التفسير المنير - ج ٢٢

الدكتور وهبة الزحيلي

شَيْءٍ) يسبقه ويفوته (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً) بالأشياء كلها لا يخفى عليه شيء (قَدِيراً) لا يصعب عليه أمر.

(بِما كَسَبُوا) عملوا من الذنوب أو المعاصي أو الخطايا (عَلى ظَهْرِها) على ظهر الأرض من الأحياء (مِنْ دَابَّةٍ) من الدواب التي تدبّ ، والدابة : كل ما يدبّ على الأرض (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو يوم القيامة (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) أي فيجازيهم على أعمالهم ، بإثابة المؤمنين ، وعقاب الكافرين.

سبب النزول :

نزول الآية (٤٢):

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي هلال أنه بلغه : أن قريشا كانت تقول : لو أن الله بعث منا نبيا ، ما كانت أمة من الأمم أطوع لخالقها ، ولا أسمع لنبيها ، ولا أشد تمسكا بكتابها منا ، فأنزل الله : (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ : لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) [الصافات ٣٧ / ١٦٨] (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) [الأنعام ٦ / ١٥٧] (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) وكانت اليهود تستفتح على النصارى به ، فيقولون : إنا نجد نبيا يخرج.

المناسبة :

بعد بيان إنكار المشركين للتوحيد ، وتوبيخهم وتقريعهم على سخف عقولهم ، ذكر الله تعالى تكذيبهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعد ترقبهم له ، ثم هددهم بالهلاك كمن قبلهم من الأمم الغابرة الذين كذبوا رسلهم ، وأردفه بتذكيرهم بما يشاهدونه في رحلاتهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار تدمير منازل المكذبين بالرغم من كمال القوة ، وكثرة المال والولد ، وختم السورة ببيان مدى حلمه على الناس ، وأنه لو أراد مؤاخذتهم لأفناهم ، ولكنه أخرّ عقابهم إلى يوم القيامة ، وحينها يعاقبهم على أعمالهم.

٢٨١

التفسير والبيان :

هذا نبأ عجيب غريب عن قريش والعرب لا علم لنا به من غير القرآن ، قال تعالى :

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ : لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) أقسمت قريش والعرب بالله أغلظ الأيمان قبل إرسال الرسول إليهم : لئن جاءهم من الله رسول منذر ليكونن أمثل من أي أمة من الأمم أو من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل في الطاعة ، وأشدهم تمسكا بالرسالة وقبولا لها.

وذلك كقوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا : إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا ، وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا : لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها ، سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) [الأنعام ٦ / ١٥٦ ـ ١٥٧].

(فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ، ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً ، اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ ، وَمَكْرَ السَّيِّئِ) أي فلما أتاهم ما تمنوه ، وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أنزل عليه من القرآن العظيم ، ما ازدادوا إلا كفرا إلى كفرهم وتباعدا عن الإيمان وإجابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مستكبرين عن اتباع آيات الله ، ومكروا بالناس في صدهم إياهم عن سبيل الله تعالى.

وبه تبين ألا عهد لهم ، ولا صدق في كلامهم ، ولا وفاء بما يقولون ، فتحملوا ثم فعلهم كما قال تعالى :

(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) أي وما يعود وبال ذلك إلا عليهم نفسهم دون غيرهم ، وعادت عليهم عاقبة مكرهم بالإثم والوزر ، ونزلت عاقبة لسوء بمن أساء ، قبل المساء إليه ، كما قال تعالى : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَ

٢٨٢

مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء ٢٦ / ٢٢٧] ومكر السيء : أي مكر العمل السيء ، والمكر : هو الحيلة والخداع والعمل القبيح ، وهو هنا الكفر وخداع الضعفاء ، وصدهم عن الإيمان ليكثر أتباعهم.

ثم هددهم بجزاء أمثالهم ، فقال :

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أي فهل ينتظرون إلا عقوبة لهم على تكذيبهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومخالفة أوامره مثل عقوبة الله للأمم الماضية المكذبين.

(فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) أي تلك سنة الله وطريقته. التي لا تتغير ولا تتبدل في كل مكذب ، فلن توضع الرحمة موضع العذاب ، ولن يحوّل العذاب من مكذب إلى غيره ، كما قال تعالى : (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) [الرعد ١٣ / ١١].

ثم لفت أنظارهم إلى آثار تدمير الماضين المكذبين فقال :

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أي أولم ينتقلوا في الأراضي في رحلاتهم إلى الشام واليمن والعراق ، فيشاهدوا مصير السابقين الذين كذبوا الرسل ، كيف دمّر الله عليهم ، وللكافرين أمثالهم ، بالرغم من أنهم كانوا أشد قوة من قريش وأكثر عددا وعددا ، وأموالا وأولادا ، فما أغنى ذلك شيئا ، ولا دفع عنهم من عذاب الله من شيء ، لما جاء أمر ربك ، لأنه كما قال تعالى :

(وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ، إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) أي لأن الله لا يعجزه ولا يفوته أو يسبقه شيء إذا أراد حدوثه في السموات والأرض ، فلن يعجزه هؤلاء المشركون المكذبون لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولن يفلتوا من عقابه ؛ لأن الله تعالى عليم بجميع الكائنات لا يخفى عليه شيء ، قدير

٢٨٣

لا يصعب عليه أمر ، فهو يعلم المستحق للعقوبة ، قادر على الانتقام منه في أي وقت أو مكان شاء.

ثم أبان الله تعالى سياسته العقابية ، وأخبر عن سابغ وواسع رحمته بالناس ، فقال :

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) أي لو عجل تعالى العقاب وآخذ الناس بجميع ذنوبهم ، لأهلك جميع أهل السموات والأرض ، وما يملكونه من دواب وأرزاق ، لشؤم معاصيهم. والمراد بالدابة كما قال ابن مسعود : جميع الحيوان مما دبّ ودرج.

(وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ ، فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) أي ولكن يؤجل عقابهم ومؤاخذتهم بذنوبهم إلى وقت محدد وهو يوم القيامة ، فيحاسبهم يومئذ ، ويوفي كل عامل بعمله ، فيجازي بالثواب أهل الطاعة ، وبالعقاب أهل المعصية ، والله بصير بمن يستحق منهم الثواب ، ومن يستحق منهم العقاب ، لا يخفى عليه شيء من أمرهم.

ونظير الآية : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) [الكهف ١٨ / ٥٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ أقسمت قريش قبل بعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين بلغهم أن أهل الكتاب كذّبوا رسلهم أنه إن جاءهم نبي ليكونن أهدى ممن كذب الرسل من أهل الكتاب. وكانت العرب تتمنى أن يكون منهم رسول كما كانت الرسل من بني إسرائيل.

فلما جاءهم ما تمنّوه وهو الرسول النذير ، من أنفسهم ، نفروا عنه ، ولم يؤمنوا

٢٨٤

به ، تكبرا وعتوا عن الإيمان ، ومكرا منهم بصدهم عن الإيمان ليكثر أتباعهم.

٢ ـ لكن تنكر المشركين للعهد بالله ، وإخلالهم بالوفاء باليمين ، وعاقبة شركهم : لا ترتد آثاره إلا عليهم أنفسهم. وهذا ما دل عليه قوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ). وفي أمثال العرب : «من حفر لأخيه جبّا ، وقع فيه منكبّا» وروى الزهري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تمكر ولا تعن ماكرا ، فإن الله تعالى يقول : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ولا تبغ ولا تعن باغيا ، فإن الله تعالى يقول : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) وقال تعالى : (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ). وفي الحديث الذي أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن قيس بن سعد : «المكر والخديعة في النار» أي تدخل أصحابها في النار ؛ لأنها من أخلاق الكفار ، لا من أخلاق المؤمنين الأخيار ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وليس من أخلاق المؤمن : المكر والخديعة والخيانة».

٣ ـ ما موقف المشركين المعاند من نبي الله إلا كموقف من ينتظر العذاب الذي نزل بالكفار الأولين ، وقد أجرى الله العذاب على الكفار ، وجعل ذلك سنة أي طريقة فيهم ، فهو يعذب المستحق ، لا يقدر أحد أن يبدل ذلك ، ولا أن يحول العذاب عن نفسه إلى غيره. والإهلاك ليس سنة الأولين وإنما هو سنة الله بالأولين.

٤ ـ تأكيدا لهذا الموقف نبّههم الله تعالى إلى الأمثلة الواقعية من تاريخ الأمم الغابرة ، وهم الذين يشاهدون آثار تدمير مساكنهم ودورهم أثناء تجاراتهم ورحلاتهم إلى بلاد اليمن والشام والعراق ، مثل إهلاك قوم عاد وثمود ومدين وغيرهم ، لما كذبوا رسل الله ، وكانوا أشد من أهل مكة قوة ، وأكثر أموالا وأولادا ، وإذا أراد الله إنزال عذاب بقوم لم يعجزه ذلك.

٥ ـ اقتضت رحمة الله تبارك وتعالى ألا يعجل العذاب للعصاة والكفار على

٢٨٥

ذنوبهم ، وإنما يؤخرهم ويمهلهم إلى يوم معين كي تكون لديهم فرصة ، فيتداركوا تقصيرهم ، ويعدلوا عن ظلمهم ، وكان مقتضى العدل تعجيل العقوبة ، وإذا فعل الله ذلك ، أهلك جميع المخلوقات إلا من يشاء ، والله سبحانه عليم بمن يستحق العقاب منهم.

وهذا رد بليغ على المشركين الذين كانوا من شدة عنادهم وفساد اعتقادهم وعتوهم يستعجلون بالعذاب ، ويقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عجل لنا عذابنا ، فقال الله : للعذاب أجل.

وقد حكى القرآن الكريم استعجال المشركين بالعقاب استهزاء ، حيث قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال ٨ / ٣٢].

٢٨٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة يس

مكيّة ، وهي ثلاث وثمانون آية.

تسميتها :

سميت سورة يس لافتتاحها بهذه الأحرف الهجائية ، التي قيل فيها إنها نداء معناه (يا إنسان) بلغة طي لأن تصغير إنسان : أنيسين ، فكأنه حذف الصدر منه ، وأخذ العجز ، وقال : (يس) أي أنيسين. وعلى هذا يحتمل أن يكون الخطاب مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بدليل قوله تعالى بعده. (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).

مناسبتها لما قبلها :

تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة :

١ ـ بعد أن ذكر تعالى في سورة فاطر قوله : (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) [٣٧] وقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ ، لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) [٤٢] والمراد به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أعرضوا عنه وكذبوه ، افتتح هذه السورة بالقسم على صحة رسالته ، وأنه على صراط مستقيم ، وأنه أرسل لينذر قوما ما أنذر آباؤهم.

٢ ـ هناك تشابه بين السورتين في إيراد بعض أدلة القدرة الإلهية الكونية ، فقال تعالى في سورة فاطر : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى)

٢٨٧

[١٣] وقال في سورة يس : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [٣٧ ـ ٣٨].

٣ ـ وقال سبحانه في فاطر : (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) [١٢] وقال في يس : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [٤١].

مشتملاتها :

تضمنت هذه السورة كسائر السور المكية المفتتحة بأحرف هجائية الكلام عن أصول العقيدة من تعظيم القرآن الكريم ، وبيان قدرة الله ووحدانيته ، وتحديد مهام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبشارة والإنذار ، وإثبات البعث بأدلة حسية مشاهدة من الخلق المبتدأ والإبداع الذي لم يسبق له مثيل.

وقد بدئت السورة بالقسم الإلهي بالقرآن الحكيم على أن محمدا رسول حقا من رب العالمين لينذر قومه العرب وغيرهم من الأمم ، فانقسم الناس من رسالته فريقين : فريق معاند لا أمل في إيمانه ، وفريق يرجى له الخير والهدى ، وأعمال كل من الفريقين محفوظة ، وآثارهم مدونة معلومة في العلم الأزلي القديم.

ثم ضرب المثل لهم بأهل قرية كذبوا رسلهم واحدا بعد الآخر ، وكذبوا الناصح لهم وقتلوه ، فدخل الجنة ، ودخلوا هم النار. وأعقب ذلك تذكيرهم بتدمير الأمم المكذبة الغابرة.

وانتقل البيان إلى إثبات البعث والقدرة والوحدانية بإحياء الأرض الميتة ، وبيان قدرة الله الباهرة في الكون من تعاقب الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر وغيرهما من الكواكب السيارة والثابتة ، وتسيير السفن في البحار.

وإزاء ذلك هزم الجاحدون ، وأنذروا بالعقاب السريع ، وفوجئوا بنقمة الله في تصوير أهوال القيامة ، وبعثهم من القبور بنفخة البعث والنشور ، فأعلنوا

٢٨٨

ندمهم ، وصرحوا بأن البعث حق ، ولكن لم يجدوا أمامهم إلا نار جهنم ، وكانوا قد وبخوا على اتباع وساوس الشيطان ، وأعلموا أن الله قادر على مسخهم في الدنيا.

وأما المؤمنون فيتمتعون بنعيم الجنان ، ويحسون بأنهم في أمن وسلام من رب رحيم.

ثم نفى الله تعالى كون رسوله شاعرا ، وأعلم الكافرين أنه منذر بالقرآن المبين أحياء القلوب ، وذكّر الناس قاطبة بضرورة شكر المنعم على ما أنعم عليهم من تذليل الأنعام ، والانتفاع بها في الطعام والشراب واللباس.

وندد الله تعالى باتخاذ المشركين آلهة من الأصنام أملا في نصرتها لهم يوم القيامة ، مع أنها عاجزة عن أي نفع ، وهم مع ذلك جنودها الطائعون.

وختمت السورة بالرد القاطع على منكري البعث بما يشاهدونه من ابتداء الخلق ، وتدرج الإنسان في أطوار النمو ، وإنبات الشجر الأخضر ثم جعله يابسا ، وخلق السموات والأرض ، وإعلان القرار النهائي الحتمي الناجم عن كل ذلك ، وهو قدرة الله الباهرة على إيجاد الأشياء بأسرع مما يتصور الإنسان ، وأنه الخالق المالك لكل شيء في السموات والأرض.

والخلاصة : أن السورة كلها إيقاظ شديد للمشاعر والوجدان ، وتحريك قوي للأحاسيس ، وفتح نفّاذ للقلوب ، لكي تبادر إلى الإقرار بالخالق وتوحيده ، والإيمان بالبعث والجزاء. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتاب أبي داود عن معقل بن يسار : «اقرؤوا يس على موتاكم».

٢٨٩

القرآن والرسول والمرسل إليهم

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢))

الإعراب :

(يس) إما بالرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي هذه يس ، وإما بالضم على نداء المفرد أو على أنه مبني كحيث ، وقرئ بالنصب على معنى : اتل يس ، وإما بالفتح كأين وكيف ، وقرئ بالكسر مثل : جير لإسكان الياء وكسر ما قبلها. ومنهم من أظهر النون ، ومنهم من أدغمها في الواو ، فمن أظهرها فلأن حروف الهجاء من حقها أن يوقف عليها ، كالعدد ، ولذلك لم تعرب ، ومن أدغمها أجراها مجرى المتصل ، والإظهار أقيس.

(لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) في موضع رفع خبر (إن) و (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إما في موضع رفع خبر بعد خبر (إن) وإما في موضع نصب متعلق ب (الْمُرْسَلِينَ).

(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) منصوب على المصدر ، مصدر (نزّل) وهو مضاف إلى الفاعل ،

٢٩٠

ويقرأ بالرفع على تقدير مبتدأ محذوف ، تقديره : هو تنزيل ، ويقرأ أيضا بالجر على البدل من القرآن.

(ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ قَوْماً) : إما نافية ، وإما مصدرية في موضع نصب ، تقديره : لتنذر قوما إنذارا مثل إنذارنا آباءهم ، ممن كانوا في زمان إبراهيم وإسماعيل.

(وَآثارَهُمْ) هي السنن التي سنّوها ، فيه محذوف تقديره : سنكتب ذكر ما قدموا وذكر آثارهم ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه. (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كُلَ) منصوب بفعل مقدر دلّ عليه (أَحْصَيْناهُ) أي أحصينا كل شيء أحصيناه.

البلاغة :

(إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) في كل منهما تأكيد بأكثر من مؤكد وهو (إن) واللام ؛ لأن المخاطب منكر ، وهذا التأكيد يسمى إنكاريا.

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) استعارة تمثيلية ، شبه حال الكفار في امتناعهم عن الإيمان بمن غلّت يده إلى عنقه بالقيود ، فصار مرفوع الرأس خافض البصر ، لا يستطيع فعل شيء ولا الالتفات إلى غيره. وكذلك شبه حالهم بمن وجد بين سدّين لا يستطيع النفاذ والاهتداء لطريقه.

(مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) بينهما طباق.

(أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) بينهما طباق السلب.

(نَحْنُ نُحْيِ) جناس ناقص لتغير الحروف.

المفردات اللغوية :

(يس) تقرأ : يا ، س بمد الياء ، وإظهار النون الساكنة ، أو بإدغام نون السين في الواو التي بعدها ، إلخ ما ذكر في الحاشية ، والمراد من هذه الحروف المقطعة الهجائية كما سبق بيانه التنبيه ، مثل ألا ويا ، والإشارة إلى العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف تتركب منها لغتهم وكلامهم ، ليكون عجزهم عنه أبلغ حجة عليهم. (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) الواو : واو القسم ، يقسم الله تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن المحكم بعجيب النظم وبديع المعاني ، أو بذي الحكمة ، على أن محمدا رسول من عند الله ، لئلا يشك أحد في كونه مرسلا. (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي الأنبياء المرسلين إلى قومهم وغيرهم ، والتأكيد بالقسم واللام للرد على من أنكر رسالته من الكفار بقولهم : لست مرسلا. (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي الطريق القويم الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج ، بل هو الموصل إلى المطلوب ، في العقيدة والشريعة ، في التوحيد والاستقامة في الأمور.

٢٩١

(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) أي إن القرآن تنزيل منزل من العزيز الغالب في ملكه ، الرحيم بخلقه. (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) اللام متعلق ب (تَنْزِيلَ) ، والمعنى أرسلناك بهذا التنزيل لتنذر قوما لم ينذر آباؤهم الأقربون ، في زمن الفترة ، أو لتطاول مدة الفترة بين عيسى ومحمد عليهما‌السلام. (غافِلُونَ) أي إن القوم العرب غافلون عن الإيمان والرشد ، وعن الشرائع والأحكام. (حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) وجب الحكم بالعذاب على أكثر أهل مكة : وهم من مات على الكفر وأصرّ عليه. (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لأنهم ممن علم الله أنهم لا يؤمنون بالقرآن.

(أَغْلالاً) جمع غلّ : وهو ما تجمع به اليد إلى العنق للتعذيب. (فَهِيَ) الأيدي مجموعة. (إِلَى الْأَذْقانِ) جمع ذقن : وهي مجتمع اللّحيين. (مُقْمَحُونَ) رافعون رؤوسهم لا يستطيعون خفضها ، غاضون أبصارهم في عدم التفاتهم إلى الحق. وهذا تمثيل ، يراد به أنهم لا يذعنون للإيمان ولا يخفضون نفوسهم له. (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) أمامهم ، والمراد : منعناهم عن الإيمان بموانع هي استكبارهم وعتوهم وعنادهم عن قبول الحق والخضوع له. (فَأَغْشَيْناهُمْ) غطينا أبصارهم. (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) أي فهم بسبب ذلك لا يقدرون على إبصار سبيل الهدى ، إنهم عموا عن البعث ، وعن قبول الشرائع الإلهية. وهذا تمثيل أيضا لسد طريق الإيمان عليهم ؛ لأن الله سبحانه قد علم منهم الإصرار على ما هم فيه من الكفر والموت عليه. والعلم : مجرد معرفة مسبقة لا يمنع الإنسان عقلا وواقعا من الإيمان ؛ لأنه غير معروف له.

(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي إنذارك إياهم وعدمه سواء ، فلا ينفعهم الإنذار ، بسبب العتو والاستكبار. (إِنَّما تُنْذِرُ) ينفع إنذارك. (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي اتبع القرآن ، وخاف عقاب الله في السر والعلن ، وإن لم يره ، والغيب : أي قبل معاينة أهواله. (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) هو الجنة.

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) نبعثهم بعد الموت. (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) أي نكتب في اللوح المحفوظ ما أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة. (وَآثارَهُمْ) أي ما أبقوه بعدهم من الحسنات التي لا ينقطع نفعها بعد الموت ، كالعلم والكتاب والمسجد والمشفى والمدرسة ، أو من السيئات كنشر البدع والمظالم والأضرار والضلالات بين الناس. (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) أي كل شيء من أعمال العباد وغيرها ضبطناه في اللوح المحفوظ أو في صحائف الأعمال.

سبب النزول :

نزول الآية (١):

(يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) : أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال :

٢٩٢

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في السجدة ، فيجهر بالقراءة حتى يتأذى به ناس من قريش ، حتى قاموا ليأخذوه ، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم ، وإذا بهم عمي لا يبصرون ، فجاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ننشدك الله والرحم يا محمد ، فدعا حتى ذهب ذلك عنهم. فنزلت : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) إلى قوله : (أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فلم يؤمن من ذلك النفر أحد.

نزول الآية (٨):

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) : أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا لأفعلن ، فأنزل الله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) إلى قوله : (لا يُبْصِرُونَ) فكانوا يقولون : هذا محمد ، فيقول : أين هو ، أين هو؟ لا يبصر.

نزول الآية (١٢):

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) : أخرج الترمذي وحسنه ، والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري قال : كانت بنو سلمة في ناحية المدينة ، فأرادوا النّقلة إلى قرب المسجد ، فنزلت هذه: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن آثاركم تكتب ، فلا تنتقلوا». وأخرج الطبراني عن ابن عباس مثله.

وأخرج عبد الرزاق عن أبي سعيد قال : شكت بنو سلمة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد منازلهم من المسجد ، فأنزل الله تعالى : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليكم منازلكم ، فإنما تكتب آثاركم».

التفسير والبيان :

(يس ، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي

٢٩٣

أقسم بالقرآن ذي الحكمة البالغة ، المحكم بنظمه ومعناه بأنك يا محمد لرسول من عند الله على منهج سليم ، ودين قويم ، وشرع مستقيم لا عوج فيه.

وفي هذا إشارة إلى أن القرآن هو المعجزة الباقية ، وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، صادق في نبوته ، ومرسل برسالة دائمة من عند ربه.

(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) أي هذا القرآن والدين والصراط الذي جئت به تنزيل من رب العزة ، الرحيم بعباده المؤمنين ، كما قال تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى ٤٢ / ٥٢ ـ ٥٣].

وهذا دليل واضح على مكانة القرآن وأنه أجل نعمة من نعم الرحمن.

(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ ، فَهُمْ غافِلُونَ) أي أرسلناك أيها النبي لتنذر العرب الذين لم يأتهم رسول نذير من قبلك ، ولم يأت آباءهم الأقربين من ينذرهم ويعرّفهم شرائع الله تعالى ، فهم غافلون عن معرفة الحق والنور والشرائع التي تسعد البشر في الدارين.

لكنّ ذكرهم وحدهم هنا للعناية بهم وتوجيه الخطاب لهم : لا ينفي كونه مرسلا إلى الناس كافة ، بدليل الآيات والأحاديث المتواترة المعروفة في عموم بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مثل قوله تعالى : (قُلْ : يا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف ٧ / ١٥٨] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه الشيخان والنسائي عن جابر : «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة».

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي لقد وجب العذاب على أكثر أهل مكة ، وهو ما سجّل عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون بالقرآن وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم الذين علم الله أنهم يموتون على الكفر ، ويصرون عليه طوال حياتهم.

٢٩٤

والمراد بالقول : الحكم والقضاء الأزلي ، وهو سبق علم الله بنهاياتهم ، لا بطريق الجبر والإلجاء ، بل باختيارهم وإصرارهم على الكفر ، وفي هذا تطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لا يجزع ولا يأسف على عدم إيمانهم به.

ثم ضرب الله تعالى مثلا لتصميمهم على الكفر وأنه لا سبيل إلى إيمانهم ، فقال : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً ، فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أي إنا جعلنا أيديهم مشدودة إلى أعناقهم بالقيود ، تمنعهم من فعل شيء ، فصاروا مرفوعي الرؤوس خافضي الأبصار. وهذا يعني أن الله جعلهم كالمغلولين المقمحين (الرافعي رؤوسهم الغاضي أبصارهم) في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ، ولا يوجهون أنظارهم نحوه ، وهم أيضا كالقائمين بين سدين ، لا يبصرون أمامهم ولا خلفهم ، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله ، كما قال :

(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ، فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) أي تأكيدا لما سبق في تصوير حالتهم أنهم بتعاليهم عن النظر في آيات الله جعلوا كمن أحاط به سدان من الأمام والخلف ، فمنعاه من النظر ، فهو لا يبصر شيئا ، وهؤلاء لا ينتفعون بخير ، ولا يهتدون إليه ؛ لأنا غطينا أبصارهم عن الحق.

وهذا مثل صائب لأهل الجهالة والتخلف والبدائية الذين حجبوا مداركهم وأبصارهم عن التأمل في معطيات المدنية والتقدم والحضارة ، وهو تمثيل رائع للسد الإلهي المعنوي بالسد الحاجز المادي الحسي.

ونتيجة لما سبق :

(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي إن إنذارك لهؤلاء المصرين على كفرهم وعدمه سواء ، فلا ينفعهم الإنذار ، ما داموا غير مستعدين

٢٩٥

لقبول الحق ، والخضوع لنداء الله ، والنظر في الدلائل الدالة على صدق رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتأمل في عجائب الكون المشاهدة الدالة على وجود الله تعالى ووحدانيته.

أما نفع الإنذار ، فهو كما ذكر تعالى :

(إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ، وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ ، فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) أي إنما ينفع إنذارك الذين آمنوا بالقرآن العظيم واتبعوا أحكامه وشرائعه ، وخافوا عقاب الله قبل حدوثه ومعاينة أهواله ، أو خشوا الله قبل رؤيته ، فهؤلاء بشرهم بمغفرة لذنوبهم ، ورضوان من الله ، وأجر كريم ونعيم مقيم هو الجنة. ونظير الآية : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ، وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [الملك ٦٧ / ١٢].

ثم أكد الله تعالى حصول الجزاء للمؤمنين وغيرهم ، فقال :

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى ، وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) أي إننا قادرون فعلا على إحياء الموتى ، وبعثهم أحياء من قبورهم ، ونحن الذين ندوّن لهم كل ما قدموه وأسلفوه من عمل صالح أو سيء ، وتركوا من أثر طيب أو خبيث ، أي نكتب ونسجل أعمالهم التي باشروها بأنفسهم ، وآثارهم التي أثروها وخلفوها من بعدهم ، فنجزيهم على ذلك إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فمن عمل على نشر الفضيلة جوزي بها ، ومن عمد إلى نشر الرذيلة والسوء في الملاهي أو الكتب الخليعة يحاسب عليها.

وهذا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي ـ : «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة ، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا».

٢٩٦

وروى مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده».

ثم ذكر تعالى أن كتابة الآثار لا تقتصر على الناس ، وإنما تتناول جميع الأشياء ، فقال : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) أي لقد ضبطنا وأحصينا كل شيء من أعمال العباد وغيرهم في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي سجّل فيه جميع ما يتعلق بالكائنات ، كما قال تعالى : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه ٢٠ / ٥٢] وقال سبحانه : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) [القمر ٥٤ / ٥٢ ـ ٥٣].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ القرآن الكريم معجزة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخالدة إلى يوم القيامة ، وهو تنزيل من رب العالمين ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

٢ ـ الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول من عند الله ، أرسله الله بالهدى ودين الحق ، على منهج وطريق ودين مستقيم هو الإسلام.

٣ ـ رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى العرب خاصة وإلى الناس كافة ، فلم يبق بعدها عذر لمعتذر.

٤ ـ إن رؤوس الكفر والطغيان والعناد من أهل مكة أو العرب استحقوا الخلود في نار جهنم والعذاب الدائم فيها ؛ لأنهم أصروا على الكفر ، وأعرضوا عن النظر في آيات الله ، والتأمل في مشاهد الكون ، وقد علم الله في علمه الأزلي

٢٩٧

بقاءهم على الكفر ، لكنه أمر نبيه بدعوتهم إلى دينه ؛ لأنهم لا يعلمون سابق علم الله فيهم ، ولتعليمنا المنهج في دعوة الناس قاطبة إلى الإيمان بالله والقرآن ورسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والبعث والحساب والجزاء.

٥ ـ لا أمل بعد هذا في إنذارهم ولا نفع فيه بعد أن سدوا على أنفسهم منافذ الهداية ومدارك المعرفة ، ولم تتفتح بصائرهم لرؤية الحق والنور الإلهي.

٦ ـ إنما نفع الإنذار لمن استعد للنظر في منهج الحق ، ثم آمن بالقرآن كتابا من عند الله ، وخشي عذاب الله وناره قبل المعاينة والحدوث ، فهذا وأمثاله يغفر الله له ذنبه ، ويدخله الجنة.

٧ ـ البعث حق والإيمان به واجب ، والله قادر عليه ، وسيكون مستند الجزاء ما كتب من أعمال العباد ، وما تركوه من آثار صالحة أو سيئة ، كما أن الله أحصى كل شيء وضبطه من أمور الكائنات ، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

وقد دلّ سبب نزول الآية على أن حسنات البعيدين عن المسجد مثل حسنات القريبين منه ، وأنه إن تعذر عليهم الاقتراب من المسجد أو شقّ عليهم ، فلا يلزم القرب منه.

قصة أصحاب القرية ـ أنطاكية

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ

٢٩٨

الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧))

الإعراب :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ أَصْحابَ) : منصوب إما على البدل من قوله : (مَثَلاً) أي واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية ، فالمثل الثاني بدل من الأول ، وحذف المضاف ، وإما لأنه مفعول ثان ل (اضْرِبْ). و (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ) : بدل اشتمال من أصحاب القرية.

و (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ) بدل من إذ الأولى. و (إِذْ جاءَهَا) : ظرف لقوله (جاءَهَا).

(أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) جواب الشرط محذوف ، تقديره : أئن ذكرتم ، تلقيتم التذكير والإنذار بالكفر والإنكار. و (أَإِنْ) : همزة استفهام دخلت على إن الشرطية.

(وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) : أكثر القراء فتحوا الياء من (لِيَ) إشعارا بفتح الابتداء ب (لا أَعْبُدُ) ليبتعدوا عن صورة الوقف على الياء ؛ لأنهم لو سكنوا لكانت صورة السكون مثل صورة الوقف. أما في قوله : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) [النمل ٢٧ / ٢٠] فالياء ساكنة.

(بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) ما : إما بمعنى الذي ، و (غَفَرَ لِي) : صلته ، والعائد محذوف

٢٩٩

تقديره : الذي غفره لي ربي ، وحذف تخفيفا ، وإما مصدرية ، أي بغفران ربي لي ، وإما استفهامية ، وفيه معنى التعجب من مغفرة الله ، تحقيرا لعمله وتعظيما لمغفرة ربه ، لكن في هذا الوجه ضعف ؛ لأنه لو كانت استفهامية لزم حذف الألف منها ، فتصير (بم).

البلاغة :

(اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) إطناب بتكرار الفعل.

(أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) استفهام للتوبيخ.

(قِيلَ : ادْخُلِ الْجَنَّةَ) مجاز بالحذف ، أي لما أعلن إيمانه قتلوه ، فقيل له : ادخل الجنة.

(أَرْسَلْنا الْمُرْسَلُونَ تَطَيَّرْنا طائِرُكُمْ) فيهما جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) أي : ومثّل لهم مثلا ، والمعنى : واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية ، أي اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية ، والمثل الثاني بيان للأول. والمثل : الصفة والحال الغريبة التي تشبه المثل في الغرابة. (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) قال القرطبي : هذه القرية : هي أنطاكية في قول جميع المفسرين. (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) هم أصحاب عيسى ، بعثهم إلى أهل أنطاكية للدعوة إلى الله. (فَكَذَّبُوهُما) في الرسالة. (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) قوّينا وأيدنا بثالث ، وقرئ : فعززنا بالتخفيف : أي غلبنا وقهرنا.

(إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أي مشاركون لنا في البشرية ، فليس لكم مزية علينا تختصون بها. (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) مما تدّعونه أنتم ، ويدّعيه غيركم ممن قبلكم من الرسل وأتباعهم. (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) أي ما أنتم إلا كاذبون في ادعاء ما تدّعون من ذلك. (رَبُّنا يَعْلَمُ) جار مجرى القسم ، وقد أكدوا الجواب بالقسم وباللام ، ردا على زيادة إنكارهم.

(الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي التبليغ الواضح للرسالة بالأدلة الواضحة وهي معجزات عيسى عليه‌السلام من إبراء الأكمه والأبرص والمريض وإحياء الميت ، وليس علينا غير ذلك. (تَطَيَّرْنا) تشاءمنا بكم ، وذلك لاستغرابهم ما ادّعوه ، واستقباحهم له ونفورهم عنه. (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا) تتركوا هذه الدعوة ، وتعرضوا عن هذه المقالة ، واللام لام القسم. (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) بالحجارة. (عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم ، شديد.

(طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي سبب شؤمكم معكم ، وهو الكفر والتكذيب ، فهو سبب الشؤم لا نحن. (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) أي : أإن وعظناكم وخوفناكم وذكرناكم بالله ، ادعيتم أن فينا الشؤم عليكم ، والمراد بالاستفهام : التوبيخ. (مُسْرِفُونَ) متجاوزون الحد في الشرك ومخالفة الحق.

٣٠٠