المحكم في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٢

بخلاف معروض المبادي المحكي عنه بالعنوان الاشتقاقي ، إذ لا مانع من توارد الأعراض المتباينة على المعروض الواحد وجودا وماهية ، فتعدد عناوينه الاشتقاقية تبعا لذلك ، ويكون مجمعا لها. ومن هنا يكون التركيب بينها اتحاديا لا انضماميا ، فمع اختلاف متعلق الحكمين فيها لا غير ، لأخذها على اختلافها قيدا في فعل المكلف الواحد الذي هو متعلق الحكم ـ كما في : أكرم العالم أو العلماء ، ولا تكرم الفساق ، يكون التركيب بينها في المجمع اتحاديا ، لا انضماميا ، ويدخل في التعارض.

لكنه يشكل ... أولا : بأنه إذا أمكن تعدد الموجود من مبدأ الاشتقاق مع وحدة الاشارة الحسية له الراجع لخطأ الإشارة المذكورة أو ابتنائها على التسامح أمكن ذلك في العناوين الاشتقاقية من المبادئ المتعددة.

وما تقدم من إمكان اتحاد العناوين المذكور في الموجود الخارجي الواحد ، لعدم المانع من وحدة المعروض مع تعدد أعراضه. لا ينافي التعدد المذكور ، لأن الإمكان أعم من الوقوع.

وحينئذ لا وجه للبناء على التعارض المبني على تكاذب الأدلة ، لأن إحراز التكاذب فرع إحراز تنافي مضموني الدليلين ، والمفروض عدم إحرازه بسبب إمكان التعدد ، بل مقتضى إطلاق الدليلين عدمه.

إلا أن يدعى أن وحدة الإشارة الحسية كافية في بناء العرف على التعارض ورفعهم اليد عن إطلاق الدليل عرفا ، وإن لم يستلزم التنافي بين مفادي الإطلاقين عقلا.

لكنه كما يجري في العناوين الاشتقاقية يجري في مبادئ الاشتقاق ، فلا بد في الفرق من وجه آخر.

وثانيا : بأن ما ذكره من امتناع اتحاد الماهيتين في الخارج الذي عليه يبتني امتناع اتحاد المبادئ الاشتقاقية ـ ومنها فعل المكلّف ـ في الموجود الواحد ، وإن

٣٨١

كان من المسلمات التي لا إشكال فيها عندهم ، إلا أنه مختص بالماهيات الحقيقية الراجعة إلى أحد الأجناس العالية والمقولات العشر ، كالانسان والفرس والقيام والكلام. بخلاف الماهيات الاعتبارية ، كالغصب والصلاة ، حيث لا مانع من اتحادها في أنفسها أو اتحادها مع بعض الماهيات الحقيقة في الموجود الخارجي ، لعدم تقوم مفاهيمها بالذاتيات ، بل بمحض الاعتبار والانتزاع ، ومن الظاهر إمكان أن يكون الموجود الخارجي المتحد الماهية الحقيقية موضوعا لأكثر من اعتبار أو انتزاع واحد ، كالشخص الواحد الذي يكون زوجا ورقا ، والعمل الواحد الذي يكون مستحبا ومملوكا للغير ، كما يمكن أن يكون الاعتبار أو الانتزاع الواحد امورا متعددة مختلفة في الماهية ، الحقيقية ، كالغصب المنتزع من التصرف في ملك الغير أو المنافي لحقه الصادق على الكون في الدار المغصوبة الذي هو من مقولة الأين ولبس الثوب المغصوب الذي هو من مقولة الفعل وغيرهما.

ويترتب على ذلك إمكان اجتماع المبادئ الاشتقاقية المتعددة ـ ومنها أفعال المكلف التي هي موضوع الأحكام التكليفية ـ في موجود واحد إذا كانت جميع عناوينها أو بعضها حاكية عن ماهية اعتبارية أو انتزاعية بنحو يكون التركيب بينها اتحاديا بالمعنى الذي ذكره ، كما هو الحال في مثل الصلاة والغصب المتحدين في السجود الواحد على الأرض المغصوبة ، لكونه جزءاً صلاتيا وتصرفا في ملك الغير بغير إذنه.

ولذا اعترف في جملة كلامه بأن التركيب اتحادي بين متعلق الأمر والنهي في قولنا : اشرب الماء ، ولا تغصب لو كان الماء مغصوبا ، حيث يقع كل تصرف فيه غصبا ، ومنه الشرب وجعل ذلك خارجا عن موضوع مسألة الاجتماع الذي تقدم منه اختصاصه بما إذا كان التركب بين المتعلقين انضماميا.

ومنه يظهر حال ما ذكره قدّس سرّه من أن الحركة في ضمن الصلاة متحدة مع

٣٨٢

الصلاة ، والحركة في ضمن الغصب متحدة مع الغصب ، ولا مجال للبناء على اتحاد الحركتين في حركة واحدة ، بل يتعين تباينهما ، لتباين مقوليتهما.

لظهور ابتنائه على ما ذكره من تعدد ماهيتي الغصب والصلاة وامتناع اتحادهما ، وقد عرفت ضعفه. مضافا إلى الإشكال فيه ..

أولا : بأن تعدد الحركة مستلزم لحرمة كلتا الحركتين ، لكونهما تصرفا في المغصوب ، فيقع الاشكال في اتحاد متعلق الأمر والنهي في الحركة الصلاتية.

وثانيا : بأن الحركة بتمام أفرادها من مقولة واحدة ، ولا اختلاف بين الحركتين في المقولة ، وغاية ما ينهض به كلامه انهما مختلفا الماهية.

وثالثا : بأن وحدة الحركة من الوضوح والبداهة بنحو لا يمكن معه الإذعان للبرهان على التعدد.

ولو فرض تعددها فأي تركب انضمامي بين حركتين متباينتين ، وكيف تكون الإشارة الحسية إليهما واحدة ، وهل هما إلا كحركة الماشي وحركة المنحني المتباينتين ذاتا وعلة وإيجادا وخارجا.

نعم ، ذكر قدّس سرّه في جملة كلامه أن محل الكلام يختص بموردين.

أحدهما : ما إذا كان متعلق كل من الأمر والنهي من مقولة مباينة لمقولة الآخر ، كالقيام في الدار المغصوبة ، فإن القيام من مقولة الوضع ، والهيئة الحاصلة للقائم بالإضافة للدار من مقولة الأين ، وهما مقولتان متغايرتان في الخارج.

ثانيهما : ما إذا كان متعلق أحدهما فردا من المقولات ومتعلق الآخر خصوصية فيها زائدة عليها منتزعة من أمر خارج عنها ، كالابتداء والانتهاء بالإضافة إلى السير ، فإن السير الخارجي الذي هو فرد لمقولة حقيقية ينتزع منه الابتداء بالإضافة إلى البصرة مثلا ، فالابتداء موجود خارجي متمم لمقولة السير باعتبار صدوره من البصرة.

ومنه الوضوء من الإناء المغصوب أو المتخذ من الذهب أو الفضة ، إذ

٣٨٣

الوضوء باعتبار نفسه الذي هو فرد من أفراد المقولة مأمور به ، وباعتبار إضافته إلى الاناء الذي يحرم التصرف فيه منهي عنه ، وليس نفس استعمال الاناء داخلا في إحدى المقولات ، بل هو متمم لها ومنشأ لانتزاع عنوان تقييدي زائد عليها.

وهو لو تم لم يحتج لما سبق منه أولا من عموم امتناع اتحاد المبادئ الاشتقاقية في الخارج ، لامتناع اتحاد الماهيتين في الموجود الواحد المستلزم لتعدد ماهية الموجود الخارجي الواحد. بداهة أن تباين المقولات وامتناع اتحادها في أنفسها كامتناع اتحادها مع متمم المقولة بالمعنى المذكور من الوضوح بحدّ لا يحتاج معه لإقامة البرهان.

ولا يرد عليه ما سبق من الوجهين ، لابتناء أولهما على وحدة الإشارة الحسية للماهيتين في الخارج ، ومن الظاهر تعددها في المقولتين ، وفي المقولة مع متممها الذي هو من سنخ الإضافة المباينة لطرفها ، وابتناء ثانيهما على إمكان اتحاد الماهيتين في الجملة ، لا مطلقا ولو مع تعدد المقولة أو في المقولة ومتممها.

فالعمدة عدم تمامية ما ذكره. أما كون متعلقي الأمر والنهي من مقولتين ، وأن متعلق النهي في الغصب من مقولة الأين ومتعلق الأمر في الصلاة من مقولة مباينة لها ، كالقيام الذي هو من مقولة الوضع.

فهو في غاية المنع ، ولذا لا إشكال ظاهرا في خروج الصوم وقراءة القرآن في الدار المغصوبة عن موضوع المسألة ، ومجرد اجتماع المقولتين حينهما ، لأنهما من مقولة الفعل وكون المصلي والقارئ في الدار من مقولة الأين ، لا يكفي في دخوله في موضوعها ، كما لا يكفي في دخول الصلاة في المكان الذي لا يحرم التصرف فيه وإن حرم الكون فيه ليمين أو نحوه.

بل ليس دخول الصلاة في الدار المغصوبة في موضوع المسألة إلا بلحاظ حرمة التصرف في المغصوب ومخالفة مقتضى حق المالك فيه بأي مقولة

٣٨٤

فرض ، فيتحد مع بعض الأفعال الصلاتية كالركوع والسجود والقيام ، سواء كانت الأفعال الصلاتية خصوص الأفعال المذكور بمفاهيمها المصدرية أو بما هي أسماء مصادر أم مع مقدماتها من الهوي والنهوض ونحوهما.

وكذا الصلاة في الثوب المغصوب إنما تكون من موضوع المسألة بلحاظ كون الحركات الصلاتية بنفسها تصرفا في الثوب فتحرم ، لا لمجرد حرمة لبسه ، ولذا لا تدخل فيه الصلاة في الثوب الذي يحرم لبسه ليمين ونحوه من دون أن يحرم التصرف فيه ، إلى غير ذلك ..

وفرض كون موضوعي الأمر والنهي من مقولتين خروج عن محل الكلام ، بل لا يناسب ما سبق منه من وجود الصلاة والغصب بتأثير واحد ووحدة الإشارة الحسّية لهما معا ، لوضوح تباين المقولات ذاتا وعلة وإيجادا وخارجا ، بنحو لا بد من تعدد الإشارة إليها.

كما أن كون الغصب من مقولة الأين لا يناسب ما تقدم منه من فرض الحركة الغصبية ومباينتها للحركة الصلاتية ، لوضوح أن الحركة ليست من مقولة الأين ، بل من مقولة الفعل.

وأما كون متعلق أحدهما من إحدى المقولات ومتعلق الآخر متمما للمقولة.

فهو مسلم في الجملة ، إلا أن من الواضح أن متمم المقولة لما لم يكن له ما بإزاء في الخارج ممتاز عن المقولة صالح للإيجاد بنفسه ، بل هو من سنخ الإضافة القائمة بأطرافها ، فهو منتزع في المقام من إضافة فعل المكلف لأمر خارج عنه ، لزم رجوع التكليف به أمرا أو نهيا للتكليف بالفعل المحقق للإضافة الذي هو من إحدى المقولات ، فالمحرم في المثال حقيقة نفس الأكل أو الوضوء الخاص المتعلق بالاناء ، وحيث كان هو متعلق الأمر فرضا لزم اتحاد المتعلقين وكونهما من مقولة واحدة.

٣٨٥

والحاصل : أن ما ذكره من فرض التركيب الانضمامي مما لا نتعقله ولا نتحققه ، بل متعلقاهما إما أن يتعددا خارجا بنحو تتعدد الإشارة الحسية إليهما من دون تركيب بينهما أصلا ، فيخرج المورد عن موضوع المسألة ، أو يتحدا في الخارج حقيقة ، لكون عنوان أحدهما أو كليهما انتزاعيا أو اعتباريا قابلا للاتحاد مع الآخر. فلا مجال للتعويل على ما ذكره في ضابط موضوع المسألة والفرق بينه وبين مورد التعارض ، بل لا مخرج عما سبق منا في الضابط والفرق بينهما ، فلاحظ.

الأمر الثالث : يظهر من كلام غير واحد ابتناء الكلام في المسألة على أن متعلق الأحكام هو العناوين أو المعنونات ، وأنه على الأول لا مانع من اجتماع الأمر والنهي في مجمع العنوانين ، لتعدد الموضوع ، بل يمكن التقرب به وامتثال الأمر بناء على ذلك أيضا ، حيث يكون من ضم الطاعة للمعصية ، وعلى الثاني يمتنع اجتماعهما فيه ، لوحدة الموضوع بناء على أن تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون ، فيلزم اجتماع الضدين ، كما يمتنع التقرب به بعد فرض تعلق النهي به ، لامتناع التقرب بما هو مبعد.

وينبغي الكلام هنا في المبنى المذكور وإيكال الكلام في ابتناء النزاع في هذه المسألة عليه إلى ما يأتي عند التعرض للمختار فيها.

وتوضيح المبني المذكور : أن الاحكام ككثير من الامور الاعتبارية والذهنية تختلف في طبعها على أقسام ثلاثة ..

أولها : ما يتعلق بكل من العناوين الكلية والمعنونات الجزئية ، كالملكية المتعلقة : تارة : بالعناوين ، كالذميات ومنافع الأعيان في مثل الإجازة والشرط ، لفعلية ملكيتها وترتب الأثر عليها بلحاظ نفس الكلي قبل وجوده في الخارج.

واخرى : بالمعنونات الجزئية الخارجية ، كملكية الأعيان الموجودة.

ثانيها : ما يتعلق بالمعنونات الخارجية لا غير ، كالزوجية ، والرقية والطهارة

٣٨٦

والنجاسة ، وليس تعلقها بالعناوين في مقام الجعل أو الاخبار في مثل قولنا : الميتة نجسة ، وما أشرقت عليه الشمس فقد طهر إلا بنحو القضية التعليقية الراجعة لعدم فعلية الحكم إلا تبعا لفعلية انطباق العنوان على الفرد في الخارج ، مع كون الموضوع له هو الفرد المذكور ، وليس العنوان إلا جهة تعليلية ، من دون أن يكون بنفسه بماله من حدود مفهومية كلية موضوعا للحكم.

ثالثها : ما يتعلق بالعناوين الكلية بما لها من حدود مفهومية دون معنوناتها ، وهو الأحكام التكليفية ، إذ لا مجال للبناء على تعلقها بالفرد الخارجي على نحو تعلق القسم الثاني به ، لوضوح أن ظرف وجود الفرد ظرف سقوط التكليف بالاطاعة أو العصيان ، لا ظرف ثبوته وفعليته ، وإنما يثبت ويكون فعليا في ظرف عدمه ، ولا موضوع له حينئذ إلا العنوان الكلي ، نظير ملكية الامور الكلية من الذميات وغيرها.

نعم ، لا ينبغي الإشكال في أن تعلق الأحكام التكليفية بالعناوين والماهيات الكلية مبني على النظر لمقام العمل ، فكل حكم يقتضي نحوا خاصا من العمل متعلقا بالماهية ، فالوجوب يقتضي إيجادها في الخارج بفعل فرد منها والتحريم يقتضي عدمها بعدم تمام الأفراد في الخارج ، والإباحة تقتضي التخيير بين الفعل والترك ، فالفرد مطابق لموضوع التكليف ومتحد معه بنحو من انحاء الاتحاد في الخارج ، ووجوده أو عدمه مطابقان لمقتضى التكليف أو مخالفان له ، لقيام الغرض والملاك المقتضي للفعل أو الترك بالوجود الخارجي الطارئ على الفرد ، لا بالماهية من حيث هي مع قطع النظر عنه. ومن ثم يكون به الإطاعة والعصيان ، نظير وفاء الذمي الكلي بالأعيان الشخصية.

وكأنه إلى هذا نظر من حكم بتعلق التكليف بالمعنون ، وإلى ما ذكرناه أولا نظر من حكم بتعلقه بالعنوان.

والمتعين ما ذكرنا حيث يكون به الجمع بين الأمرين ويبتني على

٣٨٧

ملاحظة كلتا الجهتين. وقد تقدم في مبحث تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع أو الأفراد ما قد ينفع في المقام.

ولنقتصر في مقدمات الكلام في المسألة على هذه الامور الثلاثة المتقدمة ، لكفايتها في توضيح محل النزاع.

إذا عرفت ذلك كله فاعلم : أنه حيث تقدم في الأمر الثاني تحديد محل الكلام ، وأنه ملحق بالتزاحم بين الحكمين ، وأن إطلاق كلا الدليلين فيه ينهض بإثبات ملاك كل من الحكمين في المجمع ، فلا إشكال في إجزاء المجمع في امتثال الأمر ، سواء قيل بامكان اجتماع الحكمين فيه أم بامتناعه ولزوم انفراده بأحدهما ، إذ مع وفائه بملاكه لا بد من إجزائه عنه وإن لم يكن مأمورا به فعلا للمانع. وإنما الكلام والإشكال ..

أولا : في إمكان اجتماع الحكمين فيه وفعليتهما معا ، الذي هو موضوع الكلام في موضوع المسألة.

وثانيا : في إمكان التقرب به لو كان عبادة وفرض فعلية النهي عنه إما لإمكان اجتماعه مع الأمر أو لتقديمه عليه مع امتناع الاجتماع ، الذي هو من أهم الآثار العلمية.

فالكلام في مقامين ..

٣٨٨

المقام الأول

في إمكان الاجتماع وامتناعه

ولا ينبغي الإشكال في إمكانه مع فرض عدم اتحاد العنوانين في الوجود الواحد ، وأن ما يطابق أحدهما مباين لما يطابق الآخر وإن اجتمعا في فرد واحد.

وإليه يرجع ما قيل من أن تعدد العنوان يستلزم تعدد المعنون ، وما سبق من بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن التركيب بين العنوانين انضمامي لا اتحادي. لأن فرض تعدد الموضوع ملازم لفرض عدم اجتماع الحكمين في موضوع واحد.

كما أنه حيث فرض في محل كلامهم سعة متعلق الأمر وعدم انحصاره بالمجمع بين العنوانين وإمكان امتثاله بغيره ، فلا تزاحم بين التكليفين ، بل يتعين فعلية النهي الاستغراقي في المجمع ومزاحمته لبعض أفراد المأمور به.

فإن قيل بأن ذلك يستلزم قصور النهي عن الأفراد المذكورة ـ كما هو مختار بعض الأعاظم قدّس سرّه ـ لزم قصور متعلق الأمر عن المجمع من جهة المزاحمة ، لا من جهة لزوم اجتماع الضدين.

وإن لم نقل ذلك ـ كما هو الحق ـ تعين بقاء الأمر على إطلاقه وشمولاه للمجمع كالنهي. ويظهر الكلام في ذلك مما تقدم في ثمرة مسألة الضد. فراجع.

وأما بناء على اتحاد العنوانين في المجمع لاتحاد مطابق كل منهما فيه ـ على ما هو التحقيق ، كما يظهر مما تقدم في مناقشة بعض الأعاظم قدّس سرّه في دعوى أن التركيب بين العنوانين انضمامي ـ فبناء على ما هو المعروف بينهم من تضاد الحكمين يتعين البناء على انفراد المجمع بأحدهما وعدم اجتماعهما فيه.

٣٨٩

كما يتعين حينئذ تقدم النهي ، لأن ملاكه تعييني فلا يزاحم بملاك الأمر التخييري بالفرض ، بلا حاجة إلى جهة اخرى تقتضي ترجيحه ، لأن ذلك إنما يحتاج إليه في موارد التعارض بين الدليلين ، دون موارد التزاحم بين الحكمين التي تقدم أن المقام منها.

لكن يظهر من جملة من كلماتهم أنه بناء على تعلق الأحكام بالعناوين ـ كما تقدم منا ـ لا يلزم من عموم موضوع الحكمين معا للمجمع اجتماع الضدين. أما في مقام البعث والزجر فلتعدد المتعلق ، وهو العنوان ، وأما في مقام الإطاعة والعصيان بالفرد فلسقوط أحدهما بالإطاعة والآخر بالعصيان ، من دون أن يلزم اجتماعهما في واحد ، على ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه.

ومن ثم ذهب إلى جواز الاجتماع بعض المحققين وتبعه بعض المعاصرين.

حيث قال في اصوله : «وإذا جمع المكلف بينهما صدفة بسوء اختياره فإن ذلك لا يجعل الفعل الواحد ... متعلقا للايجاب والتحريم إلا بالعرض ، وليس ذلك بمحال ، فإن المحال إنما هو أن يكون الشيء الواحد بذاته متعلقا للإيجاب والتحريم. وعليه فيصح أن يقع الفعل الواحد امتثالا للأمر من جهة باعتبار انطباق المأمور به عليه وعصيانا للنهي من جهة اخرى باعتبار انطباق عنوان المنهي عنه».

وفيه : أن منشأ تضاد الأحكام ـ كما سبق ـ ليس إلا اختلاف مقتضياتها في مقام العمل ، وحيث كان متعلق العمل هو الفرد لزم التضاد بينها بلحاظ اختلاف نحو العمل المتعلق به من حيثية كل منها ولا أثر لتعدد العنوان في ذلك.

ومن ثم لا إشكال بعد ملاحظة المرتكزات العرفية في أن امتناع اجتماع الحكمين مع التطابق بين العنوانين وكون النسبة بينهما التساوي ليس لخصوص محذور التكليف بما لا يطاق ، لعموم الامتناع لما إذا أمكن الجمع بين الحكمين

٣٩٠

عملا ، كالكراهة أو الاستحباب والوجوب ، بل لمحذور اجتماع الضدين الراجع للتنافي ارتكازا بين الحكمين.

بل الوجه المختار لنا ولهما لتعلق الأحكام بالعناوين دون المعنونات جار في جميع العناوين من دون فرق بينهما ، مع أنه اعترف بعض المعاصرين رحمه الله في ما سبق بتنافي الإطلاقين في بعض موارد العموم من وجه والتزم لأجله بالتعارض بينهما وخروجهما عن موضوع مسألة الاجتماع واختصاص موضوعها بما إذا لحظ كل من العنوانين فانيا في مطلق الوجود المضاف للطبيعة من دون ملاحظة كونه على وجه يسع جميع الأفراد.

ولو لا الاكتفاء بوحدة المعنون في التنافي بين الحكمين وامتناع اجتماعهما لم يكن وجه لذلك كله ، كما يظهر بأدنى تأمل.

ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا من لزوم البناء على امتناع الاجتماع في المقام بناء على تضاد الحكمين من دون أن يكون لتعلق الأحكام بالعناوين دون المعنونات دخل في ذلك.

نعم ، تقدّم في الأمر الأول أن التضاد بين الوجوب البدلي والتحريم إذا كان موضوع الأول أعم مطلقا أو من وجه ليس تاما ، لأن الحكم البدلي كما يقتضي السعة بالإضافة إلى تمام أطرافه يقتضي الاجتزاء بها في مقام امتثاله ، والتحريم ينافي السعة لمورده ، ولا ينافي إجزاءه في امتثال الأمر ، فيتعين إمكان اجتماعهما في ذلك.

غاية الأمر أنه تقدم دعوى ظهور دليل النهي في مقام الإثبات في قصور الأمر عن متعلقه بنحو لا يجزي عنه وإن أمكن إجزاؤه ثبوتا. لكنها ـ لو تمت ـ تختص بموارد التعارض التي لا يحرز فيها من الإطلاقين ثبوت كلا الملاكين في المجمع ، دون موضوع مسألة الاجتماع الذي سبق نهوض الإطلاقين فيه بإحراز كلا الملاكين فيه.

٣٩١

إذ مع فرض إحراز كلا الملاكين وإمكان تأثيرهما معا لا وجه للبناء على عدم ثبوت الأمر من حيثية الإجزاء في المقام ، كما لعله ظاهر.

ولعل ارتكاز ذلك وعدم وضوح حدوده هو الموجب لدعوى إمكان اجتماع الحكمين بعنوانين ممن تقدم ، مع الغافلة عما ذكرنا.

هذا هو المهم من الكلام في المسألة.

وذكر في كلماتهم الاستدلال على امتناع الاجتماع وجوازه بوجوه اخرى لا مجال لإطالة الكلام فيها ، ولا سيما مع ظهور حال بعضها مما تقدم.

نعم ، ربما احتج للجواز بالعبادات المكروهة. ويأتي الكلام فيها في تنبيهات المسألة إن شاء الله تعالى.

٣٩٢

المقام الثاني في إمكان قصد التقرب بالمجمع في فرض النهي عنه والأثر لذلك إجزاؤه لو كان عبادة.

ولا ينبغي التأمل في إمكان قصد التقرب به مع الغافلة عن النهي أو الجهل به ، لعدم صلوحه للمبعدية حينئذ لينافي القصد المذكور.

غايته أن التقرب به مع البناء على إمكان الاجتماع لكونه من أفراد الطبيعة المأمور بها ، ومع البناء على امتناعه لمجرد واجديته للملاك المفروض في المقام. كما أن الكلام في كفاية الجهل التقصيري في تحقق التقرب المعتبر في العبادة تابع لدليل اعتبار التقرب ، وهو يختلف باختلاف العبادات ، فيوكل للفقه ، وليس الكلام هنا إلا في إمكان قصد التقرب الذي يكفي فيه الجهل بالنهي مطلقا ، كما ذكرنا.

وأما مع الالتفات للنهي فإن قيل بامتناع اجتماع الأمر والنهي بملاك اجتماع الضدين ، لوحدة متعلق الحكمين ، بناء على تعلق الأحكام بالمعنونات دون العناوين ، واتحاد العنوانين في المجمع ، لاتحاد مطابق كل منهما فيه ، فلا إشكال في امتناع قصد التقرب في المقام ، لامتناع فعليه التقرب والانقياد بما هو مبعد وتمرد على المولى ، وإن كان واجدا لملاك المقربية ، كما هو المفروض في المقام.

وأما لو قيل بإمكان الاجتماع ، لتعلق الحكم بالعنوان المفروض تعدده ، دون المعنون ، كما تقدم من بعض المحققين والمعاصرين وغض النظر عما

٣٩٣

تقدم ، أو لعدم التضاد التام بين العنوانين ، كما تقدم منا ، فقد ذكرا قدّس سرّهما أن اللازم البناء على إمكان التقرب ، حيث يكون من ضم الطاعة للمعصية في مقام الامتثال ، لا من التقرب بما هو مبعد الممتنع ، لغرض تعدد موضوعي الوجوب والحرمة ، وهما العنوانان.

لكنه يشكل بأن ذلك لا أثر له في إمكان التقرب ، لأن الانقياد والتقرب والبعد والتمرد لا تتبع مقام الجعل المفروض تعلقه بالعنوانين ، بل مقام الامتثال والعصيان اللذين يكونان بالمعنون المفروض في المقام وحدته ولو مع تعدد العنوان ، فيلزم التقرب بما هو مبعد.

ولذا يتعين امتناع تقرب المكلف بالفعل الموصل للحرام ، بحيث لا يقدر على منعه بعده ، كما لو كانت الصلاة في السطح موجبة لتخلخله بحيث ينفذ فيه المطر ، ويسقط على من تحته من المؤمنين ، أو كانت موجبة لتنفر الظالم وقتله مؤمنا تحت يده ، ونحو ذلك ، كل ذلك لأن موضوع الحرمة وإن كان مباينا لموضوع الوجوب في مقام الجعل ، إلا أن استناد الحرام في الفرض لفعل المكلّف موجب لصدق المعصية عليه وكونه تمردا على المولى ومبعدا منه ، فلا يناسب التقرب به منه ، ليمكن قصده.

وقد حاول بعض المحققين قدّس سرّه دفع ذلك ، فقال : «وأما التقرب بالمبعد فإن اريد منه ما هو نظير القرب والبعد المكانيين ، بحيث لا يعقل حصول القرب إلى مكان مع حصول البعد عنه ، ففيه : أن لازمه بطلان العمل حتى في الاجتماع الموردي ، نظرا إلى عدم حصول القرب والبعد معا في زمان واحد. وإن اريد منه سقوط الأمر والنهي وترتب الغرض وعدمه فلا منافاة بين أن يكون الواحد مسقطا للأمر ـ حيث إنه مطابق ما تعلق به ـ ومسقطا للنهي بالعصيان ـ حيث أنه خلاف ما تعلق به ونقيضه ـ.

وكذا ترتب الثواب عليه ، من حيث أنه موجب لسقوط الأمر بإتيان ما

٣٩٤

يطابق متعلقه المحصل للغرض منه ، فإنه لا ينافي ترتب العقاب عليه من حيث إنه موجب لسقوط النهي بإتيان ما يناقض متعلقه المنافي لغرضه منه.

بل هكذا حال القرب والبعد الناشئين من التخلق بالأخلاق الفاضلة أو الرذيلة ، فانه بواسطة التخلق بالخلق الفاضل له التشبه بالمبدإ الكامل ، فهو قريب من هذا الوجه ، وإن كان بواسطة التخلق بخلق رذيل بعيد منه من ذلك الوجه».

ويشكل : بأن التقرب المعتبر في العبادة ليس بمعنى القرب المكاني ليمتنع اجتماعه مع البعد في وقت واحد ، ولو مع تعدد الفعل ، ولا بمعنى موافقة التكليف والغرض ، ليمكن اجتماعه مع البعد ولو مع وحدة الفعل ، بل بمعنى وقوع الفعل في طريق المولى ولأجله في حسابه ، بحيث يكون مظهرا للخضوع له ولعبادته والفناء فيه والانقياد له ، وذلك لا يمكن مع وقوع الفعل ونفسه على وجه العصيان للمولى والتمرد عليه والخروج عن مقتضى مولويته ، وإن أمكن ذلك بالإضافة إلى فعل آخر مباين له ولو مع وحدة الزمان.

ومنه يظهر الحال في استحقاق العقاب والثواب ، فانهما تابعان البعد والقرب بالمعنى المذكور ، لا لمجرد موافقة التكليف والغرض ومخالفتهما ، ليمكن اجتماعهما بالإضافة إلى الفعل الواحد.

وأما ما ذكره أخيرا من قياس القرب والبعد الحاصلين بالتخلق بالأخلاق الفاضلة والرذيلة بما نحن فيه.

فهو كما ترى! إذ ليس القرب والبعد فيهما إلا بمعنى المشابهة والمباينة اللذين هما من الامور الإضافية المختلفة باختلاف جهتي الشبه والمباينة. على أن الخلق الفاضل مباين للرذيلة ماهية ومظهرا في مقام العمل ، فلا ينفع الاستشهاد بهما في المقام.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في امتناع التقرب بالفعل الواحد إذا كان معصية مبعدا. واختلاف العنوان أو تعدد الغرض لا ينفع مع وحدة الفعل.

٣٩٥

ولو لا ذلك لامكن التقرب بالمجمع حتى بناء على الامتناع وتقديم جانب النهي ، لأنه وإن لم يكن مأمورا به حينئذ إلا أن المفروض واجديته لملاك الأمر ووفاؤه بغرضه ، وأن المورد من صغريات التزاحم ، ولذا كان المعروف صحة الامتثال به مع الغافلة عن النهي.

وحينئذ يتقرب بقصد الملاك ، مع أن ظاهره كصريح بعض المعاصرين وغيره المفروغية عن عدم التقرب حينئذ ، لامتناع التقرب بما هو مبعد.

وما أبعد بين ما ذكراه وما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من امتناع التقرب بناء على مختاره من جواز الاجتماع لأن التركيب بين العنوانين انضمامي.

بدعوى : أنهما وإن لم يتحدا في الخارج إلا ان امتزاجهما في الخارج بحيث لا يمكن الإشارة لأحدهما دون الآخر يوجب اتحادهما في مقام الإيجاد والتأثير ، فيكون موجدهما مرتكبا للقبيح في إيجاده ، ومعه يستحيل مقربية الفعل الصادر منه.

هذا ما ذكره ، وإن كان التصديق به فرع تعقل التركيب الانضمامي ، ليرجع للمرتكزات في إمكان التقرب معه وامتناعه ، وقد سبق عدم تعقله ، فلا مجال للجزم بحال ما ذكره.

وكيف كان ، فلا مخرج عما ذكرنا من امتناع التقرب بناء على المختار من اتحاد العنوانين في الخارج واتحاد مطابق كل منهما في الفرد ، بحيث يوجدان بفعل واحد من دون فرق بين القول بإمكان الاجتماع والقول بامتناعه من القول بتعلق الأحكام بالمعنونات والقول بتعلقها بالعناوين ، لأن المقربية والمبعدية من شئون مقام الامتثال والعصيان المفروض اتحادهما في الخارج. فلاحظ.

بقي في المقام تنبيهات.

٣٩٦

التنبيه الأول : أشرنا في مطاوي الكلام السابق إلى اختصاص مورد كلامهم بصورة وجود المندوحة وإمكان امتثال الأمر بغير المجمع ، حيث لا إشكال في بقاء الأمر فعليا حينئذ مطلقا وإن قيل بالامتناع ، لعدم مزاحمته للنهي ، ولزوم تقديم النهي عملا في المجمع ، لأنه تعييني ، فلا يمكن استيفاؤه مع استيفاء الأمر التخييري بفرد آخر.

ومعه لا حاجة في تقديم النهي إلى وجه آخر إثباتي راجع للأدلة ، أو ثبوتي راجع للحكم نفسه بلحاظ أهميته ، وإن أطال غير واحد الكلام في ذلك.

أما في صورة عدم المندوحة وانحصار امتثال الأمر بالمجمع فيلزم التزاحم بين الحكمين ، ويتعين تقديم الأقوى منهما تبعا لقوة ملاكه ، على ما هو المقرر في التزاحم ، ولا يكون الأضعف فعليا حتى بنحو الترتب ، للغوية الخطاب به معلقا على معصية الآخر المستلزمة لموافقته هو ، لرجوعه لطلب الحاصل.

نعم ، لو كان الأرجح هو النهي فربما يدعى إلزام العقل في ظرف عصيانه باختيار الفرد الواجد لملاك الأمر وإن لم يكن مأمورا به ، وأن غيره من الأفراد أشد محذورا أو عقابا ، لما فيه من تفويت كلا الملاكين ، فلو انحصر تطهير المسجد بالماء المغصوب ، وفرض أهمية حرمة الغصب من وجوب التطهير ، فإذا عصى المكلّف واستعمل الماء المذكور كان استعماله في غير التطهير أشد محذورا وعقابا بنظر العقل من استعماله في التطهير.

لكن لا مجال للتقرب بالفرد المذكور ، لما سبق من مانعية تحريم الفعل من قصد التقرب به ، فلا يصح لو كان الأمر عباديا.

التنبيه الثاني : أشرنا في آخر المقام الأول إلى استدلال بعضهم على جواز اجتماع الأمر والنهي بالعبادات المكروهة ، كالصلاة في الحمام وصوم يوم عاشوراء وغيرهما.

٣٩٧

وتقريبه : أن وجه تضاد الأحكام الذي هو مبني امتناع الاجتماع لا يختص بالوجوب أو الاستحباب والحرمة ، بل يجري في الوجوب أو الاستحباب والكراهة أيضا ، فلو كان مانعا من اجتماع الحكمين في محل الكلام لامتنعت كراهة العبادة ، لتقوم العبادة بالأمر ، فيلزم اجتماع الكراهة مع الوجوب أو الاستحباب ، مع أنه لا إشكال في إمكانها ، بل ثبوتها في الجملة.

لكن لا مجال للاستدلال المذكور بعد ملاحظة أن من العبادات المكروهة عندهم ما ينحصر امتثال أمره بالفرد المكروه ، كصوم التطوع يوم عاشوراء ، مع وضوح امتناع اجتماع الأمر المذكور والنهي فيه لو كانا لزوميين.

بل كثير منها ما يتحد فيه منشأ انتزاع العنوانين المتعلقين للأمر والنهي وإن اختلفا بالإطلاق والتقييد ، وقد سبق بناؤهم فيه على التنافي بين الحكمين والتعارض بين الدليلين مطلقا وخروجه عن موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي.

ومن هنا يلزم النظر في العبادات المكروهة وتطبيقها على ما سبق وغيره مما تقتضيه القواعد العقلية.

فنقول : ـ بعد الاتكال عليه تعالى وطلب العون والتسديد منه ـ العبادات المكروهة على قسمين :

القسم الأول : ما يختلف فيه منشأ انتزاع العنوانين المتعلقين للأمر والنهي ، كالوضوء والغسل بالماء المشمس ، حيث يظهر من أدلة الكراهة أن موضوعها استعمال الماء المذكور في الغسل ونحوه بعنوانه الأولي ، مع أن موضوع الأمر بالوضوء والغسل هو الغسل بلحاظ ترتب الطهارة عليه ، فهو عنوان ثانوي تسبيبي.

والكلام في هذا القسم هو الكلام المتقدم في مسألة الاجتماع من كون المورد ملحقا بالتزاحم في واجديته لملاك كلا الحكمين.

٣٩٨

فإن أمكن امتثال الأمر بفرد آخر غير المجمع أثّر كل من الملاكين أثره ، لعدم التضاد بين الحكمين بعد عدم كون الكراهة حكما إلزاميا وعدم كون الأمر اقتضائيا في مورد الاجتماع ، فيلتزم ببقاء الأمر على إطلاقه بالاضافة إليه ، فيجزي عنه ، مع فعلية الكراهة فيه.

وإن انحصر امتثال الأمر بالمجمع لزم التزاحم بين الحكمين ، فيتعين تقديم الأمر إن كان إلزاميا ، والترجيح بالأهمية إن لم يكن إلزاميا. لكن المرجوح وإن سقط بالمزاحمة يبقى ملاكه ، ولذا يصح الامتثال به إن كان المرجوح هو الأمر.

كما أن الظاهر عدم الإشكال بينهم في إمكان التقرب به لو كان عبادة ، كما يظهر بأدنى ملاحظة لكلماتهم في الفقه ، حيث ذكروا في شروط العبادات ـ كالطهارات والصلاة والحج ـ إباحة متعلقاتها في الجملة ، كالماء والاناء والمصب والساتر وغيرها على تفصيل يرجع إلى اعتبار عدم اتحاد فعل العبادة مع الحرام أو إيصاله إليه ، ولم يشيروا لذلك في الكراهة مع كثرة المكروهات في الامور المذكورة بنحو تتحد العبادة معها أو توصل إليها ، وما ذلك إلا لمفروغيتهم عن عدم مانعيتها من التقرب.

وكأنه لما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من الفرق بين النهي التحريمي والتنزيهي بأن التحريمي يقتضي كون الفعل معصية للمولى ومبعدا منه ، فيمتنع التقرب به ، بخلاف التنزيهي ، حيث لا تكون مخالفته معصية للمولى.

ولذا اتفقوا على صحة العبادة مع مزاحمتها لمستحب أهم ، واختلفوا في صحتها مع مزاحمتها لواجب ، فذهب جماعة لبطلانها للنهي عنها ، بناء منهم على أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده.

لكن قال سيدنا الأعظم قدّس سرّه : «النهي التحريمي والنهي التنزيهي وإن اختلفا في اقتضاء مخالفتهما البعد وعدمه ... إلا أنهما لا يختلفان في مانعيتهما من إمكان

٣٩٩

التقرب ، حيث لا يتأتى قصد التقرب بما هو مبغوض للمولى ويزجر عنه. والاتفاق على صحة العبادة إذا كانت ضدا للمستحب الأهم ينبغي أن يكون دليلا على مختاره من عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده ، لا على عدم قدح النهي التنزيهي في إمكان التقرب».

وفيه : أن بطلان القول باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده وإن كان مسلما ، إلا أنه مبني على عدم مقدمية ترك أحد الضدين لفعل الآخر ، فلا يكون فعل الضد المهم مانعا من ضده الأهم ليكون منهيا عنه عرضا تبعا للأمر به ويمتنع التقرب ويبطل إذا كان عبادة.

أما لو فرض كون العبادة مانعة من فعل الواجب ، بحيث يستند تركه إليها ، فلا إشكال في بطلانها عندهم ، حيث يكون فعلها معصية لأمره وتمردا على المولى ، فيمتنع التقرب بها منه ، ولا يظن من أحد الالتزام بذلك فيما لو كانت مانعة من مستحب مأمور به فعلا كالحج والزيارة. وما ذلك إلا للفرق بين التكليف الإلزامي وغيره بما سبق من المحقق الخراساني قدّس سرّه.

وعليه يبتني تفريقهم الذي ذكره بين ضد الواجب وضد المستحب في الاتفاق على صحة الثاني إذا كان عبادة والخلاف في صحة الأول وابتنائه على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده.

نعم ، يظهر من المحقق الخراساني قدّس سرّه اختصاص ذلك بما إذا كان النهي عرضيا بسبب كون الفعل مفوتا لمصلحة غير ملزمة ، أما لو كان أصليا بسبب ترتب مفسدة غير ملزمة على الفعل ـ كما هو المفروض في هذا القسم ـ فيكون مانعا من التقرب.

وقد يظهر من غير واحد المفروغية عنه.

وكأنه لدعوى أن المفسدة توجب مبغوضية الفعل وإن لم يلزم بتركه ، فيمتنع مع ذلك التقرب به.

٤٠٠