شيء ، إنما الهدى بيد الله تبارك وتعالى.

٤ ـ أرسل الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهدى ودين الحق ، بشيرا بالجنة أهل طاعته ، ونذيرا بالنار أهل معصيته.

٥ ـ لم تخل أمة من نبي أو رسول ينذرها ويبشرها.

٦ ـ سلّى الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلقاه من تكذيب كفار قريش ، بأن الأمم السابقة كذبوا أنبياءهم ، بالرغم من تأييد صدقهم بالمعجزات الظاهرات والشرائع الواضحات ، وبالكتب المكتوبة ، وبالكتاب المنير ، وكانت نتيجة التكذيب عقوبة الاستئصال.

العلوم العملية الطبيعية

دليل آخر على وحدانية الله وقدرته وحال العلماء أمام

مشاهد الكون

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠))

٢٥٧

الإعراب :

(مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) هاء (أَلْوانُهُ) تعود على موصوف محذوف ، تقديره : خلق مختلف ألوانه ، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ، هي في موضع رفع بالابتداء ، والجار والمجرور قبله : خبره. و (أَلْوانُهُ) فاعل مختلف ؛ لأنه اسم فاعل يعمل عمل الفعل.

(يَرْجُونَ تِجارَةً) خبر إن. و (لَنْ تَبُورَ) صفة للتجارة.

البلاغة :

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَأَخْرَجْنا) التفات من الغيبة إلى التكلم ، بدلا من «أخرج» للدلالة على كمال قدرة الله وحكمته.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) استفهام تقريري ، فيه معنى التعجب.

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) قصر صفة على موصوف ، قصر الخشية على العلماء.

(يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) استعارة ، استعار التجارة للمعاملة مع الله لنيل ثوابه ، وشبهها بالتجارة الدنيوية ، وأيدها بقوله : (لَنْ تَبُورَ) وهو الذي يسمى ترشيحا.

(عَزِيزٌ غَفُورٌ لَنْ تَبُورَ غَفُورٌ شَكُورٌ) توافق الفواصل من عناصر جمال الكلام.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ تَرَ) تعلم فهذه رؤية القلب والعلم. (مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) أجناسها أو أصنافها أو هيئاتها من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض وأسود ونحو ذلك. (جُدَدٌ) أي ذو جدد ، أي طرائق وخطوط في الجبال وغيرها ، جمع جدة : وهي الخطة أو الطريقة المختلفة الألوان في الجبل ونحوه. (بِيضٌ وَحُمْرٌ) أي وصفر ونحوها. (مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) بالشدة والضعف. (وَغَرابِيبُ سُودٌ) معطوف على جدد ، أي صخور شديدة السواد ، وأصل اللفظ : وسود غرابيب ، والعرب تقول كثيرا للشديد السواد المشابه لون الغراب : أسود غربيب ، وقليلا : غربيب أسود.

(مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) كاختلاف الثمار والجبال. (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) بخلاف الجهال كأهل مكة ؛ إذ شرط الخشية معرفة المخشي والعلم بصفاته وأفعاله ، فمن كان أعلم به كان أخشى منه ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أنس : «إني لأخشاكم لله وأتقاكم له».

(عَزِيزٌ) غالب قاهر. (غَفُورٌ) لذنوب عباده التائبين المؤمنين. والجملة : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) تعليل لوجوب الخشية.

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) يستمرّون على تلاوة القرآن الكريم. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أداموا إقامتها في أوقاتها ، مع كمال أركانها وأذكارها. (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) فيه حث على الإنفاق

٢٥٨

كيفما تهيأ ، لكن السر أفضل من العلانية. (يَرْجُونَ تِجارَةً) أي تحصيل ثواب الطاعة. (لَنْ تَبُورَ) لن تكسد ولن تهلك بالخسران.

سبب نزول الآية (٢٩):

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ ..) : أخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس أن حصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف القرشي نزلت فيه : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) الآية.

المناسبة :

هذا دليل آخر على وحدانية الله وقدرته من مشاهد الكون المختلفة الأجناس والألوان ، ضمّنه أن العلماء في العلوم الكونية أقدر الناس على إدراك عظمة الكون. فيكونون هم أخشى الناس لله ، ثم أردفه ببيان حال العلماء العاملين بكتاب الله ، فهم الذين يرجون ثواب الله على طاعتهم.

التفسير والبيان :

ينبه الله تعالى على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة من الشيء الواحد ، وهو الماء الذي ينزله من السماء ، فيخرج به ثمرات مختلفا ألوانها ، فقال :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) أي ألم تشاهد أيها الإنسان أن الله تعالى خلق الأشياء المختلفة من الشيء الواحد ، فأنزل الماء من السماء ، وأخرج به ثمارا مختلفة الأجناس والأنواع والطعوم والروائح والألوان من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض وأسود ونحو ذلك ، كما قال تعالى في آية أخرى : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ، وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ ، وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ ، يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرعد ١٣ / ٤].

٢٥٩

(وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها ، وَغَرابِيبُ سُودٌ) أي وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان كما هو مشاهد من بيض وحمر ، وفي بعضها طرائق وهي الجدد مختلفة الألوان أيضا.

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) أي وخلق أيضا خلقا آخر من الناس والدواب والأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم مختلفة الألوان في الجنس الواحد ، بل وفي النوع الواحد ، وفي الحيوان الواحد ، كاختلاف الثمار والجبال. وقوله : (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) ، أي خلق مختلف ألوانه ، كما قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) [الروم ٣٠ / ٢٢]. والدواب : كل ما دب على القوائم ، و (الْأَنْعامِ) من باب عطف الخاص على العام. وكلمة (كَذلِكَ) هنا تمام الكلام ، أي كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية.

وإنما ذكر سبحانه اختلاف الألوان والأصباغ في هذه الأشياء ؛ لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله وبديع صنعه ، فذكر أولا اختلاف الألوان في ثمار النبات ، ثم ذكر اختلاف الألوان في الجمادات ، ثم في الناس والحيوان.

أخرج الحافظ أبو بكر البزار عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أيصبغ ربك؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم صبغا لا ينفض ، أحمر وأصفر وأبيض».

ثم ذكر مستأنفا من يعرف جمال ذلك ودقائقه وهم العلماء فقال :

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ، إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) أي إنما يخاف الله بالغيب العالمون به ، وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الجميلة ، ومنها عظيم قدرته على صنع ما يشاء وفعل ما يريد ، فمن كان أعلم بالله ، كان أخشاهم له ،

٢٦٠