المحكم في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٢

لكنه لا يناسب ما أشرنا إليه من ظهور عدم الإشكال بينهم في الفقه في إمكان التقرب في هذا القسم.

وكأنه يبتني على ما سبق منا في حقيقة الأحكام التكليفية الشرعية من عدم انتزاعها من الإرادة والكراهة الحقيقيتين اللتين هما من سنخ المحبوبية والمبغوضية ، بل من الخطاب بداعي إضافة الفعل أو الترك للمولى الأعظم وجعله في حسابه ، بحيث يقوم به المكلّف لأجله مع جعل المسئولية في الأحكام الإلزامية ، وبدونه في غيرها من الأحكام الاقتضائية.

وبعبارة اخرى : المانع من قصد التقرب للمولى بالفعل إما كونه معصية له وتمردا عليه ، أو كونه مبغوضا له بحيث يتنفر منه ، والنهي التنزيهي لا يوجب الأول فرضا ، كما لا يستلزم الثاني على التحقيق ، بل هو محال في حقه تعالى. فلا وجه لمانعيته من التقرب بالفعل لو كان ذا ملاك صالح للمقربية.

ومنه يظهر أن ما سبق من سيدنا الأعظم قدّس سرّه من امتناع التقرب بما هو مبغوض للمولى ممنوع صغرويا ، وإن تمّ كبرويا.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في عدم مانعية الكراهة من التقرب ، بعد ما ذكرناه آنفا من ظهور مفروغية الأصحاب في الفقه عن ذلك ، حيث يكشف ذلك عن وضوح المدعى بنحو يلحقه بالبديهيات ، ويلحق وجوه المنع بالشبهات المقابلة لها التي لا تعويل عليها لو خفي وجه حلها ، فضلا عما لو اتضح ، كما سبق.

القسم الثاني : ما يتحد فيه منشأ انتزاع عنواني متعلق الأمر والنهي مع الاختلاف بالإطلاق والتقييد ، كما في الصلاة في الحمام أو في السواد وصوم يوم عاشوراء وغيرها.

ولا يخفى أن اجتماع الملاكين في المجمع كما يمكن ثبوتا مع اختلاف منشأ انتزاع العنوانين ، كذلك يمكن مع اتحاد منشأ انتزاعهما ، وإنما الفرق بينهما

٤٠١

في استفادة ذلك من الإطلاقين ، حيث ينهض الإطلاقان بإثبات الملاكين في المجمع بنظر العرف مع اختلاف منشأ انتزاع العنوانين ، ولا ينهضان بذلك مع اتحاد منشأ انتزاعهما ، بل يكونان متعارضين فيه عرفا ، ومعه لا يحرز الملاكان ، كما تتقدم.

لكن لا بد في المقام من إحراز ملاك الأمر ، لأن كراهة العبادة وعدم حرمتها تستلزم مشروعيتها وصحتها التي هي فرع ثبوت ملاكها. ومن هنا يمكن حمل الكراهة المستفادة من النهي ونحوه على أحد وجهين ..

أولهما : الكراهة الحقيقية الراجعة إلى مرجوحية الفعل. وذلك بأن يكون المجمع واجدا لملاكها مع ملاك الأمر المفروض وحينئذ إن كان الأمر بدليا لا ينحصر امتثاله بمورد الكراهة ـ كالصلاة في الحمام أو في السواد بالإضافة إلى وجوب صلاة الفريضة واستحباب صلاة النافلة المرتبة ، وصوم يوم عاشوراء بالإضافة إلى قضاء رمضان أو قضاء الصوم المطلق ـ تعين عدم التزاحم بين الحكمين ، وعموم الحكم البدلي لمورد الكراهة بناء على ما سبق منا من عدم التضاد التام بين الأمر البدلي والنهي في مثل المقام.

وإن كان الأمر بدليا ينحصر امتثاله بمورد الكراهة ـ كالصلاة المذكورة مع ضيق الوقت ، والنوافل المبتدأة في الأوقات المكروهة ، وصوم يوم عاشوراء بالإضافة إلى عموم استحباب الصوم الشمولي المقتضي لاستحباب صوم اليوم المذكور تعيينا ـ لزم التزاحم بين الحكمين ، فيكون الأمر فعليا إذا كان إلزاميا ، ولا تكون الكراهة فعلية ، فلا يتأتى توهم مانعيتها من التقرب الذي تقدم الكلام فيه. ومع عدم كون الأمر إلزاميا يتعين الترجيح بالأهمية فلو كانت الكراهة أهم لم يكن الأمر فعليا. كما هو الظاهر في مثل صوم يوم عاشوراء ، حيث يظهر من أدلة

٤٠٢

النهي عنه مرجوحيته ، بحيث يكون تركه أرجح من فعله (١) ، بل ظاهرها الحرمة لو لا المفروغية ظاهرا عن مشروعيته وإن كان تحقيق ذلك موكولا للفقه ، وهو خارج عن محل الكلام.

ولا مجال في الفرض المذكور للبناء على ثبوت الأمر الترتبي معلقا على مخالفة الكراهة ، لأن مخالفتها إنما تكون بموافقة الأمر ، فاناطة الأمر بها راجع لطلب الحاصل ، نظير ما تقدم في التنبيه الأول.

ودعوى : أن ذلك يختص بما إذا كان ملاك الأمر مترتبا على مطلق الوجود ، وأما إذا كان مترتبا على حصة خاصة من الفعل فلا محالة يكون المورد داخلا في صغرى التزاحم الذي يمكن فيه الترتب ، كما في المقام ، حيث يكون ملاك الأمر مترتبا على الفعل بما هو عبادة مقصودا به الترتب ، فلا تكون مخالفة الكراهة بالفعل كافية في موافقة الأمر ، ليلزم من فعلية الأمر حينه طلب الحاصل.

مدفوعة : بأن ذلك إنما يتم لو لم يكف الفعل لا بقصد التقرب في ترتب ملاك الكراهة ، كما في مثل التزاحم بين استحباب الصوم واستحباب إجابة المؤمن بالأكل عنده ، حيث لا يكفي في موافقة الثاني الامساك لا بنية الصوم التقربي ، وحينئذ يمكن الأمر بالصوم التقربي بنحو الترتب معلقا على عدم إجابة المؤمن ، وهو خلاف المفروض في المقام ، لوضوح أن المنهي عنه تنزيها هو العبادة بما هي عبادة ، كصوم يوم عاشوراء والصلاة في الحمام ، فلا تكون مخالفته إلا بالفعل التقربي الذي يتحقق به موافقة الأمر العبادي.

وبعبارة اخرى : الأمر في المقام دائر بين النقيضين ، إلا أنهما ليسا مطلق الفعل وتركه ، بل خصوص الفعل العبادي وتركه ، وهو كاف في امتناع أمر العبادة بنحو الترتب.

__________________

(١) راجع الوسائل ج : ٧ باب : ٢١ من أبواب الصوم المندوب.

٤٠٣

نعم ، هذا لا ينافي مشروعية الفعل العبادي بلحاظ ملاكه وإن امتنع الأمر به. ولا فرق بين المقام وسائر موارد التزاحم المعهودة ، إلا في أن التزاحم في تلك الموارد اتفاقي ، فيكون التكليف المرجوح في غير مورد المزاحمة فعليا ، وفي المقام دائمي لا يكون المرجوح فيه فعليا دائما ، مع اشتراكهما في إمكان تحصيل ملاك المرجوح ، فيمكن التقرب به بلحاظ ذلك بعد ما سبق في القسم الأول من عدم مانعية الكراهة من التقرب.

وأما الإشكال في ذلك بامتناع بلوغ الملاك المذكور مرتبة الفعلية التي يصلح معها للمقربية ، لأنه حيث يلزم من تحصيله فوت الملاك الأهم ينبغي على المولى سد باب تحصيله برفع اليد عنه بنحو لا يصلح أن ينسب إليه ويحصل لأجله ، منعا من تفويت الملاك الأهم ، ويبقى ملاكا اقتضائيا ، كما في سائر موارد التزاحم الملاكي.

فيندفع : بأن بلوغ الملاك المذكور مرتبة الفعلية وصلوحه للمقربية لا يكون بنفسه مفوتا للملاك الأهم ، وإنما المفوت له هو موافقة العبد للملاك المرجوح بفعل العبادة ، غاية الأمر أن بلوغه المرتبة المذكورة شرط في التفويت المذكور ، إذ لولاه لتعذر على العبد التقرب بالعبادة والإتيان بها ، وكان تاركا لها قهرا ، ويتعذر عليه مخالفة ملاك الأهم ، إلا أنه لا يجب على المولى تعجيز العبد عن مخالفة الأحكام وتفويت الملاكات.

ولا سيما مع أن فائدة إبقاء الملاك في مرتبة الفعلية وتشريع الفعل تبعا له تحصيل العبد لثوابه لو اختاره أو ثواب امتثال الكراهة لو قصده بالترك ، أما مع رفع اليد عنه وسقوطه عن المرتبة المذكورة ، فيلزم عجز العبد عن الفعل ووقوع الترك منه قهرا بنحو لا يستتبع الثواب عليه ، نظير ترك صوم يوم العيد.

وبالجملة : يتعين البناء على إمكان مشروعية الفعل في المقام ووقوعها تبعا للملاك المفروض بنحو يمكن التقرب به لأجله وإن لم يكن الأمر على

٤٠٤

طبقه فعليا.

ثانيهما : يبتني على كون الكراهة إضافية ، راجعة إلى نقص الفرد المرجوح بلحاظ ماهية المأمور به من حيث هي بطبعها وإن كان راجحا في نفسه.

وتوضيح ذلك : أن الماهية المأمور بها قد يكون لها بنفسها نحو من الأثر والملاك مع قطع النظر عن المشخصات والمقارنات.

أما تشخصها في بعض الأفراد والمقارنات ..

فتارة : لا يكون له دخل في الأثر المذكور.

واخرى : يكون له ميزة تقتضي نقصه.

وثالثة : يكون له ميزة تقتضي زيادته.

والأول هو الفرد العادي ، والثاني هو الفرد المكروه ، والثالث هو الفرد المستحب ، وإن كان الكل مؤديا للمقدار الداعي للتشريع الوجوبي أو الاستحبابي.

فالمكروه وإن كان راجح الوجود بلحاظ ما يحصل به من ملاك الماهية بطبعها ، إلا أنه حيث كان موجبا لنقص الملاك الذي هو مقتضي الماهية بنفسها صدق عليه المكروه بلحاظ ذلك ، وإن كان مجزئا لفرض كفاية الباقي في غرض التشريع الوجوبي أو الاستحبابي للماهية ، فهو أنقص ملاكا بالإضافة إلى الماهية بطبعها ، بالإضافة إلى الماهية بما هي مشروعة بنحو الوجوب أو الاستحباب ، بل هو مؤد لتمام الملاك المقتضي للتشريع المذكور.

ومنه يظهر أن اختلاف افراد الماهية في الفضيلة لا يصحح إطلاق المكروه على كل ما هو أنقص من غيره ، ولا صدق المستحب على كل ما هو أفضل من غيره ، بل يختص المكروه بما ينقص معه الملاك الثابت للماهية بطبعها ، والمستحب بخصوص ما يزيد معه الملاك المذكور ، كما نبه له المحقق

٤٠٥

الخراساني قدّس سرّه.

هذا ، ومن الظاهر أن الكراهة بالمعنى المذكور لا تقتضي مرجوحية الفعل ، لتنافي وجوبه أو استحبابه ، ويقع الكلام في وجه الجمع بينهما.

نعم ، الكراهة المذكورة إنما تصحح النهي الشرعي مع وجود المندوحة وإمكان تحصيل ملاك الأمر بالطبيعة في فرد لا نقص فيه ، حيث يكون الغرض منه التنبيه لاختيار الامتثال بالفرد المذكور.

أما مع عدم المندوحة وانحصار الامتثال بالفرد الناقص فلا يصح النهي عنه ، إذ ينحصر به حصول ما يمكن تحصيله من الملاك الراجح التحصيل.

ومن هنا لا مجال لتنزيل كراهة مثل صوم يوم عاشوراء على الوجه المذكور ، لعدم اختصاصها بمثل صوم القضاء مما يمكن امتثاله في غير اليوم المذكور ، بل يعم مثل صوم التطوع الاستغراقي الراجع لاستحباب صوم كل يوم ، لملاكه القائم به ، ولا يفي به غيره. فتخص الكراهة في مثله بالوجه الأول.

بقي شيء ، وهو أنه يظهر من جميع ما تقدم الحال في استحباب حقيقيا ، ومع اتحاد منشأ انتزاعهما والاختلاف في القيود قد يكون الاستحباب بعض أفراد الماهية المشروعة وجوبا أو استحبابا وأنه مع اختلاف منشأ انتزاع العنوانين يكون الاستحباب حقيقيا ناشئا عن ملاك مباين لملاك أصل الماهية ، أو عن ملاك مسانخ لملاكها ، نظير ما تقدم في الكراهة الاضافية. وعلى جميع التقادير يلزم تأكد تأكد الرجحان في المجمع لواجديته لكلا الملاكين.

وما يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه من كونه موجبا لتأكد الوجوب لو كان أمر الماهية وجوبيا. في غير محله ، ضرورة أن تأكد الوجوب إنما يكون بتأكد الإلزام الذي لا مجال له في المقام بعد فرض كون الجهة التي يمتاز بها الجمع إنما تقتضي استحبابه ، لا وجوبه.

٤٠٦

التنبيه الثالث : بعد فرض اجتماع ملاكي الأمر والنهي في المجمع فقد تقدم لزوم تقديم النهي عملا ، لأن مفروض كلامهم وجود المندوحة في امتثال الأمر وإمكان امتثاله بغير مورد الاجتماع ، فلا يكون تعيينيا في مورد الاجتماع ، ليصلح لمزاحمة النهي التعييني.

كما تقدم في التنبيه الأول أنه مع عدم المندوحة وانحصار امتثال الأمر بمورد الاجتماع يلحق المورد بالتزاحم الذي يتعين فيه تقديم الأهم تبعا لأهمية ملاكه.

وحينئذ لو فرض تقديم النهي في المجمع لوجود المندوحة ، أو لأهميته مع عدمها ، إلا أن المكلف اضطر لارتكاب أحدا أفراد الماهية المحرمة التي منها المجمع ، فلا إشكال في سقوط النهي عن الفعلية في تمام أفراد الماهية ، ومنها المجمع ، بنحو البدلية ، مطلقا ولو كان الاضطرار بسوء الاختيار ، لما تقدم من امتناع التكليف في فرض تعذر امتثاله ، لانحصار الغرض منه بإحداث الداعي العقلي المشروط بالقدرة.

وحينئذ يلزم البناء على وجوب المجمع ، أما في فرض وجود المندوحة في امتثال الأمر مع البناء على عدم التضاد بين الوجوب البدلي والتحريم ـ كما تقدم منا ـ فظاهر ، لفرض عموم الوجوب للمجمع قبل سقوط النهي ، فبقاؤه بعد ارتفاعه أولى.

وأما بناء على التضاد بينهما أو فرض عدم المندوحة المستلزم لسقوط الأمر حال فعلية النهي ، فلأنه بعد فرض عدم تأثير ملاك النهي بسبب الاضطرار يتعين تأثير ملاك الأمر وفعليته.

لكن استشكل في ذلك سيدنا الأعظم قدّس سرّه قال : «لأن الفعل يكون مرجوحا حينئذ ، ولا يجوز الأمر بما هو مرجوح ، والاضطرار لا يوجب رجحان الوجود على العدم ، كي يكون الفعل راجحا ولو بالعرض نعم يكون واجبا عقلا لا شرعا ،

٤٠٧

نظير ارتكاب أقل القبيحين».

وفيه : أنه بعد فرض الاضطرار لارتكاب المرجوح وعدم صلوح ملاكه المرجح له للمنع ، فلا أثر له في مزاحمة ملاك الوجوب ، وإن كان هو أقوى منه بدوا.

وبعبارة اخرى : في ظرف لزوم فوت ملاك النهي بسبب الاضطرار يكون اختيار المجمع أرجح من عدمه لأن تركه يستلزم فوت كلا الملاكين وفعله يستلزم تحصيل أحدهما ، وهو أرجح من فوتهما معا ، فمرجوحيته في نفسه لا ينافي رجحانه عرضا في حال الاضطرار المفروض ، فيلزم الأمر به شرعا في الحال المذكور. ولو لا ذلك لم يكن وجه للوجوب العقلي الذي ادعاه قدّس سرّه ، لعدم الفرق بين حكمي العقل والشرع في لزوم مراعاة الرجحان المذكور.

ودعوى : كفاية الحكم العقلي المذكور عن حكم الشارع في حفظ الملاك ، ومعه لا فائدة في حكم الشارع.

مدفوعة : بأن حفظ الملاك بالتشريع مختص بالشارع وليس للعقل إلا الحكم في مرتبة متأخرة عنه بلزوم متابعته وإطاعته ، ولو لا ذلك لزم اكتفاء الشارع الأقدس ببيان الملاكات عن جعل الأحكام على طبقها.

واختصاص العقل بالحكم باختيار أقل القبيحين إنما يكون مع قيام الشارع بوظيفته في حفظ الملاك بالتشريع ، كما لو أراد المكلّف لداع شهوي أو نحوه مخالفة أحد تكليفين للشارع مختلفي الأهمية ، فإن العقل يحكم بأولوية موافقة الأهم فيهما.

هذا ، ويظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه امتناع الأمر مع كون الاضطرار بسوء الاختيار ، لا لقصور في الملاك ، بل لوجود المانع ، وهو كون الفعل معصية ومبغوضا ومستحقا عليه العقاب ، لدعوى منافاة ذلك للأمر به ، الذي هو فرع محبوبيته ومستلزم لكونه طاعة مستحقا عليه الثواب ، وهذا هو الفارق بين

٤٠٨

الاضطرار المذكور والاضطرار لا بسوء الاختيار.

ويندفع : بأن مبغوضية الماهية من حيثية تفويت الملاك الأهم لا تنافي محبوبية خصوص المجمع بعد لزوم فوت الملاك المذكور ـ بسبب الاضطرار ـ لأجل تحصيل الملاك المهم ، فهو بعد الاضطرار محبوب فعلا وإن كان مبغوضا اقتضاء. ولا فرق بين الاضطرارين بالإضافة للملاك الذي هو المعيار في المحبوبية والمبغوضية والأمر والنهي.

بل تقدم أن التكاليف الشرعية لا تتقوم بالمحبوبية والمبغوضية بل بالخطاب بداعي جعل السبيل التابع لحال الملاك الذي لا يفرق فيه بين الاضطرارين ، وإنما الفرق بينهما في المؤاخذة على الحرام بسوء الاختيار ، وعدمها إذا لم يكن كذلك.

ولا دخل لذلك في إمكان الأمر ، إذا لا تبتني المؤاخذة على الحرام إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار على كون الفعل بنفسه حين وقوعه معصية فعلية ، لفرض سقوط النهي ، بل على الاضطرار مصححا للعقاب عليه في وقته بلحاظ تفويت ملاك الحرمة به ، وهو لا ينافي الأمر به تبعا للملاك الآخر بعد فرض لزوم فوت ملاك الحرمة على كل حال بسبب الاضطرار ، فيقع امتثالا للأمر بعد فعليته ، وإن كان الاضطرار منشأ للعقاب عليه ، لاستناد تفويت ملاك النهي إليه.

وأما كونه معصية للنهي فإنما هو بمعنى منجزية النهي عنه حين الاضطرار بحيث يقتضي المنع عن الوقوع في الاضطرار ويعاقب بسببه بمقدار ما يقع من الحرام ، لا بمعنى كونه معصية وتمردا حين وقوعه بعد الاضطرار وبعد سقوط النهي ، ليمنع من الأمر به ووقوعه طاعة للأمر المذكور.

وبالجملة : ظرف القبح الفاعلي الذي هو مورد المنع العقلي ويمتنع معه الأمر هو ظرف القيام بسبب الاضطرار ، لا ظرف الفعل بعده ، وإن كان مورد القبح الفعلي هو ظرف الفعل بعد الوقوع في الاضطرار ، وهو لا يمنع من الأمر به بعد

٤٠٩

كونه سببا لتحصيل ما يمكن تحصيله من الملاك ، حيث يوجب حسنه فعلا من دون أن يمنع منه قبحه الأولي ، حيث لا يؤثر في المنع بعد لابدية حصوله بسبب الاضطرار. فلاحظ.

ونظير ذلك ما لو لاحظ المولى ملاكا فجعل التكليف لحفظه ، فألجأه المكلف لرفع اليد عنه مع بقاء ملاكه بإحداث الملاك المزاحم الأهم ، حيث يكون إحداث الملاك المذكور بمنزلة التعجيز عن التكليف الأول في استحقاق عقاب مخالفته كالمعصية له ، وإن كان امتثال التكليف الحادث على طبق الملاك الأهم لازما ، لفعليته.

كما لو أوجب المولى حفظ الماء ، فأراد المكلف إلجاءه للتكليف بصرفه بفعل ما يوجب عطش من يهتم المولى بحفظه ، فأمره بصرف الماء في رفع عطشه ، فإنه يستحق بفعل ما يوجب العطش عقاب صرف الماء ، وإن وجب عليه بعد حصول العطش.

ودعوى : أن العقاب في ذلك على إحداث الملاك الأهم ، كفعل ما يوجب العطش ، لا على صرف الماء المأمور به بعد العطش.

مدفوعة : بأن إحداث الملاك الأهم كالاضطرار في المقام ، وإن كان هو المنشأ في استحقاق العقاب ، إلا أن العقاب بلحاظ الملاك الفائت ، ولذا يكون العقاب تابعا له كثرة وقلة ، فكلما كان الماء المحتاج لصرفه أكثر كان العقاب أكثر. وإن أبيت فيه إلا عن ذلك جرى مثله في المقام ، لأنهما من باب واحد.

وبالجملة : المقامان من باب واحد والرجوع للمرتكزات العقلائية في الملاكات وما يستتبعها من جعل الأحكام والطاعة والمعصية والانقياد والتمرد والثواب والعقاب يشهد بامكان الأمر بالمجمع ، بل لزومه بلحاظ ملاكه ، وإن كان المكلف مستحقا للعقاب بلحاظ فوت ملاك النهي عنه بسبب الاضطرار بسوء الاختيار ، وأن تبدل حكم الفعل والأمر به حين القيام به إنما ينافي العقاب عليه

٤١٠

إذا لم يستند للمكلف تفويت ملاك النهي السابق ، وإلا لم ينافه ، لعدم رجوع استحقاق العقاب للوعيد المستتبع للداعي العقلي المنافي لمقتضى الأمر ، بل هو أمر واقعي لا أثر له في مقام العمل.

نعم ، متابعة الأمر اللاحق في المقام توجب نحوا من الثواب أو تخفيف العقاب السابق ، نظير ما تقدم في الأمر الترتبي بالضد ، وإن كان بين المقامين فرق من جهات متعددة. فلاحظ.

ومما ذكرنا يتضح أنه يمكن التقرب في فرض الاضطرار للحرام ، لأن المانع منه ليس إلا فعلية الحرمة ، فمع فرض عدم فعليتها وسقوطها بالاضطرار لا مانع منه.

بل فرض فعلية الأمر يستلزم إمكان التقرب ، إذ لا معنى لفعلية الأمر مع عدم التقرب بامتثاله. ومجرد واجديته لملاك الحرمة لا يصلح للمنع من التقرب بعد فرض سقوط الملاك المذكور عن تأثير الحرمة ، وعدم صلوحه لمزاحمة ملاك الأمر والمنع منه.

كما لا يمنع من ذلك كون الاضطرار بسوء الاختيار ، لأن التمرد الذي يمتنع معه التقرب إنما يكون بفعل سبب الاضطرار ، لا بنفس فعل الحرام بعد سقوط حرمته بتحقق سبب الاضطرار. والعقاب عليه ليس لكونه بنفسه تمردا ، بل بمعنى عدم معذرية الاضطرار في الإتيان به.

نعم ، لا بد مع ذلك من الالتفات إلى سقوط الحرمة بسبب الاضطرار ، بحيث يكون الارتكاب لأجله ، لا لعدم الاهتمام بمخالفة المولى والتمرد عليه مع قطع النظر عنه ، لأن سقوط الحرمة مع الاضطرار ليس لارتفاع موضوعها ، بل لكونه عرفا من سنخ العذر المانع من العقاب ، كالحرج والجهل.

وصلوح الأعذار لرفع المسئولية ارتكازا ، بحيث لا تكون المخالفة تمردا ، فرع الاعتماد عليها في مخالفة التكليف للأولى بنحو لا يقدم المكلف

٤١١

عليها لولاها ، ولا يكفي تحققها واقعا مع عدم اهتمام المكلف بها وكونه بحيث يخالف المولى على كل حال ، لعدم اهتمامه بمخالفته والتمرد عليه ، وإلا وقعت تمردا وكانت مانعة من التقرب وإن لم يكن التكليف بها فعليا ، بل وإن وقعت موردا للأمر ، كما في المقام ، لأن التقرب بالأمر فرع الانقياد للمولى ، فلا يقع ممن هو بفعله في مقام التمرد عليه والاستهانة به.

وبالجملة : إذا التفت المكلف إلى سقوط الحرمة عن المجمع بسبب الاضطرار وفعلية الوجوب له ، وكان داعيه إلى الفعل هو الوجوب المذكور ، والانقياد للمولى بموافقته ، تم منه التقرب المعتبر في العبادة وصحت منه ، وإن كان معاقبا بلحاظ حصول سبب الاضطرار بسوء اختياره على المولى بفعل السبب المذكور.

وأظهر من ذلك ما لو حصلت التوبة الماحية للذنب ، بأن ندم المكلف على ما كان منه وأقلع عنه وعزم على عدم الرجوع اليه ، حيث لا فرق بين الاضطرار حينئذ والاضطرار بسوء الاختيار في إمكان التقرب بالأمر بلا إشكال.

وعليه يبتني تفصيل سيدنا الأعظم قدّس سرّه في مستمسكه في صحة الصلاة بين التوبة وغيرها قال : «ويظهر من الجواهر أن التوبة إنما يترتب عليها الأثر إذا كانت بعد الفعل لا قبله. ولكنه غير ظاهر في مثل الغرض ، أعني ما لو فعل ما هو علة تامة في الوقوع في المعصية».

وما ذكره قدّس سرّه في محلّه ، بل حتى لو تم ما في الجواهر ، وغض النظر عما تقدم ـ من أن منشأ استحقاق للعقاب هو إيقاع النفس في الاضطرار السابق على التوبة ـ فهو مختص بأثر التوبة الراجع للشارع الأقدس ، وهو رفع العقاب دون مثل التقرب من الآثار التكوينية النفسية الوجدانية ، حيث لا إشكال في إمكانه مع التوبة في الفرض ، لارتفاع حالة التمرد المانعة منه معها ، وإن لم تكن التوبة مسقطة للعقاب في الفرض أو مطلقا. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم.

٤١٢

ولنكتف بما ذكرنا في الكلام في الاضطرار ، حيث يمكن الاستغناء بملاحظة عن الكلام في ما أطالوا فيه الكلام من حكم الخروج من الأرض المغصوبة لمن دخلها بسوء اختياره ، لأن المهم من ذلك هو إمكان التقرب بالعبادة المبنية على التصرف في الغصب حال الخروج ، الذي يظهر حاله مما ذكرناه هنا. وأما نفس حكم الخروج فلا أهمية للكلام فيه بعد المفروغية عن لزومه عقلا ، ولو لتجنب أشد المحذورين. وبذلك ينتهي الكلام في مسألة اجتماع الأمر والنهي.

والحمد لله رب العالمين.

٤١٣
٤١٤

٤١٥
٤١٦

الفصل السّادس

في اقتضاء النهي الفساد

إن عدّ هذه المسألة من مسائل الملازمات العقلية يبتني على ما هو الظاهر منهم من عدم الفرق في محل الكلام بين استفادة النهي من دليل لفظي واستفادته من غيره ، حيث يظهر من ذلك أن موضوع البحث هو الملازمة ثبوتا بين النهي والفساد ، لا إلى ظهور دليل النهي في الفساد إثباتا.

نعم قد ينافي ذلك ذهاب بعضهم ـ كما قيل ـ إلى دلالة النهي على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة بينه وبين الحرمة فيها.

قال سيدنا الأعظم قدّس سرّه : «فلو كان البحث في المقام عن الملازمة التي لا مساس لها باللفظ لا عن الدلالة التي هي من أحواله ، كان اللازم عدّ القول المذكور من القول بالنفي ، لا قولا بالإثبات ، كما صنعوا».

ومن ثم قد يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه عدّ البحث في المسألة من مباحث الألفاظ الراجعة لمقام الدلالة.

لكن لا مجال لرفع اليد عما سبق بعد عدم أهمية القول المذكور ، وقرب كون منشئه دعوى الملازمة الشرعية لظهور بعض النصوص في ذلك ، ولذا يبعد منه تخصيصه بما إذا استفيد النهي من دليل لفظي ، فيخرج عن مباحث الألفاظ.

ومن هنا كان الأولى إدخال المسألة في الملازمات العقلية ، وعدّ القول المذكور قولا بالنفي ، فإنه أجمع لشتات البحث ، وأولى بنظمه.

إذا عرفت هذا فاعلم : أن محل كلامهم العبادات والمعاملات وقد تقدم

٤١٧

في المسألة الخامسة من مباحث الأحكام الوضعية أن الصحة والفساد في العمل منتزعان من التمامية وعدمها بلحاظ ترتب الغرض المهم عليه ، فما يترتب عليه الغرض المهم هو الصحيح وما لم يترتب عليه هو الفاسد.

وحيث كان الغرض العملي المهم من فعل العبادة هو الإجزاء والخروج عن مقتضى الأمر بها كان المبحوث عنه في المقام منافاة النهي عنها لترتبه.

وجعل المعيار في الصحة أمرا آخر كموافقة الأمر أو الشريعة تطويل لا يترتب عليه أثر في مقام العمل.

كما أنه حيث كان الغرض من المعاملة ـ عقدا كانت أو إيقاعا ـ هو ترتب مضمونها شرعا كان المبحوث عنه في المقام منافاة النهي عنها لترتبه.

وحيث كان منشأ المنافاة في كل منهما مباينا لمنشئه في الآخر فاللازم البحث في مقامين ..

٤١٨

المقام الأول

في العبادات

وقد يقرب اقتضاء النهي عنها فسادها بمنافاة النهي للأمر بها ، الذي لا بد منه في مشروعية العبادة وصحتها.

وهو يبتني على ما تقدم في مسألة اجتماع الأمر والنهي من التضاد بين الأحكام ، وقد تقدم الكلام في شمولاه لما إذا كان الأمر بدليا مع وجود المندوحة وإمكان امتثاله بغير مورد النهي.

مع أن المفروض في محل الكلام إن كان هو إحراز ملاك الأمر في مورد النهي ، بدليل خاص ، أو تبعا للضابط المتقدم في تلك المسألة فمن الظاهر أنه يكفي في صحة العبادة وغيرها مما يقع موردا للأمر ويهتم بإجزائه واجديته للملاك ولو مع سقوط الأمر.

وإن كان المفروض عدم إحراز ملاك الأمر في مورد النهي ، للدليل الخاص على عدم ثبوته ، أو تبعا للضابط المتقدم فمنشأ الفساد ثبوتا ليس هو النهي ، بل فقد الملاك المذكور. غايته أن دليل النهي قد يمنع من إحراز ملاك الأمر من إطلاق دليله ، وهو أمر آخر غير اقتضاء النهي الفساد.

هذا ، مضافا إلى أن الوجه المذكور لا يختص بالعبادة ، بل يجري في كل مأمور به وإن كان توصليا ، كتطهير المسجد وتكفين الميت والانفاق على الزوجة وغيرها ، لوضوح أنه لا مجال لإجزاء ما لا يشمله الأمر ولا يكون واجدا لملاكه ، مع أن ظاهر أخذهم العبادة في موضوع الكلام خصوصيتها في اقتضاء النهي

٤١٩

الفساد.

ومن هنا كان الظاهر أن نظرهم في دعوى اقتضاء النهي الفساد إلى مانعية النهي الفعلي من التقرب ولو مع إحراز الملاك أو عموم الأمر لدعوى إمكان اجتماع الأمر والنهي مع تعدد العنوان ـ كما تقدم من بعضهم ـ أو لدعوى عدم التضاد التام بين النهي والأمر البدلي مع المندوحة ـ كما تقدم منا ـ وقد تقدم توضيح ذلك في مسألة اجتماع الأمر والنهي. فراجع.

ويترتب على ذلك امور ..

الأول : اختصاص اقتضاء النهي الفساد في محل الكلام بما إذا كان النهي معلوما أو محرزا بدليل شرعي أو عقلي ، أو منجزا عملا بأصل كذلك ، أما مع الجهل المعذر أو الغافلة عنه أو عن وجوب الاحتياط ولو كانت عن تقصير فلا يكون مانعا من التقرب وجدانا.

نعم قد يدعى عدم كفاية التقرب المذكور مع التقصير المصحح للعقاب ، وهو خارج عن محل الكلام راجع إلى تحديد التقرب المعتبر في العبادة ، وهو بالفقه أنسب.

وهذا بخلاف ما لو كان مبنى المسألة هو الوجه الأول ، لوضوح أن التنافي بين الأمر والنهي لو تم لا يختص بصورة الالتفات إليهما.

الثاني : أن اقتضاء الفساد لا يختص بالنهي الواقعي ، بل يجري في اعتقاده خطأ وإحرازه بدليل شرعي أو عقلي أو تنجزه بأصل كذلك ، ولو مع عدم وجوده واقعا ، لاشتراك الجميع في جعل المكلف حين الفعل في مقام التمرد به المنافي للتقرب به.

وهذا بخلاف ما لو كان مبنى المسألة هو الوجه الأول ، لوضوح اختصاص المنافي للأمر بالنهي الواقعي.

الثالث : اختصاص الاقتضاء بالنهي التحريمي دون التنزيهي ، لما تقدم

٤٢٠