المحكم في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٢

المقام ، قال في التقريرات : ـ في بيان القول بعدم الإجزاء فيها ـ «وفاقا للنهاية ، والتهذيب ، والمختصر وشروحه ، وشرح المنهاج ، على ما حكاه سيد المفاتيح عنهم ، بل وفي محكي النهاية الإجماع عليه ، بل وادعى العميدي قدّس سرّه الاتفاق على ذلك ...».

الرابع : سيرة المتشرعة لابتلائهم بذلك كثيرا ، خصوصا بناء على المشهور من عدم جواز البقاء على تقليد الميت ، فلو كان بناؤهم على عدم الإجزاء للزم الهرج والمرج.

لكن أنكرها غير واحد ، وذكر بعض مشايخنا أنها ـ لو تمت ـ مستندة في أمثال عصرنا إلى فتاوى المجتهدين ، ولا يحرز اتصالها بعصر المعصومين).

ثم إن هذه الوجوه قد سيقت في كلماتهم لبيان الإجزاء أو عدمه مع تبدل التعبد بتعبد مثله غير علمي ، لاختلاف الاجتهاد أو التقليد بنحو قد يظهر منهم اختصاص الكلام بذلك ، بل صرح غير واحد ممن بنى على الإجزاء بعدم الإجزاء مع ظهور المخالفة بالعلم الوجداني ، حتى حكى بعض الأعاظم قدّس سرّه دعوى جماعة الإجماع عليه.

ولازم ذلك كون الإجزاء ظاهريا مبتنيا على قصور الاجتهاد الثاني عن شمول الوقائع السابقة وبقاء الاجتهاد الأول حجة فيها ، وقد سبق في رد الوجه الخامس للاستدلال على الإجزاء الظاهري في آخر التنبيه الثاني استبعاد ذلك جدا. ولذا قد تساق الوجوه المذكورة للاستدلال على الإجزاء الواقعي الذي هو محل الكلام في هذا التنبيه ، كما جرينا عليه هنا.

وحيث ظهر ضعف تقريباتها المتقدمة فربما توجه بنحو آخر ترجع إلى الاستدلال عليه بالسيرة.

وحاصله : أنه لا ريب في ابتناء معرفة الأحكام الشرعية في عصور المعصومين عليهم السّلام على الخطأ كثيرا ، لأن ظهور اختلافنا مع العامة في الفقه ـ المنبه

٢٢١

للزوم أخذ أهل الحق أحكامهم من أئمتهم وأصحابهم الذين على نهجهم ـ قد بدأ في عصر الصادقين عليهما السّلام أو قريبا منه ، وقبل ذلك كان الأمر مختلطا على المسلمين بجميع فرقهم ، فلا امتياز لفقه كل فرقة عن فقه غيرها.

ثم لما تنبه الشيعة للاختلاف ووسّع الأئمة عليهم السّلام الكلام وبدءوا يرجعون إليهم في فقههم ابتلوا بأسباب الاختفاء والالتباس ، حيث كثر اختلاف الأحاديث من جهة التقية والخطأ والكذب ، حتى تضمنت بعض النصوص أنهم عليهم السّلام بصدد إحداث الخلاف بين الشيعة محافظة عليهم حتى لا يتميزوا بقول فيأخذوا به.

وكان صدور الروايات منهم عليهم السّلام تدريجيا تبعا لتنبه السائل أو حاجته الشخصية غالبا ، ولم يكن وصولها لجميع الشيعة متيسرا ، بل كانت تصل تدريجيا لأشخاصهم. وذلك بطبعه مستلزم لاطلاع أفراد الشيعة بوجه شايع على خطأ ما وصل إليهم وجروا عليه في مقام العمل ـ في الصدر الأول قبل رجوعهم لأئمتهم عليهم السّلام وبعده ـ على اختلاف أسباب اطلاعهم على ذلك من سؤالهم عليهم السّلام مباشرة أو بسماع الأحاديث المروية عنهم أو بالاستفتاء ممن يتصدى للفتوى من أصحابهم المنتشرين تدريجا في أقطار الأرض ، كما تشير إلى بعضه النصوص.

فلو كان البناء مع ذلك على عدم الإجزاء بعد ظهور الخطأ لزم الهرج والمرج وكثر الوقوع في العسر والحرج ، ولكان شيوع الابتلاء به مستلزما لظهوره المانع لهم عادة من الركون الى النصوص وفتاوى الأصحاب ، بل فتاوى الأئمة عليهم السّلام أنفسهم بسبب احتمال التقية فيها أو عدم فهمها ، لأن لزوم مثل هذه المشكلة ينبه للاحتمالات المغفول عنها بدوا ، ويرفع الوثوق الطبيعي.

وبذلك يضطرب نظامهم ويرتبك أمر الفقه عليهم. ولو كان الأمر على ذلك لظهر وبان ، وكثر السؤال عن حكم الأعمال الماضية ولزوم تداركها ، وما

٢٢٢

يترتب على ذلك من فروع متشعبة ، فإهمال ذلك ظاهر في المفروغية عن الإجزاء.

وهو المناسب لما هو المرتكز من سهولة الشريعة وعدم ابتنائها على الحرج والضيق ، وما تضمنته جملة من النصوص من أنهم عليهم السّلام لا يوقعون شيعتهم إلا في ما يسعهم رأفة بهم ورحمة لهم تداركا للمشاكل التي أحاطت بهم من جراء سلطان الظلمة واستضعافهم في الأرض حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وعصفت بهم أعاصير الفتن والمحن. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وهو المعين على ما ناب من خطب.

بل لا يبعد كون ذلك موجبا لظهور بعض النصوص الدالة على اختلاف الأحاديث وصدور بعضها للتقية في الإجزاء ، ولو بإطلاقاتها المقامية ، حيث يحتاج لزوم التدارك للتنبيه فعدمه ظاهر في عدمه.

بل لعل النظر في النصوص وسيرها بعد التنبيه لما ذكرنا يوجب القطع به. ولا سيما مع تأيده بسيرة المتشرعة في العصور القريبة المعتضدة بما عرفت من دعوى الإجماع على الإجزاء التي لا يبعد عدم استنادها لتصريحاتهم ، لما أشرنا إليه من استحداث تحرير المسألة ، بل للسيرة المذكورة بعد إحراز اتصالها بعصور المعصومين عليهم السّلام لما ذكرنا ، الذي لا يبعد رجوع جميع الوجوه المتقدمة إليه ، كما يظهر بملاحظته وملاحظتها.

ودعوى : أن المتيقن من ذلك ما دلت الأدلة الخاصة على اغتفار الخطأ فيه ، كما في موارد : «لا تعاد الصلاة» ونحوها ، ولم يعلم بناؤهم على الإجزاء في غير ذلك.

مدفوعة .. أولا : بأن الإجزاء في الموارد المذكورة مع الخطأ في الحكم الشرعي الكلي وإن كان مقتضى إطلاق بعض هذه الأدلة وصريح بعضها ، إلا أن الإجزاء في مواردها لما لم يكن ارتكازيا ، لعدم خصوصيتها ، ولم تكن الأدلة

٢٢٣

عليه كثيرة مشايعة فهو لا يستغنى فيه عن السؤال عند ظهور الخطأ في الحكم ، فعدم السؤال شاهد بالمفروغية لخصوصية الجهل بالحكم الناشئ عن خطأ الدليل الذي يعتمد عليه ، التي لا يفرق فيها ارتكازا بين مورد وأخر.

وبعبارة اخرى : ليس الاستدلال بمجرد عدم البيان من الشارع الأقدس ، كي يدعى أنه يكفي في بيان الإجزاء في هذه الموارد الأدلة المشار إليها ، وفي بيان عدمه في غيرها أنه مقتضى القواعد العامة ، وعدم وضوح سيرة على خلافها ، بل بعدم ورود السؤال عن حكمها من المتشرعة عند الالتفات للخطإ الذي لا وجه له ـ بعد ما أشرنا إليه من استلزام عدم الإجزاء العسر والحرج ، والهرج والمرج ـ إلا المفروغية عن العفو والإجزاء مع استناد الخطأ والبطلان للبيان الواصل ، لا للمكلف نفسه ، ولا خصوصية للموارد المذكورة ارتكازا في المفروغية المذكورة ، فالجهة الارتكازية التي عليها تبتني السيرة لا تختص بالموارد المذكورة وإن اختص المتيقن من السيرة بها.

وثانيا : بأنه لا خصوصية للموارد المذكورة في وقوع الخطأ من المتشرعة تبعا لاختلاف النصوص والفتاوى عليهم ، بل هو جار في غيرها ، كتحديد الكر ، وكيفية التطهير ، والنجاسات ، والوضوء والتيمم ونواقضهما ، والقصر والتمام ، والتذكية وغيرها مما يوجب الخطأ فيه رأسا أو بالواسطة بطلان العمل وما يترتب عليه من قضاء وضمان وغيرهما. فعدم الاهتمام بتمييز الموارد المذكورة عن غيرها عند الالتفات للبطلان شاهد بالمفروغية عن الإجزاء في الكل للجهة التي أشرنا إليها.

ومثلها دعوى : أن ذلك يكشف عن الإجزاء الواقعي ، بل يكفي فيه الإجزاء الظاهري المبتني على عدم التعويل في الوقائع السابقة على احتمال المخالفة للحكم الواقعي.

لاندفاعها .. أولا : بأن الإجزاء الظاهري لما كان مبنيا على قصور حجية

٢٢٤

الحجة اللاحقة عن شمول الأعمال السابقة ، وبقاء حجية الحجة السابقة فيها ، وقد سبق أنه بعيد عن المرتكزات جدا ، فلا مجال لابتناء السيرة المتقدمة عليه ، لظهور حالها في أنها ارتكازية مبنية على المفروغية عن مقتضاها ، بنحو يستغنى معها عن السؤال ، كما تقدم.

وثانيا : بأن عثورهم على الخطأ في عصور المعصومين عليهم السّلام كثيرا ما يكون بطرق تفيد العلم بطبعها ، كسؤال الأئمة عليهم السّلام بأنفسهم ، أو الرجوع لخلّص أصحابهم في رواياتهم أو فتاواهم ، فإن الالتفات لاحتمال مخالفة ذلك للواقع لتقية أو نحوها في تلك العصور يحتاج إلى منبه غالبا ، وبدونه كثيرا ما يحصل العلم ، فلولا البناء على الإجزاء الواقعي لم تتم السيرة المذكورة. كيف ولازم الإجزاء الظاهري للبناء على بقاء حجية الحجة السابقة حصول العلم الإجمالي بالمخالفة في كثير من الموارد الملزم بالاحتياط بالجمع بين الوظيفتين! كما تقدم ، ومن المعلوم عدم ابتناء السيرة عليه.

نعم ، لا يبعد اختصاص السيرة بالأوامر ونحوها مما يكون مقتضى البطلان فيها عدم الإجزاء ووجوب الإعادة والقضاء ونحوهما مما هو من سنخ التدارك أو الجزاء كالكفارة.

أما غيرها من موارد الخطأ كالمعاملات ونحوها فيشكل البناء على الصحة فيها ، لعدم شيوع الاطلاع على الخطأ فيها ، لجري المتشرعة بطبعهم فيها غالبا على ما يغلب جري الشارع عليه ، وهو الطرق العرفية ، وليست هي كالامور المأخوذة من الشارع الأقدس التي يستند فيها لما ينسب للشارع من بيانات يكثر فيها الخطأ ، على ما تقدم.

مع أنه لو فرض الاطلاع على الخطأ فيها فلا يبعد بناؤهم معه على البطلان ولو لاحتمال اختصاص الجهة الارتكازية بما يرجع للشارع الأقدس ، تنازلا منه عماله تسهيلا على المكلفين ، دون ما يرجع إلى غيره كالضمانات

٢٢٥

ونحوها.

وعدم ترتيبهم أثر البطلان قد يكون للضياع والاختلاط وعدم تيسر المراجعة ، وإلا فلم يتضح بناؤهم على عدم المراجعة مع تيسرها.

وأظهر من ذلك ما لا يكون من سنخ التدارك ، بل من سنخ الجري على مقتضى العمل السابق وترتيب آثار صحته ، فمن ذكى بغير الحديد ـ مثلا ـ لم يبعد توقفه عن أكل اللحم بعد انكشاف الخطأ له ، وكذا من تزوج امرأة بوجه قام الدليل بعد ذلك على عدم مشروعيته ، لم يبعد توقفه عن مباشرتها وترتيب آثار الزوجية عليها ونحو ذلك.

ولا أقل من خروجه عن المتيقن من السيرة ، لأن المتيقن منها عدم تدارك بطلان العمل بالقضاء ونحوه ، لا البناء على صحة العمل أو ترتيب جميع آثار صحته.

ولعله إليه يرجع ما قيل من اختصاص الإجماع بالعبادات ، وإلا فلم يظهر وجه خصوصيتها. بل لا يبعد قصور السيرة عن إثبات عدم وجوب الاعادة في الوقت ، لعدم كونها بنظر المتشرعة من سنخ التدارك.

ولا أقل من خروجه عن المتيقن من السيرة لندرة الابتلاء بانكشاف الخطأ بعد العمل قبل خروج الوقت ، وعدم وضوح بنائهم على عدم وجوب الإعادة معه بعد عدم أهميته ، فلا حرج ولا ضيق في الإعادة ليلتفت إليها ويسأل عنها ، ليكشف عدم السؤال عن المفروغية عن الإجزاء.

كما أن المتيقن أيضا ولو بلحاظ الارتكاز الذي لا يبعد ابتناؤها عليه ما لو كان خفاء الحكم مستندا لقصور البيان ، إما لعدم وصوله أو لوصول خلاف الواقع ، لا لخطأ المكلف في الاستفادة من الأدلة الواصلة له أو نسيانه للدليل أو نحوهما مما يعود للمكلف نفسه ، وإن كان معذورا ، لعدم شيوع الابتلاء بذلك في تلك العصور أيضا ، لقربهم من زمان الخطاب بالحكم المناسب لإحاطتهم

٢٢٦

بالقرائن المكتنفة له وتيسر فهمهم له غالبا وعدم ضياع مؤداه عليهم.

ولو فرض ابتلاؤهم به فلا يتضح بناؤهم على الإجزاء معه ، لاحتمال كون منشأ الاجزاء عندهم ارتكازا التخفيف تداركا لما يقع على المكلفين بسبب محنتهم ، دون ما يحصل بسبب المكلف نفسه.

ومنه يظهر عدم الإجزاء في حق المجاهد نفسه عند تبدل اجتهاده في أمثال عصورنا ، لابتناء تبدل رأيه غالبا على انكشاف الخطأ له في فهم الأدلة أو غفلته عن بعضها أو عن كيفية الجمع بينها ، لا لعدم تيسر الوصول إليها ، بخلاف العامي لو بقي على تقليد المجتهد بعد عدوله عن فتواه ، أو عدل لغيره ممن يخالفه في فتواه ، أو اجتهد على خلاف رأيه ، لعدم استناد خطئه في العمل لأمر يعود له ، بل الفتوى المجتهد التي هي الطريق الشرعي المتيسر في حقه مع تعذر الوصول للواقع من طريق آخر.

نعم ، لو كان ناشئا من خطئه في فهم كلام المجتهد أو في تشخيص المجتهد الذي قامت الحجة على تعيينه ، أو كان مقصرا في الرجوع للمجتهد المذكور اتجه عدم الإجزاء في حقه ، لاستناد الخطأ له كالمجتهد ، لا لقصور الأدلة.

هذا ، وأما ما سبق من دعوى الإجماع على عدم الإجزاء ، بل سبق عن غير واحد دعواه مع ظهور الخطأ بالعلم الوجداني وأنه المتيقن من كلامهم. فلا يبعد حمل ما اطلق فيه عدم الإجزاء على إرادة بيان مقتضى الأصل في الأحكام الظاهرية في مقابل التصويب الذي عليه العامة ، فهو راجع إلى الإجماع على التخطئة ، أو بيان عدم الإجزاء في حق المجتهد نفسه ، أو في المعاملات ونحوها ، بنحو يرجع إلى عدم ترتيب أثر الصحة على العمل بعد ظهور بطلانه بالاجتهاد الثاني ـ كما هما مورد كلام العميدي ـ حيث سبق عدم وضوح السيرة على الإجزاء في الموردين.

٢٢٧

وأما الإجماع على عدم الإجزاء مع العلم الوجداني بالخطإ ، المستلزم لعدم الإجزاء الواقعي ، فلا مجال للتعويل عليه بعد ظهور ذهاب جماعة للإجزاء في صورة اختلاف الاجتهاد. لما عرفت من أن حمله على الإجزاء الظاهري لا يناسب المرتكزات جدا ، مع استلزامه حدوث علم إجمالي منجز يقتضي وجوب الاحتياط الذي ليس بناؤهم عليه ، حيث يناسب ذلك إرادتهم الإجزاء الواقعي.

وإلا كانت مبانيهم مضطربة ، ومع ذلك لا مجال للتعويل على دعوى الإجماع المذكورة والتوقف لأجلها عن السيرة التي سبق تقريبها.

هذا ، وبقي في المقام بعض الجهات تخص الاجتهاد لا مجال لإطالة الكلام فيها هنا ، بل توكل لمبحث الاجتهاد والتقليد من الاصول أو الفقه.

الرابع : الأمر الظاهري كما لا يقتضي الإجزاء في حق المخاطب به ثبوتا مع مخالفته للواقع ، وإثباتا مع ظهور خطئه له ، كذلك لا يقتضي الإجزاء في حق غيره ممن يترتب الأثر في حقه على عمل المخاطب بالحكم الظاهري ، فلا يترتب الأثر في حق ذلك الغير ثبوتا مع خطأ الحكم الظاهري الذي اعتمد عليه المخاطب به ، كما لا يجوز له ترتيب الأثر ظاهرا مع ظهور الخطأ له ولو بمقتضى التعبد الظاهري الثابت في حق نفسه ، فمن صلى متعبدا ظاهرا بالطهارة ـ مثلا ـ لا يجوز الائتمام به لمن يرى خطأ التعبد المذكور وإن لم يستند في البناء على الخطأ للعلم الوجداني ، بل لتعبد آخر ثابت في حقه ، عملا بعموم حجية ذلك التعبد ، لأن المدار في عمل كل شخص التعبد الثابت في حقه ، لا الثابت في حق غيره.

نعم ، لو كان موضوع جواز الائتمام بالمصلي صحة صلاته ولو ظاهرا في حقه ـ ولو مع بطلانها في حق المؤتم به ـ اتجه الائتمام به في الفرض ، لثبوت الموضوع له ، وهو تابع لدليل الحكم المذكور ، ولسنا بصدد تحقيق ذلك هنا.

٢٢٨

لكن في التقريرات بعد أن ذكر ذلك قال : «والمسألة في غاية الإشكال ، نظرا إلى بعض اللوازم ، إذ على تقديره يجوز العقد على المعقود بالفارسية لمن لم يجوّز ذلك ، وأمثاله».

ولا يخفى أن ذلك ليس محذورا يوجب الإشكال في ما تقتضيه القاعدة وجرى عليه الأصحاب ، على ما نبه له بعد ذلك بذكر جملة من تصريحاتهم. فلاحظ. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.

٢٢٩
٢٣٠

٢٣١
٢٣٢

الفصل الثالث

في مقدمة الواجب

قد حررت هذه المسألة في كلام قدماء الاصوليين أهل الاستدلال ومتأخريهم. ومورد الكلام فيها وجوب مقدمة الواجب تبعا لوجوبه وعدمه.

ويظهر من مطاوي كلماتهم في الفقه والاصول المفروغية عن عدم خصوصية الواجب في موضوع الكلام ، بل يعم المستحب ، وأن مقدمته هل تكون مستحبة تبعا لاستحبابه أو لا؟. بل الظاهر عموم ملاك النزاع للحرام والمكروه ، على ما يتضح في محله إن شاء الله تعالى.

ومن هنا يكون موضوع الكلام في الحقيقة هو الملازمة بين ثبوت الحكم الاقتضائي للشيء وثبوت مثله لمقدمته. وبهذا يكون البحث المذكور في قسم الملازمات العقلية.

كما أنه قد تعرض المتأخرون بتبع الكلام المذكور لبعض ما يتعلق بالمقدمة مما هو خارج عن الملازمة في ضمن مباحث عقدت تمهيدا لمحل الكلام ، أو من لواحقه التابعة له.

هذا ، والظاهر أن موضوع كلامهم ـ وهو الملازمة المذكورة ـ ليس موردا للأثر العملي ، وأن جميع ما يترتب من الآثار العملية على تقدير الملازمة يترتب على تقدير عدمها ، كما سيتضح عند الكلام فيها.

كما أن الامور التي بحثت في كلامهم تبعا هي المهمة في مقام العمل ، ولا يترتب الكلام فيها على ثبوت الملازمة ، كما يتضح أيضا.

٢٣٣

ومن هنا لا يحسن تخصيص موضوع البحث بالملازمة وجعل البحث في الامور المذكورة تابعا له ، كما جروا عليه.

بل ينبغي بحث كل من الامور المذكورة في ضمن بحث يخصه يستقل عن بحث الملازمة.

وإنما تبحث الملازمة مع ما عرفت من عدم الأثر لها في مقام العمل ..

أولا : لمتابعتهم في ما جروا عليه من الاهتمام بالبحث فيها.

وثانيا : ليظهر من مطاوي البحث المذكور إلى ما ذكرناه من عدم الأثر العملي للملازمة المذكورة.

وينبغي التمهيد للمباحث المذكورة بأمرين لهما تمام الدخل في تنقيح محل الكلام ، وتحديد موضوع الأبحاث المعقودة في هذا الفصل.

الأمر الأول : لا إشكال ظاهرا في أن فعلية الداعي العقلي أو غيره من الدواعي لفعل الشيء يستلزم حدوث الداعي المسانخ له لفعل مقدمته ، على أن يكون الدعي الثاني في طول الداعي الأول ، تابعا له ، فانيا فيه ، مرتبطا به ، غير مستقل عنه ، لوحدة الغرض الموجب لهما ، فلا يكون الثاني صالحا للحركية ما لم يصلح الأول لها ، بل محركية الأول إنما تكون بالجري على طبق الثاني ، كما أن الجري على الثاني شروع في الجري على الأول ، ولا يكون متعلقه موضوعا للداعوية إلا من حيثية ذلك. ومن ثم كانت الداعوية نحو المقدمة غيرية. ووضوح ما ذكرنا يمنع عادة من إنكاره ، ويغني عن إطالة الكلام فيه. وإنما الكلام في ما يلحق ذلك ..

تارة : في تحديد موضوع الداعوية المقدمة ، وأنه مطلق المقدمة أو خصوص قسم منها ، وهي التي يترتب ذوها عليها ، المعبر عنها بالمقدمة الموصلة ، أو التي يقصد بها التوصل إليه أو نحو ذلك.

واخرى : في سعة الداعوية المذكورة ، وأنها مطلقة أو مقيدة.

٢٣٤

وثالثة : في أن المقدمة التي هي موضوع الداعوية بالنحو المذكور هل يلزم مشاركتها لذيها في الحكم الشرعي المستتبع للداعوية العقلية نحو الفعل ، أو لا؟ فإذا وجب أو استحب شيء شرعا لزم وجوب أو استحباب مقدمته كذلك ، أو لا؟ بل ليست المقدمة إلا موردا للداعوية للعقلية تبعا للداعوية الثابتة لذيها بسبب الحكم الشرعي الثابت له ، من دون أن تكون موردا لحكم شرعي آخر.

وإليه يرجع البحث في الملازمة التي هي موضوع البحث في مقدمة الواجب في كلامهم ، حتى جعلوا البحث في الأمرين من لواحقه. ولا وجه له بعد عدم تفرع البحث فيهما عليه ، كما سبق.

نعم ، قد يحسن لأجل ما ذكروه تقديم البحث فيه على البحث فيهما ، لأنه أقرب لا تساق الكلام فيهما مع كلامهم.

هذا ، وبما ذكرنا من وضوح تبعية المقدمة لذيها في الداعوية يظهر حال ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ وأقرّه عليه غيره ـ من إمكان عدم اقتضاء التكليف بذي المقدمة تحصيل المقدمة ، بل يكفى حصولها من باب الاتفاق ، حيث ظهر امتناع ذلك.

ولو كان هناك مقدمة لا يلزم تحصيلها لزم البناء على كونها شرطا لأصل التكليف بذيها ، فلا يكون التكليف به قبل حصولها فعليا ليقتضي الاتيان به وبها تبعا له ، على ما تقدم التعرض له في مبحث الواجب المشروط من فصل تقسيمات الواجب من المقصد الثاني من مباحث الألفاظ. فراجع.

الأمر الثاني : من الظاهر أن المراد بمقدمة الواجب ما يتوقف عليه وجود الواجب ويكون له الدخل فيه ، ولذا تكون الداعوية للواجب مستلزمة للداعوية إليه.

وقد قسمت في كلماتهم بتقسيمات كثيرة ، بعض الأقسام فيها خال عن

٢٣٥

الأثر المصحح للتقسيم ، وبعضها خارج عن محل الكلام. كمقدمة الوجوب ، وهي التي يتوقف عليها وجوب الشيء ، بحيث لا يجب إلا في رتبة متأخرة عن وجودها ، كالبلوغ بالإضافة إلى جميع الواجبات ، وكالاستطاعة بالإضافة إلى وجوب الحج ، فإنه وإن أمكن أن يتوقف عليها الواجب بذاته ـ كالاستطاعة في الجملة بالإضافة للحج ـ إلا أنه لا يتوقف عليها بما هو واجب وبعد فرض وجوبه ، ليدعو إليها وتدخل في محل الكلام ، لفرض وجودها في رتبة سابقة على وجوبه وثبوت الداعوية إليه. وكمقدمة العلم التي يراد بها ما يتوقف عليه إحراز امتثال الواجب ، وإن كان مباينا له غير دخيل في وجوده.

ولعل الأولى الاقتصار على تقسيمين لا يخلو التقسيم فيهما عن فائدة في تحديد محل الكلام ..

الأول : تقسيمها إلى داخلية وخارجية.

والداخلية : هي عبارة عن الأجزاء المقومة للواجب المتحدة بمجموعها معه.

والخارجية : هي ما يتوقف عليه وجود الواجب مما يباينه ولا ينطبق عليه ، كالشروط الشرعية وأجزاء العلة التكوينية.

وقد وقع الكلام بينهم في دخول المقدمة الداخلية في محل الكلام ، فمنع بعضهم من دخولها ، لعدم المقدمية بينها وبين الواجب ، لفرض كونها عينه ومتحدة معه حقيقة ولا اثنينية بينهما ، فليس في المقام إلا الداعوية النفسية نحو المركب المنبثة على أجزائه بنحو ترجع إلى الداعوية لكل منها ضمنا بنحو الارتباطية.

وقد حاول بعضهم دفع ذلك بدعوى التغاير بينهما بالاعتبار. وقد اطيل الكلام في ذلك بما لا مجال لاستقصائه.

والعمدة في الإشكال فيه : أن التغاير الاعتباري لا ينفع في المقام ، لأن

٢٣٦

الداعوية للمقدمة لما كانت في طول الداعوية لذيها ومرتبطة بها غير مستقلة عنها ، بحيث يكون الجري عليها شروعا في الجري عليها ـ كما تقدم ـ فهي مختصة لبا بصورة تحقق تمام المقدمات ، على ما يظهر مما يأتي في بحث المقدمة الموصلة ، فلو فرض ثبوت الداعوية الغيرية للأجزاء لكانت مختصة بصورة تحقق تمامها ، الذي هو عبارة عن تحقق نفس المركب الذي هو موضوع الداعوية النفسية ، ولا فرق بينهما ، ليمكن تعدد الداعوية ، بحيث تكون إحدى الداعويتين في طول الاخرى.

ودعوى : أنه يمكن اجتماع الداعويتين النفسية والغيرية في الشيء الواحد ، كما لو كان مطلوبا في نفسه وشرطا في مطلوب آخر ، كصلاة الظهر مع صلاة العصر ، غاية الأمر أن تكون إحداهما مؤكدة للاخرى.

مدفوعة : بالفرق بأن الداعوية الغيرية في الفرض المذكور ليست في طول الداعوية النفسية ، بل هي مستقلة عنها وإن كانت في طول داعوية نفسية اخرى ، وهي الداعوية الثابتة للمطلوب الآخر المشروط بذلك الشيء.

أما في المقام فهي ـ لو ثبت ـ في طول الداعوية النفسية ولأجل تحقيق متعلقها ، ومع اتحاد متعلقهما لا موضوع للغيرية ، ولا أثر لها في مقام العمل. ولا مجال لفرض التأكد بينهما لو فرض إمكان تعددهما ، لتعدد متعلقهما ، إذ مع فعلية تأثير الداعوية النفسية في مقام العمل لا يحتاج للداعوية الغيرية ، ومع عدم فعليته لا تصلح الداعوية الغيرية للتأثير ، لأنها في طول الداعوية النفسية ، كما سبق.

ومن هنا لا تتأكد الداعوية الغيرية في المقدمة الواحدة لو تعددت جهة دخلها وتوقف ذيها عليها ، كما لو توقفت الطهارة الحديثة والخبثية للصلاة على إيصال الماء المتنجس بالمادة ليطهر ، فإن الداعوية النفسية للصلاة وإن اقتضت داعوية غيرية للإيصال المذكور ؛ لتوقفها عليه من جهتين ، إلا أن داعويته الغيرية

٢٣٧

المذكورة واحدة لا تأكد فيها ، كالداعوية للمقدمة التي يتوقف عليها من جهة واحدة ، كالستر للصلاة ، لوحدة الداعوية النفسية التي تنتهي إليها الداعوية الغيرية وتناط بها وتكون في طولها. فلاحظ.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في خروج المقدمة الداخلية عن محل الكلام ، بل ليست هي مقدمة في الحقيقة. وربما يظهر أثر ذلك في مسألة دوران التكليف بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

الثاني : تقسيمها إلى تكوينية وشرعية.

فإن توقف الواجب على شيء ..

تارة : يبتني على علاقة تكوينية بينهما يدركها المكلف بحكم العقل أو بعادة أو نحوهما ، كتوقف الحج على قطع المسافة.

واخرى : يبتني على تقييد الواجب بذلك الشيء شرعا ، كتوقف الصلاة على الستر أو الطهارة أو نحوهما.

ولا إشكال في دخول الاولى في محل النزاع.

وأما الثانية فقد قال بعض المعاصرين رحمه الله في اصوله : «ولقد ذهب بعض أعاظم مشايخنا ـ على ما يظهر من بعض تقريرات درسه ـ إلى أن الشرط الشرعي كالجزء لا يكون واجبا بالوجوب الغيري ـ وسماه مقدمة داخلية بالمعنى الأعم ـ باعتبار أن التقييد لما كان داخلا في المأمور به وجزءاً له فهو واجب بالوجوب النفسي ، ولما كان انتزاع التقييد إنما يكون من القيد ـ أي منشأ انتزاعه هو القيد ـ والأمر بالعنوان المنتزع أمر بمنشإ انتزاعه ، إذ لا وجود للعنوان المنتزع إلا بوجود منشأ انتزاعه ، فيكون الأمر النفسي المتعلق بالتقييد متعلقا بالقيد ، وإذا كان القيد واجبا نفسيا فكيف يكون مرة اخرى واجبا بالوجوب الغيري؟!».

وكأن مراده بشيخه المذكور بعض الأعاظم قدّس سرّه ، لتعارف التعبير عنه بمثل

٢٣٨

العبارة المذكورة ، ولأنه صرح بأن الشروط الشرعية مقدمة داخلية بالمعنى الأعم ، بلحاظ دخول التقييد بها في المأمور به ، وخارجية بالمعنى الأعم بلحاظ خروج ذواتها عن المأمور به ، وجعل الداخلية بالمعنى الأخص الأجزاء ، لدخولها في المأمور به بذواتها وبالتقييد بها ، والخارجية بالمعنى الأخص المقدمات التكوينية ـ التي عبروا عنها بالمقدمات العقلية ـ لعدم دخولها في المأمور به ، لا بذواتها ولا بالتقييد بها. لكنه قدّس سرّه لم يشر ـ على ما في تقرير درسه لبعض مشايخنا ـ إلى احتمال خروج الشروط الشرعية عن محل النزاع. بل ظاهره اختصاص الكلام في ذلك بالمقدمة الداخلية بالمعنى الأخص ـ التي هي الجزء ـ بل صرح بذلك وبدخول الشروط وعدم الموانع الشرعية في محل الكلام على ما في تقرير درسه للكاظمي.

وكيف كان ، فيشكل ما ذكر : بأن التقييد ليس من أفعال المكلف ، ليدخل في المأمور به ، بل هو كالإطلاق من شئون جعل التكليف الذي هو فعل المولى ، وليس مفاده إلا اختصاص المأمور به بالحصة المقارنة للقيد ، وذلك لا يقتضي دخول شيء في المأمور به غير الأجزاء ، وليس القيد إلا ملازما للمأمور به ، غاية الأمر ظهور التقييد في كون القيد دخيلا في ترتب الغرض على المأمور به ، من دون أن يكون بنفسه وافيا بالغرض في جملة الأجزاء ، وهو لا يقتضي دخول التقييد ولا القيد في المأمور به.

اللهم إلا أن يراد بالتقييد حفظ القيد حال الإتيان بالمأمور به الذي هو فعل المكلف ، والذي هو عبارة اخرى عن نفس وجود القيد ومنتزع من القيام به وفعله ، كالتستر حال الصلاة.

لكن البناء على دخوله في المأمور به مستلزم لكونه مقدمة داخلية بالمعنى الأخص ، ودخل الشرط بذاته في المأمور به ، وانقلاب الشروط أجزاء. ولا يظن من أحد البناء على ذلك ، لوضوح الفرق بينهما ثبوتا ، بأن الجزء ما

٢٣٩

يكون مقوما للمأمور به ويستند الغرض إليه ، والشرط ما يخرج عن المأمور به وإن كان دخيلا في ترتب الغرض عليه ، بحيث لا يكون المركب وافيا بالغرض إلا في ظرف واجديته له.

وإثباتا باختلاف ألسنة أدلة الجعل ، ولازم ذلك عدم دخول القيد في المأمور به ، لعدم وجوب حفظه لنفسه ، بل لأجل تحقيق الحصة المقارنة له والتي هي موضوع الأمر النفسي ، وبذلك يكون موضوعا للداعوية الغيرية ، ويدخل في محل الكلام.

بقي شيء ، وهو أن المقدمة التكوينية لا بد أن تكون متصلة بذيها ، بحيث لا يكون بينهما إلا التقدم الرتبي ، من دون فرق بين أجزاء العلة التامة من المقتضي والشرط وعدم المانع ، لامتناع تأثير المعدوم قبل وجوده وبعده.

وأما تقدم بعض أجزاء العلة في بعض الموارد ، وهو ما يسمى بالمعد ، فليس لكون المؤثر بلا واسطة هو الوجود المتقدم ، بل إما لكون المؤثر هو الوجود المذكور بتوسط أثره الباقي بعد ارتفاعه ، أو أثر أثره ، الذي يستند إليه المعلول مباشرة ، كما في تأثير الحديد المحمي في النار في كيّ الجسم بعد إخمادها ووضعه على الجسم ، فإن المؤثر للكي ليس هو النار السابقة عليه ، بل أثرها ، وهو حرارة الحديد الباقية بعد إخماد النار ، وإما لكون المؤثر هو الوجود الاستمراري المتصل بالمعلول ، كما في تأثير النار في إحراق الثوب المبتل الملقي فيها بعد جفافه ، فان الإحراق لا يستند للنار بحدوثها السابق على الجفاف بل ليس أثرها إلا تجفيف الثوب ، وإنما يستند الإحراق للنار بوجودها الاستمراري بعد الجفاف ومرجع الأمرين إلى اتصال العلة بالمعلول ، وإن تقدمت عليه صورة.

ومنه يظهر امتناع تأخرها عنه حتى صورة ، إذ قبل وجودها لا أثر لها ولا استمرار.

٢٤٠