المحكم في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٢

الفصل الأول

في ملازمة حكم الشرع لحكم العقل

قد وقع الخلاف واضطربت كلماتهم من عصور الإسلام الاولى إلى العصور المتأخرة في ثبوت حكم العقل الذي هو موضوع الملازمة ، ثم في حقيقته ، ثم في ملازمة حكم الشارع له.

بل قد يظهر من بعض كلماتهم الكلام بعد ذلك في حجية الدليل العقلي المبتني على ذلك على الحكم الشرعي المنكشف به ، ومرجعه إلى الكلام في حجية القطع الحاصل من دليل العقل المذكور.

وقد أشرنا إلى خروجه عن علم الاصول ، لأن الكلام في مسائل الاصول بعد الفراغ عن حجية القطع التي يأتي الكلام فيها في مقدمة بحث الاصول المبتنية على العمل إن شاء الله تعالى.

ولطول مدة البحث في ذلك وكثرة اضطرابهم فيه لا يسعنا متابعة كلماتهم فيه ، بل نحاول اختصار البحث والاقتصار على ما نصل إليه في تحقيقه وما يتعلق بذلك من كلماتهم التي لا بد من التعرض لها.

ونسأله أن يمدنا بالعون والتوفيق والتأييد والتسديد ، إنه ولي الامور ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

هذا ، وقد أشرنا إلى أن الملازمة المذكورة لا تنفع في استنباط الحكم الشرعي في مورد إلا بضميمة حكم العقل في ذلك المورد.

ومن هنا ينبغي البحث عن ذلك وإن كان خارجا عن مسألة الملازمة ، لأن

١٦١

الملازمة لا تتضح إلا بعد اتضاح أطرافها ، وحيث لا يكون البحث في حكم العقل تحت متناول الناظر في علم الاصول ، يتعين البحث عنه وبيان حقيقته هنا.

وهو وإن كان من سنخ المقدمة للكلام في الملازمة إلا أن أهميته تناسب عقد بحث مستقل له. وعلى هذا يكون الكلام في هذا الفصل في مبحثين ..

١٦٢

المبحث الأول

في ثبوت الحكم للعقل في الوقائع وعدمه

من الظاهر أن صدور الفعل الاختياري لا بدّ له من داع في الفعل يدركه الفاعل فينبعث عنه ، كما لا إشكال في وجود الدواعي الفطرية ـ كطلب النفع ودفع الضرر ـ والعاطفية ـ كالحب والرحمة والبغض والقسوة والشهوة والغضب ـ والتأديبية ـ الشرعية والخلقية ـ والعاديات ـ العرفية والشخصية ـ.

وإنّما الإشكال في وجود الدواعي العقلية التي تصلح لداعوية العقل بما هو عاقل مجرد عن كل داع خارج عن الفعل ، وهي دواعي الحسن والقبح ، فقد اشتهر النزاع بين العدلية والأشاعرة في ذلك ، فادعى العدلية وجود الحسن والقبح في الأشياء في الجملة ـ لا بمعنى أن كل شيء إما حسن أو قبيح ، بل في مقابل السلب الكلي ـ بحيث لو أدركت جهاتهما كانت صالحة للداعوية العقلية. وأنكر ذلك الأشاعرة مدعين أن الحسن ما حسنه الشارع ، والقبيح ما قبحه ، وبدونه فالأشياء كلها على نحو واحد ليس فيها حسن ولا قبح.

والحق الأول ، وقد استدل عليه بوجوه متعددة ، ولعل الأولى الاقتصار على وجهين :

أولهما : الرجوع للوجدان ، فإن الإنسان بوجدانه المجرد عن شوائب الشبهات والأوهام والمنزه عن الدواعي الخارجية الشهوية والغضبية وغيرها يرى أن هناك أمورا حسنة ينبغي فعلها ويمدح فاعلها ، كالصدق والوفاء والإحسان والإيثار ، وأخرى قبيحة لا ينبغي فعلها ويذم فاعلها ، كالكذب والخيانة والإيذاء والتعدي. وإنكار ذلك مكابرة لا يصغى إليها قد تبتني على

١٦٣

شبهات تخرج بالإنسان عما يحسه ويدركه بضميره ووجدانه.

نعم ، لا إشكال في أن جهات الحسن والقبح في هذه الامور قد تزاحم بجهات تضادها ، فيكون المعيار في فعلية الداعوية على الأهمية ، على ما هو الحال في جميع موارد تزاحم الداعويتين من سنخ واحد أو داع واحد (١) ، فالكذب الذي تندفع به مفسدة مهمة لا يخرج في الحقيقة عن قبحه ، والصدق الذي يترتب عليه مفسدة مهمة لا يخرج عن حسنه ، بل تسقط داعوية قبح الأول وحسن الثاني ويسبب أهمية داعوية الجهة المزاحمة المترتبة عليهما.

ولعل هذا هو مرادهم بأن الحسن والقبح في مثل هذه الأمور عرضيان غير ذاتيين ، وأنها مقتضية لهما لا علة تامة. وإن كان ظاهرهم انقلابها عما هي عليه من الحسن أو القبح الاقتضائي بطروء الجهة المزاحمة.

لكنه في غير محله ، لأنه لو كان طروء الجهة المزاحمة رافعا للجهة الأولية الاقتضائية لكان الكذب الذي تندفع به المفسدة المهمة في مورد كغيره مما لا قبح فيه إذا اندفعت به تلك المفسدة ، مع أنه ليس كذلك ارتكازا.

ويأتي بعض الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى عند الكلام في حقيقة الحسن والقبح المذكورين.

كما أن جهات الحسن والقبح العقلية قد تزاحم بدواع خارجية عاطفية أو غيرها تمنع من تأثيرها في فعلية الاندفاع عنها ، كما هو الحال في جميع الدواعي.

بل الدواعي المذكورة المزاحمة قد تمنع من الاعتراف بالحسن والقبح ، حيث قد لا يهون على الإنسان الاعتراف بجريمته ، بل يفرض عليه كبرياؤه

__________________

(١) أما لو اختلف سنخ الداعوية ـ كما لو تزاحم الداعي العقلي والداعي الشهوي ـ أو تعدد الداعي ـ كما لو تزاحم مطلوب الأب ومطلوب الأمّ ـ بقي كل من الداعيين على ما هو عليه من فعلية الداعوية ، وإن امتنع تأثيرهما معا ، ولزم اختصاص التأثير في الاندفاع بأحدهما أو سقوطهما معا عن التأثير.

١٦٤

الانكار والمباهتة.

لكن ذلك لا يغير الحق عما هو عليه ولا يقوم بعذر في مقابل المرتكزات العقلية التي بها تقوم الحجة عند الله تعالى والناس.

ثانيا : أنه بعد صدور الممكنات منه تعالى من التكوينيات والتشريعيات ، فحيث يمتنع صدور الإرادة من غير داع ، وامتنع في حقه عزّ شأنه الداعي الفطري ـ كطلب النفع ودفع الضرر ، لاستلزامها الحاجة ـ وغيره من الدواعي غير العقلية المتقدمة ـ لاستلزامها النقص ـ فضلا عن الدواعي غير العقلائية ـ لاستلزامها العبث المنزه عنه تعالى ـ يلزم البناء على ثبوت الداعي العقلي ـ الراجع لحسن النظام الأكمل التكويني والتشريعي المعلوم له جل شأنه في رتبة سابقة على تعلق إرادته تعالى به ، لا أن حسنه تابع لإرادته.

غاية الأمر أنا لا نعلم تفاصيل النظامين المذكورين وجهات حسنهما ، وهو لا ينافي ثبوت الحسن المذكور واقعا والعلم به إجمالا بسبب العلم بجريان الإرادة التكوينية والتشريعية على طبقه ، خلافا لما عليه الأشاعرة.

هذا وقد احتج الأشاعرة على منع الحسن والقبح في الأشياء مع قطع النظر عن حكم الشارع بوجوه ..

أحدها : أن الأشياء المدعى لها الحسن والقبح تختلف بالوجوه والاعتبارات ، حيث قد يكون الصدق مثلا قبيحا ، كما لو ترتبت عليه مفسدة مهمة ، والكذب حسنا ، كما لو اندفعت به مفسدة مهمة ، وكذا غيرهما.

ويظهر الجواب عنه مما تقدم من أن الاختلاف إنما يكون في داعوية الحسن والقبح بسبب المزاحمة وعدمها ، لا في أصل ثبوتهما.

ولو سلم فهو إنما يمنع من كون الامور المذكورة عللا تامة للحسن والقبح ، لا من ثبوتهما لها في الجملة ولو عند عدم المزاحم ، لأنها من سنخ المقتضي لأحدهما بذاتها مع قطع النظر عن حكم الشارع الأقدس.

١٦٥

هذا ، وأما ما تكرر في كلام جماعة من القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين من أن بعض الأمور علل تامة للحسن أو القبح ، ولا تنفك عن أحدهما ، كما لا تقبل المزاحمة ، كالعدل والإحسان والظلم والعدوان.

فيتضح الحال فيه مما يأتي إن شاء الله تعالى.

ثانيها : ما قيل إنه أهم أدلتهم ، وهو أنه لو كانت قضية الحسن والقبح مما يحكم به العقل لما كان فرق بين حكمه بها وحكمه بأن الكل أعظم من الجزء ، مع وضوح الفرق بنيهما ، فإن الحكم الثاني لا يختلف فيه اثنان مع وقوع الاختلاف في الأول.

وفيه : أن الملازمة ممنوعة ، إذ لا ملزم باتفاق المدركات العقلية بالوضوح والخفاء ، بل تختلف باختلاف القضايا ، فقضية أن الكل أعظم من الجزء لما كانت لازمة لمفهوم طرفيها كانت من الأوليات التي يكون التصديق بها لازما لمفهوم طرفيها ، بخلاف قضية التحسين والتقبيح ، فإنها وإن كانت قطعية ، إلا أنها غير لازمة لمفهوم طرفيها ، بل يحتاج التصديق بها إلى شيء من التروي والرجوع للمرتكزات العقلية الكامنة في النفس والمحتاجة للتنبيه ، وإلى التمييز بين الداعوية العقلية التي هي محل الكلام وسائر الدعويات النفسية المتقدمة ، وذلك مما يوجب نحو خفاء لها قد يسهل معه توجيه الشبه فيها والإشكالات عليها حتى قد يلتبس الأمر على النفس ويضيع عليها مقتضى المرتكزات.

وأما ما يظهر من بعضهم ـ فيما يأتي عند الكلام في حقيقة الحكم المذكور ـ من أن القضية المذكورة من القضايا التأديبيّة التي لو خلي الانسان وعقله المجرد لم يذعن بها ، بل لا بد في إذعانه من أن يؤدب بقبولها والاعتراف بها تبعا لمشهوريتها عند العقلاء وتطابق آرائهم المحمودة عليها.

فهو غير ظاهر بعد الرجوع للمرتكزات ، بل الظاهر ما ذكرنا من كفاية تنبيه العقل إليها وتمييز الدواعي العقلية عن غيرها في إذعان النفس بها ما لم تمنع

١٦٦

الشبهات من ذلك.

ثالثها : أنه لو حسن الفعل أو قبح مع قطع النظر عن التشريع لزم عدم كون الباري مختارا في تشريع الأحكام ، لأن قبح مخالفة مقتضى الحسن والقبح منه تعالى يستلزم امتناع مخالفته ، فلا يكون مختارا فيه.

وفيه : أن امتناع صدور القبيح منه تعالى ليس لعجزه عنه ، كي ينافي اختياره ، بل لأن كماله لا يناسب اختياره للقبيح ، ويلزم باختياره للحسن ، فهو مبتن على الاختيار ، وليس منافيا له.

وهناك بعض الوجوه الأخر لا مجال لإطالة الكلام فيها ، لوضوح ضعفها ، أو لابتنائها على مبان ظهر بطلانها في محله المناسب.

ولا سيما مع أن ثبوت الحسن والقبح من الوضوح بنحو لا يحتاج معه للنقض والإبرام ، بل الوجوه المستدل بها على عدمهما لو كات متينة بحسب الصورة فهي لا تخرج عن كونها شبهة في مقابل البديهة لا ملزم بالتطويل فيها والتعريج عليها.

بقي الكلام في حقيقة الحكم بالحسن والقبح وكيفية ادراك العقل لهما. والظاهر بعد التأمل في المرتكزات أن العقل يدرك أولا حسن الشيء أو قبحه على أنه أمر واقعي كسائر المدركات الواقعية ، ثم يدعو لفعل الحسن وترك القبيح.

والداعوية المذكورة وإن كانت نحوا من الحكم إلا أنه لا يعتمد على قوة وسلطان لتكون أمرا ونهيا ، إذ لا حول للعقل ولا سلطان ، بل محض إرشاد ونصح مبتن على نحو من التشجيع والتأنيب نابع من صوت الحس والوجدان والضمير الذي أودعه تعالى في الإنسان واحتج به عليه.

وإليه يرجع حكم العقلاء باستحقاق المدح أو الذم وأهلية الثواب أو العقاب.

١٦٧

والحكمان المذكوران مختلفان سنخا ومترتبان في أنفسهما ترتب الحكم والموضوع.

ونظير ذلك إدراك الإنسان اللذات ثم دعوة النفس لتحصيلها ، وغير ذلك من الداعويات المختلفة.

وتحقيق أن الحاكم بهما العقل النظري أو العملي يرجع ـ على الظاهر ـ يبتني على محض اصطلاح لا مشاحة فيه. والمهم ما ذكرنا.

هذا ، وقد ذكر بعض المعاصرين في اصوله أنه ليس للحسن والقبح واقعية إلا إدراك العقلاء ، وتطابقهم على أن الشيء ينبغي أن يفعل أو يترك ، وأن ذلك من التأديبات الصلاحية الداخلة في القضايا المشهورة التي ليس لها واقع وراء تطابق العقلاء. قال : «فمعنى حسن العدل أن العلم عندهم أو فاعله ممدوح لدى العقلاء ، ومعنى قبح الظلم والجهل أن فاعله مذموم لديهم. ويكفينا شاهدا على ما نقول ـ من دخول أمثال هذه القضايا في المشهورات الصرفة التي لا واقع لها إلا الشهرة ، وأنها ليست من قسم الضروريات ـ ما قاله الشيخ الرئيس في منطق الإشارات ، ومنها الآراء المسماة بالمحمودة. وربما خصصناها باسم الشهرة إذ لا عمدة لها إلا الشهرة ، وهي آراء لو خلي الإنسان وعقله المجرد ووهمه وحسه ولم يؤدب بقبول قضاياها والاعتراف بها ... لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه أو حسه ، مثل حكمنا بأن سلب مال الإنسان قبيح ، وأن الكذب قبيح ، لا ينبغي أن يقدم عليه. وهكذا وافقه شارحها العظيم الخواجة نصير الدين الطوسي».

ومرجع ذلك إلى إنكار الحكم الأول الذي ذكرناه آنفا ، وأن الحسن والقبح عبارة عن الحكم الثاني مما سبق.

ولا مجال للبناء عليه ، لوضوح أن مدح العقلاء وذمهم على الفعل ليس اعتباطيا ، بل لإدراكهم أمرا فيه يقتضي فعله أو تركه ، تكون الداعوية العقلية

١٦٨

متفرعة عليه تفرع الحكم على الموضوع ، وذلك الأمر هو الحسن أو القبح.

فالحسن والقبح أمران واقعيان لا يتوقفان ثبوتا على إدراك العقلاء ، ولا على مدحهم وذمهم. ولذا يصح عرفا أن يقال : ينبغي للإنسان أن يصدق ولا ينبغي له أن يكذب ، لأن الصدق حسن والكذب قبيح. وعلى هذا يتفرع ما ذكرناه آنفا من أن طروء الجهات المزاحمة للحسن والقبح لا يخرج الحسن عن حسنه والقبيح عن قبحه ، بل يسقطهما عن الداعوية العقلية لو لم يكونا أهم من المزاحم.

أما لو قيل بأن الحسن والقبح عبارة عن نفس الحكم بأن الشيء مما ينبغي فعله أو لا ينبغي ، وأنه يستحق عليه المدح أو الذم ـ الذي هو عبارة عن نفس الداعوية ـ لزم البناء على تأثير المزاحم في نفس الحسن والقبح ورفعه لهما ، بل يخرج عن كونه مزاحما بل يكون عدمه من قيود الموضوع ، كما هو ظاهر.

ولعل ما تقدم من الاشارات مسوق لبيان أن الشهرة هي العمدة في إثبات الحسن والقبح وإدراكهما لا في ثبوتهما ، فلا ينافي ما ذكرناه هنا.

كما قد يناسبه أن المحقق الطوسي ذكر أنه مع طروء الجهات المزاحمة يجوز ارتكاب أقل القبيحين ، وهو يبتني على ما ذكرناه من عدم خروج القبيح المرجوح عن قبحه بالمزاحمة. فلاحظ.

على أنه لو سلم أن مدح العقلاء وذمهم لا يستند إلى إدراكهم حسن الشيء أو قبحه ، بل ليس الحسن والقبح إلا استحقاق المدح والذم وكون الشيء مما ينبغي فعله أو تركه ، إلا أن الظاهر أن كون الشيء مما ينبغي فعله أو تركه مستند للداعوية العقلية التي يستقل كل أحد بها بنفسه ، لا بسبب تطابق آراء العقلاء ، بحيث لو فرض عدم وجود غير عاقل واحد لحكم عقله بذلك ، وليس تطابق آراء العقلاء إلا لاشتراكهم في العقل الداعي لذلك.

١٦٩

تطابق آراء العقلاء إلا لاشتراكهم في العقل الداعي لذلك.

وبالجملة : لا دخل لتطابق آراء العقلاء في ثبوت الحسن والقبح ، ولا في الداعوية لفعل الحسن وترك القبيح ، كما تقدم أنه غير دخيل في إثبات التحسين والتقبيح وإقرار الإنسان بهما.

هذا ، ولبعض المعاصرين قدّس سرّه في منطقه عند شرح حقيقة الخلقيات من المشهورات كلام يقارب ما ذكرنا لو لم يطابقه ، قال : «والصحيح في هذا الباب أن يقال : إن الله تعالى خلق في قلب الإنسان حسا وجعله حجة عليه يدرك به محاسن الأفعال ومقابحها ، وذلك الحسّ هو الضمير بمصطلح علم الأخلاق الحديث ، وقد يسمى بالقلب أو العقل العملي أو العقل المستقيم أو الحسّ السليم عند قدماء علماء الأخلاق وتشير إليه كتب الأخلاق عندهم. فهذا الحس في القلب أو الضمير هو صوت الله المدوي في دخيلة نفوسنا يخاطبها به ويحاسبها عليه. ونحن نجده كيف يؤنب مرتكب الرذيلة ، ويقرّ عين فاعل الفضيلة ، وهو موجود في قلب كل إنسان ، وجميع الضمائر تتحد في الجواب عند استجوابها عن الأفعال ، فهي تشترك جميعا في التمييز بين الفضيلة والرذيلة ، وإن اختلفت في قوة هذا التمييز وضعفه ، كسائر قوى النفس ، إذ تتفاوت في الأفراد قوة وضعفا. ولأجل هذا كانت الخلقيات من المشهورات وإن كانت الأخلاق الفاضلة ليست عامة بين البشر ، بل هي من خاصة الخاصة. نعم الإصغاء إلى صوت الضمير والخضوع له لا يسهل على كل إنسان إلا بالانقطاع إلى دخيلة نفسه والتحول عن شهواته وأهوائه ...».

وهو ـ كما ترى ـ صريح في أن إقرار عين فاعل الفضيلة وتأنيب مرتكب الرذيلة متفرع على إدراك حسن الأشياء وقبحها ، وأن قوة الإدراك مودعة في الإنسان غير مكتسبة من تطابق العقلاء ، بل تطابقهم هو المسبب عن واجديتهم للقوة المذكورة.

١٧٠

وهو وان ذكر ذلك في الخلقيات ، دون التأديبات الصلاحية ، التي خصها بما تطابق عليه العقلاء من أجل قضاء الصالح العام لأن بها انحفاظ النظام وبقاء النوع ، إلا أن الظاهر أن حسن الحفاظ على النظام والسعي لبقاء النوع يختص بما يبتني على الفضيلة واجتناب الرذيلة كما يناسبه تمثيله له بحسن العدل وقبح الظلم ، وإلا فلا يدعو العقل إليه ولا يراه حسنا. غاية الأمر أن تدعو إليه الفطرة لو لازم دفع الضرر ، أو جلب النفع للنفس ، أو تدعو إليه العاطفة وغير ذلك من الدواعي غير العقلية.

على أنه لا إشكال في كون الخلقيات من صغريات التحسين والتقبيح العقلين ، فما ذكره فيها لا يناسب ما ذكره في حقيقتهما في كلامه المتقدم وغيره من اصوله.

ومن الغريب أنه في اصوله قد حول على ما ذكره في منطقه بنحو قد يظهر منه جريه فيهما على نهج واحد.

١٧١
١٧٢

المبحث الثاني

في ملازمة حكم الشرع لحكم العقل

لعل المعروف بين أصحابنا ثبوت الملازمة المذكورة ولذا تكرر في كلماتهم الاستدلال على حرمة بعض الامور شرعا بالأدلة الأربعة ، لابتناء الاستدلال بحكم العقل عليها على إدراك قبحها ، وهو إنما يقتضي حكم الشارع بحرمتها بضميمة الملازمة المذكورة.

وربما ابتنى عليها عدهم للأدلة أربعة ، وأرادوا برابعها حكم العقل ، وإن اختلفوا في تعيينه.

وكيف كان ، فقد استدل عليها بوجوه تعرض لجملة منها في الفصول وأطال الكلام فيها ، ولعل أمتنها ما جعله ثالث الوجوه ، وإليه يرجع ما اعتمده بعض المعاصرين في اصوله ، وذكره بقوله : «فإن العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه ـ أي أنه إذا تطابقت آراء العقلاء جميعا بما هم عقلاء على حسن شيء ، لما فيه من حفظ النظام وبقاء النوع ، أو على قبحه ، لما فيه من الإخلال بذلك ـ فإن الحكم هذا يكون بادي رأي الجميع ، فلا بد أن يحكم الشارع بحكمهم ، لأنه منهم ، بل رئيسهم ، فهو بما هو عاقل ـ بل خالق العقل ـ كسائر العقلاء لا بد أن يحكم بما يحكمون ، ولو فرضنا أنه لم يشاركهم في حكمهم لما كان ذلك الحكم بادي رأي الجميع ، وهذا خلاف الفرض».

ومقتضاه كون الملازمة في المقام من صغريات الملازمة بين الكل والجزء ، نظير الملازمة بين الإجماع المصطلح بين الأصحاب وقول الإمام عليه السّلام.

وفيه : أن محل الكلام ليس هو إدراك الشارع حسن الشيء أو قبحه

١٧٣

وداعوية العقل على طبقهما ، واستحقاق المدح والذم بمتابعة الداعوية المذكورة ومخالفتها ، فإن ذلك حكم العقل نفسه وليس إدراك الشارع له إلا كإدراك غيره من العقلاء لا يصحح نسبة الحكم إليه بنحو تكون موافقته ومخالفته طاعة له مستتبعة لاستحقاق ثوابه ومعصية له مستتبعة لاستحقاق عقابه.

وأما ما ذكره بعض المعاصرين من أن المراد باستحقاق المدح والذم المفروض في حكم العقل بالتحسين والتقبيح المجازاة بالخير الشامل للثواب والمكافأة بالشر الشامل للعقاب.

فهو كما ترى! لوضوح أن الموافق للداعي العقلي لا يستحق على سائر العقلاء الثواب ، كما لا يستحق المخالف له العقاب منهم ، مع أنهم يشاركون الشارع في إدراك حكم العقل المذكور ، بل لا يصح منهم إلا المدح والذم المساوقان لمفاد (نعم)و (بئس).

وإنما يصح من الشارع العقاب لتميزه عنهم بكونه المنعم المالك الذي له حق الطاعة على عبده ، ويترتب على ثبوت الحق المذكور مقتضاه من استحقاق حسن الجزاء على أدائه وسوء العقاب على التفريط فيه.

ومن الظاهر أن حق الطاعة فرع نسبة الحكم للمولى زائدا على حكم العقل به ، وهو لا يكون إلا بجعل الحكم المولوي منه زائدا على إدراكه مقتضى حكم العقل.

ودعوى : أنه يكفي في نسبة الحكم إليه حكمه به بما هو عاقل كسائر العقلاء ، وإنما يفترق عنهم بأنه يستحق الطاعة على العبيد ، فينبغي منه ثوابه عليها ، ويستحق عقابه بالتفريط فيها ، بخلافهم ، وإذا لم يستحقوا الطاعة لم ينتظر منهم الثواب عليها ولا يصح منهم العقاب على التفريط فيها ، وإن كان الحكم منسوبا لهم بمجرد حكمهم به بما هم عقلاء ، كما ينسب للشارع.

ممنوعة ، وإلا لزم انقلاب الأحكام الإرشادية إلى أحكام مولوية ، لإدراك

١٧٤

الشارع حكم العقل فيها ، فيكون منسوبا إليه ومنشأ لاستحقاق الثواب والعقاب منه.

وهو مما لا يمكن البناء عليه.

كما لا يصح عند العقلاء عقاب من له حق الطاعة من الناس شرعا ـ كالمولى المالك ـ أو عرفا ـ كالرئيس الصالح المعترف برئاسته ـ أو ادعاء ـ كالسلطان القاهر ـ بمخالفة مقتضى الداعوية العقلية ، بل لا بد من صدور الحكم المولوي منه على طبقها ، بحيث يعلم منه الإلزام بمقتضاها زائدا على إلزام العقل.

بل لو حكم على خلاف مقتضى الداعوية العقلية ـ كما لو أمر بالكذب ـ نسب إليه الحكم المذكور وكان موضوعا للطاعة والمعصية دون مقتضى الداعوية العقلية وإن كان مدركا له كالشارع.

على أن عدم استحقاق العقلاء الطاعة انما يمنع من استحقاق العقاب منهم بمعصيتهم ، لا من استحقاق الثواب عليهم بإطاعتهم ، فلو كان الحكم العقلي منسوبا لكل منهم بمجرد إدراكهم له لزم استحقاق الثواب عليهم بموافقته.

وبالجملة : محل الكلام هو حكم الشارع المولوي المجعول منه زائدا على حكم العقل المدرك له ، ولا بد في دعوى ملازمته لحكم العقل المذكور من الدليل.

ولم يتضح لنا عاجلا ما ينهض بذلك على كثرة الوجوه التي ذكرها في الفصول.

والتحقيق : أن لزوم حكم الشارع الأقدس على طبق مقتضى حكم العقل يبتني على وجوب اللطف منه تعالى عقلا بحفظ مقتضى حكم العقل تشريعا ، وذلك لعدم كفاية الداعوية العقلية غالبا في الجري على مقتضى حكم العقل ،

١٧٥

لمزاحمتها بالدواعي الاخرى التي هي أقوى منها في حق أكثر الناس ، فيجب على الشارع لحفظ مقتضيات الأحكام العقلية جعل الحكم على طبقها ، للتأكد الداعوية العقلية بالداعوية الشرعية ، حيث يتسنى بجعل الحكم الشرعي الجري على مقتضاه لأجله تعالى والعمل لحسابه ، لكونه المنعم المالك الكامل القادر ، إما لأنه اللازم الشكر لإنعامه ، أو الذي هو أهل لأن يعبد بالطاعة لكماله ، فيتأكد الداعي العقلي بمثله ، أو لأنه المحبوب لإنعامه وكماله ، فيتأكد الداعي العقلي بالداعي العاطفي ، أو لأنه المرجوّ المرهوب ، لمالكيته وقدرته ، المستلزمين لاستحقاق الثواب ورجائه ، واستحقاق العقاب ورهبته ، فيتأكد الداعي العقلي بالداعي الفطري الراجع لتحصيل النفع ودفع الضرر ، الذي هو أقوى الدواعي عند العامة.

لكن ذلك لا يكون لمجرد حكم العقل بحسن الحسن وقبح القبيح ، وداعويته لفعل الأول وترك الثاني ، بل هو تابع لحكم عقلي آخر متفرع على الحكم المذكور ، وهو وجوب حفظ مقتضى حكم العقل المذكور بالتشريع على طبقه ، نظير تشريع وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتفرع ثبوت المعروف والمنكر تشريعا.

وذلك الحكم مختص بالشارع الأقدس ، لاختصاص القدرة على مقتضاه به ، بلحاظ علمه المطلق التام بمقتضيات الحسن والقبح بخصوصياتها وبموارد تزاحمها ، وقدرته على حفظها بالدواعي المذكورة آنفا بسبب التشريع ، لواجديته لجهاتها ، وقدرته على الثواب والعقاب بأتم وجه ، وكل ذلك مما ينفرد به جل شأنه وعزّ اسمه وعظمت آلاؤه ونعماؤه.

هذا ، ولكن وجوب حفظ مقتضيات الدواعي العقلية بالتشريع لا بد فيه من أمرين ..

أحدهما : عدم المزاحم للمقتضيات المذكورة بما يمنع من فعلية تأثيرها

١٧٦

في الداعوية العقلية.

ثانيهما : عدم المانع من التشريع على طبقها وإن كانت فعلية التأثير في الداعوية العقلية ، حيث قد يكون في جعل الشارع للحكم وانتسابه له مفاسد أهم من مصلحة حفظ مقتضيات الدواعي العقلية ، وتلزم بجعل الحكم منه على نحو آخر. نظير رفع القلم عن الصبي المميز ، فإن الداعي العقلي في حقه وإن كان فعليا ـ فيحسن منه ويقبح ما يحسن من البالغ ويقبح عقلا ـ إلا أن الشارع الأقدس حيث أدرك المفسدة في إلزامه بمقتضاه شرعا تعين رفع القلم عنه من قبله الراجع في ترخيصه بمخالفته.

ولعل كثيرا من المستحبات والمكروهات إنما لم يكن حكمها إلزاميا للمانع من إلزام الشارع فيها ، لا لقصور مقتضي الداعوية العقلية فيها عن الإلزام ، كما فيما لو كان المانع من الإلزام مصلحة التسهيل والامتنان ، لوضوح عدم كون المنة والتسهيل من المصالح المترتبة على الفعل أو الترك والصالحة لمزاحمة مقتضي الداعي العقلي بنحو تمنع من كون داعويته إلزامية ، بل من الجهات المانعة من نفس الإلزام والتكليف ، مع بقاء الفعل على ما هو عليه من الداعوية العقلية ، نظير مصلحة رفع الإلزام عن الصبي المميز.

وأما ما تضمن اهتمام شريعة الاسلام بالفضائل ومحاسن الاخلاق كالنبوي المشهور : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». فهو محمول على كون الاهتمام بها مقتضى طبع التشريع والأصل الأولي فيه ، في مقابل الشرائع الباطلة المهملة لذلك ، أو المبنية على انتهاك الحرمات وترويج الرذائل والتشجيع ، فلا ينافي ملاحظة المزاحمات والموانع في مقام التشريع المذكور والوقوف عندها.

ومن هنا يمتنع البناء على ملازمة حكم الشرع لحكم العقل بحسن الشيء أو قبحه ، بنحو ينتقل من الثاني للأول ، وينفع في الاستنباط ، لما هو المعلوم من عدم إحاطة العقل بكثير من المزاحمات لمقتضيات الداعوية العقلية التي لو

١٧٧

اطلع عليها لم تكن الداعوية فعلية.

والداعوية مع الجهل المذكور وإن كانت فعلية ، لعدم الخروج عن المقتضي المعلوم باحتمال المزاحمة ، إلا أن الاحتمال المذكور يمنع من العلم بالجعل الشرعي على طبق المقتضي المذكور ، لاحتمال اطلاع الشارع الأقدس على ما لم يطلع عليه من المزاحمات.

كما أن العقل لا يحيط أيضا بكثير من موانع التشريع غير المانعة من الداعوية العقلية ، فلا يتسنى له العلم بالتشريع على طبقها أيضا ، كي ينفع ذلك في الاستنباط الذي هو محل الكلام.

وأما ما تكرر في كلماتهم من أن بعض العناوين علل تامة للحسن والقبح وللداعوية العقلية ، ولا تقبل المزاحمة بما يمنع من فعلية تأثيرها فيها ، وأنه لا بد من حكم الشارع على طبق الداعوية العقلية المذكورة فيها ، كعنوان العدل والإحسان والظلم والعدوان. فهو وإن كان مسلما في الجملة إلا أنه لا ينفع في المقام ، لأن تشخيص مصاديق العناوين المذكورة تابع للتشريع ، لما هو المعلوم من أن العدل الذي هو محل الكلام هو وضع الشيء في موضعه ، والإحسان هو فعل ما هو حسن ، وأن الظلم والعدوان عبارة عن هضم حق الغير والتصرف على خلاف مقتضى حقه ، ولا يكفي في الدخول تحت العناوين المذكورة التي هي موضوع الحسن والقبح العقليين التشخيص العرفي لأفرادهما ، بل ليس موضوعها إلا الفرد الحقيقي المتحصل بتشخيص الشارع ، ولذا لا يكون قتل المؤمن بالكافر عدلا ، ولا إعانة المرتد إحسانا ، ولا ذبح الحيوان ولا قتل الحربي ولا أكل المارة من ثمر الشجر الذي في الطريق المملوك للغير ظلما وعدوانا إلى غير ذلك.

وبعد فرض أخذ التشخيص من الشارع يكون الحكم معلوما في رتبة سابقة على إحراز كون الفرد حسنا أو قبيحا ، فلا ينفع العلم بالحسن والقبح في

١٧٨

الاستنباط.

بل مرجع ذلك إلى ملازمة حكم العقل لحكم الشرع باعتبار أن الشارع الأقدس هو المالك المطلق والمنعم المفضل الذي يجب عقلا متابعته والجري على مقتضى حكمه ، وإن لزم كون حكمه أيضا على طبق الموازين العقلية التي يحيط بها أكمل إحاطة ، لأن كماله يمنع من اختياره ما يخالفها.

ولأجل ذلك قد يحمل الأمر والنهي الواردان على العناوين المذكورة على الإرشاد ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)(١) ، وقوله سبحانه : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ)(٢) ، وقوله عزّ اسمه : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ)(٣) ، ونحو ذلك.

لأن فرض كون الشيء عدلا وإحسانا عند الشارع متفرع على أمره به ، وفرض كونه فاحشة ومنكرا وبغيا وإثما متفرع على نهيه عنه ، فلا معنى للأمر بالأول والنهي عن الثاني مولويا ، بل لا بد من حمل الأمر والنهي على الإرشاد ، نظير الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية.

لكنه مخالف للظاهر ، لاستلزامه عدم ترتب العمل على الأوامر والنواهي المذكورة ، فيتعين إبقاؤها على ظهورها في المولوية ، غاية الأمر الرجوع في تشخيص أفراد العناوين المذكورة للعرف ، كما هو مقتضى الإطلاقات المقامية ، ما لم يثبت من الشارع الأقدس خلافه.

وهذا لا ينافي ما ذكرنا من أن المرجع في تشخيص موضوع القضية العقلية هو الشارع دون العرف.

__________________

(١) سورة النحل : ٩٠.

(٢) سورة الاعراف : ١٥٧.

(٣) سورة الأعراف : ٣٣.

١٧٩

لأن المعيار في البيانات الشرعية على الظهور العرفي المستند للوضع والقرائن الخاصة والعامة ، ومنها الإطلاق المقامي ، أما في القضايا العقلية فالمعيار على ما يعلم من العقل ، ولا دخل للظهور العرفي.

ومن جميع ما سبق يتضح أن الملازمة في الحقيقة ليست بين حكم العقل بحسن الشيء أو قبحه وحكم الشرع على طبقه ، بل بين حكم العقل بحسن الحكم نفسه المسبب عن حسن متعلقه أو قبحه ـ مع عدم المزاحم والموانع ـ ونفس الحكم.

بل يكفي حسن الحكم لمصلحة فيه ، لا في المتعلق ، كمصلحة الامتحان أو التأديب والعقاب ، حيث يمكن ترتبهما على نفس الحكم دون المتعلق ، كما لا يبعد في مثل تكليف إبراهيم عليه السّلام بذبح ولده ، وفي تحريم بعض الامور على اليهود ، كما قد يظهر من قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ)(١) وغيره.

وعلى ذلك جرى في الفصول بعد التعرض لجملة ما ذكرنا وغيره مما لا مجال لإطالة الكلام فيه.

وإليه يرجع ما ذكرناه في الوجه الثاني للاستدلال على التحسين والتقبيح العقليين من أن ما صدر من الشارع الأقدس هو النظام التشريعي الأكمل الذي هو مقتضى الداعي العقلي الذي ينحصر في حقه.

ومن الظاهر أن الملازمة المذكورة لا تنفع في استنباط الأحكام الشرعية ، لعدم إحاطة العقل بالملزوم بجميع خصوصياته ، ليتسنى تشخيص موارده ، بل هو مما ينفرد به الشارع الأقدس ، وإن أمكن أن يعلم ببعض ذلك من قبله.

ولعله عليه يحمل ما تضمن أن دين الله لا يصاب بالعقول.

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٤٦.

١٨٠