التفسير المنير - ج ٢٢

الدكتور وهبة الزحيلي

(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ، فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) أي والذين يؤذون أهل الإيمان من الرجال والنساء بوجه من وجوه الأذى من قول أو فعل ، وسواء أكان الإيذاء للعرض ، أو الشرف أو المال ، بأن ينسبوا إليهم ما هم برآء منه ، لم يعملوه ولم يفعلوه ، فهو إيذاء بغير حق ، كأن يشتم المؤمن أحدا ، أو يضربه ، أو يقتله ، فقد أتوا بالكذب المحض والبهتان الكبير : وهو نسبة شيء لهم لا علم لهم به ولم يفعلوه ، على سبيل العيب والإنقاص ، وارتكبوا ذنبا واضحا بينا. ونظير الآية : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ، ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) [النساء ٤ / ١١٢]. والبهتان : الفعل الشنيع ، أو الكذب الفظيع.

ومن أشد أنواع الأذى : الطعن في الصحابة ، والغيبة ، واستباحة عرض المسلم ، روى الإمام أحمد والترمذي عن عبد الله بن المغفّل المزني قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه».

وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة : أنه قيل : «يا رسول الله ، ما الغيبة؟ قال : ذكرك أخاك بما يكره ، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته».

وروى ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «أي الربا أربى عند الله؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم» ثم قرأ : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً).

١٠١

فإن كان الإيذاء بحق لم يحرم ، مثل الإيذاء بالقصاص ، والإيذاء بقطع اليد في السرقة ، والإيذاء بالتعزيرات المختلفة ، وقتال المرتدين ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتواتر الذي رواه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها». فهم أبو بكر رضي‌الله‌عنه من هذا الحديث أن الزكاة حق المال ، فقاتل مانعيه من أجله ، وقال : «والله لو منعوني عناقا كانوا يعطونه لرسول الله ، لقاتلتهم عليه» وحاجه في ذلك عمر فقال : «إلا بحقها» والزكاة حق الأموال ، فانشرح صدره لما رآه أبو بكر.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن آية الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشريف له حياته وموته ، وتنويه بمنزلته ومكانته السامية ، والصلاة كما بينا من الله : الرحمة والرضوان ، ومن الملائكة : الدعاء والاستغفار ، ومن الأمة : الدعاء والتعظيم لأمره.

٢ ـ أمر الله تعالى عباده بالصلاة على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون أنبيائه تشريفا له ، ولا خلاف في أنها فرض في العمر مرة ، وسنة مؤكدة في كل حين لا يسع المسلم تركها ، ولا يغفلها إلا من لا خير فيه.

وقد عرفنا صفة الصلاة والسلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي صيغة الصلاة الإبراهيمية ، وبينا فضل الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو كما ورد عنه فيما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة : «من صلّى علي واحدة ، صلّى الله عليه بها عشرا» وقال أيضا : «من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة يصلون عليه ما دام اسمي في ذلك الكتاب» (١). وقال سهل بن عبد الله : الصلاة

__________________

(١) لكن قال عنه ابن كثير : ليس هذا الحديث بصحيح من وجوه كثيرة.

١٠٢

على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل العبادات ؛ لأن الله تعالى تولاها هو وملائكته ، ثم أمر بها المؤمنين ، وسائر العبادات ليس كذلك. وقال أبو سليمان الداراني : من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم يسأل الله حاجته ، ثم يختم بالصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فإن الله تعالى يقبل الصلاتين ، وهو أكرم من أن يرد ما بينهما.

وأما الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة فهي سنة مستحبة عند الجمهور ، فإن تركها فصلاته مجزية ، وواجبة لدى الشافعي ، فمن تركها فعليه الإعادة.

وأما الصلاة على غير الأنبياء : فإن كانت على سبيل التبعية مثل : اللهم صل على محمد وآله ، وأزواجه ، وذريته ، فهذا جائز بالإجماع ، فإن أفردوا فقال جماعة : يجوز ذلك ؛ لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) [الأحزاب ٣٣ / ٤٣] وقوله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) [البقرة ٢ / ١٥٧] وقوله : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) [التوبة ٩ / ١٠٣] وحديث الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : «اللهم صلّ عليهم» فأتاه أبي بصدقته فقال : «اللهم صلى على آل أبي أوفى» وحديث جابر أن امرأته قالت : يا رسول الله ، صلّ عليّ وعلى زوجي ، فقال : «صلّى الله عليك وعلى زوجك».

وقال جمهور العلماء : لا يجوز إفراد غير الأنبياء بالصلاة ؛ لأن هذا قد صار شعارا للأنبياء إذا ذكروا ، فلا يلحق بهم غيرهم ، فلا يقال : أبو بكر صلّى الله عليه ، أو قال عليّ صلّى الله عليه ، وإن كان المعنى صحيحا ، كما لا يقال : محمد عزوجل ، وإن كان عزيزا جليلا ؛ لأن هذا من شعار ذكر الله عزوجل. وأما ما ورد في الكتاب والسنة من ذلك ، فمحمول على الدعاء لهم ، ولهذا لم يثبت شعارا لآل أبي أوفى ولا لجابر وامرأته.

١٠٣

والصحيح أن هذا المنع من الصلاة على غير الأنبياء مكروه كراهة تنزيه ؛ لأنه شعار أهل البدع ، وقد نهينا عن شعارهم.

والسلام هو في معنى الصلاة ، فلا يستعمل في الغائب ، ولا يفرد به غير الأنبياء ، فلا يقال : علي عليه‌السلام ، وهذا سواء في الأحياء والأموات. وأما الحاضر فيخاطب به ، فيقال : سلام عليك ، وسلام عليكم ، أو السلام عليك أو عليكم ، وهذا مجمع عليه.

وقال النووي : إذا صلى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم ، فلا يقتصر على أحدهما ، فلا يقول : صلّى الله عليه فقط ، ولا عليه‌السلام فقط ؛ لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

٣ ـ إن من يؤذي الله ورسوله يستحق اللعنة والطرد من رحمة الله في الدنيا والآخرة ، وله عذاب محقر مؤلم في نار جهنم. وإيذاء الله : يكون بالكفر ونسبة الصاحبة والولد والشريك إليه ، ووصفه بما لا يليق به ، كقول اليهود : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة ٥ / ٦٤] ، و (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة ٩ / ٣٠] ، وقول النصارى : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة ٩ / ٣٠] ، وقول المشركين : الملائكة بنات الله ، والأصنام شركاؤه.

وجاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله عزوجل : يؤذيني ابن آدم ، يسبّ الدهر ، وأنا الدهر. أقلّب ليله ونهاره» ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال الله تبارك وتعالى : «يؤذيني ابن آدم يقول : يا خيبة الدهر ، فلا يقولن أحدكم : يا خيبة الدهر ، فإني أنا الدهر ، أقلّب ليله ونهاره ، فإذا شئت قبضتهما». هكذا جاء هذا الحديث موقوفا على أبي هريرة في هذه الرواية. وقد جاء مرفوعا عنه بلفظ آخر عند مسلم أيضا : «يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر ، وأنا الدهر أقلّب الليل

١٠٤

والنهار». وقال عكرمة : معناه بالتصوير والتعرض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعن الله المصوّرين».

والطعن في تأمير أسامة بن زيد (١) لغزو «أبنى» قرية عند مؤتة أذية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من حيث إنه كان من الموالي ، ومن حيث إنه كان صغير السن ؛ لأنه كان إذ ذاك ابن ثمان عشرة سنة ، ومات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد خروج هذا الجيش إلى ظاهر المدينة ، فنفّذه أبو بكر بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم. جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثا ، وأمّر عليهم أسامة بن زيد ، فطعن الناس في إمرته ؛ فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن تطعنوا في إمرته ، فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل ، وايم الله إن كان لخليقا للإمارة ، وإن كان لمن أحب الناس إليّ ، وإن هذا لمن أحب الناس إليّ بعده».

وفي هذا الحديث دلالة على جواز إمامة المولى والمفضول على غيرهما ما عدا الإمامة الكبرى ، ويؤكده أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدّم سالما مولى أبي حذيفة على الصلاة بقباء ، فكان يؤمهم ، وفيهم أبو بكر وعمر وغيرهم من كبراء قريش.

٤ ـ إن إيذاء المؤمنين والمؤمنات بغير حق بالأقوال أو الأفعال القبيحة بهتان وإثم واضح. ومن أنواع الأذى : التعيير بحسب مذموم ، أو حرفة مذمومة ، أو شيء يثقل عليه إذا سمعه.

وقد ميّز الله بين أذاه سبحانه وأذى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأذى المؤمنين ، فجعل الأول كفرا موجبا اللعن ، والثاني كبيرة ، فقال في أذى المؤمنين : (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً).

__________________

(١) كان أسامة رضي‌الله‌عنه يدعى : الحبّ ابن الحبّ ، وكان أسود شديد السواد ، وكان زيد أبوه أبيض.

١٠٥

آية جلباب النساء لستر العورة

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩))

المفردات اللغوية :

(يُدْنِينَ) الإدناء : التقريب ، والمراد الإرخاء والسدل على الوجه والبدن ، وستر الزينة ، ولذا عدّي بعلى (مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) جمع جلباب ، وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق القميص ، أو الثوب الذي يستر جميع البدن. و (مِنْ) للتبعيض ، فإن المرأة تغطي بعض جلبابها وتتلفع ببعض ، والمراد : يرخين بعضها على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن إلا شيئا قليلا كعين واحدة (ذلِكَ) أي إدناء الجلابيب (أَدْنى) أقرب (أَنْ يُعْرَفْنَ) أي أقرب إلى أن يميزن بأنهن حرائر ، ويبعدن عن الإساءة (فَلا يُؤْذَيْنَ) أي فلا يؤذيهن أهل الريبة بالتعرض لهن (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما سلف منهن لترك الستر (رَحِيماً) بعباده ، حيث يراعي مصالحهم بالأمر بالستر وغيره.

سبب النزول :

أخرج البخاري عن عائشة قالت : خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها ، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها ، فرآها عمر ، فقال : يا سودة ، أما والله ما تخفين علينا ، فانظري كيف تخرجين ، قالت : فانكفأت راجعة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيتي ، وإنه ليتعشى ، وفي يده عرق ، فدخلت ، فقالت : يا رسول الله ، إني خرجت لبعض حاجتي ، فقال لي عمر كذا وكذا ، قالت : فأوحى الله إليه ، ثم رفع عنه ، وإن العرق في يده ما وضعه ، فقال : إنه قد أذن ، لكن أن تخرجن لحاجتكن.

١٠٦

وأخرج ابن سعد في الطبقات عن أبي مالك قال : كان نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخرجن بالليل لحاجتهن ، وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن ، فيؤذين ، فشكوا ذلك ، فقيل للمنافقين ، فقالوا : إنما نفعله بالإماء ، فنزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ، ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ).

المناسبة :

بعد بيان أن من يؤذي مؤمنا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ، منعا وزجرا للمكلف من إيذاء المؤمن ، أمر الله تعالى المؤمن باجتناب المواضع التي فيها التهم التي قد تؤدى إلى الإيذاء ، بالتستر وإرخاء الجلباب ، خلافا لما كان عليه الحال في الجاهلية من خروج النساء مكشوفات يتبعهن الزناة.

التفسير والبيان :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) أي يطلب الله من رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأمر النساء المؤمنات وبخاصة أزواجه وبناته إذا خرجن من بيوتهن بأن يسدلن ويغطين من جلابيبهن ليتميزن عن الإماء. والجلباب : الرداء فوق الخمار. وهناك روايات في كيفية هذا التستر.

ـ قال ابن عباس : أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطّين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ، ويبدين عينا واحدة.

ـ وقال محمد بن سيرين فيما رواه ابن جرير عنه : سألت عبيدة السّلماني عن قول الله عزوجل : (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) فغطّى وجهه ورأسه ، وأبرز عينه اليسرى.

١٠٧

ـ وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية : (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) خرج نساء الأنصار ، كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة ، وعليهن أكسية سود يلبسنها.

والمقصود بالآية التي نزلت بعد استقرار الشريعة أن يكون الستر المأمور به زائدا على ما يجب من ستر العورة ، وهو أدب حسن يبعد المرأة عن مظان التهمة والريبة ، ويحميها من أذى الفساق.

واللباس الشرعي : هو الساتر جميع الجسد ، الذي لا يشف عما تحته ، فإن كانت المرأة في بيتها وأمام زوجها فلها أن تلبس ما تشاء.

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي إن إدناء الجلابيب أو التستر أقرب أن يعرفن أنهن حرائر ، لسن بإماء ولا عواهر ، فلا يتعرّض لهن بالأذى من أهل الفسق والريبة ، وكان الله غفورا لما سلف منهن من إهمال التستر ، ولمن امتثل أمره إذا أخل بالتستر خطأ بغير قصد ، واسع الرحمة بعباده حيث راعى مصالحهم وأرشدهم إلى هذا الأدب الحسن.

أما الإماء فلم يكلفهن الشرع بالتستر الكامل دفعا للحرج والمشقة في التقنع ، وتيسيرا لهن القيام بخدمات السادة. هذا رأي الجمهور. وقال أبو حيان : والظاهر أن قوله : (وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ) يشمل الحرائر والإماء ، والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن ، بخلاف الحرائر ، فيحتاج إخراجهن ـ أي الإمام ـ من عموم النساء إلى دليل واضح (١).

__________________

(١) البحر المحيط : ٧ / ٢٥٠

١٠٨

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على ما يأتي :

١ ـ الأمر بالتقنع والتستر عام يشمل جميع النساء ، وذلك لا يكون إلا بما لا يصف جلدها ، إلا إذا كانت مع زوجها ، فلها أن تلبس ما شاءت ؛ لأن له أن يستمتع بها كيف شاء.

ومن المأمورات بالستر : زوجات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبناته. أما زوجاته فقال قتادة : مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تسع : خمس من قريش : عائشة ، وحفصة ، وأم حبيبة ، وسودة ، وأم سلمة ، وثلاث من سائر العرب : ميمونة ، وزينب بنت جحش ، وجويرية. وواحدة من بني هارون : صفية ، وأما أولاده : فكان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولاد ذكور وإناث.

وأولاده الذكور : القاسم والطاهر وعبد الله والطيب أبناء خديجة.

وبناته : فاطمة الزهراء بنت خديجة زوجة علي رضي‌الله‌عنهما ، وزينب بنت خديجة زوجة ابن خالتها أبي العاص ، ورقيّة وأم كلثوم بنتا خديجة ، زوجتا عثمان ، كما تقدم سابقا.

ويلاحظ أن الدعوة لا تثمر إلا إذا بدأ الداعي بها في نفسه وأهله ، لذا بدأ الأمر بالحجاب بنساء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبناته.

٢ ـ صورة إرخاء الجلباب : تغطية المرأة جميع جسدها إلا عين واحدة تبصر بها ، كما قال ابن عباس وعبيدة السّلماني. وقال قتادة ، وابن عباس في رواية أخرى : أن تلويه فوق الجبين وتشدّه ، ثم تعطفه على الأنف ، وإن ظهرت عيناها ، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه. وقال الحسن البصري : تغطي نصف وجهها.

١٠٩

٣ ـ الحكمة من أمر الحرائر بالتستر هي ألا يختلطن بالإماء ، فإذا عرفن لم يقابلن بأدنى معارضة ، مراعاة لرتبة الحرية ، فتنقطع الأطماع عنهن.

٤ ـ وقوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) تأنيس للنساء في ترك الجلابيب قبل هذا الأمر المشروع.

٥ ـ في الطبقات الكبرى لابن سعد أن أحمد بن عيسى من فقهاء الشافعية استنبط من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات من تغيير لباسهم وعمائمهم أمر حسن ؛ وإن لم يفعله السلف ؛ لأن فيه تمييزا لهم ، حتى يعرفوا ، فيعمل بأقوالهم.

هذا وقد استدل بالآية على لزوم تغطية وجه المرأة ؛ لأن العلماء والمفسرين كابن الجوزي والطبري وابن كثير وأبي حيان وأبي السعود والجصاص الرازي فسروا إدناء الجلباب بتغطية الوجوه والأبدان والشعور عن الأجانب ، أو عند الخروج لحاجة.

تهديد المنافقين وجزاؤهم

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢))

الإعراب :

(مَلْعُونِينَ) إما منصوب على الحال من واو (لا يُجاوِرُونَكَ) وإما منصوب على الذم ، أي أذمّ ملعونين.

١١٠

(سُنَّةَ اللهِ) مصدر مؤكد.

البلاغة :

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) المرجفون هم من المنافقين ، ففيه ذكر الخاص بعد العام ، زيادة في التقبيح والتشنيع عليهم.

(ثُقِفُوا أُخِذُوا) بينهما طباق.

(وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) إتباع الفعل بالمصدر للتأكيد.

المفردات اللغوية :

(لَئِنْ) اللام لام القسم (لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) عن نفاقهم وهو إظهار الإسلام وإبطان الكفر (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ضعف إيمان وقلة ثبات عليه ، أو فسوق وعصيان (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) هم اليهود وغيرهم المشيعون للأكاذيب والأباطيل الملفقون أخبار السوء ونشرها بين جنود المسلمين قائلين : قد أتاكم العدو ، وسرايا المسلمين هزموا أو قتلوا أو غلبوا ، ونحو ذلك من الأخبار المتضمنة توهين جانب المسلمين ، من الإرجاف والرّجفان : الزلزلة والاضطراب الشديد.

(لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) لنسلطنك عليهم ولنأمرنك بقتالهم وإجلائهم (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ) يساكنونك ، والعطف ب (ثُمَ) للدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظم ما يصيبهم (مَلْعُونِينَ) مبعدين عن الرحمة ، أي لا يجاورونك إلا ملعونين (ثُقِفُوا) وجدوا (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) أي أن هذا الحكم فيهم مأمور به.

(سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا) أي سنّ الله ذلك في الأمم الماضية ، وهو أن يقتل المنافقون الذين نافقوا الأنبياء وسعوا في وهنهم بالإرجاف ونحوه أينما ثقفوا ، وخلوا : مضوا (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي لأنه لا يبدلها الله ، أو لا يقدر أحد أن يبدلها.

المناسبة :

هذا هو الصنف الثالث من المؤذين ، فبعد أن ذكر الله تعالى حال المشرك الذي يؤذي الله ورسوله ، وأتبعه بذكر المجاهر الذي يؤذي المؤمنين ، ذكر حال المسرّ المبطن الذي يظهر الحق ، ويضمر الباطل ، وهو المنافق.

ثم ذكر مظاهر ثلاثة للنفاق في مواجهة الأقوام الثلاثة المؤذين : وهم المؤذون

١١١

الله ، والمؤذون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمؤذون المؤمنين ، وهذه المظاهر : هي المنافق الذي يؤذي الله سرا ، والذي في قلبه مرض الذي يؤذي المؤمن باتباع نسائه ، والمرجف الذي يؤذي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإرجاف ، بقوله : غلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسيخرج من المدينة وسيؤخذ أسيرا. وهذا كله من آثار النفاق العملي.

التفسير والبيان :

توعد الله المنافقين وحذرهم وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، فقال :

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ ، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ ، لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ، ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) أي لئن لم يكف المنافقون عما هم عليه من النفاق ، والذين في قلوبهم ضعف إيمان وشك وريبة في أمر الدين ، وأهل الإرجاف في المدينة الذين يشيعون الأخبار الملفقة الكاذبة المتضمنة توهين جانب المسلمين ، وإظهار تفوق المشركين وغلبتهم عليهم ، لنسلطنك عليهم ونأمرنك بقتالهم وإجلائهم عن المدينة ، فلا يساكنونك فيها إلا زمنا قليلا.

وهذه الأوصاف الثلاثة : النفاق ، ومرض القلب ، والإرجاف هي لشيء واحد ، فإن من لوازم النفاق مرض القلب بضعف الإيمان ، والإرجاف بالفتنة وإشاعة أخبار السوء ، والمنافقون متصفون بهذه الأوصاف الثلاثة كلها.

وكل وصف من هذه الأوصاف خطر على المجتمع الإسلامي ، سواء إبطان الكفر ، أو الفسوق والعصيان وتتبع النساء للاطلاع على عوراتهن والإساءة لهن بالقول القبيح والفعل الشنيع ، أو إشاعة الأكاذيب المغرضة التي تنشر القلق والخوف والاضطراب ، وتضعف من معنويات الجماعة ، مما يسهل هزيمتهم ، وانتصار الأعداء عليهم.

ثم الله أبان تعالى جزاءهم في الدنيا والآخرة فقال :

١١٢

(مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) أي إنهم في حال مدة إقامتهم في المدينة فترة زمنية قليلة مطرودون من رحمة الله منبوذون ، وأينما وجدوا وأدركوا أخذوا لذلتهم وقلتهم ، وقتّلوا شر تقتيل ، فلن يجدوا أحدا يؤويهم ، بل ينكل بهم ويؤسرون ويقتّلون تقتيلا شديدا يستأصلهم.

وهذا دليل على أخذهم أسرى ، والأمر بقتلهم إذا ظلوا على النفاق ، وقد كان ذلك في أواخر حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم أوضح الله تعالى أن هذا الجزاء عام في جميع المنافقين الغابرين واللاحقين فقال :

(سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي إن هذا الحكم ـ وهو لعن المنافقين وأخذهم وتقتيلهم وتسليط المؤمنين عليهم وقهرهم ـ هو سنة الله وطريقته في المنافقين في كل زمان مضى ، إذا بقوا على نفاقهم وكفرهم ، ولم يرجعوا عما هم عليه ، وسنة الله في ذلك لا تبدل ولا تغير ، لقيامها على الحكمة والمصلحة وصلاح الأمة ، بل هي ثابتة دائمة في أمثال هؤلاء على ممر التاريخ.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما هو آت :

١ ـ اتفق أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة : النفاق ، ومرض القلب ، والإرجاف لشيء واحد كما تقدم ، أي إن المنافقين قد جمعوا هذه الأشياء (١). والآية دليل على تحريم الإيذاء بالإرجاف وعلى أن تتبع عورات النساء نفاق.

__________________

(١) قالوا : والواو مقحمة ، كما قال الشاعر :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

أي إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة.

١١٣

٢ ـ إن جزاء هؤلاء المنافقين إن أصروا على نفاقهم تسليط أهل الحق والإيمان عليهم ، لاستئصالهم بالقتل ، وطردهم من البلاد ، فلا يساكنون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين في المدينة إلا مدة يسيرة حتى يهلكوا ، وطردهم من رحمة الله.

٣ ـ إن هذا العقاب هو ما سنه الله عزوجل فيمن أرجف بالأنبياء ، وأظهر نفاقه أن يؤخذ ويقتل ، ولا تبديل ولا تغيير لسنة الله وحكمه ، فلا يغيره هو سبحانه ، ولا يستطيع أحد تغييره.

٤ ـ لكن يجوز تأخير تطبيق هذا العقاب ، فليس هو على الفور ، قال القرطبي : وفي الآية دليل على جواز ترك إنفاذ الوعيد ، والدليل على ذلك بقاء المنافقين معه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى مات. والمعروف من أهل الفضل إتمام وعدهم وتأخير وعيدهم (١).

وقد تأخر بالفعل عقاب المنافقين إلى أواخر عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه لما نزلت سورة «براءة» جمعوا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا فلان قم فاخرج ، فإنك منافق ، ويا فلان قم» فقام إخوانهم من المسلمين ، وتولوا إخراجهم من المسجد.

توعد الكفار بقرب الساعة وبيان نوع جزائهم

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨))

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٤ / ٢٤٨

١١٤

البلاغة :

(يَقُولُونَ : يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) تحسر وتفجع من طريق التمني.

(سَعِيراً نَصِيراً كَبِيراً) فيها ما يسمى بمراعاة الفواصل ، لما فيها من وقع حسن.

المفردات اللغوية :

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) أي يسألك أهل مكة المشركون عن وقت يوم القيامة وحصوله استهزاء ، أو تعنتا ، أو امتحانا (قُلْ : إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) أي لم يطلع عليه ملكا ولا نبيا (وَما يُدْرِيكَ ، لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) أي وما يعلمك يا محمد؟ أي أنت لا تعلمها ، فكيف بغيرك من الناس؟ وربما توجد الساعة في زمن قريب. وفيه تهديد للمستعجلين وإسكات للمتعنتين.

(لَعَنَ الْكافِرِينَ) أبعدهم وطردهم عن رحمته (وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) نارا شديدة الاتقاد والاستعار يدخلونها (خالِدِينَ) مقدرا خلودهم (لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) يواليهم ويحفظهم عنها (وَلا نَصِيراً) ينصرهم ويدفع العذاب عنهم (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) تصرّف من جهة إلى جهة أخرى ، كاللحم يشوى بالنار. (يا لَيْتَنا يا) : للتنبيه (وَقالُوا) أي الأتباع منهم (سادَتَنا) أي ملوكنا وقادتنا الذين لقنوهم الكفر ، وقرئ «ساداتنا» جمع الجمع ، للدلالة على الكثرة (وَكُبَراءَنا) علماءنا (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) أي أضلونا طريق الهدى بما زينوا لنا من الكفر بالله ورسوله (ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) مثلي ما أوتينا من العذاب ؛ لأنهم ضلوا وأضلوا (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) أي عذبهم وأبعدهم بلعن هو أشد اللعن وأعظمه ، وفوله (كَبِيراً) أي عدده ، أي عظيما.

المناسبة :

بعد بيان حال الفئات الثلاث في الدنيا (المشركين الذين يؤذون الله ورسوله ، والمجاهرين الذين يؤذون المؤمنين ، والمنافقين الذين يظهرون الحق ويضمرون الباطل) وأنهم يلعنون ويهانون ويقتلون ، ذكر حالهم في الآخرة ، فتوعدهم بقرب يوم القيامة ، وبين نوع عذابهم فيه.

١١٥

التفسير والبيان :

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ ، قُلْ : إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) أي يتساءل الناس بكثرة عن وقت قيام القيامة ، فالمشركون يسألون عنها تهكما واستهزاء ، والمنافقون يسألون عنها تعنتا ، واليهود يسألون عنها امتحانا واختبارا ، فيجيبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتعليم الله له : إن علمها محصور بالله تعالى ، لم يطلع عليها ملكا ولا نبيا مرسلا ، فهو وحده الذي يعلم وقت حدوثها.

وأكد نفي علمها عن أحد غيره فقال :

(وَما يُدْرِيكَ ، لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) أي وما يعلمك بها ، فإنها من المغيبات المختصة بالله تعالى ، وربما توجد في وقت قريب ، كما قال تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر ٥٤ / ١] وقال عزوجل : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل ١٦ / ١] وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البخاري : «بعثت والساعة كهاتين» وأشار إلى السبابة والوسطى.

وفي هذا تهديد للمستعجلين ، وتوبيخ للمتعنتين ، كما تقدم. وكلمة (قَرِيبٌ) فعيل يستوي فيه المذكر والمؤنث ، كما قال تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف ٧ / ٥٦] لذا لم يقل : لعل الساعة تكون قريبة.

ثم ذكر الله تعالى نوع جزاء الكفار الذي ينتظرهم يوم القيامة ، فقال :

(إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ ، وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) أي إن الله تعالى طرد الكافرين وأبعدهم عن رحمته ، وهيأ لهم في الآخرة نارا شديدة الاستعار والاتقاد.

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي إنهم في ذلك العذاب في نار جهنم مخلدون ماكثون فيه على الدوام ، ولا أمل لهم في النجاة منه ، فلا يجدون

١١٦

من يواليهم ويكون لهم مغيثا ومعينا ينقذهم مما هم فيه ، ولا من ينصرهم ويخلصهم منه. والمقصود أنه لا شفيع لهم يدفع عنهم العذاب.

ثم ذكر وصف حال العذاب فقال :

(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ : يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) أي إنهم يسحبون في النار على وجوههم ، وتلوى وجوههم على جهنم ، ويتقلبون فيها من جهة إلى أخرى كاللحم يشوى في النار ، وحينئذ يقولون ويتمنون : يا ليتنا لو كنا في الدار الدنيا ممن أطاعوا الله وأطاعوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآمنوا بما جاء به ، لينجوا من العذاب كما نجا المؤمنون ، كما قال تعالى في آية أخرى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ : يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) [الفرقان ٢٥ / ٢٧] وقال أيضا مخبرا عنهم : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر ١٥ / ٢].

ثم اعتذروا بالتقليد ، فقال الله تعالى واصفا ذلك :

(وَقالُوا : رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا ، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) أي وقال الكافرون حينئذ وهم في عذاب جهنم : يا ربنا إنا أطعنا في الشرك والكفر رؤساءنا وقادتنا وعلماءنا ، وخالفنا الرسل ، واعتقدنا أنهم محقون فيما يقولون ، فأخطؤوا بنا سواء الطريق ، وأضلونا عن طريق الهدى بما زينوا لنا من الكفر بالله ورسوله ، وعدم الإقرار بالوحدانية ، وإخلاص الطاعة لله تعالى.

ثم صوّر تعالى ما يغلي في نفوسهم من الحقد الذي أدى بهم إلى طلب التشفي من القادة والأمراء والأشراف فقال :

(رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) أي يا ربنا عذّبهم مثل عذابنا مرتين : عذاب الكفر ، وعذاب الإضلال والإغواء إيانا ، وأبعدهم عن

١١٧

رحمتك بعدا عظيما كثيرا شديد الموقع ، وهذا بمعنى الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، علّمني دعاء أدعو به في صلاتي ، قال : «قل : اللهم ، إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني ، إنك أنت الغفور الرحيم» يروى «كبيرا» و «كثيرا» وهما بمعنى واحد ، واستحب بعضهم أن يجمع الداعي بين اللفظين في دعائه ، قال ابن كثير : وفي ذلك نظر ، بل الأولى أن يقول هذا تارة ، وهذا تارة ، كما أن القارئ مخير بين القراءتين ، أيتهما قرأ أحسن ، وليس له الجمع بينهما (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ لما توعد الله المؤذين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعذاب ، سألوا عن الساعة ، استبعادا وتكذيبا ، موهمين أنها لا تكون ، فأجابهم الله بأن علمها عند الله ، وليس في إخفائها عن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يبطل نبوته ، فليس من شرط النبي أن يعلم الغيب بغير تعليم من الله عزوجل.

٢ ـ إن وقت حصول الساعة (القيامة) في زمان قريب ، وقد أخفي وقت الساعة ليكون العبد مستعدا لها. وهذا إشارة إلى التخويف.

٣ ـ إن الله عاقب الكافرين بالطرد والإبعاد من رحمته ، وبإعداد نار جهنم المستعرة الشديدة الاتقاد ، وهم فيها خالدون ماكثون على الدوام ، ولا شفيع لهم ينجيهم من عذاب الله والخلود فيه ، ويتقلبون في السعير ذات اليمين وذات الشمال كما يشوى اللحم في النار. وهذا يدل على أنهم ملعونون في الدنيا ، وملعونون عند الله ، وأن العذاب دائم مستمر لا أمل في الخروج منه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ٥١٩

١١٨

٤ ـ يتمنى الكافرون في أثناء العذاب في نار جهنم أن لو كانوا أطاعوا الله وأطاعوا رسوله ، فآمنوا بالله وحده لا شريك له ، وآمنوا برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين ، وأدوا فروض الطاعة والولاء ، وأخلصوا لله في أعمالهم.

٥ ـ إنهم يقولون أيضا على سبيل الأسف والاعتذار غير المفيد : إنا أطعنا القادة والأمراء والأشراف والعلماء بدل طاعة الله تعالى ، فبدّلنا الخير بالشر ، وأضلونا عن السبيل الصحيح وهو توحيد الله تعالى.

٦ ـ لا يجدون بدا من المطالبة على سبيل التشفي والانتقام بمضاعفة العذاب على أولئك المضللين : عذاب الكفر وعذاب الإضلال ، أي عذبهم مثلي ما تعذّبنا ؛ فإنهم ضلّوا وأضلوا.

بل إنهم يطلبون أيضا إبعادهم وطردهم من رحمة الله إبعادا كبيرا كثيرا ؛ لأن ما كبر كان كثيرا عظيم المقدار. وهذا في كلا الطلبين يتضمن معنى جديدا ، فإنهم طلبوا لهم ما ليس بحاصل وهو زيادة العذاب بقولهم : (ضِعْفَيْنِ) وزيادة اللعن بقولهم : (لَعْناً كَبِيراً).

تحريم الإيذاء الذي لا يؤدي إلى الكفر والأمر بالتقوى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١))

١١٩

البلاغة :

(لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) تشبيه مرسل مجمل ، ذكر فيه أداة الشبه ، وحذف وجه التشبيه.

المفردات اللغوية :

(لا تَكُونُوا) مع نبيكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) وهم اليهود ، كقولهم : ما يمنعه أن يغتسل معنا إلا أنه آدر ، أو اتهامه بالفاحشة ، كما روي أن قارون حرض امرأة على قذف موسى بنفسها ، فعصمه الله وبرّأه مما قالوا (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) من كثير من التهم الباطلة ، منها أنه وضع ثوبه على حجر ليغتسل ، فطار الثوب مع الحجر ، حتى استقر أمام ملأ من بني إسرائيل ، فأدركه موسى ، فأخذ ثوبه ، فاستتر به ، فرأوه ولا أدرة به وهي نفخة في الخصية. (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) ذا جاه وقدر وقربة ووجاهة عنده تعالى.

(اتَّقُوا اللهَ) في ارتكاب ما يكرهه ، فضلا عما يؤذي رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) قاصدا إلى الحق (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) يوفقكم للأعمال الصالحة أو يصلحها بالقبول والإثابة عليها ويتقبلها (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أي يسترها ويكفّرها بالاستقامة في القول والعمل (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي في الأوامر والنواهي (فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) نال غاية مطلوبة ، بالعيش في الدنيا حميدا وفي الآخرة سعيدا.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أن من يؤذي الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلعن ويعذب ، مما يدل على أن إيذاءهما كفر ، أرشد المؤمنين إلى ضرورة الامتناع من إيذاء لا يؤدي إلى الكفر ، مثل عدم الرضا بقسمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفيء بين أصحابه.

أما إيذاء موسى فمختلف فيه ، قال بعضهم : هو إيذاؤهم إياه بنسبته إلى عيب في بدنه ، أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : قال لموسى قومه : إنه آدر ، فخرج ذات يوم ليغتسل ، فوضع ثيابه على حجر ، فخرجت الصخرة تشتد بثيابه ، فخرج موسى يتبعها عريانا ، حتى انتهت به إلى مجالس بني إسرائيل ، فرأوه وليس بآدر.

١٢٠