التفسير المنير - ج ٢٢

الدكتور وهبة الزحيلي

فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥))

الإعراب :

(غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ غَيْرَ) منصوب على الحال من واو (تَدْخُلُوا).

(أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ أَنْ) وصلتها : في موضع رفع اسم (كانَ) وكذلك قوله تعالى : (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا) لأنه عطف عليه.

البلاغة :

(لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) الإضافة للتشريف.

(فَادْخُلُوا فَانْتَشِرُوا) بينهما طباق ، وكذا بين (تُبْدُوا تُخْفُوهُ).

(فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) بينهما طباق السلب.

(بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) عليم وشهيد على وزن فعيل للمبالغة.

المفردات اللغوية :

(إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) أي إلا وقت أن يؤذن لكم في الدخول بالكلام أو الإشارة ، أو إلا مأذونا لكم. (إِلى طَعامٍ) متعلق بيؤذن ، لأنه متضمن معنى (يدعى) للإشعار بأنه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة وإن أذن بالدخول ، لقوله : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) غير منتظرين نضجه أو وقته وإدراكه. وأنىّ : هو مصدر : أنى يأني ، أي أدرك وحان نضجه. (فَانْتَشِرُوا) تفرقوا ولا تمكثوا. (مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) أي مستمعين لحديث أهل البيت أو لبعضكم بعضا. (إِنَّ ذلِكُمْ) المكث أو اللبث. (كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ) لتضييق المنزل عليه وعلى أهله واشتغاله فيما لا يعنيه. (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) من إخراجكم. (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) أي لا يترك بيان الحق وهو الأمر بخروجكم.

٨١

(وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَ) أي سألتم أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (مَتاعاً) شيئا محتاجا إليه ينتفع به. (فَسْئَلُوهُنَ) المتاع (مِنْ وَراءِ حِجابٍ). (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) من الخواطر الشيطانية المريبة. (وَما كانَ لَكُمْ) وما صح لكم. (أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) أن تفعلوا ما يكرهه. (كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) ذنبا عظيما.

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ) من التحدث بزواجهن بعده. (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) يعلم ذلك ، فيجازيكم عليه. قال البيضاوي : وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويل ، ومبالغة في الوعيد.

(لا جُناحَ) لا إثم. (وَلا نِسائِهِنَ) أي النساء المؤمنات. (وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) من العبيد والإماء. (وَاتَّقِينَ اللهَ) فيما أمرتن به. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) لا تخفى عليه خافية.

سبب النزول :

نزول الآية (٥٣):

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا) : أخرج أحمد والشيخان وابن جرير والبيهقي وابن مردويه عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه قال : «لما تزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت جحش ، دعا القوم ، فطعموا ، ثم جلسوا يتحدثون ، فإذا كأنه يتهيأ للقيام ، فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام وقام من القوم من قام ، وقعد ثلاثة ، ثم انطلقوا ، فجئت ، فأخبرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم انطلقوا ، فجاء حتى دخل ، وذهبت أدخل ، فألقى الحجاب بيني وبينه ، وأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) إلى قوله : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً).

وأخرج الترمذي وحسنه عن أنس قال : كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتى باب امرأة عرّس بها ، فإذا عندها قوم ، فانطلق ، ثم رجع ، وقد خرجوا ، فدخل ، فأرخى بيني وبينه سترا ، فذكرته لأبي طلحة ، فقال : لئن كان كما تقول لينزلن في هذا شيء ، فنزلت آية الحجاب.

٨٢

وأخرج الطبراني بسند صحيح عن عائشة قالت : كنت آكل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قعب ، فمرّ عمر ، فدعاه ، فأكل ، فأصابت أصبعه أصبعي ، فقال : أوّه لو أطاع فيكنّ ، ما رأتكنّ عين ، فنزلت آية الحجاب. وفي رواية البخاري : أن عمر رضي‌الله‌عنه قال : يا رسول الله ، يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فنزلت.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : دخل رجل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأطال الجلوس ، فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث مرات ليخرج ، فلم يفعل ، فدخل عمر ، فرأى الكراهية في وجهه ، فقال للرجل : لعلك آذيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد قمت ثلاثا لكي يتبعني فلم يفعل ، فقال له عمر : يا رسول الله ، لو اتخذت حجابا ، فإن نساءك لسن كسائر النساء ، وذلك أطهر لقلوبهن ، فنزلت آية الحجاب. وفي رواية : «بقي ثلاثة نفر يتحدثون ، فأطالوا».

قال الحافظ ابن حجر : يمكن الجمع بأن ذلك وقع قبل قصة زينب ، فلقربه منها أطلق نزول آية الحجاب بهذا السبب ، ولا مانع من تعدد الأسباب.

قوله تعالى : (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا ، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) : قال البيضاوي : الآية خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيدخلون ويقعدون ، منتظرين لإدراكه ، مخصوصة بهم وبأمثالهم ، وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بالإذن لغير الطعام ، ولا اللبث بعد الطعام لمهمّ. أخرج عبد بن حميد عن أنس قال : كانوا يتحينون فيدخلون بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيجلسون فيتحدثون ليدرك الطعام ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ..) الآية.

وعن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم ، وقال : (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) وأخرج ابن أبي حاتم عن سليمان بن أرقم قال : نزلت هذه في الثقلاء ، ومن ثم قيل : هي آية الثقلاء.

٨٣

وقوله تعالى : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) : أخرج ابن زيد قال : بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رجلا يقول : لو قد توفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوجت فلانة من بعده ، فنزلت : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) الآية.

وأخرج ابن زيد أيضا عن ابن عباس قال : نزلت في رجل همّ أن يتزوج بعض نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعده ، قال سفيان : ذكروا أنها عائشة. وأخرج عن السدّي قال : بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال : أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ، ويتزوج نساءنا ، لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده ، فأنزلت هذه الآية.

وأخرج ابن سعد عن أبي بكر عن محمد بن عمرو بن حزم قال : نزلت في طلحة بن عبيد الله ؛ لأنه قال : إذا توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوجت عائشة.

وأخرج جويبر عن ابن عباس أن رجلا أتى بعض أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكلمها وهو ابن عمها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تقومنّ هذا المقام بعد يومك هذا ، فقال : يا رسول الله : إنها ابنة عمي ، والله ما قلت منكرا ، ولا قالت لي ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد عرفت ذلك ، إنه ليس أحد أغير من الله ، وإنه ليس أحد أغير مني ، فمضى ، ثم قال : يمنعني من كلام ابنة عمي؟ لأتزوجنها من بعده ، فأنزل الله هذه الآية.

قال ابن عباس : فأعتق ذلك الرجل رقبة ، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله ، وحج ماشيا ، توبة من كلمته.

والخلاصة : رويت روايات كثيرة في أسباب نزول هذه الآيات قال فيها أبو بكر بن العربي : إنها ضعيفة كلها ما عدا الذي ذكرنا ـ أي رواية أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أنس ـ وما عدا الذي روي أن عمر قال : قلت : يا رسول الله ، إن نساءك يدخل عليهن البرّ والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ، فنزلت آية الحجاب.

٨٤

وقد كان سبب نزول أدب الطعام والجلوس وليمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند زواجه بزينب ، وسبب نزول الحجاب بسبب القعود في بيت زينب.

المناسبة :

بعد بيان حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أمته بأنه المبشر المنذر الداعي إلى الله تعالى ، أبان الله تعالى حال المؤمنين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكما أن دخولهم الدين كان بدعوته ، كذلك لا يكون دخول بيته إلا بدعوته ، إرشادا إلى الأدب معه واحترامه وتوفير راحته في بيته ، ثم تعظيمه بين الناس بالأمر بعد هذه الآيات بالصلاة والسلام عليه.

ولا يقتصر الأدب معه على الدخول إلى بيته ، بل يشمل الخروج منه بعد انتهاء الحاجة من استفتاء أو تناول طعام ، فذلك حق وأدب ، ثم ذكر الله أدبا آخر ، وهو طلب شيء من الحوائج من نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع وجود حجاب أو ستر أو حائل. ومناسبة هذا لما قبله أنه لما منع الله الناس من دخول بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان في ذلك تعذر الوصول إلى استعارة بعض الحوائج ، بيّن أن ذلك غير ممنوع منه ، وإنما يجب أن يكون السؤال والطلب من وراء حجاب.

التفسير والبيان :

تضمنت هذه الآيات آدابا عامة في الدخول إلى البيوت والخروج منها ، والحجاب وعدم الاختلاط وتحريم إيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزواج نسائه من بعده.

وهي مما وافق الوحي فيها وتنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، كما ثبت في الصحيحين عنه أنه قال : وافقت ربي عزوجل في ثلاث ، قلت : يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فأنزل الله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة ٢ / ١٢٥]. وقلت : يا رسول الله ، إن نساءك يدخل

٨٥

عليهن البر والفاجر ، فلو حجبتهن ، فأنزل الله آية الحجاب. وقلت لأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تمالأن عليه : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) فنزلت كذلك.

وآية الحجاب هذه ـ كما ذكر قتادة والواقدي ـ نزلت في صبيحة عرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب بنت جحش التي تولى الله تعالى تزويجها بنفسه ، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة ، وقد صدّرت الآية بأدب اجتماعي يدفع الحرج عن النبي ، فقال تعالى :

١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) أي يا أيها الذين صدقوا بالله ربّا وبمحمد رسولا إياكم أن تدخلوا بيتا من بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل الأحوال إلا في حال كونكم مصحوبين بالإذن بأن دعيتم إلى وليمة طعام ، غير منتظرين وقت نضجه واستوائه ، فإذا تم النضج وتوافر الإعداد فادخلوا حينئذ.

وهذا قوله تعالى :

٢ ـ (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا ، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا ، وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) إذا دعاكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فادخلوا البيت الذي أذن لكم بدخوله ، فإذا تناولتم الطعام الذي دعيتم إليه فتفرقوا ولا تمكثوا فيه من أجل تبادل أطراف الحديث والتحدث في شؤون الدنيا.

وهذا دليل على حظر المؤمنين من دخول منازل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير إذن ، وعدم ارتقاب نضج الطعام ، وعلى حرمة التطفل ، وعلى عدم البقاء في البيوت بعد الأكل ، للاشتغال بلهو الحديث مع بعضكم أو مع أهل البيت ، فذلك أمر غير مرغوب فيه ، ونوع من الثقل غير محمود ؛ لأن أهل البيت بحاجة إلى التفرغ لتنظيف الأواني والراحة من عناء إعداد الطعام ، لذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما

٨٦

واه أحمد والشيخان والترمذي عن عقبة بن عامر : «إياكم والدخول على النساء». وعلل تعالى طلب مغادرة البيوت بعد الطعام بقوله :

(إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ ، وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) أي إن بقاءكم واشتغالكم بالحديث والدخول قبل نضج الطعام كان يؤذي النبي ـ وإيذاؤه حرام ـ ويشق عليه ، لمنعه من قضاء بعض حاجته ، ولما فيه من المضايقة لأهل البيت ، ولكن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكره أن ينهاهم عن ذلك من شدة حيائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى أنزل الله عليه النهي عن ذلك ، والله لا يترك بيان الحق وهو الأمر بالخروج ومنعهم من البقاء والمكث. وهذا أدب عام لا يقتصر على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما يشمل سائر المؤمنين. ويحرم اللبث إذا كان فيه إيذاء لصاحب البيت.

وقد نصت آيات سورة النور [٢٧ ـ ٣١] على بيوت المؤمنين وآية الأحزاب [٥٩] في حجاب نسائهم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ).

٣ ـ (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي وكما نهيتكم عن الدخول إلى بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير إذن ودون انتظار إدراك الطعام ، كذلك نهيتكم عن النظر إلى زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا طلبتم منهن شيئا ينتفع به ، من ماعون وغيره ، فاطلبوه من وراء حجاب ساتر ، وحائل مانع من النظر.

وسبب النهي عن ذلك ، والأمر بالحجاب كما قال تعالى :

(ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) أي إن هذا الذي أمرتكم به وشرعته لكم من الدخول بالإذن ، والخروج عقب الطعام دون الاستئناس بالحديث ، والحجاب أطهر وأطيب للنفس ، وأبعد عن الريبة والتهمة والفتنة ، وأكثر طمأنينة للقلوب من الهواجس والوساوس الشيطانية.

٨٧

ولما علّم الله المؤمنين أدب الدخول إلى البيوت وصون الأذن والعين من النظر المحرّم ، أكده بما يحملهم على محافظته ، فقال :

٤ ـ (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ) أي ما صح وما ينبغي لكم أن تكونوا سببا في إيذاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو تفعلوا فعلا يضايقه ويكرهه ، كالمكث في منزله والاشتغال بالحديث ، فكل ما منعتم عنه مؤذ ، فامتنعوا عنه ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حريص على ما فيه إسعادكم وخيركم في الدنيا والآخرة ، ومن أشد أنواع الأذى ومما هو حرام عليكم أن تتزوجوا أبدا بنسائه بعد مفارقتهن بموت أو طلاق ، تعظيما له ، ولأنهن أمهات المؤمنين ، ولأنه ذنب عظيم كما قال تعالى :

(إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) أي إن إيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونكاح أزواجه من بعده ذنب عظيم وإثم كبير. وفي هذا تعظيم الأمر ، وتشديد فيه وتوعد عليه ، ثم أكد ذلك بالبعد عن الإيذاء في الباطن والظاهر فقال :

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ ، فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) أي إن تظهروا شيئا من الأذى أو تكتموه ، فإن الله عليم علما تاما دقيقا به ، يعلم ما تكنّه ضمائركم ، وتنطوي عليه سرائركم ، ولا تخفى عليه خافية : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر ٤٠ / ١٩] وهو مجاز كل إنسان بحسب ذلك العلم.

ثم استثنى الله تعالى من حكم حجاب أزواج النبي على الأجانب المحارم ونساء المؤمنين والأرقاء ، فقال :

(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ، وَاتَّقِينَ اللهَ ، إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) أي لا إثم على أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ترك الحجاب أمام آبائهن

٨٨

وأجدادهن ، سواء من جهة النسب أم من جهة الرضاع ، أو أبنائهن من النسب أو الرضاع ، أو إخوانهن الأشقاء أو لأب أو لأم ، أو أبناء إخوانهن أو أبناء أخواتهن ، أو أمام النساء المؤمنات القريبات أو البعيدات ، أو الأرقاء من الذكور والإناث ، إبعادا للحرج والمشقة في ذلك بسبب الخدمة. ثم ختمت الآية بما ينبه على زيادة الحذر والتقوى ، فقال تعالى فيما معناه :

واخشين الله في السرّ والعلانية ، فإنه شهيد على كل شيء ، لا تخفى عليه خافية ، فراقبنه ، فإنه يجازي على كل عمل من خير أو شر ؛ لأنه يعلم علم شهود وحضور ومعاينة كل شيء ، وفي ذلك منتهى التحذير من مخالفة الأوامر والنواهي.

ونساء المؤمنين كنساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ، بدليل آية النور : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ ، أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ ..) [٣١].

وأما السبب في عدم ذكر العم والخال في هاتين الآيتين فهو ـ كما ذكر عكرمة والشعبي ـ لأنهما قد يصفان ذلك لبنيهما ، أو لأن العم والخال بمنزلة الوالدين ، وقد يسمى العم أبا ، كما قال تعالى : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) [البقرة ٢ / ١٣٣].

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات الأحكام التالية :

١ ـ الأدب في أمر الطعام والجلوس ، فلا يجوز دخول بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا

٨٩

بالإذن ، والدخول حرام إلا لأجل الأكل ونحوه ، وظاهر الآية حرمة مكث المدعو بعد تناول الطعام إذا كان ذلك مؤذيا لصاحب البيت.

ودخل في النهي سائر بيوت المؤمنين ، فلا يجوز دخولها إلا بإذن عند الأكل ، لا قبله لانتظار الطعام.

٢ ـ يجب التفرق والخروج من البيت والانتشار في أرض الله تعالى بعد تناول الطعام ، وانتهاء المقصود من الأكل ونحوه ، لقوله تعالى : (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) والمراد من الأمر : إلزام الخروج من المنزل عند انقضاء المقصود من الأكل ، بدليل أن الدخول من غير إذن حرام ، وإنما جاز لأجل الأكل ، فإذا انقضى الأكل زال السبب المبيح ، وعاد التحريم إلى أصله.

٣ ـ قوله تعالى : (بُيُوتَ النَّبِيِ) دليل على أن البيت للرجل ، ويحكم له به ، فإن الله تعالى أضافه إليه إضافة ملك. وأما الإضافة في قوله تعالى : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ) [الأحزاب ٣٣ / ٣٤] فهي إضافة محل ، بدليل أنه جعل فيها الإذن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإذن إنما يكون للمالك.

وأما سكنى نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيوته في حياته وبعد موته من غير تملك ، فهو حق لهن على الصحيح ؛ فإن ذلك من مؤونتهن التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استثناها لهن ، كما استثنى لهن نفقاتهن حين قال فيما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي عن عمر وعثمان وغيرهما : «لا تقتسم ورثتي دينارا ولا درهما ، ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤونة عاملي ، فهو صدقة» ويدل لذلك أن مساكنهن لم يرثها عنهن ورثتهن ، ولو كان ذلك ملكا لهن كان لا شك قد ورثه عنهن ورثتهن ، وعدم الإرث دليل على أنها لم تكن ملكا لهن ، وإنما كان لهن سكنى حياتهن ، فلما توفّين جعل ذلك زيادة في المسجد الذي يعم المسلمين نفعه ، كما جعل ذلك الذي كان لهن من النفقات في تركة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فزيد إلى أصل المال ، فصرف في منافع المسلمين مما يعمّ جميعهم نفعه.

٩٠

٤ ـ قوله تعالى : (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا) خص وقت الدخول بأن يكون عند الإذن على جهة الأدب ، قال ابن العربي : وتقدير الكلام : ولكن إذا دعيتم وأذن لكم في الدخول فادخلوا ، وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذنا كافيا في الدخول (١).

٥ ـ في قوله تعالى : (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) دليل آخر في غير إلزام الخروج بعد انتهاء الأكل على أن الضيف يأكل على ملك المضيف ، لا على ملك نفسه ؛ لأنه قال : (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) فلم يجعل له أكثر من الأكل ، ولا أضاف إليه سواه ، وبقي الملك على أصله.

٦ ـ قوله تعالى : (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) دليل على أن المكث في المنزل بعد الطعام للاستئناس بالحديث أمر غير مرغوب فيه ، وأدب يجب التزامه.

٧ ـ وقوله تعالى : (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) أي لا يمتنع من بيانه وإظهاره دليل على ألا حياء في معرفة أحكام الدين وبيان الشرع. جاء في الصحيح عن أم سلمة قالت : جاءت أم سليم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن الله لا يستحيي من الحق ، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا رأت الماء».

٨ ـ (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً) الصواب في المتاع كما قال القرطبي : أنه عام في جميع ما يمكن أن يطلب من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا.

٩ ـ (فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض ، أو مسألة يستفتين فيها ، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى ، فلا يجوز كشف شيء من جسدها إلا لحاجة

__________________

(١) أحكام القرآن : ٣ / ١٥٦٥

٩١

كالشهادة عليها ، أو داء يكون ببدنها ، أو سؤالها عما يعرض وتعيّن كون الجواب عندها. قال القاضي عياض : فرض الحجاب بما اختصصن به ، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين ، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ولا إظهار شخوصهن ، وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة.

١٠ ـ استدل بعض العلماء من الأخذ عن أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء حجاب على جواز شهادة الأعمى ، وبأن الأعمى يطأ زوجته بمعرفته بكلامها ، وهو رأي المالكية والحنابلة في قبول شهادته ، ولا تقبل شهادته في رأي الحنفية والشافعية.

١١ ـ إن الحجاب وسيلة ناجعة في طهارة القلب من هواجس السوء وخواطر المعصية ، سواء بالنسبة للرجال أو النساء ، فذلك أنفى للريبة ، وأبعد للتهمة ، وأقوى في الحماية والتحصن. وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له ؛ فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله ، وأحصن لنفسه ، وأتم لعصمته.

١٢ ـ قوله تعالى : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) دليل على تعليل الأحكام ، ثم إن بيان العلة وتأكيد إيرادها يقوي دلالة الأحكام الشرعية على المطلوب. وذكر النبي بوصف الرسالة هنا مشعر بتوبيخ من تحدثهم نفوسهم بإيذائه إذ ذلك يكون كفرانا بنعمة الرسالة الواجب شكرانها.

١٣ ـ يحرم التزوج بنساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد مفارقتهن بطلاق أو موت ، تعظيما للنبي ، ولكونهن أمهات المؤمنين ، والمسلم لا يتزوج أمه.

واختلف العلماء في وجوب العدة عليهن بالموت ، فقيل : عليهن العدة ؛ لأن العدة عبادة ، وقيل : لا عدة عليهن ؛ لأنها مدة تربّص (انتظار) لا ينتظر بها إباحة الزواج ، قال القرطبي : وهو الصحيح ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تركت بعد نفقة عيالي» وروي «أهلي» وهذا اسم خاص بالزوجية ، فأبقى عليهن النفقة

٩٢

والسكنى مدة حياتهن ؛ لكونهن نساءه ، وحرمن على غيره ؛ وهذا هو معنى بقاء النكاح. وإنما جعل الموت في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهن بمنزلة المغيب في حق غيره ؛ لكونهن أزواجا له في الآخرة قطعا ، بخلاف سائر الناس ؛ لأن الرجل لا يعلم كونه مع أهله في دار واحدة ، فربما كان أحدهما في الجنة والآخر في النار ؛ فبهذا انقطع السبب في حق الخلق ، وبقي في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «زوجاتي في الدنيا هن زوجاتي في الآخرة» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الطبراني والحاكم والبيهقي عن عمر : «كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي ، فإنه باق إلى يوم القيامة».

وأما النساء اللاتي فارقهن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل الدخول ، فالصحيح جواز نكاحهن لغيره ، كالكلبية التي تزوجها عكرمة بن أبي جهل ، وقيل : تزوجها الأشعث بن قيس الكندي ، وقيل : إنه مهاجر بن أبي أمية.

١٤ ـ إن إيذاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو نكاح أزواجه من الذنوب الكبائر ، ولا ذنب أعظم منه.

١٥ ـ الله تعالى عالم بكل ما بدا وما خفي ، وما كان وما لم يكن ، لا يخفى عليه ماض انقضى ، ولا مستقبل آت ، فهو سبحانه يعلم ما يخفيه الإنسان من المعتقدات والخواطر المكروهة ويجازيه عليها. والتذييل بهذه الآية توبيخ ووعيد لمن يضمر السوء في مخاطبة أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأزواج المؤمنين أيضا.

١٦ ـ استثنى الله تعالى من فرضية الحجاب على أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأقارب المحارم من النسب أو الرضاع ، وهم الآباء والأبناء والإخوة وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات والنساء المؤمنات ، وهو رأي ابن عباس ومجاهد ، وتكون إضافتهن إليهن باعتبار أنهن على دينهن ، ويكون ذلك دليل احتجاب نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكافرات.

ويرى بعضهم أن المراد منهن النساء القريبات ، وتكون إضافتهن إليهن

٩٣

لمزيد اختصاصهن بهن ، لما لهن من صلة القرابة ، وكذلك الخادمات.

وأيضا ما ملكت أيمانهن من الذكور والإناث.

١٧ ـ توّج الله تعالى آية الحجاب واستثناء المحارم بالأمر بالتقوى ، كأنه قال : اقتصرن على هذا ، واتقين الله فيه أن تتعدينه إلى غيره ، وخصّ النساء بهذا الأمر وعيّنهن ، لقلة تحفظهن وكثرة استرسالهن ، ثم توعد تعالى بأنه رقيب على كل شيء بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) أي أنه يعلم علم شهود وحضور ومعاينة ، فيجازي على ما يكون.

تعظيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجزاء إيذائه وإيذاء المؤمنين

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨))

البلاغة :

(وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) إتباع الفعل بالمصدر للتأكيد.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي يعتنون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه.

والصلاة في اللغة : الدعاء ، يقال : صلى عليه ، أي دعا له. وهي من الله : الرحمة والرضوان ، ومن الملائكة : الدعاء والاستغفار ، ومن الأمة : دعاء وتعظيم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)

٩٤

أي اعتنوا أنتم أيضا بالصلاة عليه ، فإنكم أولى بذلك ، وقولوا : اللهم صل وسلّم على محمد. والآية تدل على وجوب الصلاة والسلام عليه في الجملة ، وتجوز الصلاة على غيره تبعا له ، وتكره استقلالا ؛ لأنه في العرف صار شعارا لذكر الرسل ، كما ذكر البيضاوي والشوكاني وغيرهما ، فلا يقال : صلّى الله على فلان ، أو فلان عليه‌السلام ، وقد اتفق العلماء على أن الصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرض على كل مسلم ، وأقلها في العمر مرة.

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) يرتكبون ما يكرهانه من الكفر والمعاصي وهم الكفار يصفون الله بما هو منزه عنه من الولد والشريك ، ويكذبون رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (لَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم وطردهم من رحمته. (عَذاباً مُهِيناً) ذا إهانة وغاية في الإهانة مع الإيلام ، وهو النار. (بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) يرمونهم بغير جناية استحقوا بها الإيذاء ، أو بغير ما عملوا. (احْتَمَلُوا بُهْتاناً) تحملوا كذبا. (وَإِثْماً مُبِيناً) أي ذنبا ظاهرا واضحا.

سبب النزول :

نزول الآية (٥٧):

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية قال : نزلت في الذين طعنوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اتخذ صفية بنت حييّ زوجة له. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس : أنزلت في عبد الله بن أبيّ وناس معه قذفوا عائشة ، فخطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «من يعذرني في رجل يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني» ، فنزلت.

وروي أنها نزلت في منافقين يؤذون عليا رضي‌الله‌عنه ، وقيل : في أهل الإفك كما تقدم ، وقيل : في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات.

نزول الآية (٥٨):

(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ) قال ابن عباس : أنزلت في عبد الله بن أبي وناس معه قذفوا عائشة رضي‌الله‌عنها ، فخطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «من يعذرني من رجل يؤذيني ، ويجمع في بيته من يؤذيني».

٩٥

وقيل : نزلت في أناس من المنافقين كانوا يؤذون علي بن أبي طالب. وقيل : نزلت فيمن آذى عمر لضربه جارية من الأنصار متبرجة. وقال جماعة : نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن.

المناسبة :

بعد أن أمر الله المؤمنين بالاستئذان وعدم النظر إلى وجوه نسائه احتراما ، أكمل ذلك ببيان مكانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الملأ الأعلى ، وما يجب له من احترام في الملأ الأدنى ، ثم أردفه بتبيين أضداد الاحترام ، فنهى عن إيذاء الله ، بمخالفة أوامره وارتكاب معاصيه ، وعن إيذاء رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالطعن فيه أو في أهل بيته ، أو بنسبة عيب أو نقص فيه.

التفسير والبيان :

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أي إن الله يصلي على نبيه بالرحمة والرضوان ، والملائكة تدعو له بالمغفرة ورفعة الشأن ، لذا فأنتم أيها المؤمنون بالله ورسوله قولوا : اللهم صلّ وسلّم على محمد ، أي ادعوا له بالرحمة ومزيد الشرف والدرجة العليا. ويلاحظ الاهتمام بالحكم من طريق مجيء الخبر مؤكدا ب «إنّ» والإتيان بالجملة الاسمية لإفادة الدوام ، وأن مجيء الجملة اسمية في صدرها : (إِنَّ اللهَ) فعليه في عجزها : (يُصَلُّونَ) للدلالة على أن الثناء من الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتجدد على الدوام.

وهذه الآية بمثابة العلة لما ذكر قبلها من أن شأن المؤمنين ألا يؤذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكأنه قيل : ما كان لكم أن تؤذوه ؛ لأن الله يصلي عليه والملائكة ، وما دام الأمر كذلك ، فهو لا يستحق إلا الاحترام والإكرام. وقد بدئت الآية بالجملة الاسمية لإفادة الدوام ، وانتهت بالجملة الفعلية للإشارة إلى أن

٩٦

هذا الإكرام والتمجيد يتجدد مع مرور الزمان على الدوام.

ويكون المقصود من الآية أن الله تعالى أخبر عباده بمنزلة نبيه وعبده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين وأن الملائكة تصلي عليه ، لذا أمر الله تعالى العالم الدنيوي بالصلاة والسلام عليه ، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين : العلوي والسفلي جميعا.

والصلاة كما بينا من الله الرحمة ، ومن الملائكة : الاستغفار ، ومن المؤمنين الدعاء بالمغفرة والتعظيم لشأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكيفية الصلاة عليه تعرف بالأحاديث المتواترة التي منها : ما رواه الشيخان وأحمد وغيرهم عن كعب بن عجرة رضي‌الله‌عنه قال : «قال رجل : يا رسول الله ، أما السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك؟! قال : قل : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم ، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد».

وأخرج مالك وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا : يا رسول الله ، كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قولوا : اللهم صلّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد وأزواجه وذريته ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد.

وأخرج الجماعة عن أبي سعيد الخدري قلنا : «يا رسول الله ، هذا السلام عليك ، قد علمنا ، فكيف الصلاة عليك؟ فقال : قولوا : اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم».

وأما التسليم فهو بأن يقولوا : السلام عليك يا رسول الله ، ومعنى «السلام عليك» الدعاء له بالسلامة من الآفات والنقائص.

٩٧

وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الصلاة والسلام على رسول الله ، منها : ما رواه أحمد وابن ماجه عن عامر بن ربيعة قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من صلى علي صلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى عليه ، فليقلّ عبد من ذلك أو ليكثر».

ومنها : ما رواه أحمد أيضا والنسائي عن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء ذات يوم ، والسرور ـ أو البشر ـ يرى في وجهه ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا لنرى السرور ـ أو البشرى ـ في وجهك ، فقال : «إنه أتاني الملك فقال : يا محمد ، أما يرضيك أن ربك عزوجل يقول : إنه لا يصلّي عليك أحد من أمّتك إلا صلّيت عليه عشرا ، ولا يسلّم عليك أحد من أمتك إلا سلّمت عليه عشرا ، قلت : بلى».

ومنها : ما رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلى علي واحدة ، صلّى الله عليه بها عشرا».

لذا أوجب الشافعي الصلاة على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعلها ركنا في التشهد الأخير من الصلاة ، وتستحب عنده في التشهد الأول.

واتفق العلماء على وجوب الصلاة والتسليم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرة في العمر ، عملا بما يقتضيه الأمر (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا) من الوجوب ، وتكون الصلاة والسلام في ذلك ككلمة التوحيد ؛ لأن الصحيح أن الأمر لا يقتضي التكرار ، وإنما هو للماهية ، المطلقة عن قيد التكرار والمرة ، وحصوله مرة ضرورة لتحقيق مجرد الماهية. وأما القول بالوجوب كلما ذكر ، أو في كل مجلس مرة ، أو الإكثار منها من غير تقيد بعدد ، فهو استدلال بالأحاديث المرغبة في فعلها والمرهبة من

٩٨

تركها ، كقوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام ٦ / ١٦٠] الذي هو ترغيب في الإحسان.

ويسن الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في يوم الجمعة وعند زيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعد النداء للصلاة ، وفي صلاة الجنازة ، روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أوس بن أوس الثقفي رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أفضل أيامكم يوم الجمعة : فيه خلق آدم ، وفيه قبض ، وفيه النفخة ، وفيه الصعقة ، فأكثروا علي من الصلاة فيه ، فإن صلاتكم معروضة علي» قالوا : يا رسول الله ، وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ ـ يعني وقد بليت ـ قال : «إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء».

وروى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا سمعتم مؤذنا فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي ، فإنه من صلى عليّ صلّى الله عليه بها عشرا ، ثم سلوا الله لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة» :

وروى النسائي عن أبي أمامة أنه قال : من السنة في الصلاة على الجنازة : أن يكبر الإمام ، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه ، ثم يصلي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويخلص الدعاء للجنازة ، وفي التكبيرات لا يقرأ في شيء منها ، ثم يسلم سرا في نفسه.

وروى أبو داود ، وصححه النووي في الأذكار ، كما صحح الحديث المتقدم ، عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما منكم من أحد يسلم علي إلا ردّ الله علي روحي حتى أردّ عليه‌السلام».

ولا شك بأن الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجلبة للخير

٩٩

والثواب ، وسبب لدخول الجنة ، ومذهبة للهم والحزن ، وطرد للنسيان ، أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رغم أنف رجل ذكرت عنده ، فلم يصلّ علي ، ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ، ثم انسلخ قبل أن يغفر له ، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر ، فلم يدخلاه الجنة».

وبعد الأمر بالصلاة والسلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عاد الكلام إلى النهي عن إيذاء الله بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره ، وإيذاء رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوصفه بعيب أو نقص فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) أي إن الذين يصدر منهم الأذى لله ورسوله بارتكاب ما لا يرضيانه من الكفر والعصيان ، كقول اليهود : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة ٥ / ٦٤] و (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة ٩ / ٣٠] وقول النصارى : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة ٩ / ٣٠] وقول المشركين : الملائكة بنات الله ، والأصنام آلهة شركاء لله ، وقولهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه شاعر ، أو ساحر أو كاهن أو مجنون ، إن هؤلاء الذين يؤذون الله ورسوله طردهم الله من رحمته في الدنيا والآخرة ، وهيأ لهم عذابا مهينا محقرا مؤلما في نار جهنم.

وهذا دليل على أنه تعالى لم يحصر جزاءهم في الإبعاد من رحمته ، بل أوعدهم وهددهم بعذاب النار الأليم. والآية عامة في كل من آذى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء ، فمن آذاه فقد آذى الله ، كما أن من أطاعه فقد أطاع الله ، كما قال الإمام أحمد. وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تزويجه صفية بنت حيي بن أخطب.

وبعد بيان شأن الذين يؤذون الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أبان الله تعالى ما يناسب ذلك ، وهو حكم الذين يؤذون المؤمنين ، فقال :

١٠٠