المحكم في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٢

موضوعه فلا محذور في التعجيز قبل الوقت ، حيث لا يتحقق معه موضوع التكليف ويكون مانعا من تمامية ملاكه وغرضه ، فلا يلزم من التعجيز عنه تفويت ملاك فعلي.

بل قد يجوز التعجيز في الوقت ، كما لو كان العجز فيه موجبا لارتفاع الموضوع والملاك بعد ثبوتهما ، حيث لا يقبح عقلا رفع موضوع التكليف وملاكه ، كما لو سافر الصائم فساغ له الإفطار ، وإنما القبيح تفويت الملاك مع فعليته وتمامية الموضوع ، وهو غير لازم في الفرض.

ومن هنا يجوز تعجيز المكلف نفسه عن الحج قبل ملك الزاد والراحلة ، وعن التصرف بالمال الزكوي قبل حلول الحول.

وعليه يبتني ما تضمن من النصوص جواز إجناب المكلّف نفسه مع عدم الماء على كلام لا يسعنا استقصاؤه ، بل هو موكول للفقه. فلا مجال لتوهم منافاة ذلك لما ذكرناه هنا في توجيه وجوب المقدمات المفوتة مطلقا.

خاتمة

ذكرنا في أول الفصل أن موضوع المسألة في تحرير الاصوليين لها هو مقدمة الواجب ، وأنه يظهر من مطاوي كلماتهم في الفقه والأصول المفروغية عن عموم جهات الكلام فيها المقدمة المستحب.

وأما مقدمة الحرام والمكروه فالظاهر مشاركتها لمقدمة الواجب والمستحب في بعض جهات الكلام المتقدمة.

وتوضيح ذلك : أن الظاهر مشاركة مقدمة الحرام والمكروه لمقدمة الواجب والمستحب في حدوث الداعي للترك ، فكما يكون حدوث الداعي لفعل الشيء مستتبعا لحدوث الداعي المسانخ له لفعل مقدمته كذلك يكون حدوث الداعي لترك الشيء مستتبعا لحدوث الداعي المسانخ له لترك مقدمته.

٣٠١

ويتفرع على ذلك الكلام في جهات ثلاث تقدّم الكلام في نظيرها ..

الاولى : الملازمة بين حرمة الشيء شرعا أو حرمة كراهته لحرمة مقدمة أو كراهتها. والظاهر ابتناؤها على ما تقدم في مقدمة الواجب ، فإذا كانت الداعوية التبعية لفعل مقدمة الواجب والمستحب منشأ لمطلوبيتها شرعا تبعا لمطلوبية ذيها فالداعوية التبعية لترك مقدمة الحرام مستلزمة للنهي عنها شرعا تبعا للنهي عن ذيها ، لعدم الفرق بينهما في الكلام المتقدم.

الثانية : تحديد المقدمة التي هي مورد الداعوية المذكورة. وقد تقدم في مقدمة الواجب أنها خصوص العلة التامة ، وأن مقتضى ذلك وجوب كل جزء من أجزائها بوجوب ضمني ارتباطي ، ومرجعه إلى اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة ، إما بقيد الإيصال أو بذاتها.

وأما هنا فحيث فرض أن الداعي الأصلى يقتضي ترك الشيء ، وكان وجوده مستندا للعلة التامة كان الدعي المذكور مستتبعا لحدوث الداعي لعدم تمامية العلة. ومرجعه إلى اقتضاء الداعي ترك كل جزء من أجزاء العلة على البدل ، كما نبه له سيدنا الأعظم قدّس سرّه في الجملة.

وبعبارة اخرى : تعلق الأمر والنهي بالمركب تابع لنحو تعلق الغرض به وترتبه عليه ، فحيث كان الغرض الداعي لمطلوبية العلة التامة للمطلوب موقوفا على وجود تمام أجزائها تعين مطلوبية الأجزاء بنحو المجموع ، وحيث كان الغرض الداعي لمطلوبية العلة التامة للمطلوب موقوفا على عدم تماميتها بنحو يكفي في ترتبه عدم وجود بعض أجزائها على البدل تعين مبغوضية أجزائها بالنحو المذكور ، لا بنحو المجموعية.

وحينئذ فمقتضى البدلية المذكورة عدم مخالفة الداعي التبعي المذكور إلا بفعل ما ينحصر بتركه عدم تمامية العلة ، وهو آخر أجزائها لو كانت تدريجية أو ما قبل الآخر إذا كان الآخر قهري الحصول ، فلا يكون التمرد والمخالفة إلا بفعل

٣٠٢

الجزء المذكور.

نظير مخالفة الأمر الموسع التي لا تتحقق إلا بترك آخر الأفراد الطولية الممكنة ، دون الأفراد الأول ، فلا يكون المكلف متمردا ومخالفا للتكليف بتركه للواجب الموسع إلا بمضي آخر زمان يمكن فيه فعل الواجب ، من دون أن يكون مخالفا له بتركه فيما سبق عليه ، وإن كان ناويا الترك من أول الأمر.

غاية الأمر أن القصد المذكور موجب للقبح الفاعلي في حقه ، وهو أمر آخر لا يرجع إلى فعلية المخالفة بالفعل أو الترك.

نعم ، لو كان الإتيان بالجزء الأول لعلة الحرام بقصد التوصل للحرام فالظاهر تحقق التمرد به بملاك التجري ، لا بملاك المخالفة.

وأما لو أتى به لا بقصد التوصل للحرام فلا تمرد به ولا تجري أيضا ، ولو مع العلم بترتب الحرام عليه بالاختيار للعزم على فعل الحرام بعد تمامية مقدماته ، وإنما يكون العزم المذكور موجبا للقبح الفاعلي دون الفعلي ، وهو أمر آخر.

ومما ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه في المقام من حرمة المقدمة الموصلة في ظرف الإيصال ـ لا بقيده ـ مطلقا ولو مع عدم قصد التوصل بها للحرام ، نظير ثبوت الوجوب لمقدمة الواجب.

فإنه يبتني على حرمة تمام أجزاء العلة في ظرف تماميتها ولو تدريجا. وهو في غير محله ، لأنه حيث كان يكفي في عدم تحقق المبغوض عدم أي جزء من أجزاء علته بدلا فلا وجه لمبغوضية تمامها في ظرف اجتماعها ، كما تقدم توضيحه.

نعم ، لو فرض وجودها دفعة تعين استناد المخالفة والعصيان للكل ، لعدم المرجح بينها بعد صلوح كل منها لانطباق الوجود البدلي عليه ، لا لمبغوضية الكل بنحو المجموع ، نظير ترك تمام الأفراد العرضية للواجب البدلي ، فإنه إنما

٣٠٣

يقتضي المخالفة بترك الكل لعدم المرجح بينها في استناد ترك الوجود البدلي المطلوب إليه ، لا لإرادة الكل بنحو المجموع.

وتظهر الثمرة لذلك (١) في مثل ما لو توضأ المكلف في حوض مباح ناويا أو عالما بفتح طريق جريان الماء منه بعد إكمال الوضوء للأرض المغصوبة فعلى القول بحرمة المقدمة الموصلة مطلقا يتعين بطلان الوضوء لكونه مقدمة إعدادية موصلة للحرام المفروض تحقق بقية أجزاء علته فيما بعد ، فيكون تمردا ومخالفة للحرمة ويمتنع التقرب به ، وعلى ما ذكرنا يصح الوضوء ، لعدم التمرد والمخالفة إلا بفعل الجزء الأخير من علة الحرام ، وهو فتح الطريق من الحوض للأرض المغصوبة ، وإنما يبطل الوضوء إذا كان هو آخر أجزاء العلة ، لانفتاح الطريق من أول الأمر.

وإلى ما ذكرنا يرجع ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في المقام ، حيث خصا الحرمة بالمقدمة التي يمتنع معها ترك الحرام.

الثالثة : تحديد الداعوية نحو المقدمة.

والظاهر أنه يجري هنا ما تقدم في مقدمة الواجب من تبعية حكم المقدمة لحكم ذيها في الإطلاق والاشتراط ، وأن المنع قبل وقت الحرام من مقدمته التي ينحصر تركه في وقته بتركها قبل وقته يبتني على ما تقدم في المقدمات المفوتة ، من دون فرق بين المقامين ، كما يظهر بالتأمل في الوجوه السابقة.

وبهذا ينتهي الكلام في مقدمة الواجب. والحمد لله رب العالمين ، ومنه نستمد العون والتوفيق ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

__________________

(١) لا تظهر الثمرة المذكورة في فعل مقدمة المكروه ، لأن فعل المكروه ليس تمردا مانعا من التقرب المعتبر في العبادة ، على ما يأتي توضيحه في مبحث اجتماع الأمر والنهي عند الكلام في العبادات المكروهة إن شاء الله تعالى.

٣٠٤

٣٠٥
٣٠٦

الفصل الرابع

في مسألة الضد

قد وقع الكلام بينهم في أن الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أو لا؟.

ومرادهم بالضد كل ما ينافي المأمور به ، بحيث لا يمكن اقترانهما في الخارج ، سواء كان عدميا ، وهو ترك المأمور به ، الذي يعبر عنه في كلماتهم ب (الضد العام) ، أو وجوديا ، وهو الذي يعبر عنه ب (الضد الخاص) ، كالصلاة الذي يتعذر معه إزالة النجاسة عن المسجد ، سواء اريد به كل واحد من الأضداد الخاصّة أم الجامع بينها ، الذي قيل انه قد يعبر عنه بالضد العام أيضا.

والمراد باقتضائه له مطلق لا بديته معه ، سواء رجع إلى عينية الأمر بالشيء مع النهي عن ضده أم إلى جزئيته له ـ كما قد يدعى في الضد العام ـ أم إلى ملازمته له لمقدمية ترك الضد لفعل المأمور به أو بدونها ، كما يظهر بالنظر في مجموع كلماتهم.

وبلحاظ الأخير صح لنا عقد المسألة في مباحث الملازمات العقلية ، لأنه هو المهم من جهات الكلام في المسألة.

وما يظهر من بعض كلماتهم من التعرض للدلالة اللفظية لا يوجب جعل المسألة من مباحث الألفاظ ، لما هو المعلوم من عدم اختصاص محل الكلام بما إذا كان الأمر مستفادا من اللفظ ، بل ليس ذلك منهم إلا لاستكمال البحث في المسألة واستيفاء الاحتمالات فيها مع كون المهم هو الملازمة التي قد تكون هي

٣٠٧

المنشأ للكلام في الدلالة اللفظية الالتزامية.

هذا ، وينبغي التمهيد لمحل الكلام بأمرين ..

الأول : أن محل الكلام في المقام الضد المستلزم لمعصية الأمر ، لكون الأمر مضيقا يقتضي صرف القدرة الفعلية لامتثاله وينافيه صرفها في ضده ، دون الموسع الذي لا يقتضي إلا صرف القدرة في بعض الوقت إليه من دون أن ينافيه صرف القدرة في بعضه الآخر إليه. ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام في توجيهه.

الثاني : حيث كانت نتيجة المسألة متضمنة لحكم الضد شرعا صح منهم عدها من مسائل الاصول بناء على المعيار المتقدم للمسألة الاصولية ، إلا أن من الظاهر أن الحرمة المدعاة للضد ليست بنفسها موردا للأثر العقلي من العقاب بالمخالفة والثواب بالموافقة. حيث لا إشكال ظاهرا في أنها في طول الأمر بالضد في الغرض والطاعة والمعصية.

ولذا لا يظن من أحد البناء على استحقاق فاعل المأمور به وتارك ضده لثوابين ولا استحقاق تارك المأمور به وفاعل ضده لعقابين ، ولذا لا تكون النتيجة المذكورة مهمة في مقام العمل ، نظير ما تقدم في مسألة مقدمة الواجب.

فالظاهر أن ثمرة المسألة العملية عندهم ـ كما صرح به بعضهم ـ هو امتناع التعبد بالضد والتقرب به ، فيبطل لو كان عبادة ، بناء على ما يأتي في الفصل السادس إن شاء الله تعالى من اقتضاء النهي في العبادة الفساد.

لكن الثمرة المذكورة لا تتوقف على حرمة الضد شرعا ، بل يكفي فيها كونه تمردا على المولى ولو لم يكن محرما شرعا ، كما يتضح فرضه في ما يأتي.

ومن هنا لا يكون بحثهم في المسألة عن حرمة الضد مناسبا للثمرة التي حررت لأجلها. ولعل لذلك دخلا في اضطراب بعض كلماتهم في المقام ، فكان نظر القدماء في إثبات اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده في بعض الموارد

٣٠٨

الى كون فعل الضد تمردا على المولى ومخالفة لأمره ، لاختلاط ذلك عليهم بالنهي عن الضد ، ونظر المتأخرين في نفي الاقتضاء في ذلك إلى تحقيق مفهوم الأمر والنهي والتدقيق في مفادهما ومقتضاهما مع إغفال حال الثمرة التي ذكرناها ، وعمد التنبيه إلى أن نفي الاقتضاء لا ينافي ترتبها.

ومن هنا كان المناسب لنا في هذا البحث الجمع بين الأمرين بالبحث عن اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده وعدمه لمتابعتهم في تحرير محل النزاع ، وعن ترتب الثمرة المذكورة ، لكونه الغرض المهم من النزاع.

بقي في المقام شيء ، وهو أنه لا بد في ترتب الثمرة المذكورة من أمرين :

أحدهما : تمامية ملاك الأمر بالعبادة مع الأمر بالضد ، ليمكن صحتها في نفسها ـ لو لا التمرد على المولى اللازم منها ـ بالتقرب بقصد أمرها الأصلي أو الترتبي ـ على القول به ـ أو قصد الملاك المذكور ـ أما لو استلزم فقدها للملاك وخروجها عن الطبيعة المأمور بها ذاتا فبطلانها لعدم المقتضي لا للمانع وهو كونها ضدا للمأمور به.

وتمييز أحد الأمرين يبتني على ما يذكر في مبحث التزاحم ويأتي بعض الكلام فيه في مسألة اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى.

ثانيهما : التفات المكلف للجهة الموجبة لكون الفعل تمردا على المولى ، بل يكفي اعتقاده بذلك خطأ ، أما مع الغافلة عنها فلا يمتنع التقرب بالعمل ولو مع وجودها واقعا ، كما هو ظاهر.

إذا عرفت هذا فالكلام في تحرير محل النزاع ومورد الثمرة المذكورة يكون في ضمن امور ..

الأمر الأول : سبق منا في مقدمة المقصد الثاني في الأوامر والنواهي من مباحث الألفاظ أن الأمر والنهي متقابلان مفهوما واقتضاء ، فالأمر بالشيء نحو إضافة تقتضي فعله ، والنهي نحو إضافة تقتضي تركه ، كما أنه تقدم في مقدمة

٣٠٩

الأصول عند الكلام في الفرق بين الحكم الإلزامي والاقتضائي غير الإلزامي أن كلا من الحكمين بسيط له منشأ انتزاع خاص به ، ولا تركيب في أحدهما.

ومن هنا لا مجال لدعوى : أن الأمر بالشيء ـ إذا كان إلزاميا ـ مركب من طلبه مع النهي عن تركه ، بحيث يكون النهي المولوي عن ترك الشيء ـ الذي سبق عنهم التعبير عنه بالضد العام ـ جزءاً من الأمر به ، فضلا عن أن يكون عينه ، كما قد يدعى في المقام.

نعم ، اقتضاء الأمر بالشيء لفعله مستلزم لاقتضائه عدم تركه ، للتلازم بينهما ، والمقتضي لأحد المتلازمين مقتض للآخر. ومرجع ذلك إلى أن عدم الترك مما يقتضيه الأمر في مقام الامتثال ويدعو إليه عقلا ، لا أن الترك مورد لنهي متحد مع الأمر بالشيء أو جزء منه ، ولذا لا يفرق في الاقتضاء المذكور بين الأمر الإرشادي والمولوي الإلزامي وغيره. غايته أن نحو الاقتضاء من حيثية المولوية والإلزام يختلف باختلاف الأمر في الجهة المذكورة.

كما ظهر مما ذكرنا أنه لا مجال لدعوى ملازمة الأمر بالشيء للنهي عن تركه ، لأن الغرض من النهي لما كان هو الداعوية لعدم الترك فالداعوية المذكورة حاصلة بنفس الأمر ، كما سبق ، فيكون النهي معه خاليا عن الأثر ولاغيا ، لعدم دخله في ترتب الغرض المطلوب ، بل يترتب بدونه.

ومن هنا لا مجال لدعوى اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده العام ـ وهو الترك ـ بشيء من الوجوه المتقدمة ، وإن استوضحها جماعة.

نعم ، حيث كان الأمر بالشيء مقتضيا عملا لفعله وعدم تركه ـ كما تقدم ـ يكون الترك مخالفة للأمر ، فإذا كان الأمر مولويا إلزاميا كان الترك معصية للمولى وتمردا عليه ، فلا يمكن التقرب به ، بل يبطل إذا كان عبادة وإن لم يكن منهيا عنه شرعا ، فإذا وجب الأكل في نهار شهر رمضان ـ مثلا ـ لخوف ظالم ونحوه فعصى المكلف بتركه ، امتنع منه التقرب بالصوم الذي هو عبارة عن ترك المفطرات

٣١٠

ومنها الأكل المذكور ، ونظير ذلك ما لو أمر بترك الشيء ، فإن فعله يكون معصية وتمردا وإن لم يكن منهيا عنه ، لعدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن نقضيه. فإذا وجب ترك الارتماس ، لأنه من المفطرات امتنع التقرب بفعله.

بل لا يبعد جريان ذلك في الضدين الوجوديين اللذين لا ثالث لهما ، كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق ، فإن الأمر بأحدهما وإن لم يقتض النهي عن الآخر ، إلا أن فعل الآخر يكون عرفا بنفسه مخالفة للآخر وتمردا على الامر ، بحيث يمتنع معه التقرب به منه.

ومجرد التباين بين ترك المأمور به وفعل الضد المذكور حقيقة لا ينافي ذلك. لأن المعيار في التمرد والانقياد ونحوهما من الأمور الارتكازية على النظر العرفي دون الدقي.

ومن هنا تترتب في جميع ما ذكرنا الثمرة المتقدمة لاقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده وإن لم يكن الاقتضاء تاما فيها ، لما سبق.

الأمر الثاني : ربما يدعى اقتضاء الأمر بالشيء لمجرد ملازمة فعل الشيء لترك ضده ، لدعوى امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم ، فإذا كان الشيء واجبا كان ترك ضده واجبا أيضا ، فيكون فعله منهيا عنه.

لكنه يشكل : ـ مع ابتنائه على اقتضاء الأمر بترك الشيء النهي عن فعله ، الذي تقدم في الأمر الأول المنع منه ـ بأن امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم لا يقتضي لزوم اتفاقهما فيه بل لما كان الغرض من جعل الحكم للشيء إحداث الداعي نحوه بلحاظ الملاك المقتضي له ، فإذا كان الملاك مختصا بأحد المتلازمين فلا وجه لجعل الحكم على الآخر وإن كان موافقا لحكم ذي الملاك ، بل يكون عبثا.

نعم ، إذا كان كل منهما موردا للملاك صح جعل الحكم لكل منهما ، حيث يكون أثره تعدد الداعوية وثبوتها من الجهتين ، نظير تأكيدها بسبب تأكد الحكم

٣١١

الواحد للموضوع الواحد الواجد لأكثر من ملاك واحد.

لكنه خارج عن محل الكلام من اقتضاء مجرد الملازمة بين الشيئين اتفاقهما في الحكم مع قطع النظر عن اشتراكهما في الملاك.

الأمر الثالث : ربما يدعى اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده بلحاظ توقف الشيء على عدم ضده ومقدمية عدم الضد له ، فيستلزم الأمر به الأمر بعدم الضد وتركه ، الملازم لحرمة فعل الضد.

ومرجع ذلك إلى مقدمات ثلاث ..

الاولى : مقدمية ترك الضد لفعل ضده.

الثانية : ملازمة وجوب المقدمة لوجوب ذيها.

الثالثة : اقتضاء وجوب ترك الشيء لحرمة فعله.

ويظهر بطلان الثالثة مما تقدم هنا في الأمر الأول ، وبطلان الثانية مما تقدم في الفصل السابق ، ويأتي الكلام في الأولى إن شاء الله تعالى.

لكن المقدمتين الأخيرتين إنما يحتاج إليهما لإثبات النهي الشرعي عن الضد أما بلحاظ الثمرة المتقدمة ـ وهي امتناع التقرب بالضد وبطلانه لو كان عبادة ـ فلا حاجة للمقدمة الثالثة ، لما سبق في الأمر الأول من أن وجوب ترك الشيء مانع من التقرب بفعله لكونه تمردا على المولى وإن لم يكن منهيا عنه.

كما لا حاجة للمقدمة الثانية ، لأن مقدمة الواجب وإن لم تجب شرعا إلا أن وجوب ذيها لما كان يدعو إليها في طول داعويته إليه فلا مجال بنظر العقلاء للتقرب بمخالفة مقتضى الداعوية المذكورة ، لرجوعه إلى مخالفة مقتضى الوجوب النفسي المذكور ، فيكون معصية للمولى وتمردا عليه ، فكيف يتقرب به إليه؟! ، فإذا فرض كون ترك الضد مقدمة لفعل ضده كان الأمر بالشيء داعيا لترك ضده تبعا ، فيكون فعله مخالفة لمقتضى داعويته المذكورة.

ويظهر من الفصول عدم تمامية ذلك بناء على ما تقدم منه ومنا في الفصل

٣١٢

السابق من اختصاص الوجوب المقدمي بالمقدمة الموصلة ، بتقريب : أنه إذا كان ترك الضد مقدمة للواجب ، كان الواجب الغيري هو تركه الموصل لفعل الواجب ، لا مطلق تركه ، فيكون الحرام ترك الترك الموصل ، لا فعل الضد وإن كان فعله لازما للترك المذكور ، لأن الترك المذكور إما أن يكون بالترك غير الموصل أو مع الفعل.

وقد أطال قدّس سرّه هو ومن بعده الكلام في ذلك نقضا وإبراما بما لا يسع المقام استقصاءه. إلا أنه حيث ذكرنا أن المعيار في الثمرة ليس على النهي الشرعي ، ليهتم بتحديد موضوعه ، بل على كون الفعل تمردا على المولى ، فالمرتكزات العرفية والعقلائية حاكمة بما سبق منا من أن داعوية الواجب النفسي للترك في الفرض موجبة لكون الفعل مخالفة لمقتضى الداعوية المذكورة وتمردا على المولى فلا يمكن التقرب بالفعل.

ولذا لا ينبغي التأمل في امتناع التقرب من المتطهر بفعل سبب الحدث ـ كالجماع ـ مع تضيق وقت الصلاة ، بحيث لا يسع الطهارة لها ، وما ذلك إلا لتوقف الصلاة الواجبة على ترك سبب الحدث ، فيكون مخالفة لمقتضى وجوبها وتمردا على المولى ، ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام فيه.

ومن هنا كان الظاهر عدم دخل المقدمتين الاوليين في ترتب الثمرة المهمة لمسألة الضد ، وهي امتناع التقرب بالضد وفساده لو كان عبادة ، بل يكفي فيها المقدمة الاولى وهي مقدمية ترك الضد لفعل ضده.

ولذا اهتم جماعة من الأعيان بالكلام فيها وجعلوه من أهم مباحث المسألة ، وهو ما يأتي إن شاء الله تعالى.

الأمر الرابع : وقع الكلام بينهم في توقف وجود الشيء على عدم ضده الراجع لمقدمية عدم الضد للواجب ، وقد أطالوا الكلام في المقدمية المذكورة وجودا وعدما ، وأصر جماعة على امتناعها ولزوم المحاذير العقلية منها.

٣١٣

والظاهر أن مجرد التضاد بين الشيئين بنحو يمتنع اجتماعهما في الوجود لا يقتضي إلا ملازمة وجود أحدهما لعدم الآخر وتركه ، دون توقفه عليه الذي هو المعيار في المقدمية.

ويظهر من بعض المحققين قدّس سرّه كفاية ذلك في التوقف والمقدمية ، بدعوى : أن عدم الضد متمم لقابلية الموضوع للاتصاف بالضد الآخر ، وقابلية الموضوع لعروض الشيء من أجزاء علة ذلك الشيء التي يتوقف عليها وجوده.

ويدفعه : أن مجرد امتناع اجتماع الضدين في الموضوع الواحد لا يستلزم توقف قابلية الموضوع لأحد الضدين على خلوه عن ضده الآخر في رتبة سابقة عليه ، ليكون عدم الضد من مقدمات ضده وأجزاء علته التي يفتقر وجوده إليها ، وإنما يتم ذلك في المانع.

ومحصل الفرق بين المانع والضد : أن المانع ما يستند إليه عدم تأثير المقتضي حين وجوده ـ بما له من خصوصية ذاتية وعرضية معتبرة في التأثير ـ في المعلول ، إما لخصوصيته التكوينية ، كالرطوبة المانعة من تأثير النار للإحراق ، أو لأخذ عدمه في الموضوع شرعا كزوجية الأمّ المانعة من زوجية بنتها.

من دون فرق بين ما إذا كان المانع غير ممكن الارتفاع إما لمانعيته مطلقا بحدوثه ، كزوجية البنت المانعة من زوجية امها ، أو بحدوثه وبقائه مع تعذر ارتفاعه ، كالسور الحصين المانع من اقتحام العدو للمدينة ، وما إذا كان ممكن الارتفاع ، إما بتأثير المقتضي بأن يكون المقتضي بحدوثه مؤثرا فيه ورافعا له أولا ثم يكون باستمراره مؤثرا في المعلول بعد رفعه للمانع ، كالرطوبة المانعة من تأثير النار في أطراف الجسم بمماسته إلا بعد تجفيفها له مع استمرارها بعد التجفيف أو برافع آخر كغلق الباب المانع من دخول الحيوان الدار إلا بعد فتح الإنسان له ، وزوجية الأمّ قبل الدخول المانعة من زوجية بنتها إلا بعد ارتفاعها

٣١٤

بطلاق أو نحوه.

والجامع بين الكل أن يكون وجود الشيء بنفسه مانعا من تأثير المقتضي في المعلول ، بحيث يستند إليه عدم تأثير المقتضي حين وجوده ، فإن مقتضى ذلك توقف وجود المعلول على عدم المانع كتوقفه على وجود المقتضي والشرط وكونه مثلها من أجزاء علته التي يفتقر وجوده إليها في رتبة سابقة عليه.

أما الضد فهو لا يصلح للمانعية من تأثير مقتضي ضده فيه ، لعدم واجديته للخصوصية المناسبة لذلك ، فلا يكون وجود كل من الضدين مفتقرا لعدم الآخر ، بحيث لا بد من عدم الضد في رتبة سابقة على وجود ضده ، وإن امتنع اجتماعهما في الوجود ، إما للتنافر بين مقتضاهما بنحو يلزم من وجود مقتضي كل منهما عدم المقتضي للآخر ، كالصلاة وإزالة النجاسة ، حيث لا يعقل تعلق الارادة بكل منهما التي هي من سنخ المقتضي لهما بعد فرض قصور القدرة عن الجميع بينهما ، فيستند عدم كل منهما في ظرف وجود الآخر لعدم المقتضي له ، لا لمانعية وجود الآخر من تأثير مقتضيه فيه.

أو لمانعية مقتضي أحدهما من تأثير مقتضي الآخر كحركة الثوب المستندة للهواء وسكونه المستند جاذبية الأرض ، فمع حدوث الهواء المقتضي للحركة لا يستند عدم السكون لعدم المقتضي ، لبقاء قوة الجاذبية معه وإن كانت مغلوبة له ، بل لوجود الهواء المقتضي للحركة ، حيث يكون هو المانع من تأثير الجاذبية في السكون ، فيستند عدم السكون إليه لا لعدم المقتضي ولا للحركة ، كما أنه مع عدم الهواء يستند السكون للجاذبية من دون دخل لعدم الحركة ، فليس كل من الحركة والسكون مانعا من الآخر.

ومما ذكرنا يظهر أن قابلية الموضوع للعارض التي هي من أجزاء علته إنما تكون بخلوه عن الموانع التي يستند إليها عدم تأثير مقتضيه فيه ، لا بخلوه

٣١٥

عن الأضداد حيث لا وجه لجعله من أجزائها بعد عدم دخله في تأثير المقتضي ، لعدم مانعية وجود الأضداد من تأثيره ، وإن كانت منافية للعارض ، بحيث لا تجتمع معه في الخارج ولا يسعهما الموضوع في وقت واحد.

هذا ، وحيث تقدم أن المعيار في التضاد بين الشيئين مجرد عدم اجتماعهما في الوجود ، وأن ذلك بنفسه لا يقتضي توقف أحدهما على عدم الآخر ، ومقدمية عدمه له الذي هو محل الكلام ، بل لا بد فيه من مانعية أحد الأمرين من تأثير مقتضي الآخر فيه ـ الذي لا بد في إحرازه من الرجوع الصالحة لإثباته ـ وهو خارج عن محل الكلام ، تكون دعوى مانعية أحد الضدين للآخر خلفا لا يحتاج في بطلانها للاستدلال.

لكن قد اهتم غير واحد في امتناع مانعية أحد الضدين للآخر وعدمه وقد يقرب الامتناع بدعوى استلزام المانعية للدور.

ولعل الأولى في تقريبه أن يقال : كما يستند وجود الشيء لعدم المانع بحيث يكون من مقدماته ، كذلك يستند عدمه لوجود المانع بحيث يكون من مقدماته ، فإذا كان كل من الضدين مانعا من الآخر ، فكما يلزم استناد وجود كل من الضدين لعدم الآخر ومقدميته له ، بملاك عليّة عدم المانع للمعلول ومقدميّته له ، كذلك يلزم استناد عدم كل منهما لوجود الآخر ومقدميته له ، بملاك عليه وجود المانع لعدم المعلول ومقدميته له. فيكون عدم الصلاة ـ مثلا ـ مقدمة لإزالة النجاسة ، لمقدمية عدم المانع للمعلول ، كما تكون الإزالة مقدمة لعدم الصلاة ، لمقدمية المانع لعدم المعلول ، وهو دور واضح.

وقد حاول غير واحد دفع ذلك ، والمستفاد منهم في دفعه وجوه ..

أولها : ما ذكره بعض المحققين قدّس سرّه في تتميم توجيه ما سبق منه في تقريب التمانع بين الضدين ، بأن قابلية المحل من أجزاء العلة ، من أن العدم لا يحتاج إلى فاعل وقابل ، ليتصور شرطية شيء له ، فلا منشأ للمقدمية من جانب العدم ،

٣١٦

بل يختص التوقف بالوجود ، فلا دور.

ويشكل : بأن عدم احتياج العدم إلى فاعل وإن كان مسلما ، إلا أنّه يحتاج الى قابل بالمعنى المتقدم ، إذ لا إشكال في توقفه على عدم تمامية علة الوجود ، لأن العلة المذكورة رافعة للعدم ومانعة منه بلا إشكال ، فيكون عدمها متمما لقابلية المحل له ، نظير رافعية وجود المانع للوجود الموجبة لعلية عدمه له ، فإذا كان عدم المانع من أجزاء علة الوجود كان وجوده مؤثرا للعدم ومقدمة له.

ثم إنه قدّس سرّه قد أطال في تتميم مدعاه وتحقيقه والكلام في ترتب الثمرة عليه بما لا يسع المقام استقصاءه ويضيق الصدر عن متابعته فيه وتعقيبه.

ثانيها : ما عن المحقق الخونساري قدّس سرّه من أن عدم الضد مستند إلى عدم تمامية علته بعدم أي جزء منها ، ولا يتوقف على وجود المانع الذي فرض أن منه الضد.

نعم لو وجد تمام أجزاء العلة غير عدم المانع اتجه توقف عدم الضد حينئذ. على وجود المانع المفروض أن منه الضد ، لانحصار عدم تمامية العلة به حينئذ ، لكن فرض تمامية أجزاء العلة غير عدم الضد قد يكون محالا.

وما ذكره من احتمال محالية الغرض المذكور قد يرجع الى ما يأتي في الوجه الثالث.

وأما ما ذكره من عدم توقف وجود الضد على وجود المانع ، بل يكفي فيه عدم تمامية بقية أجزاء العلة فيشكل : بأنه لا يعتبر في توجه محذور الدور التوقف من الطرفين ، لانحصار علة كل منهما بالآخر ، بل يكفي فعلية الاستناد إليه لأنه أحد أفراد العلة ، لأن علة الوجود إذا كانت مركبة والشرط وعدم المانع كان ارتفاع كل منها علة للعدم ، فمع ارتفاع الكل ـ بعدم المقتضي والشرط ووجود المانع ـ يستند العدم للكل ، ومنه وجود المانع ، لعدم المرجح. إلا أن يدعى وجود المرجح لما يأتي الكلام فيه.

٣١٧

لكنه ـ لو تم ـ فعدم فعلية استناد العدم لوجود المانع لا ينافي كونه في مرتبة علة العدم ومتقدما عليه ، فإذا كان المانع هو الضد كان متقدما رتبة على عدم ضده فيستحيل توقفه على العدم المذكور ، لاستلزام تقدم المتأخر ، وهو لا يقصر عن محذور الدور. وإلى هذا أشار المحقق الخراساني قدّس سرّه بامتناع توقف الشيء على ما يصلح لأن يتوقف عليه.

ثالثها : أن عدم الشيء وإن كان يكفي فيه عدم تمامية أجزاء علته ولو بتخلف بعضها ، إلا أن استناده الى كل جزء منها ليس في عرض واحد ، كي يلزم عدم الجميع الاستناد لعدم الكل ، بل استناده بعضها متقدم رتبة على استناده للآخر ، فهو في الرتبة الأولى يستند لعدم المقتضي ، فإن وجد المقتضي استند لعدم الشرط الوجودي ، فإن وجد أيضا استند لوجود المانع ، ولا يستند لوجود المانع في ظرف عدم المقتضي أو الشرط. ولذا يستهجن عرفا تعليل عدم الإحراق ـ مثلا ـ مع عدم النار ، أو عدم قربها من الجسم برطوبة الجسم.

وحينئذ فكون كل من الضدين مانعا من الآخر إنما يقتضي استناد وجود الضد لعدم ضده ، لأنه من أجزاء علته ، ولا يقتضي استناد عدم الضد لوجود ضده ، بل في فرض عدم مقتضي الضد الآخر أو عدم شرطه يستند عدمه لهما ، في فرض وجودهما يمتنع وجود الضد الأول ، لامتناع وجود مقتضى الضدين مع أقوائية كل منهما وسائر شروط تأثيرهما الوجودية ـ كالقدرة في الأفعال الاختيارية ـ بل لا بد من ارتفاع مقتضي أحدهما أو ارتفاع شرطه الملازم لارتفاعه ، فيوجد الضد الآخر ، ولا يستند عدمه لوجود الضد في حال. وربما يحمل على ذلك كلام الخونساري ، وإن كان ظاهره ما تقدم.

ويشكل .. أولا : بما عرفت في سابقه من أن عدم فعلية استناد عدم الضد لوجود ضده لا ينافي تقدم وجود ضده عليه رتبة بعد فرض مانعيته وكون العدم المذكور من أجزاء علة الوجود ، فيلزم تقدم المتأخر.

٣١٨

ثانيا : بأن الترتب المذكور غير ظاهربعد كون الخصوصية الذاتية في المانع الموجبة لسد باب الوجود من جهته غير تابعة لوجود المقتضي والشرط. ومجرد الترتب في نسبة العدم عرفا لا يكفي في مثل ذلك من الأمور الواقعية المدركة للعقل. فتأمل.

ثالثا : أنه إذا فرض امتناع استناد عدم الضد إلى وجود ضده ، فكيف يمكن الجزم بمانعية الضد ، لأن مانعية الشيء في التكوينيات منتزعة من خصوصيته الذاتية المقتضية لاستناد العدم اليه مطلقا ، أو في ظرف وجود المقتضي والشرط ، على الكلام المتقدم ، والخصوصية المذكورة إنما تدرك بطريق فعلية الاستناد ، فإذا فرض عدم فعليته فلا طريق إلى إدراك الخصوصية المذكورة.

بل فرض امتناع بقاء الضد حال وجود مقتضي ضده الآخر وشرطه ـ لما تقدم ـ مساوق لفرض عدم مانعيته ، إذ لا معنى لمانعية الشيء للمقتضي الذي لا يجتمع معه ، لوضوح أن المانعية نحو من المزاحمة المتفرعة على اجتماع المتزاحمين ، وفرض عدم اجتماعهما بالضرورة مساوق لفرض عدم التزاحم بينهما.

وقد أشار إلى ذلك في الجملة في التقريرات والكفاية ، بل ساق بعض الأعاظم قدّس سرّه ذلك في الجملة دليلا على عدم التمانع بين الضدين. فراجع.

ورابعا : بأن مانعية الضد بالنحو المذكور ـ لو تمت ـ لا تصحح التكليف الغيري بعدمه ولا الداعوية الغيرية له عقلا بنحو يكون فعله مخالفة لمقتضى الأمر وتمردا على الامر لتترتب الثمرة المهمة للمسألة ، إذ المفروض أنه مع عدم المقتضي والشرط يستند العدم إليه لا لوجود الضد ، فلا منشأ للتكليف والداعوية الغيريين بعدمه ، ومع وجودهما لا وجود للضد ، فلا يستند إليه عدم ضده المأمور ، كي يدعو الأمر بالضد لعدمه.

٣١٩

رابعها : ما عن المحقق الخونساري قدّس سرّه من الفرق بين الضد الموجود ، فيتوقف ضده على عدمه ، والمعدوم ، فلا يتوقف ضده على عدمه. وصريح كلامه أن ذلك ليس لخصوصية في الضد ، بل هو الحال في كل مانع ، فالمعلول إنما يتوقف على عدم المانع إذا كان المانع موجودا ، ولا يتوقف عليه إذا كان معدوما.

قال في محكي كلامه ـ بعد أن دفع الدور بما سبق ـ «وهنا كلام آخر ، وهو أنه يجوز أن يقال : إن المانع إذا كان موجودا فعدمه مما يتوقف عليه وجود الشيء ، أما إذا كان معدوما فلا ... وعلى هذا لا يلزم على المجيب دور إن حمل كلامه على ظاهره أيضا ...».

قال في التقريرات : «وجه ارتفاع الدور بما ذكره من التفصيل : هو أنه إذا فرضنا اشتغال المحل بوجود أحد الأضداد ، كالسواد مثلا ، كان وجود الآخر ـ كالبياض ـ موقوفا على ارتفاع الموجود ، لمكان التضاد. وأما وجود السواد في ذلك المحل لم يكن موقوفا على عدم البياض ، لأن هذا العدم سابق على علة السواد ومقارن لها ، فلا توقف من الطرف الآخر ، فلا دور».

أقول : ليس منشأ الدور هو لزوم توقف كل من الضدين على عدم الآخر ، كي يرتفع بالتفصيل بين الموجود والمعدوم ، بدعوى : أن عدم المعدوم لا يتوقف عليه الموجود ، لحصوله ، بل منشؤه لزوم عليّة وجود الضد لعدم ضده ، لما تقدم من استناد عدم الشيء لوجود مانعة ، وهو لا يرتفع بالتفصيل المذكور ، فإن عدم توقف السواد حال وجوده على عدم البياض وغيره من الأضداد المفقودة لا ينافي علية البياض لعدم السواد الموجود ، بملاك علية المانع لعدم المعلول ، فتوقف البياض على عدم السواد مستلزم للدور.

ودعوى : أن السواد الموجود إذا لم يتوقف على عدم البياض المعدوم لم يكن وجود ذلك البياض علة لعدم السواد ، لأن علة العدم إنما هي نقيض علة

٣٢٠