المحكم في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٢

نعم ، قد يدرك العقل بنفسه في بعض الموارد قبح التكليف ، وأنه ظلم ينزه عنه تعالى ، كالتكليف واقعا بما لا يطاق ، وظاهرا مع الجهل المطلق ـ لا عن تقصير ـ حتى بوجوب الاحتياط ، الذي هو مرجع البراءة العقلية.

وذلك ينفع في معرفة حدود التكليف الشرعي الواقعية ، ومعرفة الوظيفة الظاهرية العملية.

إلا أن ذلك خارج عن محل كلامنا ، للتسالم على عدم التكليف بما لا يطاق ، بنحو لا يهتم بإثباته من طريق الملازمة ، ولعدم نهوض البراءة العقلية بمعرفة الحكم الواقعي ، لتكون من الأدلة التي هي مورد البحث ، وإنما هي أصل عملي يبحث عنه في محل آخر.

نعم ، يتجه دخولها في محل الكلام لو كان المراد من الأدلة ما يعم دليل الوظيفة الظاهرية العملية. ولعله لذا خص بعضهم دليل العقل بالبراءة الأصلية.

بقي شيء ، وهو أن صاحب الفصول وإن نفى الملازمة الواقعية بين حكم العقلي بحسن الشيء أو قبحه وحكم الشرع على طبقه ، كما تقدم ، إلا أنه ذهب إلى الملازمة بينهما ظاهرا ، بمعنى أنه يبنى ظاهرا على حكم الشرع بما حكم به العقل ما لم يثبت خلافه من قبل الشارع الأقدس.

مستدلا على ذلك بوجهين :

أولهما : إطلاق الآيات المتقدمة.

ثانيهما : أن العقل بعد أن يدرك مقتضي الحكم لا يعتد باحتمال المانع.

لكن الوجه الأول حيث لا يرجع لحكم العقل ، بل لظهور الأدلة النقلية فهو خارج عن مورد البحث ، ولا يسعنا إطالة الكلام في ذلك ، لأن نتيجته أحكاما فرعية لا قاعدة اصولية ، ولعدم اختصاص الأدلة المناسبة بالآيات المذكورة ، واستقصاء الكلام في جميعها وفي مقتضى الجمع بينها في أنفسها وبينها وبين غيرها يحتاج إلى جهد كثير ووقت طويل.

١٨١

فالأولى إيكاله إلى مورد الحاجة إليه من الفقه ، وبحثه بالمقدار الذي يقتضيه المورد.

وأما الثاني فهو يبتني على قاعدة المقتضي التي لم تثبت كلية ، كما لم يتضح التعويل عليها في خصوص المورد ، وإنما ثبت الرجوع إليها في بعض الموارد لخصوصيتها.

ولا مجال لقياس المقام بما لو احتمل وجود المزاحم لحسن الحسن وقبح القبيح ، حيث لا يعتد به العقل في رفع اليد عن داعويته على طبق الحسن أو القبح المعلوم ، فلا ينبغي بنظره الكذب لاحتمال ترتب مصلحة مهمة عليه ، ولا ترك الصدق لاحتمال ترتب مفسدة مهمة عليه.

للفرق بأن الشك في المزاحم إنما هو بعد إحراز تمامية موضوع الداعوية العقلية ، نظير ما لو شك في وجود المزاحم للتكليف الشرعي المعلوم.

أما في المقام فالشك في تمامية موضوع الداعوية الشرعية ، حيث لم يحرز إلا المقتضي للملاك ، وهو الحسن أو القبح العقليين ، مع احتمال وجود المانع من تأثيره في لزوم الجعل الشرعي ، فينحصر الأمر فيه بقاعدة المقتضي الذي ذكرنا عدم تماميتها.

وقد تحصل من جميع ما تقدم : أن التحسين والتقبيح العقليين وإن كانا ثابتين ، بمعنى إدراك العقل الحسن والقبح في بعض الموارد وداعويته على طبقهما ، إلا أنهما لا يستلزمان حكم الشارع الأقدس على طبقهما ، لإمكان اطلاعه على ما يزاحم مقتضياتهما ، أو على ما يمنع من جعل الحكم من قبله على طبقهما. كما لا يستتبعان لزوم البناء ظاهرا على جعل الحكم الشرعي ، لينفع ذلك في مقام الاستنباط.

نعم ، لو حسن جعل التكليف من قبله إما لحسن متعلقه أو قبحه ـ من دون مزاحم يوجب قصور داعويتهما عقلا ، ولا مانع من جعل الحكم الشرعي على

١٨٢

طبقهما ـ أو لمصلحة في نفس الحكم لا دخل للمتعلق فيها ، فلا بد من جعله الحكم ، لكماله المانع من تخلفه عن الداعي العقلي.

إلا أنه لا يتسنى للعقل غالبا إدارك حسن الجعل ، لعدم إحاطته بالجهات الدخيلة في ذلك. فلا تنفع الملازمة المذكورة في الاستنباط.

غاية الأمر أنه قد يتسنى له إدراك قبح التكليف الواقعي أو الظاهري في بعض الموارد ، كالتكليف بما لا يطاق ، والتكليف مع الجهل المطلق حتى بوجوب الاحتياط ، الذي ترجع اليه البراءة العقلية التي يأتي الكلام فيها في محله إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين. ومنه نستمد العون والتوفيق.

١٨٣
١٨٤

١٨٥
١٨٦

الفصل الثاني

في الإجزاء

اختلفوا في أن الإتيان بالمأمور به بالنحو الذي يقتضيه الأمر ويدعو إليه هل يقتضي الإجزاء أو لا يقتضيه؟

وقد وقع الكلام منهم في تحديد معنى الإجزاء الذي هو محل الكلام ، وأنه عبارة عن الامتثال وإسقاط الأمر أو إسقاط القضاء. والظاهر ـ كما ذكره في التقريرات في الجملة ـ عدم خروج الإجزاء عن معناه اللغوي والعرفي ، وهو الكفاية ، وحيث كان المعنى المذكور إضافيا يختلف باختلاف ما يكفي الشيء عنه أو فيه فهو يختلف باختلاف الأمر المهم الذي يراد البحث عنه ، وأنه الامتثال أو سقوط القضاء ، ولا تخلو كلماتهم في تحديده عن اضطراب ، قد يكون منشؤه اختلاف الأمر الذي هو موضوع كلامهم بين الواقعي الأولي والاضطراري والظاهري.

ولا ينبغي إطالة الكلام في تحقيق ذلك بعد وفاء البحث الآتي إن شاء الله تعالى بالجميع. وإن لم يبعد رجوع الجميع لأمر واحد ، وبسبب تلازمها.

وينبغي التمهيد لمحل الكلام ببيان أمر ، وهو أن الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار المتقدمة ، أن البحث في تلك المسألة عما يقتضيه ظهور إطلاق الأمر من تحديد المأمور به ، وأنه مطلق الماهية ، أو المقيد منها بالمرة ، أو بالتكرار. وهنا في تحقق الإجزاء بالفعل المطابق للمأمور به بعد فرض تحديده بإطلاق الأمر او غيره.

١٨٧

ومن ثمّ كان البحث في تلك المسألة إثباتيا موضوعه ظهور الأمر ، وهنا ثبوتيا موضوعه فعل المأمور به ، وكانت تلك المسألة من مسائل الظهورات اللفظية ، أما هذه المسألة فهي على بعض وجوهها عقلية ، وعلى بعضها الآخر تبتني على مقتضى الظهور أو الأصل.

وبلحاظ الأول حررناها في مباحث الملازمات العقلية تغليبا.

ولا ينبغي إطالة الكلام هنا في تفصيل ذلك بعد ظهوره عند الدخول في المسألة ، ولا في وجه التغليب المذكور ، بعد خلوه عن الفائدة ، وكونه أشبه بتوجيه الاصطلاح ، إذ المهم نفس البحث ، لا موضعه وبابه.

وقد تعرضوا في تمهيد المسألة لبعض الامور الاخرى مما يرجع لتحديد محل النزاع رأينا الإعراض عنها أحرى ، لظهور حالها ، فالبحث فيها أشبه بالبحث اللفظي.

إذا عرفت هذا ، فلا ينبغي التأمل في أن موافقة الأمر بالنحو الذي يدعو إليه تقتضي الإجزاء ، بمعنى امتثاله وسقوط داعويته ، لأن الأمر لا يدعو إلا إلى موافقته بتحقيق المأمور به ، فمع موافقته لا يبقى موضوع للداعوية ، وذلك عبارة اخرى عن عدم لزوم الإعادة ، التي هي عبارة اخرى عن تكرار الامتثال بتحقيق المأمور به التام في الوقت ، فضلا عن القضاء الذي هو عبارة عن تدارك فوت المأمور به في وقته بالإتيان به خارج الوقت محافظة على أصل الواجب دون خصوصية الوقت.

إذ لا فوت مع موافقته ليتحقق موضوع القضاء. من دون فرق بين كون القضاء بالأمر الأول وكونه بأمر جديد ، إذ على كلا المبنيين لا بد فيه من الفوت.

ومنه يظهر أن التعبير بسقوط الإعادة والقضاء لا يخلو عن تسامح ، إذ السقوط فرع المقتضي للثبوت.

ووضح ما ذكرنا يغني عن إطالة الكلام فيه ، وإن حكي عن بعضهم

١٨٨

الخلاف فيه ، قال في الفصول : «ذهب الأكثرون إلى أن موافقة الأمر يستلزم الإجزاء. وذهب أبو هاشم وعبد الجبار إلى أنه لا يستلزمه. قال عبد الجبار في ما نقل عنه : لا يمتنع عندنا أن يأمر الحكيم ويقول : إذا فعلته أثبت عليه وأديت الواجب ، ويلزم القضاء مع ذلك. هذا كلامه ...». وهو من الشذوذ ومخالفة الضرورة بمكان ظاهر.

نعم ، يمكن وجوب الإتيان بالفعل ثانيا في الوقت أو في خارجه من دون أن يكون إعادة أو قضاء ، بل على أن يكون مأمورا من أول الأمر بالتعدد ، فلا يكون الإتيان بمرة واحدة موافقة للأمر ولا أداء للواجب. لكنه خارج عن مفروض الكلام.

هذا ، وقد ذكر غير واحد أنه يمكن تبديل الامتثال بامتثال آخر ، وذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن ذلك وإن أمكن في مقام الثبوت إلا أنه يحتاج إلى دليل في مقام الإثبات ، وجعل منه ما ورد في تبديل الصلاة فرادى أو جماعة بالصلاة جماعة.

أما المحقق الخراساني قدّس سرّه فقد خصه بما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض وإن كان يفي به بعد ذلك لو اكتفى به ، قال : «كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد ، فإن الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ، ولذا لو أهرق الماء واطلع عليه العبد وجب عليه إتيانه ثانيا ، كما إذا لم يأت به أولا. ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه ، وإلا لما أوجب حدوثه ، فحينئذ يكون له الإتيان بماء آخر موافق للأمر ـ كما كان له قبل إتيانه الأول ـ بدلا عنه ... ويؤيد ذلك بل يدل عليه ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلى فرادى جماعة ، وإن الله يختار أحبهما إليه».

وكأن ما ذكره يبتني على ما سبق منه في مبحث التعبدي والتوصلي من إمكان عدم مطابقة المأمور به للغرض. وحيث سبق منا امتناعه في حق المولى

١٨٩

الملتفت لما يطابق الغرض تعين كون المأمور به في الفرض المذكور مقيدا لبا بما يترتب عليه الغرض ، ولازم ذلك عدم تحقق الامتثال بمجرد حصول الماهية بصرف الوجود ، بل يكون مراعى بترتبه عليه ، فتبديله بفرد آخر قبل حصوله لا يكون من تبديل الامتثال ، بل من العدول عن الامتثال بفرد للامتثال بغيره ، كما لو عدل عن ذلك قبل الإتيان بالفرد.

وهذا هو الوجه في ما ذكره من أن الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ، وإلا ففرض الامتثال بالفرد الأول لا يناسب عدم سقوط الأمر.

نعم ، لا إشكال في احتياج ذلك للدليل الخاص ، وإلا فمقتضى الإطلاق كون المأمور به الماهية بنفسها لا بشرط ، بنحو تنطبق على الوجود الأول ولا تنسلخ عنه ، المستلزم لترتب الغرض على أول وجود منها ، ولتحقق الامتثال به وسقوط الأمر ، وعدم مشروعية العدول لغيره بعد حصوله. والتقييد اللبي المذكور يحتاج للدليل على عدم مطابقة المأمور به للغرض.

وأما مسألة إعادة الصلاة جماعة التي دلت عليها جملة من النصوص (١) ، فهي لا تبتني على تبديل الامتثال بالمعنى الذي هو محل الكلام ، حيث لا إشكال في تحقق الامتثال بالصلاة الاولى ، وسقوط الأمر ، الذي لا موضوع معه للامتثال الآخر ، بل على مشروعية الإعادة أو استحبابها بملاك زائد على ملاك الأمر الممتثل ، إما أن يقتضي استحباب الإعادة والتكرار زائدا على أصل الماهية ، كما يقتضيه ما تضمن أن له بذلك صلاة اخرى (٢) ، وقد يستفاد من غيره (٣) ، أو يقتضي التفاضل بين الأفراد في مقام الامتثال ، كملاك الجماعة ونحوها.

غاية الأمر أن ظاهر دليل تشريع التفاضل المذكور بدوا اختصاص

__________________

(١) راجع الوسائل ج ٥ باب : ٥٤ من ابواب صلاة الجماعة.

(٢) راجع الوسائل ج ٥ باب : ٥٤ من ابواب صلاة الجماعة : حديث : ٢.

(٣) راجع الوسائل ج ٥ باب : ٦ من ابواب صلاة الجماعة.

١٩٠

موضوعه بامتثال أمر الماهية ، فلا موضوع له مع امتثاله بفرد آخر ، إلا أن الأدلة الخاصة دلت على إمكان استيفائه معه بالإتيان بفرد آخر واجد للخصوصية ، فيترتب ملاك الفرد الأفضل عليه كما يترتب لو كان امتثال أمر الماهية به ابتداء.

وعليه يحمل ما تضمن من نصوص المسألة أن الله يختار أحبهما إليه (١) ونحوه ، بمعنى أنه يكتب في سجل الحسنات الصلاة الأفضل ، وإن كان الامتثال بغيرها ، وإليه يستند سقوط أمر الواجب.

نعم ، في صحيحي هشام بن سالم وحفص بن البختري : «يصلي معهم ويجعلها الفريضة» (٢) ، وحيث لا يمكن الالتزام بظاهره ، لسقوط الفرض بالفرد الأول ، فلا بد من حمله على أن المأتي به من سنخ الفريضة ماهية فهو ظهر اخرى مثلا ، لا صلاة مباينة للصلاة المأتي بها ماهية ، وإن لم تكن فريضة بالفعل ، غاية الأمر أنه يقصد أنها تحسب في مقام الثواب كما لو امتثل الفرض بها ، نظير ما ذكرناه فيما تضمن أن الله يختار أحبهما إليه.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من حمله على قصد القضاء بها ، كما هو صريح قوله عليه السّلام في حديث إسحاق : «صل واجعلها لما فات» (٣).

فهو بعيد جدا ، لأن ظاهر تعريف الفريضة معهوديتها ، ولا معهود عرفا إلا الفريضة التي أداها.

ومجرد تضمن حديث إسحاق نية القضاء لا يلزم بذلك ، نظير ما تضمن جعلها (٤) نافلة بل الظاهر الجمع بجواز الكل.

وبالجملة : يمتنع تبديل الامتثال ، لأن الامتثال الأول مستلزم لسقوط الأمر ،

__________________

(١) الوسائل ج ٥ باب : ٥٤ من ابواب صلاة الجماعة : حديث : ١٠.

(٢) الوسائل ج ٥ باب : ٥٤ من ابواب صلاة الجماعة : حديث : ١١.

(٣) الوسائل ج ٥ باب : ٥٥ من ابواب صلاة الجماعة : حديث : ١.

(٤) الوسائل ج ٥ باب : ٥٤ من ابواب صلاة الجماعة : حديث : ٨.

١٩١

ومعه لا يبقى موضوع الثاني. وإنما يمكن تقييد المأمور به بنحو ينطبق على الفرد الثاني على تقدير وجوده دون الأول ، نظير ما تقدم فيما لو لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض ، فيكون الإتيان بالثاني عدولا عن الامتثال بالأول ، لا تبديلا في الامتثال ، كما تقدم في نظيره.

ثم إن ما ذكرنا من أن موافقة الأمر تستلزم امتثاله وسقوطه الراجع لعدم وجوب الإعادة فضلا عن القضاء ، بل عدم مشروعيتهما كما يجري في الأمر الواقعي الأولي يجري في الأمر الاضطراري الثانوي وفي الأمر الظاهري ، بمعنى أن موافقة كل منهما تمنع من التعبدية به ثانيا بالإعادة أو القضاء على طبقه ، لعين الوجه المتقدم من أن الأمر لا يدعو إلا إلى متعلقه.

وقد وقع الكلام بينهم في امرين ..

أولهما : إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الاختياري ، بمعنى أن موافقة الأمر الاضطراري هل تقتضي الإجزاء بعد ارتفاع التعذر ، فلا تجب الإعادة ولا القضاء على طبق الأمر الاختياري؟

ثانيهما : إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي ، بمعنى أن موافقة الأمر الظاهري هل تقتضي الإجزاء عن الأمر الواقعي ، فلو انكشف الخطأ لا تجب الإعادة على طبق الأمر المذكور؟

وعمدة الكلام في مبحث الإجزاء في هذين الأمرين ، لما فيهما من النقض والإبرام الكلام فيهما على المباني المختلفة.

وأما إجزاء موافقة الأمر عن امتثاله ثانيا فقد سبق أن وضوحه مغن عن إطالة الكلام فيه.

ومن هنا يقع الكلام في مقامين ..

١٩٢

المقام الأول

في إجزاء الأمر الاضطراري

والكلام في إجزائه عن الإعادة لو ارتفع التعذر في أثناء الوقت إنما يكون بعد الفراغ عن مشروعية الأمر الاضطراري بمجرد تعذر المأمور به الاختياري في أثناء الوقت وإن لم يستوعبه.

وإلا فلو فرض اختصاص مشروعيته بالتعذر المستوعب للوقت يكون ارتفاع التعذر في أثناء الوقت مستلزما لعدم مشروعيته من أول الأمر ، فيخرج عن موضوع الكلام من إجزاء الأمر الاضطراري.

غاية الأمر أنه لو فرض القطع باستمرار التعذر أو التعبد به ظاهرا مع احتماله فأتى بالمأمور به الاضطراري ثم ارتفع التعذر قبل خروج الوقت يكون ارتفاعه كاشفا عن خطأ القطع أو التعبد الظاهري بمشروعية البدار ، فيبتني اجزاؤه على إجزاء الفعل الخطائي أو الأمر الظاهري ، الذي يأتي الكلام فيه في المقام الثاني إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت هذا ، فقد ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن مشروعية المأمور به الاضطراري في الوقت مستلزمة لإجزائه وعدم وجوب القضاء لو ارتفع العذر بعد الوقت ، لأن تعذر القيد في الوقت إن أوجب سقوط قيديته حال التعذر كان فاقد القيد وافيا بالملاك ، فلا يصدق مع الإتيان به الفوت هو موضوع القضاء ، وإن لم يوجب سقوط قيديته ـ لعدم حصول ملاك الواجب بدونه ـ امتنع الأمر بفاقد القيد ـ كما في فاقد الطهورين ـ ففرض الأمر بفاقد القيد حال التعذر

١٩٣

ووجوب القضاء متناقضان.

ولا مجال لوجوب القضاء بلحاظ تحصيل مصلحة القيد نفسه وإن حصلت مصلحة أصل الواجب بالمأمور به الاضطراري.

لأن مصلحة القيد إنما يمكن تحصيلها حال كونه قيدا في المأمور به ، فمع فرض عدم قيديته فيه ، لحصول أصل المأمور به وسقوط أمره بفعل الاضطراري في الوقت لا يبقى موضوع لاستيفاء مصلحة القيد وإن كانت لازمة التحصيل في نفسها.

وبالجملة : فرض مشروعية الاضطراري ووفائه بملاك أصل المطلوب مانع من مشروعية القضاء ، لا لتدارك ملاك أصل المطلوب ، لفرض حصوله بالاضطراري ، ولا لتدارك مصلحة القيد ، لتعذر تحصيلها بعد اختصاص مشروعية القيد بما إذا كان قيدا في المطلوب المفروض سقوط أمره.

وأما إيجاب الفعل خارج الوقت بعنوان آخر غير عنوان القضاء فهو وإن كان ممكنا ، إلا أنه خارج عن محل الكلام في المقام.

وفيه .. أولا : أنه لا يلزم في المأمور به الاضطراري أن يكون وافيا بملاك أصل الواجب دون قيده ، بل قد يكون ملاكه تدارك أو تجنب بعض أو تمام المفسدة الحاصلة من تأخير المأمور به الاختياري عن الوقت ، من دون أن يؤدي شيئا من مصلحته ، كما لو وجب غسل المسجد يوم الجمعة أو دفع عشرة دنانير لزيد ، فإن تعذر الغسل وجب سدّ باب المسجد ، وإن تعذر المال وجب الاعتذار من زيد بالعجز ، وكان مصلحة الغسل التطهير ومصلحة دفع المال وفاء دين في الذمة ، وكان إيجاب سدّ باب المسجد عند تعذر الغسل لتجنب صلاة الناس في موضع نجس ، والاعتذار من زيد عند تعذر المال لتطييب خاطره ، وفي مثل ذلك يتعين تدارك المأمور به الاختياري بالقضاء عند ارتفاع العذر ، لعدم وفاء المأمور به الاضطراري بشيء من مصلحته.

١٩٤

ودعوى : خروج ذلك عن المأمور به الاضطراري اصطلاحا ، كما قد يظهر منه قدّس سرّه.

ممنوعة ، إذ ليس المراد به إلا ما يجب بدلا عن الواجب المتعذر ، ولا طريق لتشخيصه إلا ذلك ، حيث لا يتيسر لنا تشخيص حال الملاكات وكيفية ترتبها ، وأنها بالنحو الذي فرضه قدّس سرّه ، بل يمكن أن تكون بالنحو الذي ذكرنا أو غيره وإن كان الاضطراري من سنخ فاقد القيد عرفا ، لا من سنخ آخر كالمثالين المتقدمين.

وثانيا : أنه لو سلم لزوم وفاء المأمور به الاضطراري بملاك المأمور به الاختياري بذاته دون ملاك قيده ـ كما فرضه هو قدّس سرّه فلا ملزم بالبناء على تعذر استيفاء ملاك القيد بالقضاء ، بل يمكن وفاء القيد بملاكه إذا حصل في العمل ثانيا وإن كان ملاك أصل العمل قد استوفي سابقا ، فلا يجب العمل لملاكه الأصلي ـ لغرض استيفائه ـ بل لأجل استيفاء ملاك القيد لا غير ، كما لو وجب الغسل بالماء الحار لأجل التطهير والتدفئة ، فتعذر الماء الحار فوجب أصل الغسل لأجل التطهير ، حيث يمكن وجوب الغسل بالماء الحار عند القدرة عليه لأجل التدفئة ، لا لأجل التطهير المفروض الحصول.

ودعوى : أن ذلك لا يناسب فرض الارتباطية بين القيد والمقيد.

ممنوعة ، لأن فرض الارتباطية إنما كان في حال القدرة ، لا في حال التعذر الذي هل محل الكلام ، إذ لا إشكال في عدم الارتباطية بينهما في الجملة ، ولذا شرع الفاقد للقيد حال التعذر.

هذا ، ولا يخفى أن الوجه الذي ذكره ـ لو تمّ ـ كما يجري في القضاء يجري في الإعادة ـ في فرض ارتفاع العذر قبل خروج الوقت وكون موضوع الأمر الاضطراري مطلق التعذر وإن لم يستوعبه ـ لتوقف الإعادة على عدم استيفاء الملاك وإمكان استيفائه ، إلا أنه ذكر لنفي وجوب الإعادة وجها آخر

١٩٥

يرجع إلى أن مشروعية البدار للمأمور به الاضطراري في محل الكلام تستلزم ، بعد فرض الإجماع على عدم وجوب صلاتين على المكلف في اليوم الواحد ، وفاء الاضطراري بتمام ملاك الاختياري الملزم ، إذ مع عدم وفائه بها يكون تشريعه مفوتا لغرض المولى ، وهو ممتنع ، وإذا كان وافيا بتمام ملاك الاختياري لم تشرع الإعادة.

لكنه يشكل : ـ مضافا إلى اختصاصه بالصلاة التي قام الإجماع على عدم وجوبها مرتين دون غيرها مما لا إجماع فيه ـ بأن الإجماع إنما يقتضي عدم وجوب الجمع بين المبادرة للاضطراري حال التعذر والإعادة بعد ارتفاع التعذر ، وليس هو محل الكلام حتى على القول بعدم إجزاء الاضطراري عن الإعادة ، لأن مشروعية الاضطراري مع عدم إجزائه عن الاعادة لا ترجع إلى وجوب المبادرة إليه ، بل إلى عدم لغويته لو أتى به لترتب بعض الملاك عليه وإن جاز عدم الإتيان به وانتظار ارتفاع العذر والاقتصار على الاختياري ، فلا تنافي الإجماع المذكور.

كما لا مانع منه ولا محذور في التخيير بين الاقتصار على الاختياري في آخر الوقت والجمع بينه وبين الاضطراري في أوله ، لعدم وفاء الاضطراري إلا ببعض الملاك الملزم ، وإمكان استيفاء الباقي منه بالإتيان بالاختياري ، نظير ما تقدم في مثال التطهير بالماء الحار.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من امتناع التخيير المذكور لرجوعه إلى وجوب الاختياري في آخر الوقت على كل حال ، ولا مجال معه لوجوب الاضطراري في أول الوقت تخييرا ، لأن لازمه أن يكون واجبا على تقدير المبادرة إليه وغير واجب على تقدير عدم المبادرة إليه ، وهو باطل.

فهو كما ترى! لأن الوجوب التخييري للزائد ثابت قبل وقوعه ، والتعييني غير ثابت له حتى بعد وقوعه ، وإنما التابع لوقوعه هو تعينه خارجا للامتثال ، كما

١٩٦

هو الحال في سائر موارد امتثال التكاليف الوجوبية والاستحبابية.

ولو تمّ ما ذكره لزم امتناع التخيير بين الأقل والأكثر مطلقا حتى لو كان الزائد دخيلا في ترتب الملاك على تقدير وجوده ، مع أنه قد اعترف بإمكانه حينئذ ، وإنما يمتنع التخيير المذكور لو كان الأقل مستقلا بالملاك ولم يكن للزائد دخل فيه على تقدير وجوده ، ولا مجال له في المقام ، لأن المفروض ترتب بعض الملاك على الاضطراري وكون الإعادة لاستيفاء الباقي منه بالاختياري ، لا لاستيفائه بتمامه.

وقد تحصل مما تقدم : أنه لا مجال للبناء على لزوم إجزاء المأمور به الاضطراري عن الإعادة أو القضاء بعد ارتفاع التعذر على ما يطابق المأمور به الاختياري ، بل يمكن فرض عدم إجزائه عنهما ، فلا مانع من الالتزام به لو اقتضته الأدلة.

هذا كله في مقام الثبوت ، وأما مقام الإثبات ومفاد الأدلة بعد فرض إمكان كل من الإجزاء وعدمه ..

فالذي ينبغي أن يقال : المأمور به الاضطراري ـ سواء كان فردا من الماهية المأمور بها ووجدا لعنوانها ، كالصلاة من جلوس والطهارة الترابية ، أم بدلا عنها ، كما لو وجب الاستغفار على من لم يجد الكفارة ـ لما كان تشريعه معلقا على تعذر الاختياري فالمستفاد من دليله عرفا عدم وفائه بتمام الملاك ـ الذي هو مورد الغرض ـ حال التعذر ، وليس هو كسائر الأفراد أو الأبدال المشروعة في حال خاص ، فالصلاة من جلوس حال تعذر القيام ـ مثلا ـ ليست كالصلاة قصرا حال السفر ، بل هي نظير الميسور من المطلوب الذي لا يسقط بالمعسور منه ، ويجتزأ به للضرورة. ولذا لا يجوز ـ ارتكازا ـ تعجيز النفس عن المأمور به الاختياري لتحقيق موضوع الاضطراري كما يجوز السفر لتحقيق موضوع القصر. ولازم ذلك عدم الاكتفاء بها بالمأمور به الاضطراري مع عدم استيعاب

١٩٧

التعذر للوقت ، لقبح الاجتزاء ببعض الملاك الذي هو مورد الغرض مع إمكان استيفائه بتمامه في الوقت بانتظار ارتفاع العذر.

وحينئذ إن دل الدليل على مشروعية المأمور به الاضطراري بمطلق التعذر وإن لم يستوعب الوقت ، فإن كان المراد به مجرد المشروعية في مقابل لغويته وعدم ترتب شيء من الملاك عليه ، لم يناف ما ذكرنا من عدم وفائه بتمام الملاك المذكور.

ويتعين حينئذ عدم الاجتزاء به عن الإعادة بعد ارتفاع التعذر ، عملا بإطلاق دليل المأمور به الاختياري المقتضي لفعلية الأمر به بالقدرة عليه في بعض الوقت ، من دون أن ينافيه دليل مشروعية الاضطراري بعد كون المراد به المشروعية بالمعنى المذكور.

وإن كان المراد به الاجتزاء به في أداء الخطاب المتوجه في الوقت كان مسوقا لبيان إجزائه عن الإعادة الذي هو محل الكلام في المقام ، وكشف عن وفائه في حال التعذر بتمام الملاك الذي يفي به الاختياري في حال القدرة أو ببعضه مع عدم فعلية الغرض بتحصيل الباقي ، لمصلحة التسهيل أو غيرها ، على خلاف ما سبق أنه المستفاد عرفا من إطلاق دليل تشريع البدل الاضطراري ، ولزم جواز تعجيز النفس لتحقيق موضوعه.

هذا ، ومن الظاهر أن المفهوم عرفا من تشريع البدل الاضطراري هو المعنى الثاني ، لأنه المهم لعامة المكلفين ، فتنصرف إليه الأسئلة والأجوبة والبيانات الشرعية ، وإرادة المعنى الأول تحتاج إلى عناية لا مجال لحمل الكلام عليها إلا بقرينة. ومن ثم كان الأول هو المفهوم حتى من الدليل اللبي المتفرع على مدلول الكلام وتشخيص المراد به ، كالإجماع المستفاد من كلام أهل الفتوى.

وعلى هذا يبتني ما تكرر منا ومن غير واحد من أن قرينة الاضطرار ـ

١٩٨

المناسبة لعدم وفاء الاضطراري بتمام ملاك الاختياري ، كما تقدم ـ تقتضي اختصاص مشروعية المأمور به الاضطراري بالتعذر في تمام الوقت.

لوضوح أن القرينة المذكورة إنما تقتضي ذلك لو استفيد من دليل مشروعيته إجزاؤه ، لقبح الاجتزاء ببعض الملاك ومورد الغرض مع إمكان استيفائه بتمامه في آخر الوقت عند ارتفاع العذر ، أما لو استفيد منه مجرد المشروعية في مقابل اللغوية فالقرينة المذكورة لا تمنع من مشروعيته بالتعذر في بعض الوقت ، لما عرفت من عدم ملازمة المشروعية بالمعنى المذكور للاجتزاء عن الإعادة المستلزم لفوت بعض الملاك.

وقد ظهر مما ذكرنا أن استفادة الإجزاء من دليل مشروعية الاضطراري بمطلق التعذر ـ وإن لم يكن مستوعبا للوقت ـ إنما هو لأجل أن الدليل المذكور مسوق نوعا لبيان ذلك ، لا لكون المشروعية مستلزمة للإجزاء عقلا ، كما يظهر مما سبق من بعض الأعاظم قدّس سرّه.

هذا كله في الإعادة ، وأما القضاء فعدم وجوبه في فرض كون موضوع الاضطراري مجرد التعذر وإن لم يستوعب الوقت مستفاد عرفا مما دل على عدم وجوب الإعادة ، لأن عدم وجوب الإعادة حيث كان مستلزما لوفاء الاضطراري بتمام الملاك أو ببعضه مع عدم فعلية تعلق الغرض بالباقي فهو مستلزم لعدم تحقق موضوع القضاء مع الإتيان بالاضطراري في وقته ، لأن موضوع القضاء إن كان هو الفوت فهو لا يصدق عرفا بالإضافة للمطلوب بعد حصول تمام ما هو مورد الغرض من ملاكه. وإن كان هو عدم الاتيان بالواجب فالمراد منه خصوص ما يلازم فوت غرضه ، لفعلية تعلق الغرض به تعيينا حين فوته ولو مع عدم فعلية الخطاب به لمانع من نوم أو نحوه ، لا مطلق عدم الإتيان به ولو مع حصول غرضه ببدله المجزي عنه.

وإن شئت قلت : المأمور به الاضطراري إن كان واجدا لعنوان الماهية

١٩٩

المأمور بها حال الاختيار والتي يكون فوتها أو عدم الإتيان بها موضوعا للقضاء ـ كالصلاة من جلوس عند تعذر الصلاة من قيام ـ كان دليل تشريعه واردا على دليل القضاء ، لأنه منقح لفرد المأمور به حال الاضطرار.

وإن كان فاقدا لعنوانها كان مرجع تشريعه إلى بدليته عن الماهية المذكورة ، ومن الظاهر حكومة دليل للبدلية على دليل الواجب ، حيث يكون مفاده قيامه مقامه ، فلا يترتب معه أثر فوته أو عدم الإتيان به وبذلك يكون حاكما على دليل القضاء أيضا. مضافا إلى أن سقوط القضاء أولى عرفا من سقوط الإعادة لو ارتفع العذر في أثناء الوقت. كما لا يخفى.

وأما إذا كان موضوع الأمر الاضطراري التعذر في تمام الوقت فإجزاؤه عن القضاء ليس بذلك الوضوح لعدم المخرج عما هو المرتكز ـ بسبب أخذ التعذر في موضوعه ـ من عدم وفائه بتمام ملاك الاختياري الذي هو مورد الغرض الفعلي ، لإمكان كون تشريعه لأهمية مصلحة الوقت الملزمة بتحصيل ما يمكن تحصيله من ملاكه فيه ، مع كون الباقي ممكن التحصيل بالقضاء عند ارتفاع التعذر بعد الوقت ، كما أنه لازم ، فيتحقق موضوع القضاء.

إلا أنه لا يبعد ظهور أدلة تشريعه في الاجتزاء به عن القضاء عند ارتفاع العذر وورودها لبيان الخروج به عن الخطاب المتوجه في الوقت من أصله بلحاظ تمام الملاك الذي هو مورد الغرض الفعلي ، لا بلحاظ خصوصية الوقت منه مع بقاء شيء منه يطالب به المكلف خارج الوقت ، لأن ذلك هو مقتضى ما سبق في القسم الأول من ورود دليل الاضطراري أو حكومته على دليل القضاء.

ومجرد عدم وفاء الاضطراري بتمام ملاك الاختياري لا ينافي ذلك ، لإمكان كون الإتيان بالمأمور به الاضطراري ـ المشروع والمحصل لبعض الملاك ـ في الوقت مانعا من فعلية تعلق الغرض بالباقي من الملاك ، إما لتعذر تحصيله بالقضاء ، أو لاقتضاء مصلحة التسهيل رفع اليد عنه.

٢٠٠