المحكم في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٢

لكن يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه ـ على طول في الكلام المنقول عنه في تقرير درسه ـ اختصاص امتناع التقدم والتأخر عن المعلول بالمقتضي الذي يستند إليه المعلول ويترشح منه ، دون الشرط ، بتقريب : أن الأثر لا يستند للشرط ، بل ليس المؤثر إلا الحصة الخاصة من ماهية المقتضي ، وهي المضافة للشرط ، وليس دخل الشرط إلا بلحاظ كونه طرفا للإضافة مع الحصة المؤثر من المقتضي ، وكما يمكن كون الشيء طرفا للإضافة مع المقارن يمكن كونه طرفا للإضافة مع المتقدم والمتأخر.

ويشكل : بأن اختصاص التأثير بالحصة الخاصة من المقتضي المضافة للشرط إن كان من جهة دخل الشرط في فعلية تأثير المقتضي ، بحيث يقتضي تميز الحصة المضافة له عن غيرها بميزة تكوينية خارجية تستلزم فعلية الأثر ، كان اللازم مقارنة الشرط ـ كالمقتضي ـ للتأثير والأثر ، إذ حيث كانت تلك الخصوصية والميزة مستندة للشرط استحال انفكاكها عنه. إلا أن تكون مستندة إليه بتوسط أثره الباقي بعد ارتفاعه ، فيمكن تقدم الشرط حينئذ ويكون معدا ، وإن امتنع كونه متأخرا ، كما تقدم.

وإن كان اختصاص التأثير بالحصة الخاصة من المقتضي لمحض الإضافة للشرط من دون أن يستند للشرط بوجوده جهة دخيلة في فعلية التأثير ، فالإضافة المذكورة أمر انتزاعي صرف لا يعقل توقف التأثير عليه في العلل التكوينية ذات الآثار الحقيقية الخارجية التي هي محل الكلام ، لعدم السنخية ، كما لعله ظاهر.

ومنه يظهر ضعف دعوى : أن المتأخر يكون شرطا بوصف تأخره ، لا بذاته ، وعنوان التأخر يصدق قبل وجود المتأخر بذاته ، فالشرط في الحقيقة مقارن لا متأخر.

إذ فيها : ـ مضافا إلى خروجها عن مفروض الكلام من تأخر الشرط ، وإلى

٢٤١

عدم وضوح صدق عنوان التأخر قبل وجود المتأخر ـ أن التأخر بنفسه عنوان انتزاعي متقوم بالإضافة التي هي أمر اعتباري محض ، لا يستند إليه الأثر التكويني ، ولا يكون جزءاً من علته ، وليس الأثر إلا للذات المفروض تأخرها وعدم اتصالها بالمعلول ، فلا يعقل تأثيرها فيه ، لما تقدم.

وأضعف من ذلك ما قد يدعى : من أنه لا مانع عندهم من كون العدم حافظا لقابلية المحل ، بشهادة أن عدم المانع من أجزاء العلة ، كالشرط ، فإذا جاز فيه جاز في الشرط.

إذ فيه : أن دخل العدم في المعلول وإن كان ممكنا ، إلا أنه مختص بعدم المانع الذي يكون بوجوده دخيلا في عدم المعلول ، ولا يكون وجوده ـ المقارن أو المتقدم أو المتأخر ـ دخيلا في وجود المعلول ، ولا يجري في عدم الشرط المفروض كون وجوده دخيلا في وجود المعلول.

لوضوح أنه مع كون الشيء شرطا ووجوده دخيلا في وجود المعلول فتحقق المعلول قبل وجوده أو بعد ارتفاعه. إن ابتنى على استناد المعلول لوجوده المتقدم أو المتأخر ، لزم تأثير الشيء حال عدمه الذي عرفت امتناعه.

وإن ابتنى على استناد المعلول للعدم المقارن ـ كما يناسبه قياسه بعدم المانع ـ فهو ـ مع استلزامه عدم الحاجة للوجود المتقدم أو المتأخر ، وخروجه عن محل الكلام من فرض الشرط المتأخر أو المتقدم ـ ينافي فرض كون الشيء شرطا ، لرجوعه إلى كون الشرط هو الجامع بين الوجود والعدم ، وهو محال.

فالإنصاف : أن بداهة امتناع الشرط المتقدم ـ في غير المعد بالتوجيه المتقدم ـ والمتأخر تغني عن إطالة الكلام فيه وفي الاستدلال عليه لو لا ظهور القول بإمكانه أو احتماله ممن لا ينبغي تجاهل كلامه.

هذا كله في العلل التكوينية ، وأما العلل والمقدمات الشرعية فحيث سبق أن منشأ عليتها ومقدمتيها أخذها قيدا في المأمور به شرعا فمن الظاهر أن

٢٤٢

التقييد ـ كسائر الإضافات الاعتبارية ـ كما يمكن أن يكون بالمقارن يمكن أن يكون بالمتقدم والمتأخر.

نعم ، لما كان الأمر تابعا للفرض سعة وضيقا فتقييد المأمور به لا بد أن يكون لاختصاص الغرض بالمقيد.

وحينئذ قد يشكل : بأن المتأخر والمتقدم كيف يكون دخيلا في فعلية ترتب الغرض على المأمور به مع عدم وجوده حينه ، نظير ما تقدم في العلل التكوينية ، لأن ترتب الغرض على المأمور به ليس تابعا للجعل الشرعي ، بل لخصوصيات تكوينية.

ولا بد من توجيهه بأحد وجهين ..

أولهما : أن القيد ملازم للحصة المؤثرة للغرض ، فيكون كاشفا محضا عنها من دون أن يكون دخيلا في فعلية الغرض.

ثانيهما : أن الشرط المتقدم يبتني على ما تقدم في المعدّ في التكوينيات ، والمتأخر يبتني على كون المأمور به غير مؤثر لفعلية الغرض الأقصى بل لقابلية تحققه ، وفعليته تابعة لوجود الشرط ، نظير ما تقدم في المعدّ ، فإن ذلك ممكن عقلا وواقع عرفا ، نظير إكرام الضيف بالطعام القليل ، الذي لا يترتب عليه الغرض ـ وهو حسن الضيافة ـ إلا بضميمة الاعتذار بعده بأنه تمام الميسور وإن لم يناسب حق الضيف ومقامه.

هذا ، وقد ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه في توجيه الشرط المتأخر في المأمور به أن الشرط لا يزيد في المعنى على الجزء الدخيل في المأمور به ، فكما لا إشكال في إمكان تأخر أجزاء المأمور به بعضها عن بعض كذلك لا ينبغي الإشكال في جواز تأخر شرط المأمور به عنه ، لكون الشرط بنفسه موردا للتكليف كالجزء ، لما سبق منه من دخول التقييد بالشرط في المأمور به ، وحيث كان التقييد منتزعا من القيد ، وكان التكليف بالأمر الانتزاعي راجعا إلى التكليف بمنشإ انتزاعه ، لزم كون الشرط بنفسه داخلا في المأمور به ، كالجزء ، فيجري فيه ما يجري فيه من

٢٤٣

جواز تأخره. لكن سبق أنه لا مجال للبناء على رجوع الشرط للجزء. بل الأمر بالعكس ، لأن أخذ الجزء في المركب راجع إلى أمرين ..

أحدهما : وجوب الجزء في ضمن الكل.

ثانيهما : تقييد بعض الأجزاء ببعض ـ الذي هو مقتضى الارتباطية ـ بحيث لا يترتب الغرض من كل منهما ولا يدخل في حيز المأمور به إلا بوجود الباقي وانضمامه إليه. والتقييد المذكور كالتقييد بالشرط يرجع إلى اختصاص مورد الغرض والأمر بالحصة الخاصة من الماهية.

وحينئذ يشكل تأخر الأجزاء بعضها عن بعض بما سبق في الاشكال على الشرط المتأخر ، وينحصر الجواب عنه بما سبق. ولولاه لامتنع أخذ الأجزاء التدريجية في المركب ، ولزم كون التكليف به بنحو الانحلال ، دون الارتباطية ـ التي إليها يرجع التقييد ـ واختصت الارتباطية في المركب بما إذا كانت أجزاؤه دفعية. ووضوح بطلانه كاشف عن تمامية ما ذكرنا.

تتميم

كما وقع الكلام في الشرط المتقدم والمتأخر للمأمور به كذلك وقع في الشرط المتقدم والمتأخر للحكم الشرعي التكليفي والوضعي.

والظاهر إمكانه ، لنظير ما سبق في وجه إمكانه في المأمور به ، لوضوح تبعية شرطية شيء للحكم لأخذه فيه قيدا ، وقد سبق أن التقييد كما يمكن بالمقارن يمكن بالمتقدم والمتأخر.

غاية الأمر أن أخذ الشيء قيدا في الحكم إنما يحسن مع دخله في فعلية تعلق الغرض الداعي لجعله ، بحيث تتوقف فعليته على ثبوت الشرط في ظرفه ، بخلاف شرط المأمور به ، فإن أخذه موقوف على دخله في تحقق الغرض من المأمور به وترتبه في الخارج ، على ما تقدم توضيحه في مبحث الواجب المشروط.

٢٤٤

لكنه ليس فارقا في محل الكلام ، إذ كما يمكن توقف تعلق الغرض على أمر مقارن للحكم ـ كدخل المرض في حسن استعمال الدواء ـ كذلك يمكن توقفه على أمر متقدم أو متأخر عنه ، كما في توقف حسن إكرام زيد ـ بملاك الشكر ـ على سبق حسن الصنيع منه ، وتوقف حسن إعداد الطعام في يوم على مجيء الضيف في غده ، ولازم ذلك جعل الحكم منوطا بالشرط على نحو دخله في الغرض ، لتبعية الحكم للغرض سعة وضيقا.

لكن بعض الأعاظم قدّس سرّه منع من كون شرط الحكم متأخرا ، بتقريب : أن شرطية شيء للحكم وإن لم ترجع إلى عليته له حقيقة ، لوضوح كون تمام علة الحكم جعل الحاكم له ، إلا أنها راجعة إلى أخذه فيه مفروض الوجود ، كما هو مفاد القضية الشرطية والحملية الحقيقية الراجعة إليها ، ومع أخذه فيه مفروض الوجود تمتنع فعلية الحكم قبل وجوده ، لأنه خلف.

ويشكل : بأنه لا يراد بأخذ الشرط مفروض الوجود تعليقه على وجوده فعلا ، بحيث لا يكون الحكم فعليا حتى يوجد ، بل تعليقه على وجوده في ظرفه المعتبر في الحكم مقارنا أو سابقا أو لا حقا ، فلا بد من فرض وجوده في الظرف المذكور ، وهو الظرف الذي تصدق بوجوده فيه النسبة التي تتضمنها جملة الشرط في الشرطية او تستفاد من عنوان الموضوع في القضية الحقيقية الحملية ، فإذا كان مطابق النسبة هو وجود الشرط فعلا لزم مقارنة الشرط للحكم ، كقولنا : إن كنت مسافرا فقصر ، أو : المسافر يقصر ، وإن كان مطابقها وجود الشرط سابقا أو لا حقا لزم تقدم الشرط أو تأخره ، كما لو قيل : إن سافرت أول الشهر ، أو : إن تسافر آخر الشهر ، وجب عليك في وسطه الصدقة ، أو قيل : المسافر أو الشهر أو آخره يجب عليه في وسطه الصدقة.

وحيث كان الكل ممكنا ثبوتا تبعا لنحو دخل الشرط في الغرض ـ كما سبق ـ فلا مجال للمنع من بعض ذلك لو ساعدت عليه الأدلة إثباتا.

ودعوى : أن مرجع ذلك إلى كون الشرط مقارنا مطلقا ، لأن الشرط على

٢٤٥

ذلك هو النسبة الماخوذة في الحكم المفروض لزوم مقارنة صدقها له وإن كان ظرف مقتضاها متقدما أو متأخرا.

مدفوعة : بأن النسبة معنى حرفي انتزاعي لا تصلح لأن تكون دخيلة في الغرض ولا موضوعا للحكم بنفسها ، بل بلحاظ مطابقها الخارجي الحقيقي الذي يكون هو الدخيل في الغرض وفي موضوع الحكم ، وهو القابل للوجود والعدم ، دون النسبة ، فانها إنما تتصف بالصدق والكذب دون الوجود والعدم.

ولو بني على كون الشرط مقارنا بلحاظ مقارنة صدق النسبة المأخوذة في الحكم وإن كان مطابقها متقدما أو متأخرا لم يبق في المقام شرط متقدم أو متأخر ليقع الكلام في إمكانه وامتناعه ، وانقلب النزاع لفظيا.

ومما ذكرنا يظهر اندفاع دعوى : أن الشروط الشرعية للأحكام دخيلة في موضوعاتها ، ويستحيل انفكاك الحكم عن موضوعه بحيث يتقدم عليه.

إذ فيها : أن الممتنع هو انفكاك الحكم عن تحقق موضوعه في ظرفه المعتبر في الحكم والذي يستفاد من النسبة التي يتضمنها دليله ، لا عن تحقق موضوعه في الخارج حينه.

ولو لا ما ذكرنا لأشكل الشرط المتقدم أيضا ، لوضوح أن استحالة انفكاك الحكم عن موضوعه تقتضي تقارنهما. بل يجري ذلك على ما تقدم من بعض الأعاظم قدّس سرّه أيضا ، لوضوح أن مقتضى أخذ الشرط مفروض الوجود في فعلية الحكم وجوده حينها ، لا قبلها مع انعدامه حينها.

ومن هنا لا مخرج عما ذكرنا من إمكان الشرط المتقدم والمتأخر في الأحكام كما يمكن في المأمور به.

وبذلك ينتهي الكلام في التمهيد لمباحث المقدمة ، ويقع الكلام في المباحث المقصودة بالأصل ، وهي ثلاثة ..

٢٤٦

المبحث الأول

في الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته

قد اختلفت كلماتهم في تحرير مورد النزاع في المقام ، فحرر في كلام جماعة من المتأخرين بالوجه الذي ذكرناه ، وهو البحث في الملازمة بين الوجوبين ، وبذلك لا تكون المسألة فرعية فقهية ، لعدم البحث فيها عن نفس الحكم الشرعي ، بل اصولية لوقوعها في طريق استنباط الحكم المذكور في الموارد المتفرقة التي يفرض فيها وجوب شيء ما له مقدمة.

وأما القدماء ، فقد حررها جملة منهم بعنوان البحث في وجوب مقدمة الواجب. وذلك قد يوهم كونها فرعية ، للبحث فيها عن نفس الحكم الشرعي الفرعي ، وهو وجوب المقدمة. وقد منع جماعة من ذلك ، لوجوه لا تخلو عن إشكال أو كلام لا يسع المقام استقصاءه.

ولعل الأولى في تقريب عدم كونها فرعية أن يقال : وحدة المسألة الفرعية موقوفة على وحدة الحكم الفرعي الذي يبحث عنه فيها ، ووحدة الحكم تابعة لوحدة الموضوع بعنوانه الذي اخذ فيه عند جعل الحكم ، ومن الظاهر أنه لا حكم للشارع بوجوب المقدمة بما هي مقدمة ، لأن العنوان المذكورة تعليلي لا تقييدي ، لعدم تضمن الأدلة الشرعية له ، وإنما استفيد الحكم ـ على تقدير ثبوت وجوب المقدمة ـ من حكم العقل ، والعقل لا يرى لهذا العنوان دخلا في الحكم بنفسه ، بل تمام الموضوع ذات المقدمة على اختلاف مواردها ، لأن الواجب يتوقف عليها بذواتها وخصوصياتها ، لا بالعنوان المذكور ، فموضوع الحكم الشرعي هو مصاديق المقدمة المختلفة بخصوصياتها ، ولازم ذلك تعدد الأحكام الشرعية بعددها.

٢٤٧

فهذه المسألة تشير إلى تلك الأحكام ، لا إلى حكم واحد ، فلا تكون مسألة فرعية واحدة ، بل مشيرة إلى مسائل فرعية كثيرة.

وحيث كان البحث هنا عن الجهة الجامعة بين المسائل ، ـ وهي الملازمة ـ خرجت عن كونها مسألة فرعية ، لعدم البحث فيها عن الحكم الشرعي ، بل عن أمر عقلي. وتعين كونها اصولية لو كان المعيار في كون المسألة اصولية وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي مطلقا وإن لم يكن للحكم المذكور أثر عملي ، أما إذا اختصت بما إذا كان للحكم المستنبط بها أثر عملي خرجت عن كونها اصولية أيضا ، بناء على ما أشرنا إليه آنفا ، ويأتي توضيحه إن شاء الله تعالى من أن الأمر الغيري لا يترتب عليه أثر في مقام العمل ، بل الأثر الثابت معه ثابت بدونه ـ وحينئذ تكون المسألة علمية محضة. فلاحظ.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنهم اختلفوا في ثبوت الملازمة المذكورة وعدمها على أقوال ، من الإثبات مطلقا ، والنفي مطلقا ، والتفصيل.

واللازم النظر في الوجوه التي استدل بها القائلون بثبوت الملازمة ، ثم النظر في حجة المفصلين.

وأقدم الوجوه فيما يظهر هو ما نسب لأبي الحسين البصري ومن تبعه من أنها لو لم تجب لجاز تركها ، فإن بقي الواجب على وجوبه لزم التكليف بالمحال ، وإلا خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا.

وقد أطالوا في بيان هذا الوجه ومناقشته ، إلا أن ظهور وهنه يغني عن ذلك ، لوضوح أن عدم وجوب المقدمة شرعا لا ينافي وجوبها عقلا ـ كما يأتي ـ فضلا عن أن يستلزم امتناعها ، ليلزم سقوط التكليف بذيها أو كون التكليف به تكليفا بما لا يطاق.

ومن هنا يلزم النظر فيه بقية الوجوه المذكورة في كلماتهم ، وقد سطر في الفصول والتقريرات وجوها كثيرة لعل أهمها وجهان ، لأن باقي الوجوه بين ما

٢٤٨

هو ظاهر الضعف ، وما هو راجع للوجهين المذكورين أو يظهر الحال فيه من الكلام فيهما ..

أحدهما : ما عن المحقق السبزواري من أنها لو لم تجب لم يستحق العقاب مع ترك المقدمات المفوتة ، وهي التي يكون التفريط فيها قبل وقت الواجب مستلزما لتعذر الواجب في وقته ، كقطع المسافة للحج ، لأن التفريط حينئذ ليس إلا بالمقدمة المفروض عدم وجوبها ، دون نفس الواجب ، لفرض عدم حضور وقته ، ومع عدم استحقاق العقاب بتركها لا مجال للعقاب على ترك الواجب في وقته ، لفرض تعذره.

لكنه إن بني على داعوية التكليف عقلا قبل وقت المكلف به لحفظ نفسه ، بامتثاله كفت داعويته في العقاب عليه مع ترك المقدمة المؤدي في الفرض لتركه وإن بني على عدم داعوية التكليف قبل وقت المكلف به لحفظ نفسه في وقته فلا مجال للبناء على داعوية وجوب المقدمة بنحو يستحق العقاب بتركها ، لأن داعويته في طول داعوية التكليف بذي المقدمة.

ومن هنا لا مجال لابتناء استحقاق العقاب في الفرض على وجوب المقدمة غيريا تبعا لوجوب ذيها الذي هو محل الكلام في المقام ، بنحو يستدل به عليه.

ومن ثمّ يأتي في المبحث الثالث إن شاء الله تعالى توجيه العقاب في الفرض بأن التكليف يدعو قبل وقته لحفظ نفسه في وقته بلا حاجة للبناء على وجوب المقدمة. ولو لا ذلك تعين البناء على وجوب المقدمة نفسيا. وتمام الكلام هناك.

ثانيهما : ما ذكره جماعة من المتأخرين كصاحب الفصول وشيخنا الأعظم وجماعة ممن تأخر عنهما وحكي عن المحقق السبزواري أيضا ما قد يرجع إليه ، وتقريبه : ـ بعد النظر في كلمات جملة منهم على اختلاف يسير بينها ـ

٢٤٩

أن الوجدان السليم يقضي بتبعية إرادة المقدمة لإرادة ذيها وطلبها لطلبه ، إذ ليس المدعى في المقام هو الطلب الفعلي للمقدمة على نحو طلب ذيها ، لوضوح أن الطالب قد يغافل عن المقدمات ، بل يعتقد عدم توقف على بعضها ، بل هو طلبها تبعا إجمالا بمقتضى الارتكازيات الكامنة في النفس ، على نحو لو توجه إليها تفصيلا لوجه الطلب بها كذلك ، وذلك نحو من أنحاء الطلب الذي يترتب عليه آثاره ، بل حيث كان المهم في المقام هو وجوب المقدمة في التكاليف الشرعية ، فاستحالة الغافلة في حق الشارع الأقدس تستلزم الطلب الفعلي التفصيلي منه بعد ثبوت هذا النحو من الملازمة بين التكليف بالمقدمة والتكليف بذيها.

أقول : الظاهر رجوع دعوى الوجدان المذكورة إلى ما تقدم في الأمر الأول من التمهيد لمباحث المقدمة من أن ، حدوث الداعي العقلي أو غيره لفعل الشيء يستلزم حدوث الداعي المسانخ له لفعل مقدمته ، فإن ذلك لا يختص بالمكلف ، بل يجري في المولى أيضا ، ففرض حصول الإرادة والداعي له لفعل المكلف بنحو يطلبه منه ويكلفه به لا بد أن يستلزم حدوث ذلك بالإضافة لمقدمته.

لكن ذلك وحده لا يكفي في إثبات تعلق الطلب الغيري بالمقدمة والتكليف بها ، لأمرين ..

أولهما : أنه لما كان الغرض من الطلب والتكليف إحداث الداعي لفعل الشيء ـ وإن لم يندفع عنه المكلف ـ فإن كان التكليف بذي المقدمة كافيا في إحداث الداعي المذكور نحوه لزم ـ بمقتضى الملازمة المتقدمة ـ حدوث الداعي المسانخ له نحو المقدمة نفسها أيضا بلا حاجة إلى تعلق الطلب والتكليف المولوي الغيري بها ، فيكون طلبها والتكليف بها لغوا لا فائدة فيه ، وإن لم يكن التكليف بذي المقدمة كافيا في إحداث الداعي نحوه لم يصلح التكليف بالمقدمة لإحداث الداعي نحوها ، وكذا الحال في التحرك عن الداعي

٢٥٠

المسبب عن التكليف النفسي والتحرك عن الداعي المسبب عن التكليف بالمقدمة ، لما هو المعلوم من أن داعوية الأمر الغيري في طول داعوية الأمر النفسي وبملاك امتثاله ، على غرار ما سبق من تفرع الداعوية نحو المقدمة على الداعوية نحو ذيها ، فلا يصلح الأمر الغيري حتى لتأكيد داعوية المقدمة المسببة عن الأمر النفسي ، لما سبق عند الكلام في المقدمة الداخلية من امتناع التأكيد في الداعويتين الطوليتين اللتين تكون إحداهما فانية في الاخرى.

هذا ، وقد أجاب بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدّس سرّه عن ذلك : بأن الإرادة الغيرية إرادة قهرية ترشحية معلولة للإرادة النفسية ، ومثلها لا يحتاج إلى ملاحظة الغرض والثمرة.

ولا يخفى أنه تكرر في كلماتهم خروج الإرادة مطلقا عن الاختيار ، وأنها لازمة لإدراك ترتب الغرض الفعلي على المراد من دون مزاحم ، وليس الفرق بين الإرادة النفسية والغيرية علية الاولى للثانية ، بل أن الاولى ناشئة عن غرض استقلالي قائم بالمراد ، والثانية ناشئة عن غرض غير مستقل ، بل فان في الغرض الأول وفي طوله وفي طريق تحصيله ، وملازم له.

وذلك وحده لا يكفي في كون الإرادة الغيرية منشأ للتكليف بمتعلقها بعد كون المصحح للتكليف والغرض منه عقلا إحداث الداعي نحو المكلف به مع ما ذكرناه من كفاية التكليف بذي المقدمة في إحداث الداعي له وللمقدمة في طوله بلا حاجة لتكليف آخر بها.

فالمقام يشبه تعلق إرادة المولى بإطاعة أوامره المتفرعة على إرادته لمتعلقاتها وفي الملازمة لها وفي طولها ، حيث لا إشكال عندهم في عدم صلوحها للتكليف بالإطاعة زائدا على التكليف بمتعلق الأمر بعنوانه بعد أن لم تكن ناشئة عن غرض آخر مستقل عن الغرض من المأمور به ، لتصلح للداعوية نحوه ولو بتأكيد داعوية أمره.

٢٥١

اللهم إلا أن يدعى أن لزوم كون الغرض من التكليف والمصحح له هو إحداث الداعي للمكلف به مختص بالتكليف النفسي الناشئ عن إرادة استقلالية مسببة عن ملاك استقلالي ، أما التكليف الغيري فلا يعتبر فيه ذلك ، بل يكفي فيه ثبوت الإرادة الغيرية بالتبعية بالوجه المتقدم ولو لم تترتب عليه ثمرة.

لكن لا نتعقل اعتبار العقلاء للتكليف وانتزاعهم له مع عدم الثمرة. إلا أن يرجع النزاع لفظيا ، لعدم الإشكال في ثبوت الإرادة الغيرية في فرض ثبوت الإرادة النفسية ، وفي عدم ترتب الثمرة العملية لها ، وإنما النزاع في الاكتفاء بذلك في إطلاق التكليف. وليس هو بمهم.

ثانيهما : أن ذلك يبتني على ما تكرر في كلام جملة منهم من انتزاع التكليف من تعلق إرادة المولى بفعل المكلف على نحو إرادته لفعل نفسه ، من دون فرق بينهما إلا في متعلق الإرادة. وعليه يبتني ما قيل من أن الإرادة التشريعية ـ التي هي منشأ انتزاع التكليف ـ من سنخ الإرادة التكوينية. إذ عليه لا يتحقق التكليف النفسي إلا بعد تعلق غرض المولى وإرادته بذي المقدمة المستلزم ـ بمقتضى الملازمة المتقدمة ـ لتعلق غرضه وإرادته للمقدمة تبعا.

لكن سبق في مقدمة الاصول عند الكلام في حقيقة الحكم التكليفي المنع من ذلك ، وأن الحكم التكليفي منتزع من الخطاب بداعي جعل السبيل مبنيا على ملاحظة الجهة المقتضية لمتابعة المكلف للحاكم من خوف أو رجاء أو استحقاق أو غيرها.

وحينئذ لا مجال لاحتمال وجوب المقدمة ، لوضوح أن الخطاب بذي المقدمة لا يبتني إلا على جعل السبيل بالإضافة إليه ، لكونه بنفسه موضوعا للملاك والغرض الفعلي ، وهو الذي يكون مقصودا بالاطاعة والمعصية وما يستتبعهما من ثواب وعقاب وغيرهما ، ولا ملازمة بين جعل السبيل بالإضافة إليه وجعله بالإضافة للمقدمة ، لأن الملازمة المتقدمة إنما هي بالإضافة إلى

٢٥٢

الإرادة والداعوية ، لا بالإضافة إلى جعل السبيل ، بل هو تابع لموضوع الغرض. كما أنه يلغو بالإضافة للمقدمة بعد فرض عدم ترتب آثاره بالإضافة إليها.

نعم ، لما كان التكليف بذي المقدمة مستلزما لحدوث الداعي إليه في حق المكلف فهو مستلزم لحدوثه بالإضافة إلى المقدمة في حقه أيضا تبعا للملازمة المتقدمة. فالمقدمة تشارك الواجب في الداعوية المسببة عن التكليف ، لا في الداعوية السابقة عليه رتبة ، وهي الداعوية لجعل السبيل ، بل هي مختصة بالواجب الذي هو موضوع الملاك والغرض.

هذا ، وأما الأوامر الشرعية ببعض المقدمات فهي مسوقة إما لبيان شرطيتها ومقدميتها للواجب أو لبيان مطلق اللزوم والثبوت ولو بلحاظ الداعي العقلي ، أو بلحاظ الكيفية الخارجية لإيقاع الواجب أو غير ذلك مما يناسبه لسان تلك الأدلة ، ولا مجال لحمله على الوجوب الشرعي بعد ما ذكرنا.

بقي الكلام في التفصيلات المذكورة في المقام ، وهي كثيرة قد يتضح بعضها مما يأتي في المبحثين الآتيين ، وبعضها ظاهر الضعف بملاحظة ما تقدم ، فالكلام فيه خال عن الفائدة.

ولعل الأولى الاقتصار هنا على التفصيل بين السبب وغيره ، لعدم خلوه عن الفائدة ولو تبعا.

وكأن مرادهم بالسبب هو السبب التوليدي الذي لا ينفك عنه الواجب ، ويكون نتيجة قهرية له من دون توسط اختيار الفاعل بينهما ، كإلقاء الثوب في النار الموجب لاحتراقه وأفعال الوضوء الموجبة للطهارة.

وقد استدل على وجوبه بأنه لا بد من صرف التكليف بالمسبب إليه ، لأنه هو فعل المكلف المقدور له ، دون المسبب ، بل هو نتيجه فعله ، ممتنع عليه في فرض عدم تحقق السبب وواجب في فرض تحققه ، من دون أن يكون فعلا له ولا مقدورا له بنفسه ، ليصح تكليفه به.

٢٥٣

لكنه ـ كما ترى ـ لا يصلح لأن يكون دليلا على وجوب السبب غيريا ـ كما هو محل الكلام ـ بل على اختصاص الوجوب النفسي بالسبب دون المسبب.

وحينئذ يشكل : بأنه يكفي في نسبة المسبب للمكلف وقدرته عليه المصححين لتكليفه به قدرته على فعل سببه المذكور الذي لا ينفك عنه ، فلا وجه لصرف التكليف للسبب في فرض ظهور الدليل في التكليف بالمسبب.

وتظهر الثمرة بينهما في فرض إجمال السبب وتردده بين الأقل والأكثر ، فإن كان المكلف به هو السبب كان المورد من صغريات دوران المكلف به بين الأقل والأكثر الذي هو مجرى البراءة ، وإن كان المكلف به هو المسبب كان المورد من صغريات الشك في الامتثال الذي هو مجرى قاعدة الاشتغال ، وهو المتعين بعد ما عرفت.

بل لو فرض انطباق العنوان المكلف به على ما هو فعل المكلف بالمباشرة بحيث يكون متحدا معه عرفا ، لا مسببا عنه ، إلا أنه كان منتزعا من جهة زائدة عليه مسببة عنه ، فالمرجع قاعدة الاشتغال أيضا ، كما لو وجب استعمال الدواء ، وتردد الفعل الذي ينطبق عليه العنوان المذكور بين الأقل والأكثر ، لأن التكليف ينصب عرفا على منشأ انتزاع العنوان ، كترتب الأثر المطلوب الذي بلحاظه يصدق على الشيء أنه دواء ، لا على فعل المكلف بنفسه ، وإن كان عنوان المكلف به منطبقا عليه ، كما تقدم التعرض لذلك في تقريب الجامع الصحيحي من طريق الأثر. فراجع.

ولنقتصر على ما تقدم في ذكر الأقوال والاحتجاج لها ، لكفايته في المهم من محل الكلام ومورد الخلاف في المقام.

٢٥٤

تنبيهان

التنبيه الأول : لا إشكال في استحقاق العقاب بمخالفة تكليف المولى الأعظم المستحق للطاعة وعصيانه ، وكذا في استحقاق الثواب بموافقته وإطاعته ، لا بمعنى ثبوت حق للمطيع على المولى ، نظير استحقاق الأجير أجرته ، بل لعدم وضوح ذلك بعد كون الطاعة حقا للمولى ، بل بمعنى صيرورته أهلا للثواب بملاك الشكر والجزاء ، لا بملاك التفضل الابتدائي.

والمتيقن من ذلك هو موافقة ومخالفة التكليف النفسي بذي المقدمة ، وأما التكليف الغيري بالمقدمة ـ بناء على ثبوته ـ فيظهر مما نقله في التقريرات عن بعضهم مشاركته للتكليف النفسي في ذلك ، حتى صرح في محكي الإشارات بثبوت عقابين.

وهو مما يصعب البناء عليه بعد التأمل في المرتكزات العقلائية التي هي المرجع في مثل ذلك ، فإن المعيار عندهم في الطاعة والمعصية والتقرب والتمرد التي بها يناط الثواب والعقاب هو التكاليف النفسية المجعولة بالأصل بلحاظ الملاكات والأغراض الأصلية المقتضية لها ، دون الغيرية التي هي في طولها في مقام الجعل ومقام الطاعة والعصيان.

وملازمة التكليف لاستحقاق العقاب والثواب ممنوعة جدا بعد كون منشأ الملازمة حكم العقل.

بل لو فرض ثبوت الملازمة المذكورة كانت دليلا على عدم ثبوت التكليف الغيري بالمقدمة ، بضميمة ما ذكرنا من عدم استحقاق الثواب والعقاب عليها بمقتضى المرتكزات العقلائية.

بل قد تكون كثرة المقدمات موجبة لتخفيف العقاب على مخالفة

٢٥٥

التكليف النفسي ، حيث قد تستلزم صعوبته ، فتكون مخالفته أبعد عن التمرد من مخالفة التكليف الذي تسهل موافقته لقلة المقدمات المتعلقة به.

نعم ، حيث كان ترك المقدمة موجبا لمخالفة التكليف النفسي تعين كونه سببا لاستحقاق العقاب عليه.

كما أنه لما كان المعيار في استحقاق الثواب هو الحسن الفاعلي بالانقياد للمولى والخضوع لأمره وتحمل المشقة في سبيله أمكن كون فعل المقدمة منشأ لاستحقاق الثواب ، لا لأجله ، بل لكونه شروعا في امتثال التكليف النفسي الذي يزيد ثوابه كلما زادت المشقة به وطال أمد الانقياد بمتابعته. وعلى هذا ينزل ما ورد في كثير من النصوص من ثبوت الثواب على المقدمات في كثير من الطاعات.

لكن لا يفرق في ذلك بين القول بوجوب المقدمة وعدمه.

التنبيه الثاني : حيث ظهر مما سبق أن الأمر الغيري بالمقدمة لا يكون بنفسه موردا للإطاعة والثواب والمعصية والعقاب إلا في طول الأمر النفسي بلحاظ كون إطاعته شروعا في إطاعته ومعصيته موصلة لمعصيته ، فمن الظاهر أن ذلك ثابت للمقدمة في نفسها وإن لم نقل بوجوبها غيريا ، كما هو الحال في الداعوية وكذا الحال في الداعوية العقلية لها تبعا للداعوية لذيها المسببة عن الأمر الشرعي به.

ومرجع ذلك إلى عدم الأثر العملي للأمر الغيري بنفسه بالإضافة إلى متعلقه ، فلا يهتم الفقيه بإثباته لتنفعه مسألة الملازمة في الاستنباط ويتحقق بها الغرض من المسألة الاصولية.

لكن ذكر بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه أن الأثر العملي للأمر الغيري هو إمكان التقرب بقصده ، لأن حقيقة الامتثال هو الاتيان بالمأمور به بداعي الأمر

٢٥٦

المولوي المتوجه إليه من دون نظر لخصوصيات الإرادة.

وفيه : أن التقرب بالأمر إنما هو يقصد متابعته على نحو داعويته ، وحيث كانت داعوية الأمر الغيري في طول داعوية الأمر النفسي فلا بد في التقرب به من قصد الأمر النفسي في طول قصده ، ومع قصد الأمر النفسي يتحقق التقرب بالمقدمة ولو مع عدم قصد الأمر الغيري بها ، بل ولو مع عدم ثبوته بل سبق منا في مبحث التعبدي والتوصلي أن التقرب إنما هو بقصد ملاك المحبوبية المستكشف بالأمر ، ومن الظاهر أن الغرض من المقدمة الداعي للأمر بها هو الغرض من الأمر النفسي ، فلا بد في مقربية المقدمة من قصده ، سواء كانت مأمورا بها غيريا أم لا.

فلا مخرج عما ذكرنا من عدم الأثر العملي للأمر الغيري بنفسه بالإضافة إلى متعلقه.

نعم ، قد يدعى ثبوت الأثر له بلحاظ بعض اللوازم الخارجية ، وبلحاظه تكون المسألة ذات ثمرة عملية لا علمية محضة.

ومن الظاهر أن الأثر المذكور لا يكون ثمرة للمسألة الاصولية ـ كما هو المهم في المقام ـ إلا إذا نفع في تشخيص حكم شرعي كلي أو وظيفة عملية كلية في الشبهات الحكمية ، دون ما لو كان منقحا للحكم الجزئي أو الوظيفة في الشبهات الموضوعية ، فمثل الاكتفاء بالوفاء بنذر فعل الواجب بفعل المقدمة لا يكون أثرا مهما في المقام ، لوضوح أن الشك في الوفاء بالنذر المذكور بفعل المقدمة لا يرجع الشبهة الحكمية ، بل الموضوعية التي يهتم بها الفقيه دون الاصولي ، فلا يهم البحث عن مثل ذلك في المقام ، وإن كثر التعرض له في كلماتهم. فلتلحظ.

ومن هنا فقد تقرب الثمرة الاصولية للمسألة بوجهين :

أولهما : أن المقدمة إذا كانت محرمة في نفسها فإن قلنا بوجوب مقدمة

٢٥٧

الواجب يكون المورد من صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي ، وإن لم نقل به كانت المقدمة محرمة لا غير.

وفيه : أن كون المورد من صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي وعدمه إنما يكون ثمرة بلحاظ اختلاف الأثر العملي بينهما ، ولا اختلاف في المقام ، إذ الأثر العملي إما أن يكون هو إمكان التوصل بالمقدمة ، أو ثبوت الحرمة لها المستلزم لاستحقاق العقاب عليها ، أو إمكان التقرب بها لو كانت عبادة.

أما الأول فهو ثابت مطلقا ، سواء قيل بوجوب المقدمة وكون المورد من صغريات مسألة الاجتماع أم لم نقل بذلك ، لوضوح عدم دخل ذلك في خصوصية المقدمة المقتضية لإمكان التوصل بها.

وأما الثاني فمع انحصار المقدمة بالمحرمة يقع التزاحم بين التكليف النفسي بذي المقدمة وحرمة المقدمة ، فمع أهمية حرمتها تبقى هي الفعلية ويسقط التكليف النفسي ، فلا تكون مقدمة لواجب ، ومع أهمية التكليف النفسي أو تساويهما تسقط حرمة المقدمة ، وعلى كليهما لا يكون المورد من صغريات مسألة الاجتماع ، من دون فرق بين القول بوجوب مقدمة الواجب وعدمه.

ومع عدم الانحصار بالمحرمة لا إشكال في فعلية حرمة المقدمة ، أما بناء على عدم وجوب مقدمة الواجب فواضح ، وأما بناء على وجوبها فكون المورد من صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي إنما يستلزم عدم حرمتها بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانب الأمر ، ولا مجال للثاني مع كون الأمر تخييريا ، كما في المقام لفرض عدم الانحصار.

وأما الثالث ـ وهو التقرب بالمقدمة ـ فإن قلنا بعدم كفاية تعدد الجهة في تعدد موضوع المقربية والمبعدية تعين امتناع التقرب بالمقدمة في فرض فعلية حرمتها ـ إما لعدم الانحصار بالمحرمة أو لأهمية حرمتها من التكليف النفسي بذيها في فرض الانحصار ـ وإن قيل بوجوب مقدمة الواجب وكون المورد من

٢٥٨

صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي.

كما يتعين إمكان التقرب بها في فرض عدم فعلية حرمتها ـ للانحصار بها مع عدم أهمية حرمتها من التكليف النفسي بذيها ـ وإن قيل بعدم وجوب مقدمة الواجب ، لكفاية قصد امتثال الأمر بذيها في التقرب بها من دون مانع.

وإن قلنا بكفاية تعدد الجهة في تعدد موضوع المقربية والمبعدية تعين إمكان التقرب بها ، حتى بناء على عدم وجوب مقدمة الواجب ، حيث يكفي في مقربيتها قصد امتثال الأمر بذيها ـ في ظرف فعليته ، لأهميته من حرمة المقدمة مع الانحصار بالمحرمة أو لعدم الانحصار بها ـ أو قصد التقرب بموافقة ملاكه ـ في ظرف عدم فعلية الأمر نفسه ، لأهمية حرمة المقدمة ، مع الانحصار بها ـ وإن لم يقصد الأمر الغيري.

ثانيهما : فساد العبادة إذا كان تركها مقدمة لواجب فعلي ، حيث يكون تركها واجبا بناء على الملازمة ، فيكون فعلها محرما ـ بناء على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام ـ فيمتنع التقرب بها ، فتفسد ، أما بناء على عدم الملازمة فلا يكون تركها واجبا لتحرم ويمتنع التقرب بها.

ويشكل : بأنه يكفي في امتناع التقرب بالعبادة حينئذ مقدمية تركها للواجب الفعلي ، وإن لم يكن تركها حينئذ واجبا شرعا ، لعدم البناء على الملازمة ، لأن ذلك راجع إلى كونها مانعة من امتثال الواجب ، وفعل المانع من الامتثال مبعد وإن لم نقل بحرمته شرعا ، لما فيه من التمرد على المولى ، نظير التجري ، فلا تترتب الثمرة المطلوبة.

وقد تعرض غير واحد لبعض الجهات الأخر للإشكال على هاتين الثمرتين لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ما ذكرنا.

ومن هنا فالظاهر عدم الثمرة العملية لمسألة الملازمة. وربما يأتي في المبحثين الآخرين ما ينفع في المقام. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.

٢٥٩
٢٦٠