التفسير المنير - ج ٢٢

الدكتور وهبة الزحيلي

وقال بعضهم : إن قارون تآمر مع امرأة أن تقول عند بني إسرائيل : إن موسى زنى بي ، فلما جمع قارون القوم ، والمرأة حاضرة ، ألقى الله في قلبها أنها صدقت ، ولم تقل ما لقّنت.

قال الرازي : وبالجملة الإيذاء المذكور في القرآن كاف ، وهو أنهم قالوا له : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) [المائدة ٥ / ٢٤] وقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة ٢ / ٥٥] وقولهم : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة ٢ / ٦١] إلى غير ذلك ، فقال للمؤمنين : لا تكونوا أمثالهم إذا طلبكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى القتال ، أي لا تقولوا : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) [المائدة ٥ / ٢٤] ولا تسألوا ما لم يؤذن لكم فيه ، «وإذا أمركم الرسول بشيء فأتوا منه ما استطعتم» (١).

التفسير والبيان :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا ، وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله ، لا تؤذوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقول أو العمل ، مما يكرهه ولا يحبه ، ولا تكونوا مثل الذين آذوا موسى ، كتعييبه كذبا وزورا ، أو تعجيزه برؤية الله جهرا ، أو تركه يقاتل وحده ، أو مطالبته بأنواع من الطعام ، فبرأه الله مما قالوا من الكذب والزور ، وكان ذا قدر وجاه ومنزلة عند ربه ، قال الحسن البصري : كان مستجاب الدعوة عند الله ، وقال غيره من السلف : لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه ، ولكن منع الرؤية لما يشاء عزوجل.

ومن مظاهر إيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما رواه البخاري ومسلم وأحمد عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : «قسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم قسما ، فقال

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٥ / ٢٣٣ والجملة الأخيرة حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة بلفظ «وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم».

١٢١

رجل من الأنصار : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله ، فاحمرّ وجهه ، ثم قال : رحمة الله على موسى ، فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر».

وروى أحمد عن ابن مسعود أيضا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «لا يبلّغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا ، فإني أحب أن أخرج إليكم ، وأنا سليم الصدر».

وأما إيذاء موسى فالظاهر أنه كان بالطعن في تصرفاته ، لا بتعييبه في بدنه ، بدليل الحديث الأول عن ابن مسعود.

وبعد نهي المؤمنين عن إيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقول أو بالفعل ، أرشدهم إلى ما ينبغي أن يصدر عنهم من الأقوال والأفعال ، أما الأفعال فالخير ، وأما الأقوال فالحق ؛ لأن من أتى بالخير وترك الشر فقد اتقى الله ، ومن قال الصدق قالا قولا سديدا ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ، وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله ، اتقوا الله في كل الأمور باجتناب معاصيه ، والتزام أوامره وعبادته عبادة من كأنه يراه ، وقولوا القول الصواب والحق في كل أموركم ، ويدخل فيه قول : لا إله إلا الله ، والإصلاح بين الناس ، كما يدخل فيه القول في شأن زيد وزينب ، ولا تنسبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما لا يحل.

ثم وعدهم على الأمرين : الخير في الأفعال والصدق في الأقوال بأمرين فقال :

(يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أي وعدهم على فعل الخيرات بإصلاح الأعمال ، أي بقبولها ، وجعل صاحبها في الجنة خالدا فيها أبدا ، وعلى القول السديد بمغفرة الذنوب الماضية ، وأما ما قد يقع منهم في المستقبل فيلهمهم التوبة منها.

١٢٢

ثم حرضهم على الطاعة ، فقال :

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) أي ومن يطع أوامر الله والرسول ويجتنب النواهي ، فقد نجا من نار الجحيم ، وصار إلى النعيم المقيم. وبالرغم من أن طاعة الله هي طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه تعالى جمع بينهما لبيان أن المطيع اتخذ عند الله عهدا ، وعند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدا.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ لم تقتصر عناية القرآن وتحذيره على فئة من الناس دون فئة ، فبعد أن ذكر الله تعالى المنافقين والكفار الذين آذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، حذّر المؤمنين من التعرّض للإيذاء ، ونهاهم عن التشبه ببني إسرائيل في إيذائهم نبيهم موسى عليه‌السلام.

ومظاهر إيذاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وموسى عليه‌السلام مختلف فيها ، فقيل : إن أذيّتهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قولهم : زيد بن محمد ، أو أنه قسم قسما ، فقال رجل من الأنصار : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله ، فغضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «رحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر».

وأما أذية موسى عليه‌السلام ، فقال ابن عباس وجماعة : هي اتهامه بالأدرة كما تقدم. وقال علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : آذوا موسى بأن قالوا : قتل هارون ، مع أنه مات في جبل في سيناء بعد خروج موسى وهارون من التيه (قلب شبه جزيرة طور سينا). وقيل : إن أذية موسى عليه‌السلام رميهم إياه بالسحر والجنون ، وقيل بغير ذلك. قال القرطبي : والصحيح الأول ، ويحتمل أن فعلوا كل ذلك ، فبرّأه الله من جميع ذلك.

١٢٣

وقد استدل بقصة اغتسال موسى عليه‌السلام على جواز وضع ثوبه على الحجر ، ودخوله في الماء عريانا في منطقة معزولة بعيدة عن الناس ، وهو مذهب الجمهور ، ومنعه ابن أبي ليلى ، واحتج بحديث لم يصح.

٢ ـ كان موسى عليه‌السلام عند الله وجيها ، أي عظيم القدر ، رفيع المنزلة ، ويروى أنه كان إذا سأل الله شيئا أعطاه إياه.

٣ ـ أوجب الله تعالى الخير في الأفعال أو التقوى ، والصدق في الأقوال وهو ما يقابل الأذى المنهي عنه بالنسبة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

٤ ـ وعد الله تعالى أنه يجازي على القول السديد ، وتقوى الله بإصلاح الأعمال (أي قبولها وجعلها صالحة لا فاسدة بتوفيقهم إليها) وغفران الذنوب ، وحسبك بذلك درجة ورفعة منزلة.

٥ ـ من يطع الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أمر به ونهى عنه ، فقد نجا من النار وفاز بالجنة ، أو وصل إلى ثواب كثير وهو الثواب الدائم الأبدي.

أمانة التكاليف وأثرها في تصنيف المكلفين

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣))

١٢٤

الإعراب :

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) نصب (رَحِيماً) إما على الحال من ضمير غفور وهو العامل فيه ، وإما صفة لغفور ، وإما خبرا بعد خبر.

البلاغة :

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) استعارة تمثيلية ، مثّل الأمانة بما فيها من ثقل وشدة متناهية بشيء لو عرض على السموات والأرض والجبال لأبت حمله وأشفقت منه.

(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) بينهما ما يسمى بالمقابلة.

وبين بدء السورة : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) وبين ختمها : (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) ما يسمى في علم البديع : «رد العجز على الصدر» فالبدء في ذم المنافقين ، والختام لبيان سوء عاقبتهم.

المفردات اللغوية :

(عَرَضْنَا) أي عرضها على هذه الأجرام خلافا لما في الطبيعة (الْأَمانَةَ) أي التكاليف الشرعية كالصلوات وغيرها مما في فعلها من الثواب ، وتركها من العقاب ، وسماها أمانة ؛ لأنها واجبة الأداء (عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) المعنى أن الأمانة لعظمة شأنها ، بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام ، وكانت ذات شعور وإدراك ، لامتنعت من حملها ، وأشفقت منه وخافت (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) آدم أبو البشر بعد عرضها عليه ، مع ضعف بنيته ورخاوة قوته ، فإن أدى حقوقها فاز بخير الدارين (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) أي إن الإنسان حينما التزم بحقوق الأمانة كان ظلوما لنفسه بما حمله ، جهولا به ، وهذا وصف لجنس الإنسان باعتبار الأغلب.

والمقصود بالآية تقرير للوعد السابق بتعظيم الطاعة : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً).

(لِيُعَذِّبَ اللهُ) اللام متعلقة بعرضنا المترتب عليه حمل آدم ، فهي لام الصيرورة ؛ لأنه لم يحملها لأن يعذب ، لكنه حملها ، فآل الأمر إلى أن يعذب من خان الأمانة وكذب الرسل ونقض الميثاق ممن نافق وأشرك ، ويتوب على من آمن ، الذين أدوا ما حملوه من الأمانات من العبادة وغيرها.

١٢٥

وقال الزمخشري : اللام لام التعليل على طريق المجاز ؛ لأن نتيجة حمل الأمانة العذاب ، كما أن التأديب في قولك : «ضربته للتأديب» نتيجة الضرب. وقد جاراه القرطبي في ذلك. (الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) المضيعين الأمانة. (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) المؤدين الأمانة. والوعد بالتوبة دليل على أن قوله : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) موجه إلى حال جبلة الإنسان فهو ظلوم لنفسه جهول بربه.

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) غفورا للمؤمنين رحيما بهم ، حيث تاب على ما فرطوا من ذنوب ، وأثاب على طاعاتهم.

المناسبة :

بعد بيان أن من أطاع الله ورسوله فاز فوزا عظيما ، أبان الله تعالى الوسيلة التي تنال بها الطاعة وهي فعل التكاليف الشرعية ، وأن تحصيلها شاقّ على النفوس يحتاج إلى مكابدة وجهاد ، ثم ذكر أن ما يحدث من صدور الطاعة من المكلفين ، وإباء القبول ، والامتناع من الالتزام إنما هو باختيار الإنسان دون جبر ولا إكراه.

التفسير والبيان :

يبين الله تعالى خطورة التكاليف وثقلها ، وأنها عظيمة ناءت بحملها السموات والأرض والجبال ، فقال :

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها ، وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ ، إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) أي إنا عرضنا التكاليف كلها من فرائض وطاعات على هذه الأجرام العظام ، فلم تطقها وأبت تحمل مسئوليتها ، وخافت من حملها ، لو فرض أنها ذات شعور وإدراك ، ولكن كلّف بها الإنسان ، فتحملها مع ضعفه ، وهو في ذلك ظلوم لنفسه ، جهول لقدر ما تحمله.

قال ابن عباس : يعني بالأمانة الطاعة والفرائض ، عرضها عليهم قبل أن

١٢٦

يعرضها على آدم ، فلم يطقنها ، فقال لآدم : إني قد عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال ، فلم يطقنها ، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال : يا رب ، وما فيها؟ قال : إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت ، فأخذها آدم فتحملها ، فذلك قوله تعالى : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً). والمراد جنس الإنسان بحسب الأغلب.

فالأمانة تشمل الطاعات والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب ، وبتضييعها العقاب ، وتشمل أمانة الأموال كالودائع وغيرها مما لا بيّنة عليه ، وغسل الجنابة أمانة ، والفرج أمانة ، والأذن أمانة ، والعين أمانة ، واللسان أمانة ، والبطن أمانة ، واليد أمانة ، والرّجل أمانة.

وقد حملها الإنسان بسبب جهله بما فيها ، وعلم هذه الأجرام ، وهو مع ذلك يتأثر بالانفعالات النفسية وبالشهوات الذاتية ، ولا يتدبر عواقب الأمور ، وكانت هذه التكاليف وسيلة للحد من سلطان الشهوة ، وتأثير النوازع ، والقوى الداخلية في نفسه.

ثم بيّن الله تعالى نتائج تلك التكاليف بين المكلفين ، فقال :

(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ ، وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي إن عاقبة حمل الإنسان لهذه الأمانة وهي التكاليف أن ينقسم الناس فريقين : فريق المنافقين والمنافقات (وهم الذين يظهرون الإيمان خوفا من أهله ويبطنون الكفر متابعة لأهله) والمشركين والمشركات (وهم الذين ظاهرهم وباطنهم على الشرك بالله ومخالفة الرسل) الذين يعذبهم الله لخيانتهم الأمانة ، وتكذيب الرسل ، ونقض الميثاق ، وفريق المؤمنين والمؤمنات (وهم الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله ، العاملين بطاعته)

١٢٧

الذين يتوب الله عليهم إذا تابوا ، وأدوا ما حملوه من الأمانات من العبادة وغيرها ؛ لأن الله غفور لذنوبهم ، كثير الرحمة بهم.

والآية دليل على أن الله أعلم الإنسان بأنه غفور رحيم ، وبصره بنفسه فرآه ظلوما جهولا ، ثم عرض عليه الأمانة ، فقبلها مع ظلمه وجهله ، لعلمه بما يجبرها من الغفران والرحمة. والمعنى أن هناك مرضا جبليا في الإنسان ، وأن هناك علاجا ودواء لهذا المرض وهو سعة المغفرة وكثرة الرحمة الإلهية إذا تعرض الإنسان لهما في الجملة بالتوبة والإنابة والطاعة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ ختمت السورة المشتملة على الأحكام بأمر إجمالي هو وجوب التزام الأوامر الإلهية ، والآداب الشرعية السامية ، والمواعظ الرائعة.

٢ ـ الأمانة تشمل جميل تكاليف الشرع ووظائف الدين ، على الصحيح من الأقوال ، وهو قول الجمهور ، ومنها الفرائض التي ائتمن الله عليها العباد ، وليست التكاليف سهلة هينة ، وإنما هي من عظائم الأمور التي ناءت بحملها السموات والأرض والجبال.

روى الحكيم الترمذي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال الله تعالى لآدم : يا آدم ، إني عرضت الأمانة على السموات والأرض ، فلم تطقها ، فهل أنت حاملها بما فيها؟ فقال : وما فيها يا رب؟ قال : إن حملتها أجرت ، وإن ضيّعتها عذّبت ، فاحتملها بما فيها ، فلم يلبث في الجنة إلا قدر ما بين صلاة الأولى إلى العصر ، حتى أخرجه الشيطان منها».

٣ ـ العرض على السموات والأرض والجبال إما مجاز ، وإما حقيقة ، وإما

١٢٨

ضرب مثل ، فقام قوم : المعنى : إنا عرضنا الأمانة وتضييعها على أهل السموات وأهل الأرض من الملائكة والإنس والجن ، فأبين أن يحملن وزرها ، مثل : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف ١٢ / ٨٢] أي أهلها. فهذا مجاز مرسل. وقال قوم : إن الآية من المجاز ـ بنحو آخر ـ أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال ، رأينا أنها لا تطيقها ، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت. وهذا كما تقول : عرضت الحمل على البعير فأباه ، وأنت تريد قايست قوته بثقل الحمل ، فرأيت أنها تقصر عنه.

وقال آخرون : الحسن وغيره : العرض حقيقة أي أنه عرض على السموات والأرض والجبال الأمانة وتضييعها وهي الثواب والعقاب ، أي أظهر لهن ذلك ، فلم يحملن وزرها ، وأشفقت ، وقالت : لا أبتغي ثوابا ولا عقابا ، وكل يقول : هذا أمر لا نطيقه ، ونحن له سامعون ومطيعون فيما أمرن به وسخّرن له. ولكن قال العلماء : معلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب ، فلا بد من تقدير الحياة ، على القول الأخير. وهذا العرض عرض تخيير لا إلزام.

وقال القفّال وغيره : العرض في هذه الآية ضرب مثل ، أي إن السموات والأرض والجبال على كبر أجرامها ، لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع ، لما فيها من الثواب والعقاب ، أي إن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال ، وقد كلّفه الإنسان ، وهو ظلوم جهول لو عقل. وهذا كقوله : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) [الحشر ٥٩ / ٢١] ثم قال : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) (الآية نفسها) قال القفال : فإذا تقرر أنه تعالى يضرب الأمثال ، وورد علينا من الخبر ما لا يخرج إلا على ضرب المثل ، وجب حمله عليه.

وعلى أي حال ، المقصود بالآية بيان عظمة التكاليف وثقلها وتنبيه الإنسان

١٢٩

لخطورة التبعة (أو المسؤولية) عنها ، فلا يفرط فيها ، وهو بين خيارين : إما العصيان فالعذاب ، وإما الطاعة فالثواب ، والله غفور رحيم.

٤ ـ لقد تجشم الإنسان تحمل مسئولية الأمانة ، والتزم القيام بحقها ، وهو في ذلك ظلوم لنفسه أو للأمانة ، جهول بقدر ما دخل فيه أو جهول بربه.

والإنسان : هو النوع كله ، مراعاة لعموم الأمانة ، فيشمل الكافر والمنافق ، والعاصي ، والمؤمن. وقيل : المراد بالإنسان : آدم الذي تحمّل الأمانة.

٥ ـ اللام في قوله تعالى : (لِيُعَذِّبَ) المتعلقة ب (عَرَضْنَا) أو ب (حَمَلَهَا) سواء قلنا : إنها لام الصيرورة أو لام التعليل ، فإن النتيجة انقسام الناس إزاء التكاليف إلى قسمين : عصاة وطائعين ، فقد حمل الإنسان الأمانة ، ثم كانت حالته أمامها ليست واحدة ، فهناك قوم التزموا القيام بحقها ، فأثابهم الله الجنة ، وهناك آخرون أهملوا القيام بحقها ، فعذبهم الله بالنار.

وإذا تعلقت اللام ب (عَرَضْنَا) يكون المعنى على أن اللام للتعليل : عرضنا الأمانة على الجميع ، ثم قلدناها الإنسان ، ليظهر شرك المشرك ، ونفاق المنافق ، ليعذبهم الله ، وإيمان المؤمن ليثيبه الله. وإذا تعلقت ب (حَمَلَهَا) يكون المعنى على جعل اللام للتعليل : حملها ليعذّب العاصي ، ويثيب المطيع ، لأن العذاب نتيجة حمل الأمانة.

وإذا كانت اللام لام الصيرورة يكون المعنى : حملها الإنسان ، فآل الأمر إلى أن يعذب من خان الأمانة ، ويتوب على من أداها حقها.

١٣٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة سبأ

مكيّة ، وهي أربع وخمسون آية.

تسميتها :

سميت سورة سبأ للتذكير فيها بقصة سبأ ، وهم ملوك اليمن ، في قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ : جَنَّتانِ ..) [١٥ ـ ١٦] فقد أنعم الله عليهم بالحدائق الغناء والأراضي الخصبة ، فلما كفروا النعمة ، أبادهم بسيل العرم.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة : الأول ـ أن هذه السورة افتتحت ببيان صفات الملك التام والقدرة الشاملة التي تناسب ختام السورة السابقة في تطبيق العذاب وتقديم الثواب : (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ ، وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ...).

الثاني ـ كان آخر الأحزاب : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ومطلع سبأ في فاصلة الآية الثانية : (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ).

الثالث ـ في سورة الأحزاب سأل الكفار عن الساعة استهزاء ، وفي هذه السورة حكى القرآن عنهم إنكارها صراحة.

مشتملاتها :

تضمنت سورة سبأ المكية محور ما تدور عليه بقية السور المكية في إثبات

١٣١

العقيدة : من توحيد الله ، والنبوة ، والبعث.

فابتدأت بحمد الله تعالى والثناء عليه ؛ لأنه خالق السموات والأرض ، ومرسل الملائكة رسلا بمهام عديدة إلى البشر.

ثم أعقب ذلك الحديث عن إنكار المشركين البعث بعد الموت ، وإثباته بالقسم العظيم بالله تعالى من النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وقوع المعاد : (قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ). وذكرت اتهامهم الباطل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه مفتر أو مجنون ، ثم أكدت ثبوت قدرة الله تعالى بخسف الأرض وإسقاط السماء.

وتلاها تعداد النعم التي أنعم الله بها على داود وسليمان ، وأهل سبأ كتسخير الطير والجبال للتسبيح مع داود ، وتسخير الريح لسليمان عليهما‌السلام ، وجعل الحدائق والثمار الطيبة لملوك اليمن أهل سبأ.

ثم تحدثت السورة عن أدلة وجود الله ووحدانيته ، وتفنيد مزاعم المشركين في عبادة الأوثان ، وإظهار صورة من الجدل العنيف بين الأتباع الكفرة والمتبوعين المخذولين يوم القيامة ، وإلقاء كل من الفريقين التبعة على الآخر.

وأبانت عموم الرسالة الإسلامية ـ المحمدية لجميع الناس ، وهددت بالحساب العسير والجزاء الأليم يوم القيامة ، وأن المترفين في كل زمان هم أعداء الرسل لاغترارهم بأموالهم وأولادهم ، وأن الله راض عنهم فلا يعذبهم ، وأن الله سيسأل الملائكة يوم الحشر ، هل طلبوا من المشركين عبادتهم؟.

تم حكت السورة إنكار المشركين للقرآن وأنه في زعمهم مفترى ليس بوحي ، ووعظتهم بما عوقب به من قبلهم ، وطالبتهم بالتأمل والتفكر في أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بمفتر ولا مجنون ، وإنما هو نذير بين يدي عذاب شديد ، وأنه لا يطلب أجرا على دعوته ، بل أجره على ربه.

١٣٢

وختمت السورة بدعوة المشركين إلى الإيمان بالله الواحد الأحد ، قبل أن يأتي يوم القيامة ، فيطلبون العودة إلى دار الدنيا للإيمان بالقرآن وبالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإتيان بصالح الأعمال ، ولكن يحال بينهم وبين ما يشتهون ، لفوات الأوان.

صفات الملك والقدرة والعلم لله تعالى

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢))

الإعراب :

(الَّذِي لَهُ ...) إما في موضع جر على النعت أو البدل ، أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ ، أو في موضع نصب بمعنى أعني.

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من اسم الله ، ويحتمل أن يكون مستأنفا لا موضع له من الإعراب.

البلاغة :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) تعريف الطرفين لإفادة الحصر ، أي لا يستحق الحمد الكامل إلا الله.

(يَلِجُ يَخْرُجُ يَنْزِلُ يَعْرُجُ) بين كل منهما طباق.

(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) صيغة فعيل وفعول للمبالغة.

المفردات اللغوية :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الْحَمْدُ) هو الثناء على الله بما هو أهله ، أو الثناء على الله بجميل صفاته

١٣٣

وأفعاله (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وخلقا ونعمة. (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) لله الحمد في الدنيا لكمال قدرته وتمام نعمته ، وله أيضا حمد عباده في الدار الآخرة إذا دخلوا الجنة ، للسبب السابق ذاته (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في فعله وهو الذي أحكم أمر الدارين ودبره بمقتضى الحكمة (الْخَبِيرُ) بخلقه في الدارين ، وهو الذي يعلم بواطن الأمور.

(يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) يدخل فيها كالماء ينفذ في موضع وينبع في آخر ، وكالكنوز والدفائن والأموات (وَما يَخْرُجُ مِنْها) كالزروع والنباتات والحيوان والفلزات وماء العيون (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والملائكة والكتب والمقادير (وَما يَعْرُجُ فِيها) يصعد فيها من أعمال العباد وغيرها من الملائكة والأبخرة والأدخنة (الرَّحِيمُ) بعباده (الْغَفُورُ) لذنوبهم.

التفسير والبيان :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إن الحمد المطلق الكامل لله مالك السموات والأرض وما فيهما ، والمتصرف بشؤونهما ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وحمده على النعم التي أنعم بها على خلقه ، والمعنى : إن المستحق للحمد والثناء والشكر هو الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وتصرفا بما يشاء ، فهو صاحب القدرة الكاملة ، والنعمة التامة.

(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) أي لله الحمد في الآخرة كالحمد في الدنيا ؛ لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة ، كما قال في آية أخرى : (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ ، وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص ٢٨ / ٧٠]. وقال تعالى في حكاية حمد أهل الجنة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر ٣٩ / ٧٤]. (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ، إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ. الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) [فاطر ٣٥ / ٣٤ ـ ٣٥].

وإذا كان هو المحمود على طول المدى ، فهو المعبود أبدا.

١٣٤

(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) أي والله هو الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره ، يدبر شؤون خلقه على مقتضى الحكمة ، والخبير ببواطن الأمور ، الذي لا تخفى عليه خافية ، ولا يغيب عنه شيء. قال مالك : خبير بخلقه حكيم بأمره.

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) أي يعلم ما يدخل في الأرض كالغيث الذي ينفذ في موضع وينبع في آخر ، وكالكنوز والدفائن والأموات ، ويعلم ما يخرج من الأرض ، كالحيوان والنبات والماء والفلزّات.

(وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) أي ما ينزل من السماء كالملائكة والكتب والأرزاق والأمطار والصواعق ، وما يعرج فيها كالملائكة وأعمال العباد والغازات والأدخنة ووسائل النقل الجوي والطيور.

(وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) أي والله هو الرحيم بعباده ، فلا يعاجل عصيانهم بالعقوبة ، الغفور لذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ الله تعالى هو المستحق لجميع المحامد والحمد : الشكر على النعمة ، ويكون الثناء على الله بما هو أهله ، فالحمد الكامل والثناء الشامل كله لله ؛ إذ النعم كلها منه ، وهو مالك السموات والأرض وخالقهما والمتصرف فيهما بالإيجاد والإعدام ، والإحياء والإماتة.

٢ ـ الله تعالى هو المحمود في الدنيا والآخرة ؛ لأنه المالك للأولى والثانية ، وهو الحكيم في فعله ، الخبير بأمر خلقه.

٣ ـ الله عالم بكل شيء من الظواهر والخوافي ، يعلم ما يدخل في الأرض من قطر وغيره من الكنوز والدفائن والأموات ، ويعلم ما يخرج منها من نبات

١٣٥

وغيره ، ويعلم ما ينزل من السماء من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والمقادير والبركات ، وما يعرج فيها من الملائكة وأعمال العباد ، وهو الرحيم بعباده الغفور لذنوب التائبين منهم.

وهذا ويلاحظ كما ذكر الرازي أن السور المفتتحة بالحمد خمس سور ، سورتان منها في النصف الأول : وهما الأنعام والكهف ، وسورتان في الأخير : وهما هذه السورة وسورة فاطر (سورة الملائكة) ، والفاتحة التي تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الأخير ، والحكمة فيها أن نعم الله منحصرة في قسمين : نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء ، ففي سورة الأنعام إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [١] وفي سورة الكهف إشارة إلى الشكر على نعمة الإبقاء : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ، قَيِّماً) [١ ـ ٢] فإن بالشرائع البقاء. ثم في هذه السورة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إشارة إلى نعمة الإيجاد الثاني في قوله : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) وفي سورة فاطر إشارة إلى نعمة الإبقاء الثاني وهو في يوم القيامة ؛ لأن الملائكة لا تكون رسلا إلا يوم القيامة يرسلهم الله مسلّمين ، كما قال تعالى : (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٣]. وفي فاتحة الكتاب إشارة إلى النعمة العاجلة بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [١] وإلى النعمة الآجلة بقوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [٤] لذا قرئت في الافتتاح والاختتام.

إنكار الكفار الساعة وموقف الناس من آيات الله وجزاؤهم

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا

١٣٦

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦))

الإعراب :

(لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ عالِمِ) بالجر : نعت لقوله تعالى : (وَرَبِّي) أو بدل منه ، ويقرأ بالرفع على أنه مبتدأ ، وخبره : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ) أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو عالم الغيب. (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ ..) مرفوعان بالابتداء.

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ..) اللام تتعلق بقوله : (لا يَعْزُبُ). و (أَلِيمٌ) بالجر والرفع صفة لرجز أو عذاب.

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) إما معطوف على (لِيَجْزِيَ) أو مستأنف.

(هُوَ الْحَقَ) مفعول ثان ل (يَرَى) وهو : ضمير فصل ، ومن قرأ بالرفع جعل (هُوَ) مبتدأ ، و (الْحَقَ) خبره ، والجملة ثاني مفعولي (يَرَى).

البلاغة :

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) و (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) بينهما ما يسمى بالمقابلة ، فالمغفرة والرزق الكريم جزاء المحسنين ، والعذاب والرجز الأليم جزاء المجرمين.

المفردات اللغوية :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) القيامة والبعث ، وهذا منهم إنكار لمجيئها ، أو استبطاء استهزاء بالوعد به (قُلْ : بَلى) رد لكلامهم وإثبات لما نفوه (١)(وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ

__________________

(١) «بلى» : لها موضعان : الأول ـ أن تكون ردّا لنفي يقع قبلها ، خبرا كان أو نهيا ، فينتفي بها ما قبلها من النفي وتحققه ، كما هنا. والثاني ـ أن تقع جوابا لاستفهام دخل على نفي تحققه ، فيصير معناها التصديق لما قبلها ، مثل : ألم أكن صديقك؟ فيقول الرادّ : بلى ، إذا

١٣٧

الْغَيْبِ) تكرار لإثباته ، مؤكدا بالقسم ، مقررا وصف المقسم به بصفات تثبت إمكانه ، وتنفي استبعاده (لا يَعْزُبُ عَنْهُ) لا يغيب عنه (مِثْقالُ ذَرَّةٍ) وزن أو مقدار أصغر نملة (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ) المثقال (وَلا أَكْبَرُ) منه (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي إلا وهو مثبت في كتاب بيّن واضح وهو اللوح المحفوظ.

وقوله : (وَلا أَصْغَرُ) إلخ جملة مؤكدة لنفي العزوب.

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ..) علة لقوله : (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) وبيان لما يقتضي إتيانها ، أي إن إتيان الساعة فائدته جزاء المؤمنين بالثواب والكافرين بالعقاب (مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم ، أي محوها من قبل الله تعالى بسبب غلبة إيمانهم وأعمالهم الصالحة على ذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) حسن لا تعب فيه ولا منّة عليه ، وهو ما يقيض لهم من ملاذ الأطعمة وغيرها في الجنة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح تفضلا من الله تعالى عليهم.

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) بإبطال آياتنا المنزلة على الرسل ، وتزهيد الناس فيها (مُعاجِزِينَ) مسابقين لنا يظنون أنهم يفوتوننا فلا نقدر عليهم ، لاعتقادهم ألا بعث ولا عقاب ، وقرئ : معجّزين ، أي مثبّطين عن الإيمان بآيات القرآن من أراده (رِجْزٍ) سيء العذاب أو عذاب شديد (أَلِيمٌ) مؤلم.

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي ويعلم أولو العلم من الصحابة ومشايعوهم من الأمة ، أو من مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) القرآن (هُوَ الْحَقَ) الثابت الصحيح وغيره باطل (وَيَهْدِي إِلى صِراطِ) أي يوصل إلى طريق الله ودين الله وهو التوحيد والتقوى (الْعَزِيزِ) ذي العزة الذي يغلب ولا يغلب (الْحَمِيدِ) المحمود في جميع شؤونه.

__________________

ـ صدقه ، والمعنى : بلى كنت صديقي ، فهي إذن لإثبات المنفي. وأما «نعم» : فهي في الأصل : تصديق لما قبلها في كل كلام وإيجاب له ، وعدة ، مثل : هل تحسن إلي؟ فيقول الرادّ : نعم ، فيعده بالإحسان ، فإن أراد ترك الإحسان قال : لا ، ولا يحسن هنا : بلى. و «لا» نفي لما قبلها وردّ له. وأما «كلا» فتكون بمعنى «لا» ومعناها الرد والإنكار لما تقدم قبلها من الكلام وذلك في حال الوقف عليها. وقد تأتي بمعنى «حقّا» وهو مذهب الكسائي خلافا لحذّاق النحويين. وفي حال الابتداء ب «كلا» تكون بمعنى «ألا» مثل (كَلَّا ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) (شرح «كلا ، وبلى ، ونعم» للعلامة مكي بن أبي طالب القيسي).

١٣٨

المناسبة :

بعد بيان أن لله الحمد في الدنيا والآخرة ، أبان الله تعالى أن الكفار ينكرون حدوث القيامة أشد الإنكار ، أو يستعجلون بها استهزاء بوعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، ثم أوضح تعالى أن الناس من آيات القرآن فريقان : فريق المنكرين الجاحدين المعاندين الساعين في إبطالها ، وجزاؤهم العذاب الأليم ، وفريق العالمين المؤمنين بأنها الحق الصراح الأكيد الذي يهدي إلى الصراط المستقيم.

التفسير والبيان :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) أي وقال الكافرون بالرسالات السماوية إنكارا منهم أو استعجالا على سبيل الاستهزاء بالوعد : لن يكون هناك قيامة ولا بعث ولا حساب. وهم بذلك جاحدون الأخبار الواردة من ربهم بحدوث الساعة ، والتي تضمنتها كتبه وما فيها من الحجج والبينات.

فرد الله عليهم مؤكدا بطلان اعتقادهم :

(قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) أي قل لهم أيها النبي : بلى والله إنها لآتية لا ريب فيها. ويلاحظ في ذلك إثبات وجودها ونفي مزاعمهم ، مؤكدا ذلك بالقسم بالله وبالتأكيد في الفعل باللام ونون التوكيد.

وهذه الآية ـ كما ذكر ابن كثير ـ إحدى آيات ثلاث أمر الله تعالى فيها رسوله أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد ، للرد على المنكرين من أهل الشرك والنفاق والعناد ، فإحداهن في سورة يونس : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ؟ قُلْ : إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [٥٣] والثانية هذه : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ، قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) والثالثة في سورة التغابن : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا ، قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ، ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ ، وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [٧].

١٣٩

ثم وصف الله تعالى نفسه بصفة العلم الشامل الدال على إمكان البعث ، فقال :

(عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي إن الله تعالى القادر على البعث لا يغيب عنه ولا يستتر عليه شيء من الموجودات ولو كان بقدر أصغر نملة ، ولا أصغر من المثقال ولا أكبر منه إلا وهو محفوظ ومثبت في كتاب بيّن وهو اللوح المحفوظ. فالعلم بالغيبيات موجود ، فاقتضى إمكان البعث.

ثم بيّن الله تعالى حكمته في إعادة الأجساد وقيام الساعة بقوله :

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي إن يبعثهم من قبورهم في البر والبحر وأي مكان يوم القيامة ليثيب المؤمنين بالله ورسله واليوم الآخر ، الذين عملوا صالح الأعمال وهو ما أمروا به ، واجتنبوا ما نهوا عنه ، وأولئك لهم مغفرة أي محو لذنوبهم ، ونعيم في الجنة لا تعب ولا منة فيه ، والمقصود أن إثابة المؤمنين حق وعدل.

هذا هو فريق المؤمنين ، والفريق الثاني :

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي إن الكفار المعاندين الذين حاولوا إبطال آيات القرآن وأدلة إثبات البعث ، ظانين أنهم يفوتوننا فلا نقدر عليهم ، لهم عذاب شديد في نار جهنم هو أسوأ العذاب وأشده ، وهو مؤلم شديد الألم. وهذا التعذيب أيضا حق وعدل ، حتى لا يتساوى المسيء مع المحسن ، كما قال تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [سورة ص ٣٨ / ٢٨] وقال سبحانه : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر ٥٩ / ٢٠].

١٤٠