التفسير المنير - ج ٢٢

الدكتور وهبة الزحيلي

النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) وهو تحقيق الحرية والاستقرار الزوجي ، أمر الله تعالى عباده المؤمنين بما أمر به أنبياءه المرسلين من تعظيم الله وإجلاله بذكره وتسبيحه في أغلب الأوقات ومختلف أنواع الطاعات ، بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) ليحقق لهم أجزل الثواب ويخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.

التفسير والبيان :

يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بكثرة ذكر ربهم تبارك وتعالى ، المنعم عليهم بأنواع النعم ، لينالوا جزيل الثواب وجميل المآب ، فيقول :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي يا أيها الذين أيقنوا وصدقوا بالله ورسوله اذكروا الله بألسنتكم وقلوبكم ذكرا كثيرا ، يملأ عليكم مشاعركم ، في جميع الأحوال ، ويحقق في نفوسكم خشية ربكم ، ونزهوه عن كل ما لا يليق به أول النهار وآخره ، أي في غالب الأوقات ؛ لأن بداية الشيء ونهايته تشمل وسطه أيضا بحكم الاستمرار ، قال الزمخشري في تفسير (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي في كافة الأوقات. وإنما ذكر هذان الوقتان لكونهما مشهودين بملائكة الليل والنهار. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذكر الله على فم كل مسلم»وروي «في قلب كل مسلم» وعن قتادة : «قولوا : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».

وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي الدرداء رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم ، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ، قالوا : وما هو يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ذكر الله عزوجل».

٤١

ونظير الآية في وصف المؤمنين : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) [آل عمران ٣ / ١٩١].

وقرن التسبيح بالذكر معناه : إذا ذكرتم الله تعالى ، فينبغي أن يكون ذكركم إياه على وجه التعظيم والتنزيه عن كل سوء ، وهو المراد بالتسبيح.

ثم حرّض تعالى على الذكر والتسبيح وأبان سببه فقال :

(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) أي إن الله ربكم الذي تذكرونه وتسبحونه هو الذي يرحمكم ، وملائكته تستغفر لكم ، وهو بهذه الرحمة يريد هدايتكم وإخراجكم من ظلمات الكفر والجهل والضلال إلى نور الحق والهدى والإيمان ، وكان ربكم وما يزال رحيما تام الرحمة بعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا : فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم ، وبصّرهم الطريق الذي حاد عنه سواهم من الدعاة إلى الكفر أو البدعة وأتباعهم ، وأما في الآخرة : فآمنهم من الفزع الأكبر ، وأمر ملائكته أن يتلقوهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار ، وما ذاك إلا لمحبته لهم ورأفته بهم.

ومن مظاهر رحمته تعالى ما ورد في صحيح الإمام البخاري عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى امرأة من السبي قد أخذت صبيا لها ، فألصقته إلى صدرها وأرضعته ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أترون هذه تلقي ولدها في النار ، وهي تقدر على ذلك؟ قالوا : لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فو الله الله أرحم بعباده من هذه بولدها».

ثم ذكر تعالى دليل رحمته الشامل في الآخرة وعنايته فيها بعد بيان عنايته في الدنيا ، فقال:

٤٢

(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ : سَلامٌ ، وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) تحيتهم من الله تعالى بواسطة ملائكته يوم لقائه في الآخرة هو السلام ، كما قال تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس ٣٦ / ٥٨] وقال عزوجل : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد ١٣ / ٢٣ ـ ٢٤].

وهيّأ لهم ثوابا حسنا في الآخرة وهو الجنة وما فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والملاذّ والمناظر ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ الحض على ذكر الله وشكره على نعمه ، وتسبيحه في معظم الأحوال بالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ، دون تقدير بقدر معين أو تحديد بحد ، ليسهل الأمر على العبد ، وليعظم الأجر فيه. روى أحمد وأبو يعلى وغيرهما عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكثروا ذكر الله حتى يقولوا : مجنون».

٢ ـ إسباغ الرحمة الإلهية على المؤمنين وتسخير الملائكة للاستغفار لهم ، بقصد هدايتهم وإخراجهم من ظلمة الكفر والجهل إلى نور الهدى واليقين. والصلاة من الله على العبد : هي رحمته له وبركته لديه ، وصلاة الملائكة : دعاؤهم للمؤمنين واستغفارهم لهم ، كما قال تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [غافر ٤٠ / ٧].

قال ابن عباس : لما نزل (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) [الأحزاب ٣٣ / ٥٦] قال المهاجرون والأنصار : هذا لك يا رسول الله خاصّة ، وليس لنا فيه شيء ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، أي (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ..).

٤٣

وقال القرطبي : وهذه نعمة من الله تعالى على هذه الأمة من أكبر النعم ؛ ودليل على فضلها على سائر الأمم ، وقد قال : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران ٣ / ١١٠].

ذكر النحاس حديثا : أن بني إسرائيل سألوا موسى عليه‌السلام : أيصلّي ربّك جلّ وعزّ؟ فأعظم ذلك ؛ فأوحى الله جل وعز : «إن صلاتي بأن رحمتي سبقت غضبي».

٣ ـ قوله تعالى : (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من الضلالة إلى الهدى : معناه التثبيت على الهداية ؛ لأنهم كانوا في وقت الخطاب على الهداية. وقوله : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) إخبار برحمته تعالى للمؤمنين وتأنيس لهم ، فهو يرحمهم في الدنيا بهدايتهم إلى الحق ، ويؤمنهم من عذاب الله يوم القيامة ، وتكون تحية الله لهم يوم القيامة بعد دخول الجنة : سلام ، أي سلامة من عذاب الله ، وقيل : عند الموت وقبض الروح.

قال ابن كثير : الظاهر أن المراد ـ والله أعلم ـ تحيتهم ، أي من الله تعالى يوم يلقونه : سلام ، أي يوم يسلم عليهم ، كما قال عزوجل : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس ٣٦ / ٥٨]. وزعم قتادة أن المراد أنهم يحيي بعضهم بعضا بالسلام يوم يلقون الله في الدار الآخرة ، واختاره ابن جرير. وكذا قال القرطبي : (تَحِيَّتُهُمْ) أي تحية بعضهم لبعض ، ويؤيده قوله تعالى : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ ، وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ، وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس ١٠ / ١٠].

٤٤

مهام دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩))

الإعراب :

(شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ، وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ ، وَسِراجاً مُنِيراً) كلها منصوبات على الحال. وقوله : (وَسِراجاً) أي وذا سراج ؛ لأن الحال لا يكون إلا وصفا للفاعل أو المفعول ، والسراج ليس وصفا ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن سراجا حقيقة.

البلاغة :

(وَسِراجاً مُنِيراً) تشبيه بليغ ، حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه ، أي أنت يا محمد كالسراج المضيء في الهداية والإرشاد.

(وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَسِراجاً مُنِيراً فَضْلاً كَبِيراً) توافق الفواصل. وكذا أيضا (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً سَراحاً جَمِيلاً).

المفردات اللغوية :

(شاهِداً) على من أرسلت إليهم بتصديقهم وتكذيبهم (وَمُبَشِّراً) من صدّقك وأطاعك

٤٥

بالجنة (وَنَذِيراً) من كذبك وعصاك بالنار (وَداعِياً إِلَى اللهِ) إلى الإقرار به وبتوحيده وما يجب الإيمان به من صفاته وإلى طاعته (بِإِذْنِهِ) بتيسيره وأمره (وَسِراجاً مُنِيراً) أي كالسراج الوضاء يستضاء به ، ويكون مثله في الاهتداء به (فَضْلاً كَبِيراً) على سائر الأمم في الدنيا ، وأجرا واسعا على أعمالهم في جنات النعيم.

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) فيما يخالف شريعتك ، والمراد به التهييج والإثارة له على ما هو عليه من مخالفتهم ، تحقيقا لاستقلال الذات وصون الشريعة من الاختلاط. ويحتمل كون المراد به : الدوام والثبات على ما كان عليه (وَدَعْ أَذاهُمْ) أي اترك إلحاق الأذى والضرر بهم ، وخذ بظاهرهم ، وحسابهم على الله في باطنهم. (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فوض أمرك إليه ، فهو كافيك (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) مفوضا إليه الأمر في الأحوال كلها.

(نَكَحْتُمُ) النكاح هنا العقد (أَنْ تَمَسُّوهُنَ) أي تجامعوهن ، ويعبر عن الجماع في القرآن أدبا بالمس والملامسة والقربان والتغشي والإتيان (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) أي ليس عليهن انتظار أيام أو أقراء تستوفون عددها ، يمتنعن فيها عن الزواج بآخرين ، فالعدة : الشيء المعدود (فَمَتِّعُوهُنَ) أعطوهن ما يستمتعن به ، والمتعة سنة للمفروض لها المهر ، وواجب لمن لم يفرض لها مهر وهي المفوضة في رأي الحنابلة والحنفية ، وسنة فقط في غير المفوضة عند الجمهور ، وواجبة لكل مطلّقة عند الشافعية ، إلا المطلقة قبل الدخول التي سمي لها مهر ، فإنه يكتفى لها بنصف المهر ، وتكون المتعة سنة مستحبة لها ، وهو كسوة شاملة أو ثلاثون درهما (وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) أي خلّوا سبيلهن من غير إضرار ولا إيذاء ؛ إذ ليس لكم عليهن عدة.

سبب النزول :

نزول الآية (٤٧):

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) : أخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري قالا : لما نزل (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح ٤٨ / ٢] قال رجال من المؤمنين : هنيئا لك يا رسول الله ، قد علمنا بما يفعل بك ، فما ذا يفعل بنا ، فأنزل الله (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ) الآية [الفتح ٤٨ / ٥]. وأنزل في سورة الأحزاب (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً).

وأخرج البيهقي في دلائل النبوة عن الربيع بن أنس قال : لما نزلت :

٤٦

(وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) [الأحقاف ٤٦ / ٩] نزلت بعدها : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح ٤٨ / ٢] فقالوا : يا رسول الله قد علمنا ما يفعل بك ، فما ذا يفعل بنا؟ فنزل : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) قال : الفضل الكبير : الجنة. وأخرجه أيضا ابن جرير وعكرمة عن الحسن البصري.

المناسبة :

موضوع السورة متعلق بآداب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبعد أن أمره الله تعالى بما ينبغي أن يكون عليه مع ربه بقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) [الأحزاب ٣٣ / ١] وما ينبغي أن يكون عليه مع أزواجه بقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) أمره بما ينبغي أن يكون عليه مع عامة الخلق بقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ).

وكلما ذكر الله تعالى أدبا أو مكرمة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكر للمؤمنين ما يناسبه ، ففي مقابل أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتقوى ، أمر المؤمنين بالذكر : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ) وفي مقابل أدب الزوجات ذكر ما يتعلق بأزواج المؤمنين ، ثم في الآيات التالية ذكر تعالى في مقابل بيان مهام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدب المؤمنين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) [الأحزاب ٣٣ / ٥٣] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ).

التفسير والبيان :

ذكر الله تعالى في هذه الآيات سبع مهامّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال :

١ ـ ٣ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً ، وَمُبَشِّراً ، وَنَذِيراً) أي يا أيها الرسول المنزل عليه الوحي ، إنا بعثناك شاهدا على من أرسلت إليهم بتصديقك

٤٧

وتكذيبك ، واتباع هداك ومخالفتك ، أي متحملا للشهادة في الدنيا ، ومؤديا لما تحمّلته في الآخرة أمام ربك ، وأرسلناك لتبشير من أطاعك بالجنة ، ولإنذار من عصاك بالنار ، فهذه ثلاث مهام من مهمات الدعوة المكلّف بتبليغها إلى البشر كافة. ونظير الآية في الشهادة قوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة ٢ / ١٤٣].

روى الإمام أحمد والبخاري وابن أبي حاتم عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنهما ، فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة ، قال : «أجل ، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) وحرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخّاب في الأسواق ، ولا يدفع السيئة بالسيئة ، ولكن يعفو ويصفح ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله ، فيفتح بها أعينا عميا ، وآذانا صمّا ، وقلوبا غلفا».

٤ ـ ٥ : (وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ ، وَسِراجاً مُنِيراً) أي وداعيا الخلق إلى عبادة ربهم ، وطاعته ومراقبته سرا وعلانية ، بأمره إياه ، والإقرار به ، والإيمان بما يجب له من صفات الكمال ، وجعلناك ذا سراج أو كالسراج الوضاء الذي يستضاء به في الظلمات ، ليهتدي بك الناس ، ويستنيروا بشرعك في تحقيق سعادتي الدنيا والآخرة. فقوله (بِإِذْنِهِ) معناه : بأمره إياك ، وتقديره ذلك في وقته وأوانه ، (وَسِراجاً) معناه : ذا سراج ، أو يكون كقول القائل : «رأيته أسدا» أي شجاعا ، فيكون قوله : (سِراجاً) أي هاديا مبينا كالسراج ، يري الطريق ويبين الأمر ، ويهدي الناس إلى الحق وإلى صراط مستقيم.

ومقتضى تشبيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسراج أن دينه أو أمره يكون ظاهرا واضح الحجة والبرهان ، لا تعقيد فيه ولا التواء ، ولا خفايا فيه ولا أستار.

٤٨

وإنما شبّه بالسراج لا بالشمس التي هي أشد إضاءة من السراج ؛ لأن ضوء الشمس يبهر العين ، وأما ضوء السراج فترتاح له الأعين.

ووصف السراج بالإنارة ؛ لأن بعض السرج لا يضيء لضعفه ودقة فتيلته.

٦ ـ (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) أي أعلن البشارة لكل من آمن برسالتك وأطاع شرعك بأن لهم فضلا كبيرا على سائر الأمم ، وأجرا عظيما لا يوصف في الدار الآخرة ، وبعد البشارة أتى بالإنذار ، فقال :

٧ ـ (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ ، وَدَعْ أَذاهُمْ ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ، وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي لا تطع هؤلاء الذي كفروا برسالتك ، أو نافقوا فأظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر ، ولا تسمع منهم اعتراضا أو نقدا في أمر الدعوة ، ولا تأبه بهم ، وبلّغ رسالة ربك إلى الناس قاطبة ، ودع عنك أذاهم ، واصفح عنهم ، وتجاوز عن سيئاتهم ، وامض لما أمرك به ربك ، وفوّض أمرك إلى الله تعالى في كل ما تعمل وتذر ، وثق به ، فإن فيه كفاية لهم ، وهو حافظك وراعيك ، وكفى بالله كافيا عبده. والوكيل : الحافظ القائم على الأمر. وفي هذا الكلام القوي وعد بالنصر.

وبعد بيان مهمات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عاد الكلام إلى قضايا الأزواج ، فلما ذكر تعالى قصة زيد وزينب وتطليقه إياها ، وكانت مدخولا بها ، واعتدت ، وخطبها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد انقضاء عدتها ، بيّن حال من طلقت قبل الدخول (المسيس) وأنها لا عدة عليها ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ، فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها ، فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) أي يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله ، إذا عقدتم عقد النكاح على النساء المؤمنات ، ثم أوقعتم الطلاق عليهن من قبل الدخول بهن ، فلا عدّة لكم عليهن بأيام تستوفون

٤٩

عددها ، ولكن قدموا لهن بعد الطلاق تطييبا لخاطرهن متعة وهي كسوة تليق بكم وبهن بحسب الزمان والمكان ، وطلقوهن طلاقا لا ضرر فيه ؛ إذ ليس لكم عليهن عدة. والجمال في التسريح : ألا يطالبها بما آتاها.

وتخصيص المؤمنات بالذكر في الآية إرشاد إلى أن المؤمن ينبغي أن ينكح المؤمنة ، فإنها أشد تحصينا لدينه.

وقوله : (فَمَتِّعُوهُنَ) قيل بأنه واجب مختص بالمفوّضة التي لم يسم لها مهر إذا طلقت قبل الدخول ، وقيل : بأنه عام يشمل المفوضة وغيرها ، والأمر إما أمر وجوب أو أمر ندب على حسب اختلاف العلماء ، فمنهم من قال للوجوب ، فيجب مع نصف المهر المتعة أيضا ، ومنهم من قال للاستحباب ، فيستحب أن يمتّعها مع الصداق بشيء.

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات الأحكام التالية :

أولا ـ وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبع صفات أو أسماء ، فهو الشاهد على أمته بالتبليغ إليهم ، وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم ، وهو المبشر للمؤمنين برحمة الله وبالجنة ، وهو المنذر للعصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد ، وهو الداعي إلى الله بتبليغ التوحيد والأخذ به ومكافحة الكفرة ، وهو نور كالسراج الوضاء بشرعه الذي أرسله الله به ، وهو الذي بشر المؤمنين بالفضل الكبير من الله تعالى ، وهو ذو شرع مستقل مطالب بألا يطيع الكافرين فيما يشيرون عليه من أنصاف الحلول والمداهنة في الدين والممالأة ، لكنه مأمور أيضا أن يدع أذاهم مجازاة على إذايتهم إياه ، فلا يعاقبهم ، وإنما يصفح عن زللهم ، معتمدا على الله وحده بنصر دينه وحفظه وتأييده وعصمته من الناس.

٥٠

روى ابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس قال : لما نزلت : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ، وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّا ومعاذا فقال : «انطلقا ، فبشّرا ولا تنفرا ، ويسّرا ولا تعسّرا ، فإنه قد نزل علي الليلة آية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً) ـ بالجنة ـ (وَنَذِيراً) ـ من النار ـ (وَداعِياً إِلَى اللهِ) ـ شهادة أن لا إله إلا الله ـ (بِإِذْنِهِ) ـ بأمره ـ (وَسِراجاً مُنِيراً) بالقرآن».

ثانيا ـ قال القرطبي (١) : هذه الآية فيها تأنيس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ، وتكريم لجميعهم. وهذه الآية تضمنت من أسمائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ستة أسماء ، ولنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسماء كثيرة وسمات جليلة ، ورد ذكرها في الكتاب والسنة والكتب المتقدمة ، وقد سماه الله في كتابه محمدا وأحمد.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما روى عنه الثقات العدول عند الطبراني عن جابر : «لي خمسة أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب». وفي صحيح مسلم من حديث جبير بن مطعم : وقد سماه الله رؤفا رحيما. وفيه أيضا عن أبي موسى الأشعري قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمّي لنا نفسه أسماء ، فيقول : «أنا محمد وأحمد ، والمقفّي (أي أنه آخر الأنبياء) ، والحاشر ، ونبي التوبة ، ونبي الرحمة».

وذكر القاضي ابن العربي في أحكامه (٣ / ١٥٣٤) بمناسبة هذه الآية سبعا وستين اسما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي :

الرسول ، المرسل ، النبي ، الأمي ، الشهيد ، المصدّق ، النور ، المسلم ، البشير ، المبشّر ، النذير ، المنذر ، المبين ، الأمين (٢) ، العبد ، الداعي ، السراج ،

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٤ / ٢٠٠

(٢) مكرر مع ما بعده «أمين» ويكون النبيء والنبي اسمين.

٥١

المنير ، الإمام ، الذّكر ، المذكّر ، الهادي ، المهاجر ، العامل ، المبارك ، الرحمة ، الآمر ، الناهي ، الطيب ، الكريم ، المحلّل ، المحرّم ، الواضع ، الرافع ، المخبر ، خاتم النبيين ، ثاني اثنين ، منصور ، أذن خير ، مصطفى ، أمين ، مأمون ، قاسم ، نقيب ، مزمّل ، مدثّر ، العليّ ، الحكيم ، المؤمن ، المصدّق (١) ، الرؤوف ، الرحيم ، الصاحب ، الشفيع ، المشفّع ، المتوكل ، محمد ، أحمد ، الماحي ، الحاشر ، المقفي ، العاقب ، نبي التوبة ، نبي الرحمة ، نبي الملحمة ، عبد الله ، نبي الحرمين. ذكر ذلك أهل ما وراء النهر.

فالرسول : الذي تتابع خبره عن الله ، وهو المرسل من ربّه ، والمرسل غيره لتبليغ الشرائع إلى الناس مشافهة ، والنبيء مهموز من النبأ وهو الخبر ، وغير مهموز من النّبوة : وهو المرتفع من الأرض ، فهو مخبر عن الله ، رفيع القدر عنده ، والأمي : الذي لا يقرأ ولا يكتب ، والشهيد لشهادته على الخلق في الدنيا والآخرة ، والمصدّق بجميع الأنبياء قبله ، وصدّق ربه بقوله ، وصدق قوله بفعله ، والمنور الذي نور الله به الأفئدة بالإيمان والعلم ، وبدد ظلمات الكفر والجهل ، والمسلم خير المسلمين وأولهم ، والبشير : الذي أخبر الخلق بثوابهم إن أطاعوا وبعقابهم إن عصوا ، والنذير والمنذر : المخبر عما يخاف ويحذر ، والمبين : الذي أبان عن ربه الوحي والدين وأظهر الآيات والمعجزات ، والأمين : الذي حفظ ما أوحي إليه وما وظف به ، والعبد : الذي ذل لله خلقا وعبادة ، والداعي الخلق إلى الحق وترك الضلال ، والسراج : النور الذي يبصر به الخلق الرشد ، والمنير : المنور ، والإمام : المقتدى به المرجوع إلى قوله وفعله ، والذّكر : الشريف في نفسه ، المشرّف غيره ، والمذكّر : الذي يخلق الله على يديه الذّكر ، أي تذكر الله ، والهادي : الذي أبان النجدين ، أي طريقي الخير والشر ، والمهاجر : لأنه هجر ما نهى الله عنه ، وهجر أهله ووطنه ، والعامل : لأنه قام

__________________

(١) مكرر مع ما قبله ، ويكون المرسل والمرسل اسمين.

٥٢

بطاعة ربه ، ووافق فعله قوله واعتقاده ، والمبارك : الذي جعل الله في حاله زيادة الثواب ، وفي حال أصحابه فضائل الأعمال ، وفي أمته زيادة العدد على جميع الأمم ، والرحمة : الذي رحم الله به العالمين في الدنيا من العذاب الشامل ، وفي الآخرة بتعجيل الحساب ، والآمر والناهي : المبلّغ الأمر والنهي ، والطيب : فلا أطيب منه ، لسلامته عن خبث القلب وخبث القول وخبث الفعل. والكريم : الجواد على التمام والكمال ، والمحلّل والمحرّم : مبيّن الحلال والحرام ، والواضع والرافع : الذي وضع الله به قوما ورفع آخرين ، والمخبر : النبيء ، وخاتم النبيين : آخرهم ، وثاني اثنين : أحد اثنين والآخر أبو بكر في غار جبل ثور ، والمنصور : المعان من قبل الله بالعزة والظهور على الأعداء ، وأذن خير : لا يعي من الأصوات إلا خيرا ولا يسمع إلا الأحسن ، والمصطفى : المخبر عنه بأنه صفوة الخلق ، والأمين كما تقدم : المؤتمن على المعاني ، والمأمون : الذي لا يخاف من جهته شرّ ، وقاسم : يقسم الزكوات والأخماس وسائر الأموال بين الناس ، ونقيب : يتولى الأمور ، ويحفظ الأخبار ، وقد وصف نفسه للأنصار بذلك فقال : أنا نقيبكم ، والمزمّل : المتلفف بثيابه ، والمدثر : المتغشّي بثيابه ، والعلي : الرفيع القدر والمكان ، الشريف الشأن ، والحكيم : العامل بما علم ، والمؤمن : المصدّق لربه اعتقادا وفعلا ، والرؤوف الرحيم : لما أعطاه الله من الشفقة على الناس ، والصاحب : الذي كان مع أتباعه حسن المعاملة ، عظيم الوفاء ، والشفيع المشفّع : الراغب إلى الله في أمر الخلق بتعجيل الحساب ، وإسقاط العذاب وتخفيفه ، والمتوكل : الملقي مقاليد الأمور إلى الله علما وعملا ، والمقفّي : العابد ، ونبي التوبة : لأنه تاب الله على أمته بالقول والاعتقاد ، دون تكليف بقتل أو إصر ، ونبي الرحمة : المشفق على الناس ، ونبي الملحمة : المبعوث بحرب الأعداء والنصر عليهم.

ثالثا ـ يرى مجاهد أن الأمر بالعفو والصفح عن الكافرين في قوله تعالى : (وَدَعْ أَذاهُمْ) منسوخ بآية السيف.

٥٣

رابعا ـ في آية (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ..) أحكام كثيرة منها :

١ ـ المرأة المطلقة قبل الدخول لا عدة عليها بنص الكتاب وإجماع الأمة على ذلك ، فإن دخل بها فعليها العدّة إجماعا.

والمشهور عند الفقهاء أن العدّة ليست خالص حق العبد ، وإنما يتعلق بها حق الله وحق العبد معا ؛ لأن منع الفساد باختلاط الأنساب من حق الشارع أيضا ، ولا تسقط العدة إذا أسقطها المطلّق ؛ لأن الشرع أثبتها. والعدة شرعا : المدة التي تنتظر فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها من الحمل ، أو للتعبد ، أو للتفجع على زوج مات.

٢ ـ إطلاق النكاح على العقد وحده ، وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها ، وقد اتفق العلماء على أن المراد بالنكاح هنا العقد ، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد. والنكاح في الأصل حقيقة في الوطء ، لكن من أدب القرآن الكناية عن الوطء أو الجماع بلفظ : الملامسة والمماسّة والقربان والتغشّي والإتيان. وسمي العقد نكاحا من حيث إنه طريق إليه ، كتسمية الخمر إثما ؛ لأنه سبب في اقتراف الإثم.

٣ ـ إباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها ، وهذه الآية مخصّصة لقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة ٢ / ٢٢٨] ولقوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ ، فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) [الطلاق ٦٥ / ٤].

٤ ـ قوله تعالى : (الْمُؤْمِناتِ) خرج مخرج الغالب من حال المؤمنين أنهم لا يتزوجون إلا بمؤمنات ، ولكن لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في إباحة الزواج بالاتفاق.

٥ ـ استدل جمهور العلماء منهم الشافعي أحمد بقوله تعالى : (إِذا نَكَحْتُمُ

٥٤

الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَ) بمهلة (ثُمَ) على أن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح ، ولا طلاق قبل النكاح ، فمن طلق المرأة قبل نكاحها وإن عيّنها ، فلا يلزمه ، فمن قال : كل امرأة أتزوجها فهي طالق ، أو إن تزوجت فلانة فهي طالق ، لا يعد طلاقا ، فإذا تزوج لم تطلق زوجته حينئذ ، سواء خص أو عم ، وسواء أنجز أو علّق.

وسئل ابن عباس عن ذلك ، فقال : هو ليس بشيء ، فقيل له : إن ابن مسعود كان يقول : إن طلق ما لم ينكح فهو جائز ، فقال : رحم الله أبا عبد الرحمن ، لو كان كما قال ، لقال الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إذا طلّقتم المؤمنات ، ثم نكحتموهن) ولكن إنما قال : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَ).

وروى ابن ماجه عن علي والمسور بن مخرمة رضي‌الله‌عنهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا طلاق قبل النكاح».

وروى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك».

وقال أبو حنيفة رحمه‌الله : لا فرق بين من خص أو عم ؛ لأن الطلاق يقع في الملك ، فإن عمّ ، فقال : كل امرأة أتزوجها فهي طالق ، تطلق منه ، وهذا تعليق معنوي للطلاق على الملك ، ومثله التعليق اللفظي : «إن تزوجت فلانة فهي طالق» (١). أما تنجيز الطلاق على الأجنبية فلا يقع ؛ لأن الطلاق الناجز لا يقع في غير الملك بالاتفاق.

وقال مالك رحمه‌الله : إن عم لم يقع ؛ لأنه ضيق على نفسه أنواع الزواج ،

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٣٦٤

٥٥

والأمر إذا ضاق اتسع وإن عين امرأة بذاتها أو بقبيلة أو ببلد معين ، يلزم ويقع.

٦ ـ هل الخلوة قبل الدخول بمثابة الجماع؟

يرى الشافعي وأحمد أن الخلوة ليست كالجماع ؛ لأن ظاهر التقييد بعدم المس في قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) دليل على الفرق بين الخلوة والجماع ؛ والمس كناية عن الجماع ، كما بينا ، والخلوة لا توجب ما يوجبه الجماع من العدة بعد الطلاق.

ويرى الحنفية والمالكية أن الخلوة الصحيحة كالجماع توجب العدة ؛ لما رواه الدار قطني والجصاص الرازي في أحكام القرآن : «من كشف خمار امرأة ، ونظر إليها ، وجب الصداق ، دخل بها أو لم يدخل».

وروي عن زرارة بن أبي أوفى أنه قال : قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه إذا أرخى الستور ، وأغلق الباب ، فلها الصداق كاملا ، وعليها العدة ، دخل بها أو لم يدخل.

والعدة عند الحنفية واجبة بعد الخلوة قضاء وديانة ، فلا يحل للمرأة أن تتزوج بزوج آخر قبل أن تعتد ، ما دامت الخلوة بالأول كانت صحيحة ، ولو من غير وقاع. ومنهم من يقول : إنه يحل لها ذلك متى كان الزوج لم يواقعها ، أما في القضاء فلا اعتبار إلا بالظاهر.

٧ ـ استدلّ داود الظاهري بظاهر الآية على أنه لا عدّة على المرأة المدخول بها المطلقة الرجعية أو البائنة بينونة صغرى إذا راجعها زوجها أو عقد عليها قبل انقضاء عدتها ، ثم طلقها قبل أن يمسها ؛ لأنها مطلقة قبل الدخول بها ، فليس عليها عدة جديدة للطلاق الثاني ؛ لأنه طلاق قبل الدخول ، وليس عليها أيضا

٥٦

أن تكمل العدة الأولى ؛ لأن الطلاق الثاني قد أبطل الطلاق الأول ، ثم يكون لها نصف الصداق في صورة البينونة.

وقال عطاء بن أبي رباح والشافعي في أحد قوليه : يجب على المرأة في الحالتين أن تبني على عدة الطلاق الأول ، ولا تستأنف عدة جديدة ؛ إذ الطلاق الثاني لا عدة له ، ولكن لا يبطل ما وجب بالطلاق الأول ، فإنه طلاق بعد دخول ، يجب أن تراعى فيه حكمة الشارع في إيجاب الاعتداد ، وعلى الزوج نصف الصداق في صورة البينونة ، كما قال الظاهرية.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والثوري والأوزاعي : يجب على المرأة أن تستأنف عدة جديدة في الحالتين ؛ لأنه وإن لم يحصل دخول ، فإن المرأة كان مدخولا بها من قبل ، وعلى الرجل في صورة البينونة مهر كامل بسبب كون المرأة مدخولا بها.

وفرق المالكية بين الطلاق الرجعي والبائن ، فأوجبوا على الرجعية أن تستأنف عدة كاملة ؛ إذ إنها في حكم الموطوءة بعد المراجعة ، ولم يوجبوا على البائن عدة ؛ لأن النكاح بعد البينونة عقد جديد ، فالطلاق بعده يصدق عليه أنه طلاق قبل الدخول ، فلا يوجب عدة ، لكنه لا يصح أن يهدم ما وجب على المرأة بالطلاق ، فعليها أن تكمل العدة الأولى ، ولها على المطلّق نصف المهر.

٨ ـ استدل الحسن البصري وأبو العالية بظاهر قوله تعالى : (فَمَتِّعُوهُنَ) على إيجاب المتعة للمطلقة قبل الدخول ، سواء أفرض لها مهر أم لم يفرض ، ويؤيد ذلك ظاهر قوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ، حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة ٢ / ٢٤١].

وهذا مذهب الشافعية أيضا ، لكنهم استثنوا المطلقة قبل الدخول التي سمي لها مهر ، فإن لها نصف المهر فقط ، والمتعة سنة مستحبة ، ودليلهم قوله تعالى :

٥٧

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ، وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) [البقرة ٢ / ٢٣٧] فلم يذكر متعة ، قال سعيد بن المسيب : هذه الآية ناسخة لآية الأحزاب : (فَمَتِّعُوهُنَ).

ويرى الحنفية والحنابلة أن المرأة المفوّضة وهي التي لم يفرض لها مهر تجب لها المتعة ، وأما غيرها فالمتعة لها سنة ، واستدلوا بقوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ، وَمَتِّعُوهُنَّ ، عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ، مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ ، حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة ٢ / ٢٣٦].

وجعل المالكية المتعة سنة مستحبة لكل مطلقة ؛ لأنهم حملوا الأوامر الواردة في شأن المتعة كلها على الندب والاستحباب ؛ لظاهر قوله تعالى : (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ).

والخلاصة : أن هناك تعارضا بين آية البقرة وبين آية الأحزاب ، وقد دفع بعض العلماء التعارض بجعل آية البقرة مخصصة لآية الأحزاب أو ناسخة لعمومها ، ويكون المعنى : فمتعوهن إن لم يكن مفروضا لهن المهر في النكاح ، وهو مذهب الحنفية والشافعية.

ومن العلماء من حمل المتعة في آية الأحزاب على العطاء مطلقا ، فيشمل نصف المفروض والمتعة المعروفة في الفقه ، إلا أن ذلك الشيء في صورة الفرض مقدر بنصف المفروض بالنص ، وفي صورة عدم الفرض غير مقدر ، فإن اتفقا على شيء فذاك ، وإلا قدرها القاضي باجتهاده على حسب حال الزوجين يسارا وعسرا.

ومنهم من حمل الأمر في آية (فَمَتِّعُوهُنَ) على الإذن الشامل للوجوب والندب ، مع بقاء المتعة على معناها المعروف ، فيكون التمتيع واجبا في صورة

٥٨

عدم الفرض ؛ لقوله تعالى : (وَمَتِّعُوهُنَ) ومستحبا في صورة الفرض الصحيح ؛ لأنه من الفضل المندوب إليه عموما في قوله تعالى : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) [البقرة ٢ / ٢٣٧].

٩ ـ المتعة : كسوة كاملة ، روى البخاري عن سهل بن سعد وأبي أسيد رضي‌الله‌عنهما قالا : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج أميمة بنت شراحيل ، فلما أن دخلت عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسط يده إليها ، فكأنها كرهت ذلك ، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيين (١)».

النساء اللاتي أحلّ الله زواجهن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ

__________________

(١) نوع من الثياب مشهور حينئذ.

٥٩

مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢))

الإعراب :

(وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً) منصوب بالعطف على (أَزْواجَكَ) وعامله : (أَحْلَلْنا) أو منصوب بتقدير فعل ، أي ويحل لك امرأة مؤمنة.

(إِنْ وَهَبَتْ) بالفتح إما بدل من (امْرَأَةً) أو على حذف حرف الجر ، أي لأن وهبت.

(خالِصَةً لَكَ) مصدر مؤكد أو حال من ضمير (وَهَبَتْ) أو صفة لمصدر محذوف ، أي هبة خالصة.

(لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) متعلق ب (أَحْلَلْنا) أي أحللنا لك هذه الأشياء ، لكيلا يكون عليك حرج ، أي ضيق.

(وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ كُلُّهُنَ) : مرفوع ؛ لأنه تأكيد للضمير الفاعل في (يَرْضَيْنَ).

(إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ما) : إما مرفوع على البدل من (النِّساءُ) في قوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) وإما منصوب على أصل الاستثناء ، وهو النصب ، و (ما) في هذين الوجهين : اسم موصول يفتقر إلى صلة وعائد ، فالصلة (مَلَكَتْ) والعائد محذوف للتخفيف. أو أن تكون (ما) مصدرية في موضع نصب على الاستثناء المنقطع.

البلاغة :

(إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة بلفظ النبي مكررا ، تنويها بشأنه.

المفردات اللغوية :

(أُجُورَهُنَ) مهورهن. (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) أي ما كان من الإماء بسبب السبي والغنيمة

٦٠