المحكم في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٢

في منشأ التضاد ، والظاهر تمامية ما تقدم في تقريبه.

هذا ، وحيث كانت الأحكام التكليفية كلها مختلفة في نحو اقتضائها للعمل بالإضافة لمتعلقاتها كان التضاد ثابتا بينها كلها ولا يختص ببعضها.

غايته أن تضاد الوجوب والتحريم تضاد تام بلحاظ تمام الحدود ، لعدم اشتراكهما في جهة من جهات الاقتضاء ، فلا يمكن موافقة كل منهما إلا بمخالفة الآخر وعصيانه ، بخلاف التضاد بين بقية الأحكام في أنفسها أو بينها وبين الوجوب والتحريم ، فإنه ليس تاما ، بل من جهة خصوص ما به امتياز أحد الحكمين عن الآخر من الحدود ، فالوجوب والاستحباب يشتركان في اقتضاء الفعل ، ويختلفان في ابتناء الاستحباب على عدم الحرج في الترك ، واقتضاء الوجوب الحرج فيه ، والوجوب والكراهة يشتركان في عدم الحرج في الفعل ، ويمتاز الوجوب باقتضائه الحرج في الترك والكراهة باقتضاء الترك ورجحانه ، كما أن الكراهة والاستحباب يشتركان في عدم الحرج في كل من الفعل والترك مع امتياز كل منهما باقتضاء خصوص أحد الأمرين ، وهكذا.

ويظهر أثر ذلك في إمكان تأكد أحد الحكمين بالآخر بالإضافة إلى الحد المشترك اذا كان اقتضائيا ، كتأكد الوجوب بالاستحباب بالإضافة إلى ما يشترك بينهما ، وهو اقتضاء الفعل ورجحانه. نظير التأكيد في الحكم الواحد الحاصل باجتماع جهتين تقتضيانه.

كما يبتني على ذلك عدم التضاد التام بين الوجوب أو الاستحباب البدلي ـ إما للتخيير العقلي أو الشرعي ـ والتحريم فيما لو أمكن امتثال الأول بغير مورد الثاني ، لكون موضوعه أعم من موضوع الثاني مطلقا أو من وجه ، كوجوب إكرام العالم وحرمة إكرام الفاسق العالم أو مطلقا ، وذلك لأن الحكم البدلي يقتضي عملا السعة بالإضافة إلى مورد الاجتماع والاجتزاء به في امتثاله ، ومقتضى الثاني بالإضافة إليه وإن كان عدم السعة ، فينافي حدّه الاول ، إلا أنه لا ينافي حده الثاني ،

٣٦١

وهو الاجتزاء به في مقام امتثال الحكم البدلي ، لإمكان وفائه بغرضه وإن كان مستلزما للإخلال بالثاني وعصيانه. نظير ما تقدم في ثمرة مسألة الضد من عدم التنافي بين التكليف الموسع والمضيق بنحو يمكن شمول الموسع للأفراد الحاصلة في وقت المضيق.

فإذا كان مورد الاجتماع في المقام وافيا بملاك الحكم البدلي فمجرد كون الإتيان به مخلا بغرض الحكم الآخر وموجبا لعصيانه لا ينافي إجزاءه عن الحكم البدلي ، ليلزم تقييد متعلق الحكم البدلي بغيره ، كما لا وجه للتزاحم بين الملاكين بعد إمكان استيفاء كل منهما بامتثال البدلي بغير مورد الاجتماع ، بل يتعين في مثل ذلك سعة متعلق الحكم البدلي لمورد الاجتماع وإن كان متعلقا للحكم الآخر ، ولا يتضادان من هذه الجهة.

والفرق بينه وبين التقييد نظير الفرق بين التقييد بشيء زائد على الماهية كتقييد الصلاة بالطهارة المستلزم لعدم اجزاء فاقد القيد ، ومطلوبية شيء في شيء بنحو تعدد المطلوب كالأمر بايقاع الصلاة في المسجد المستلزم لإجزاء الفاقد عن أصل المطلوب وإن لزم منه الإخلال بالآخر.

كما لا تضاد اصلا بين الوجوب أو الاستحباب المذكور والكراهة في الفرض ، لأن الأمر بالماهية إنما يقتضي السعة في امتثاله بالاضافة إلى مورد الاجتماع من دون أن ينافي مرجوحيته بنحو ينبغي اختيار غيره من الأفراد ، كما نبه لذلك بعض الأعاظم قدّس سرّه فمسألة اقتضاء النهي عن العبادة الفساد. فلاحظ.

إن قلت : لازم هذا عدم تعارض الدليلين في مثل ذلك أصلا والعمل على إطلاق كل منهما ، مع أن بناء العرف ظاهرا على التعارض بينهما بدوا ثم الجمع بالتخصيص والتقييد ، فإذا ورد : أكرم عالما ، ثم ورد : يحرم إكرام العالم الفاسق ، لا مجرد حرمته مع اجزائه.

قلت : لا إشكال في ذلك لو اريد بالنهي الارشاد لعدم إجزاء مورده

٣٦٢

وخروجه عن الماهية المطلوبة نظير النهي الوارد لشرح الماهيات الشرعية ، كالنهي عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه. لكنه أجنبي عن المقام من فرض التنافي بين الوجوب البدلي والتحريم.

وأما لو اريد بالنهي مجرد التحريم لملاك أجنبي عن ملاك الأمر فاطراد التعارض والجمع بالنحو المذكور لا يخلو عن إشكال ، بل لا يبعد اختلافه باختلاف الموارد تبعا لخصوصيات المناسبات والقرائن المحيطة بالكلام. بل الظاهر عدمه لو كان النهي للكراهة دون التحريم.

ولو سلّم فهو مختص بالتحريم ولعله ناشئ عن أن إطلاق الأمر كما يقتضي إجزاء كل فرد كذلك يقتضي السعة وعدم الحرج بالإضافة إلى الأفراد ، وحيث كان النهي منافيا للثاني فرفع اليد عن الإطلاق في متعلق الأمر وحمله على غير مورد النهي أقرب عرفا من التكليف بين الإجزاء والسعة في مورد النهي محافظة على الإطلاق فيه.

وذلك راجع إلى مقام الإثبات التابع للظهور ، فلا ينافي ما ذكرنا من إمكان إجزاء مورد النهي ، لعدم التضاد بين الأمر المذكور والنهي من هذه الجهة الذي هو راجع لمقام الثبوت ، فلا ينهض ذلك لو تم بالخروج عما تقدم. فلاحظ.

الأمر الثاني : من الظاهر أنه لا تعارض بين إطلاقي دليلي الأمر والنهي في مسالة الاجتماع بناء على جواز الاجتماع ، لعدم التنافي بين الدليلين.

كما أنه بناء على الامتناع فالمشهور أنه مع تقديم جانب النهي لا يخرج مورد الاجتماع عن موضوع الأمر تخصيصا وملاكا ، بل للمانع ، مع دخوله فيه ذاتا وواجديته لملاكه بتمامه ، فإن كان الأمر توصليا أجزاء عنه مطلقا ، وإن كان تعبديا أجزاء مع عدم مبعدية النهي للغافلة عنه أو الجهل به ، فضلا عما لو لم يكن فعليا بسبب الاضطرار لمخالفته.

كما لا ريب في كفاية العموم من وجه بين عنواني الأمر والنهي في

٣٦٣

الدخول في هذه المسألة ، مع الكلام في الاكتفاء في ذلك بما إذا كان بينهما عموم مطلق ، على كلام لا يهم التعرض له.

هذا ولا إشكال عندهم أيضا في التعارض البدوي بين الدليلين المتضمنين لحكمين متضادين إذا كان بين موضوعيهما عموم وخصوص مطلق أو من وجه ، ولم يشر أحد منهم للتفصيل في ذلك بين القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي وعدمه.

كما لا إشكال عندهم ظاهرا في أنه مع عدم المرجح لأحد الدليلين يسقطان معا عن الحجية في مورد الاجتماع ، ومع المرجح لأحدهما يسقط الآخر عنه ، وفي الموردين لا مجال للبناء على ثبوت ملاك الحكم الذي يسقط دليله عن الحجية في مورد الاجتماع ، بل يتوقف في ذلك ، فلا يجتزأ به في امتثال الأمر لو سقط دليله عن الحجية بسبب التعارض ، أو تقديم الدليل الآخر.

وهذا كاشف عن أن موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي بنظرهم مباين لمورد التعارض ، وإن اشتركا في كون النسبة بين العنوانين العموم من وجه فقط أو مع العموم المطلق أيضا.

وقد وقع الكلام بينهم في ضابط موضوع مسألة الاجتماع ، وفي الفرق بينه وبين موضوع التعارض المذكور. ويظهر منهم في ضابط الفرق بينهما وجهان ..

أولهما : ما ذكره بعض المعاصرين قدّس سرّه في اصوله وحاصله : أن العنوان الذي يؤخذ موضوعا للحكم ..

تارة : يلحظ فانيا في مصاديقه على نحو يسع جميع الأفراد بما لها من المميزات ، فيكون شاملا بسعته للجمع بين العنوانين ، فيعدّ في حكم المتعرض له بالخصوص ، ولو من جهة كونه متوقع الحدوث على وجه يكون من شأنه أن ينبه عليه المتكلم ، وحينئذ يكون دليل الحكم دالا التزاما على نفي الحكم الآخر المضاد له في المجمع قال : «ولا نضايقك في أن تسمي مثل هذا العموم العموم

٣٦٤

الاستغراقي ، كما صنع بعضهم».

واخرى : يلحظ فانيا في مطلق الوجود المضاف إلى طبيعة العنوان من دون ملاحظة كونه على وجه يسع جميع الأفراد ، فلم تلحظ كثرتها ومميزاتها في مقام الأمر والنهي ، فيكون المأمور به والمنهي عنه صرف وجود الطبيعة. قال : «ولتسم مثل هذا العموم العموم البدلي ، كما صنع بعضهم».

ففي الصورة الاولى يقع التعارض بين دليلي الأمر والنهي في مقام الجعل والتشريع ، لتكاذبهما في مورد الاجتماع ، لاقتضاء كل منهما ثبوت حكمه فيه بالمطابقة ونفي حكم الآخر بالالتزام ، للتنافي بين الحكمين. وحينئذ يتعين التعارض بينهما ، ومقتضى القاعدة تساقطهما معا في المورد المذكور ، فلا يحرز فيه الوجوب ولا الحرمة.

ومعه لا مجال لدخوله في موضوع مسألة الاجتماع ، لاختصاصه بما إذا فرض شمول الدليلين لمورد اجتماع العنوانين وحجيتهما بالإضافة اليه ، وذلك إنما يكون مع عدم التعارض بينهما في مقام الجعل والتشريع.

أما في الصورة الثانية فيدخل المورد في موضوع مسالة الاجتماع ، ولا تعارض بين الدليلين ، لعدم لحاظ الأفراد بنحو يسع الأفراد جميعها ، وإن كان العنوان في ذاته شاملا لها ، لأن الحكم يتعلق بصرف الطبيعة المأمور بها ـ كالصلاة ـ والمنهي عنها ـ كالغصب ـ فلا يكون دليل وجوب الصلاة مثلا دالا على وجوبها حتى في مورد الغصب ، بنحو يدل بالالتزام على انتفاء الحرمة فيه ، كما لا يكون دليل حرمة الغصب دالا على حرمته حتى في مورد الصلاة بنحو يدل بالالتزام على انتفاء الوجوب فيه ، فلا يقع التعارض بين الدليلين. وحينئذ لو اختار المكلف الجمع بينهما في مقام الامتثال يقع الكلام في جواز الاجتماع وعدمه ، فعلى الجواز يكون مطيعا وعاصيا ، وعلى الامتناع يكون مطيعا لا غير إن رجح الأمر ، وعاصيا لا غير إن رجح النهي ، لوقوع التزاحم بين التكليفين

٣٦٥

الموجب للرجوع إلى أقوى الملاكين.

هذا حاصل ما ذكره في المقام. وقد اطال في تقريبه بنحو اضطرنا إلى إطالة الكلام في شرحه تبعا له ، لئلا يفوت شيء بسبب الاختصار يخل بالمطلب ، وإن أعرضنا عن بعض التفصيلات ، لعدم أهميتها في بيانه.

وفيه .. أولا : أنه لم يتضح الفرق بين الصورتين.

إذا لو اريد بالاولى العموم الاستغراقي ـ بالمعنى المعروف الراجع لسعة الحكم لتمام الأفراد بنحو الجمع الذي هو مفاد الواو ـ وبالثانية العموم البدلي ـ بالمعنى المعروف الراجع لسعة الحكم لتمام الأفراد بنحو التخيير الذي هو مفاد أو ـ فلا مجال لفرض الثانية في النهي ، لعدم الإشكال في كون عمومه استغراقيا بالمعنى المعروف.

وإن اريد بالاولى العموم الوضعي وبالثانية العموم الإطلاقي فالفرق بينهما بالإضافة إلى بيان حكم الأفراد في غاية الإشكال ، فإن منشأ الدلالة على حكم الأفراد وإن اختلف فيهما ، إلا أنهما مشتركان في أصل الدلالة عليه وعلى كيفية تعلق الحكمين ، ولذا لا إشكال في أن ما ذكروه من تحقق التعارض بين العامين من وجه يجري في المطلقين ، فالمراد بالعام فيه وفي كثير من أحكام العام ما يعم المطلق ، كما ذكرناه في مبحث العموم والخصوص ، ويشهد به أدنى سبر لكلماتهم في الفقه والاصول.

وكيف كان فالدليل بعد فرض ظهوره في العموم يدل على سعة الحكم للفرد بنفسه دون ما هو خارج عنه مما يقارنه وجودا ولا يتحد معه خارجا.

وحينئذ فإن قيل بأن موضوع الحكم هو العنوان أو بأن تعدد العنوان موجب لتعدد المعنون ـ اللذين عليهما يبتني القول بامكان اجتماع الأمر والنهي عندهم كان موضوع أحد الدليلين مقارنا لموضوع الآخر في مورد الاجتماع ، مع خروجه عنه ومباينته له ، فلا يكون عموم موضوع أحد الحكمين له منافيا لعموم

٣٦٦

موضوع الآخر له ، ليقع التعارض بين الدليلين.

وإن قيل بأن موضوع الحكم هو المعنون مع عدم تعدده بتعدد العنوان ـ الذي عليه يبتني القول بالامتناع عندهم ـ كان موضوع حكم أحد الدليلين متحدا مع موضوع الآخر في مورد الاجتماع ، فيكون عموم موضوع احد الحكمين له منافيا لعموم موضوع الآخر له ، ويقع التعارض بين الدليلين من دون فرق بين الأدلة وأنحاء دلالتها بعد فرض عمومها لمورد الاجتماع.

ثانيا : أن كلا من الدليلين في الصورة الثانية إن كان في نفسه متكفلا ببيان حكم مورد الاجتماع كانا متكاذبين متعارضين بناء على امتناع اجتماع الحكمين في الوجود الواحد المجمع للعنوانين ، لعين ما ذكره في الصورة الاولى ، أما بناء على إمكان اجتماعهما فيه فلا تنافي بين مفادي الدليلين ، ومعه لا تعارض حتى في الصورة الاولى أيضا ، لما سبق من أن العموم مطلقا إنما يقتضي سعة حكمه للفرد بنفسه دون ما يقارنه.

وإن لم يكونا متكفلين ببيان حكمه ، لتعرضهما لثبوت الحكم للماهية من دون نظر للأفراد ، كان مرجعه إلى عدم الإطلاق لكل منهما ووروده بنحو القضية المهملة ، ومعه لا مجال لكون المجمع من مورد مسألة اجتماع الأمر والنهي ، لتوقفه على ثبوت كل منهما فيه بمقتضى دليله ، لينظر في إمكان اجتماعهما ويعمل بكل من الدليلين فيه أو امتناعه ويتعين سقوط أحدهما أو كليهما فيه ، ويكون أبعد عن المسألة من صورة التعارض.

ومن ثم كان كلامه في غاية الغموض والاضطراب ، ولم يتحصل منه ما يمكن الركون إليه في بيان ضابط موضوع المسألة ، والفارق بينه وبين مورد التعارض.

ثانيهما : ما حكاه هو رحمه الله عن بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن الجهتين في العامين من وجه إن كانتا تعليليتين كان العامان متعارضين ، لاتحاد المأمور به مع المنهي

٣٦٧

عنه ، فيمتنع معه اجتماع الحكمين في مورد اجتماع الجهتين وإن تعددت علتهما ، وإن كانتا تقييديتين فلا تعارض بينهما ، لتعدد الموضوع ، ويدخلان حينئذ في مسألة الاجتماع مع المندوحة ، وفي باب التزاحم مع عدمها.

وفيه : أنه لا ضابط للفرق المذكور بين العناوين ، كما لا تتعرض له أدلة أحكامها ، بل هي إنما تتعرض لإثبات الحكم على العنوان الحاكي عن المعنون ، بنحو يظهر منه نوعا دخله في الحكم والغرض ، فإما أن يبنى على كونه تعليليا في الجميع أو تقييديا في الجميع (١).

نعم قد تدل القرينة الخاصة على سوق العنوان لمحض الحكاية عن أفراده والإشارة إليها من دون دخل له في الحكم والغرض ، وهو حينئذ لا يكون تعليليا ولا تقييديا.

مع أن كون العنوانين تقييديين من مباني القول بجواز الاجتماع في موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي عندهم ، لاستلزامه تعدد موضوع الحكمين ولو مع اجتماع العنوانين في فرد واحد ، لا ضابط لموضوع المسألة المذكورة ، بنحو يتنازع بعد البناء عليه في جواز الاجتماع فيه وامتناعه ، كما لعله ظاهر بالتأمل.

نعم ، لم أعثر عاجلا على التفصيل المذكور في تقريري درس بعض الأعاظم قدّس سرّه المعروفين ، لا هنا ولا في مسألة الضد ، وإن تعرض في المسألتين لما هو الدخيل في المقام في الجملة ، كما لم ينقله عنه غير بعض المعاصرين ممن تسنى لي العثور على كلامه.

وإنما ذكر هنا أن مرجع النزاع في هذه المسألة إلى النزاع في أن الجهتين

__________________

(١) يأتي التعرض للضابط المستفاد منه لكون الجهة تعليلية أو تقييديه في آخر الكلام في مطلبه هذا.

٣٦٨

تعليليتان ، ليلزم التعارض في موردها ، أو تقييديتان كي لا يلزم التعارض ، بل يدخل المورد في التزاحم.

وليس هذا فرقا بين موضوع المسألة ومورد التعارض المشار إليه ، الذي هو محل الكلام ، بل بيان لمبنى كون موضوع المسألة من صغريات التعارض ، وهو أمر آخر.

وبعبارة اخرى : محل الكلام هو الفرق بين الموارد التي يحكم فيها بالتعارض ابتداء وعلى كل حال ، وموضوع مسألة الاجتماع التي يبتني دخولها عنده في صغريات التعارض على ما ذكر ، لا ضابط دخول موضوع هذه المسألة في التعارض أو التزاحم ، الذي تعرض له.

مع أن ما ذكره من لزوم التعارض في موضوع المسألة بناء على أن الجهتين تعليليتان لا يناسب بناء المشهور على الامتناع وتقديم جانب النهي مع إجزاء المجمع عن الأمر في التوصليات مطلقا ، وفي التعبديات مع الغافلة عن النهي أو الجهل به أو الاضطرار لمخالفته ، كما يظهر بالتأمل.

هذا ، ويظهر منه قدّس سرّه في ضابط كون الجهتين تعليليتين وكونهما تقييديتين أن التركب بين الجهتين إن كان اتحاديا كانتا تعليليتين ، وإن كان انضماميا كانتا تقييديتين.

لكنه في الحقيقة ليس ضابطا لتعيين حال الجهة وأنها تعليلية او تقييدية ، بل لتمييز موارد تعدد المعنون بتعدد العنوان ، وموارد وحدته مع تعدد العنوان ، وبينهما فرق ظاهر.

نعم ، هو مثله في أنه مبنى جواز الاجتماع وامتناعه في موضوع المسألة ، دون ما هو محل الكلام من ضابط الفرق بين موضوعها ومورد التعارض.

ويأتي تمام الكلام في ما ذكره إن شاء الله تعالى.

والمتحصل : أنه لا يتضح من كلامهم ما ينهض بالفرق بين موارد

٣٦٩

التعارض وموضوع المسألة في العامين من وجه.

نعم ذكر المحقق الخراساني قدّس سرّه في ضابط موضوع المسألة أنه لا بد من اشتمال المجمع على ملاكي الحكمين معا ، كي يمكن جريان النزاع حينئذ في إمكان ثبوت كلا الحكمين ، تبعا لملاكه ، وعدمه ، لاستلزامه اجتماع الحكمين المتضادين.

وقد تبعه في ذلك بعض الأكابر من تلامذته في درره ، وجعله ضابطا للفرق بين موارد التعارض وموضوع المسألة ، وأنه لا بد في التعارض من وحدة الملاك واختصاصه بأحد الحكمين.

وهو في محله في الجملة ، لمناسبته لما سبق من المشهور من البناء على إجزاء المجمع عن الأمر مع بنائهم على الامتناع وتقديم جانب النهي وما سبق من عدم الإشكال في عدم الإجزاء في مورد التعارض البدوي.

إلا أنه ضابط ثبوتي لا إثباتي ، ليتجه الرجوع إليه في تمييز موضوع المسألة عن مورد التعارض ، لوضوح أن الأدلة لا تتعرض للملاكات ابتداء ، ليمكن دلالتها على ثبوت ملاكي الحكمين في مورد مجمع العنوانين وإن امتنع اجتماع الحكمين فيه ، وإنما تتعرض للأحكام واستفادة الملاكات منها بتبعها.

فلا بد من التمييز بين الموارد التي يحكم فيها ابتداء بتعارض الدليلين في مجمع العنوانين بنحو يستلزم سقوط احدهما أو سقوطهما معا عن الحجية حتى بالاضافة إلى الملاك وموضوع هذه المسألة الذي يحرز فيه من الإطلاقين ثبوت كلا الملاكين في المجمع ، ويبتني إحراز كلا الحكمين أو أحدهما فيه على النزاع في إمكان الاجتماع وامتناعه.

أما مع عدم التمييز المذكور وفرض الموارد بنحو واحد فاللازم بناء التعارض بين الدليلين وعدمه على الخلاف في جواز الاجتماع وامتناعه. فإن قيل بالجواز فلا تعارض بين الدليلين مطلقا لا في الملاكين ولا في الحكمين ،

٣٧٠

وإن قيل بالامتناع يلزم التعارض بينهما في مدلولهما المطابقي ، وهو إثبات كلا الحكمين في مجمع العنوانين.

وحينئذ فإن قيل بأن تعارض الدليلين في مدلولهما المطابقي كما يسقطهما عن الحجية فيه يسقطهما عن الحجية في مدلولهما الالتزامي ـ كما هو التحقيق على ما ذكرناه في مبحث التعارض ـ تعين عدم إحراز ملاك أحد الحكمين أو كليهما من الإطلاقين في المجمع ، فلا يجزي عن الأمر بناء على تقديم جانب النهي.

وإن قيل بأنه لا يسقطهما عن الحجية في المدلول الالتزامي ، تعين إحراز الملاكين في المجمع وإجزائه عن الأمر ولو مع تقديم جانب النهي في التوصليات مطلقا وفي التعبديات مع عدم صلوح النهي للمبعدية.

لكن عرفت أن بناء المشهور ليس على ذلك ، بل على التعارض في بعض الموارد مطلقا وإن قيل بجواز الاجتماع المستلزم لعدم إجزاء المجمع عن الأمر مع عدم تقديم دليله ، وعلى إجزاء المجمع عن الأمر في خصوص موضوع مسألة الاجتماع مع بنائهم على الامتناع وتقديم النهي فيه.

ومن ثمّ ذكر بعض مشايخنا (دامت بركاته) أن ذلك من المشهور ناش عن الغافلة عن مقتضي التعارض اللازم بناء على الامتناع وتقديم جانب النهي ، وأن اللازم بطلان الامتثال بالمجمع مع الجهل بالنهي ونحوه مما لا يرتفع معه النهي واقعا ، لأن فعلية النهي في المجمع تستلزم قصور متعلق الأمر عنه ، فلا يحرز ملاكه فيه ، ليكون مجزيا.

نعم ، لم يلتزم بذلك مع الاضطرار لمخالفة النهي ، كما يظهر من غيره أيضا.

وقد يقرب : بأنه بعد فرض قصور النهي عن مورد الاضطرار لا مانع من عموم إطلاق الأمر له ، فيحرز الأمر به تبعا لثبوت الملاك فيه ، ويتعين إجزاؤه.

٣٧١

لكنه يشكل : بأن المنشأ للتعارض في العامين من وجه وإن كان هو تنافي الحكمين بنحو يمتنع فعليتهما معا ، فيقصر عن فرض الاضطرار لمخالفة حكم الراجح حيث يلزم سقوطه ولا يمتنع معه فعلية الآخر ، إلا بناء المعرف فيه على كون مورد التعارض الموجب لقصور أحد الدليلين أو كليهما هو المجمع بذاته وبعنوانه الأولي ، لا بما هو محكوم فعلا بالحكم الآخر ، فيؤخذ بذاته قيدا في موضوع الدليل المرجوح ويستثنى منه ملاكا وخطابا مطلقا ولو مع سقوط حكم الدليل الراجح بمثل الاضطرار والحرج مما لا يرتفع الملاك ، كما يشهد بذلك ملاحظة النظائر في سائر موارد العامين من وجه.

مثلا إذا ورد : أكرم العلماء ، وورد : لا تكرم الفساق ، ففرض تقديم الثاني في العالم الفاسق راجع عرفا إلى تقييد الأول بغير الفساق من العلماء وقصوره عنهم ذاتا وإن ارتفعت حرمة إكرامهم بالاضطرار.

ولذا لا يظن من أحد الالتزام في فرض الاضطرار إلى إكرام فاسق من العلماء أو غيرهم بلزوم إكرام الفاسق من العلماء تحكيما لعموم وجوب إكرام العلماء بعد فرض قصور عموم حرمة إكرام الفساق بالاضطرار ، نظير المقام.

بل لو تم ذلك جرى في العموم المطلق فيلتزم بأنه لو سقط حكم الخاص للاضطرار يرجع في مورده لحكم العام ، مع أنه لا يظن بأحد الالتزام بذلك ، وإنما يجمع بينهما بخروج مورد الخاص عن حكم العام مطلقا على النحو الذي ذكرناه في العامين من وجه.

ومن ذلك يظهر حال ما ذكره دامت بركاته من أن ملاك الحرمة لما لم يكن مؤثرا في مبغوضية المجمع فعلا حال الاضطرار له لا يكون مانعا من إيجابه بعد فرض اشتماله في نفسه على الملاك الملزم ، فلا مانع من التمسك باطلاق دليل الوجوب فيه ، فيثبت صحة امتثال أمر الطبيعة به ، ويكون مصداقا للطبيعة الواجبة في الخارج.

٣٧٢

لاندفاعه : بأنه لا إشكال في صحة الامتثال بالجمع في فرض إحراز ملاك الوجوب فيه ، لعدم المانع من تأثير الملاك لحكمه ، بلا حاجة للإطلاق ، بل يكفي التقرب بالملاك لو فرض عدم الأمر بعد عدم فعلية النهي المانع من التقرب.

إلا أن الإشكال في إحراز الملاك بعد فرض تعارض الدليلين وتقديم دليل الحرمة في المجمع المستلزم لقصور دليل الوجوب عنه بذاته ، كما تقدم.

ومن ثم كان الظاهر عدم تمامية ما ذكره من التفصيل بين الجهل بالنهي والاضطرار لمخالفته ، بل يلزم عدم صحة الامتثال في الجميع بناء على ما ذهب إليه من كون المورد من صغريات التعارض.

فالعمدة في المقام عدم تمامية المبنى المذكور ، وأن مورد اجتماع الأمر والنهي ملحق بالتزاحم دون التعارض ، لإحراز كلا الملاكين فيه من الإطلاق ، فإن الجمود في تحرير محل النزاع في مسألة الاجتماع على ما تقدم من إمكان اجتماع الحكمين بعنوانين قد يوهم عموم النزاع في كفاية تعدد العنوان في إمكان سعة الحكمين المتضادين للمجمع بين العنوانين لكل عنوان من دون فرق بين العناوين وأنحاء اجتماعها في المورد الواحد ، المستلزم لابتناء التعارض بين دليلي الحكمين المختلفي العنوان في المجمع على النزاع في مسألة الاجتماع مطلقا ، فإن قيل بامتناع الاجتماع لزم التعارض بين الدليلين لتكاذبهما تبعا لتنافي مفاديهما في الجميع ، وإن قيل بجواز الاجتماع فلا تعارض في الجميع.

لكن لا مجال لذلك بعد ملاحظة مفروغيتهم عن التعارض البدوي في بعض العناوين من دون ابتناء على مسألة الاجتماع وإجراء أحكام التعارض من الجمع العرفي مع إمكانه والترجيح أو التخيير أو التساقط مع تعذره ، بنحو يبنى على عدم إحراز ملاك الحكم الذي تضمنه الدليل المرجوح أو الساقط

٣٧٣

بالتعارض ، مع ما اشرنا إليه آنفا من بناء المشهور على إحراز ملاك الحكم في موضوع مسألة الاجتماع ، حيث يكشف ذلك عن الفرق عندهم بين العناوين ، بل عن ارتكازية الفرق المذكور ، حيث جروا عليه بطبعهم من دون تنبيه له وتحديد لموارده.

وتوضيح ذلك : أن امتناع التمسك بالإطلاقين معا لإثبات فعلية الحكمين المتضمنين لهما كما يكون مع تضاد حكميهما ووحدة متعلقهما ، كذلك يكون مع تعدد متعلق حكميهما وتعذر الجمع بينهما في مقام الامتثال ، إما للغوية جعل الحكم مع تعذر الامتثال ، أو لقبح التكليف بما لا يطاق كما تقدم في ثمرة مسألة الضد.

إلا أن بناء العرف في الأول على تكاذب الإطلاقين في مقام الإثبات بنحو يسقط أحدهما أو كلاهما عن الحجية رأسا ، فكما لا يثبت به الحكم الفعلي لا يثبت ملاكه ، وهو المراد بالتعارض الذي يكون معيار الترجيح فيه قوة الدليل ولا أثر فيه لأهمية الحكم.

أما في الثاني فلا تكاذب بين الاطلاقين بنظر العرف ، بل يحمل كل منهما على بيان ثبوت حكمه في نفسه لو لا العجز عن الامتثال الذي يسقط معه الحكم عن الفعلية مع بقاء ملاكه ، المستلزم لتزاحم الملاكين ثبوتا في تأثير الحكم ، وهو المراد بالتزاحم الذي يكون معيار الترجيح فيه أهمية الحكم تبعا لأهمية ملاكه ، ولا أثر فيه لقوة الدليل ، على ما حقق في محله من مباحث التعارض. ولا إشكال في شيء من ذلك.

كما لا إشكال في أن أظهر مصاديق الأول ما إذا اتحد موضوع الحكمين بحسب العنوان والمعنون معا ، كما لو دل أحد الدليلين على وجوب إكرام العلماء والآخر على حرمته ، وأن أظهر مصاديق الثاني ما إذا تعدد موضوعهما بحسب العنوان والمعنون ، كما في ما دل على وجوب إنقاذ المؤمن وما دل على

٣٧٤

حرمة التصرف في المغصوب لو توقف الإنقاذ على التصرف.

وإنما الإشكال فيما لو تعدد موضوعهما بحسب العنوان واتحد بحسب المعنون ، لاجتماع العنوانين في بعض الأفراد ، لاضطرابهم في ذلك جدا.

وعليه يبتني اشتباه مورد تعارض العامين من وجه بموضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي اللذين نحن بصدد التمييز بينهما.

والظاهر أن الحال يتضح بملاحظة أقسام العناوين وكيفية انتزاعها لمعنوناتها.

فإن العناوين الحاكية عن فعل المكلف الصالح لأن يكون موضوعا للأحكام التكليفية ومعروضا لها ...

تارة : تكون أولية حاكية عنه بذاته من دون نظر لشيء خارج عنه ، كعنوان المشي والنوم والتكلم والأكل والشرب والسب والمدح والغيبة وغيرها.

واخرى : تكون ثانوية منتزعة من الفعل بلحاظ أمر خارج عنه ، كالعناوين التسبيبية المنتزعة من ترتب شيء عليه ، كعنوان الإحراق والإيذاء والإضرار والتأديب والتكريم والانقاذ والتداوي وغيرها ، والعناوين الاضافية المنتزعة من نحو إضافة خاصة بينه وبين غيره ، كالمقابلة والمعاندة والإطاعة والمعصية والمتابعة والمشابهة والفوقية والتحتية وغيرها.

والظاهر أن مرجع التكليف بالعناوين بقسميها إلى التكليف بمنشإ انتزاعها ، لكونه موطن الغرض والملاك.

ففي القسم الأول يكون المكلف به هو الفعل بذاته ، لأنها هي منشأ انتزاع العنوان ، من دون فرق بين التكليف بها على إطلاقها والتكليف بها مقيدة ببعض القيود الخارجة عنها ، كتقييد المشي بالسرعة والأكل بطعام خاص والنوم بوقت خاص إلى غير ذلك ، وليست فائدة التقييد إلا تضييق مورد التكليف وقصره على ما يقارن القيد من دون أن يكون القيد بنفسه موردا للتكليف وجزءاً من متعلقه ،

٣٧٥

على ما سبق توضيحه في أوائل الكلام في تقسيم المقدمة إلى تكوينية وشرعية. فراجع.

أما في القسم الثاني فليس المكلف به وموطن الغرض حقيقة إلا منشأ انتزاع العنوان الخارج عن فعل المكلف وليس التكليف بفعله إلا للتوصل إليه ، لكونه مسببا عنه ، كما في العنوان التسبيبي ، حيث يكون فعل المكلف سببا لمنشا انتزاع العنوان ، أو لكونه قائما به ، كما في العنوان الإضافي ، حيث يكون فعل المكلف طرفا للإضافة التي هي منشأ انتزاع العنوان ، فتقوم به قيام العرض بموضوعه.

ومن ثمّ ذكرنا أنه مع تردد فعل المكلف في هذا القسم بين الأقل والأكثر يجب الاحتياط لإحراز منشأ انتزاع العنوان الذي هو المكلف به حقيقة من دون أن يكون مجملا بخلاف القسم الأول ، حيث يرجع إجمال فعل المكلف إلى إجمال المكلف به ، لغرض انتزاع عنوانه من نفس الذات ، فيقتصر في التكليف على المتيقن ، ويقتصر ويرجع في الزائد البراءة.

نعم ، لو رجع الإجمال في القسم الأول إلى إجمال منشأ الانتزاع الواجب وتردده بين الأقل والأكثر تعين الرجوع للبراءة في الزائد المشكوك ، كما لو تردد الحطب الواجب الإحراق بين القليل والكثير.

ويترتب على ذلك أن اختلاف العنوانين مع وحدة فعل المكلف المعنون بهما. إن كان لتعدد منشأ انتزاع العنوان ، بأن يكون أحدهما أوليا منتزعا من الذات والآخر ثانويا منتزعا من أمر خارج عنها ـ كعنواني المشي والإيذاء ـ أو كلاهما ثانويا مع اختلاف منشأ انتزاعهما ـ كعنواني الإيذاء والإكرام ـ كان راجعا لتعدد الموضوع المعتبر في التزاحم ، لأن فعل المكلف وإن كان واحدا ، إلا أنه ليس متعلقا لأحد المكلفين أو كليهما إلا تبعا لتعلقه وتعلق الغرض والملاك بمنشإ انتزاع العنوان المباين له.

٣٧٦

ولذا كان المرتكز أن عمومات استحباب إيناس المؤمن وقضاء حاجته ، ووجوب إنقاذه من الهلكة ، لا تعارض مثل عمومات حرمة الغناء والغيبة والكذب ، وإن كانت نسبة كل واحد من تلك العمومات مع كل واحد من هذه هي العموم من وجه ، حيث قد يتحقق العنوانان في فعل واحد ويصدقان عليه ، بل يكون مجمع العنوانين موردا للتزاحم بسبب تحقق الملاكين الفعليين معا كل في موضوعه ، فيرجع فيه لمرجحات التزاحم ، فيقدم الأهم على المهم ، والإلزامي على غيره ، والتعييني أو المضيق على التخييري أو الموسع ، إلى غير ذلك مما يذكر في محله.

أما إذا كان منشأ اختلاف العنوانين اختلاف قيودهما التابعة للخصوصيات الخارجية عن منشأ الانتزاع ، كخصوصيات الزمان والمكان والمتعلق وغيرها ، مع اتحاد منشأ الانتزاع في الخارج ، كان راجعا لوحدة الموضوع الذي عرفت لزوم التعارض معه ، سواء كان العنوانان أوليين كالسفر في شهر رمضان والسفر إلى كربلاء ، أم ثانويين كإيذاء المؤمن وإيذاء العاصي. وإليه نظروا في الحكم بالتعارض البدوي بين العام والخاص والمستحكم في العامين من وجه.

نعم ، لو كان القيد مقوما في الخارج لمنشا الانتزاع دخل في تعدد الموضوع ، كإكرام زيد وإكرام عمرو لو حصلا بفعل واحد ، وكذا إكرام العادل وإكرام الفاسق ، لوضوح تقوم إضافة الإكرام خارجا بالشخص المكرم ، فتتعدد مع تعدده ، كما في المثالين ، وتتحد مع وحدته وإن اختلف عنوانه بأن كان عالما وفاسقا. فلاحظ.

كما أنه لو كانت خصوصية كل من العنوانين دخيلة في ثبوت حكمه ـ ولو بمقتضى المناسبة الارتكازية بين الحكم والموضوع ـ كان مورد الاجتماع من موارد التزاحم الملاكي الراجع لتزاحم المقتضيات ، دون الملاكات الفعلية ،

٣٧٧

ولذا يلتزم بالتأكد مع اتحاد سنخ الحكمين ، كما لو وجب كل من إكرام العالم وإكرام العادل ، حيث يكون وجوب إكرام العالم العادل مؤكدا ، تبعا لتأكد ملاكه بتعدد المقتضي فيه.

لكن تحقق في محله أن مورد التزاحم الملاكي من موارد التعارض ، فتجري أحكامه المتقدمة ، وتختص أحكام التزاحم المتقدمة بالتزاحم الحكمي ، الذي لا يكون إلا مع فعلية الملاكين واختلاف المتعلقين ، ومنه ما ذكرنا من اختلاف العنوانين إذا كان مختلفين في منشأ الانتزاع.

إذا عرفت هذا فالظاهر اختصاص موضوع مسألة الاجتماع عندهم بما إذا كان اختلاف العنوانين بالوجه الأول ، المبتني على اختلاف منشأ انتزاعهما ، والذي تقدم أنه من صغريات التزاحم ، دون الثاني المبتني على اختلاف قيودهما الخارجة عن منشأ الانتزاع ، والذي تقدم أنه من صغريات التعارض.

وبه يجمع بين ما ذكروه من التعارض بين العامين من وجه وما ذكروه في المقام مما تقدم ظهوره في المفروغية عن إحراز ملاك الحكمين.

كما يناسبه مفروغيتهم في المقام عن تقديم جانب النهي ، مع أنه لا يتجه في المتعارضين ، وإنما يتجه في التزاحم بلحاظ أن النهي لما كان شموليا يكون تعيينا في المجمع ، بخلاف الأمر المفروض في أمثلتهم كونه بدليا تخييريا.

وكذا تمثيلهم لتعارض العامين من وجه بمثل : أكرم العلماء أو عالما ، ولا تكرم الفساق ، الذي تقدم أنه من القسم الثاني ، ولمسألة الاجتماع بمثل حرمة الغصب ووجوب الوضوء أو الغسل أو الصلاة ، لوضوح أن موضوع الأمر في الوضوء والغسل هو الغسل بذاته أو بعنوان كونه طهارة الذي هو من العناوين التسبيبية المنتزعة من ترتب الطهارة عليه ، وفي الصلاة هو الأفعال بعناوينها الأولية من القيام والركوع والسجود ، أما موضوع النهي في الغصب فليس هو الفعل بأحد العناوين المذكورة ، بل بعنوان كونه تصرفا في ملك الغير بغير إذنه

٣٧٨

الراجع للتعدي عليه ومخالفة مقتضي سلطنته وحقه ، وهو من العناوين الإضافية المباينة في منشأ الانتزاع للعناوين المذكورة ، إلى غير ذلك مما يظهر بمزيد تتبع في كلماتهم.

ومنه يظهر الإشكال في ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في التنبيه الثالث من هذه المسألة من عدم الفرق بين العناوين وأنحاء اختلافها ، وحمل كلماتهم على ما يناسب ذلك فراجع.

ومثله ما تقدم من بعض مشايخنا (دامت بركاته) من الحكم بالتعارض المستلزم لعدم إحراز الملاك في موضوع مسألة الاجتماع ونسبة الغافلة للمشهور في حكمهم بالإجزاء كما تقدم.

بل هو لا يناسب ما ذكره في وجه تقديم النهي في مثل الصلاة والغصب من أن المفهوم عرفا أن الغصب من سنخ العنوان الثانوي الرافع للحكم الأولي ، إذ لو تم ذلك فالعنوان الثانوي وإن اقتضى رفع الحكم الاولي إلا أنه لا يقتضي رفع ملاكه ، فلا وجه لعدم إجزائه ، إلا أن يريد بالعنوان الثانوي كل عنوان زائد على الذات موجب لتبدل حكمها. لكن الوضوء والغسل والصلاة أيضا عناوين ثانوية بالمعنى المذكور ، لأخذ خصوصيات فيها زائدة على ذوات الأفعال ، فيرجع السؤال عن وجه دليل تقديم الغصب على دليلها.

وبالجملة : الظاهر وفاء ما ذكرنا ببيان ضابط موضوع مسألة الاجتماع والفرق بينه وبين مورد التعارض في العامين من وجه ، وتوجيه مباني في المشهور في المقام.

بقي الكلام في ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه في ضابط موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي والفرق بينه وبين مورد التعارض مع اشتراكهما في العموم من وجه بين العنوانين ، من أن التركيب بين العنوانين في الخارج إن كان انضماميا كان موضوعا لمسألة الاجتماع ، وإن كان اتحاديا خرج عنه ودخل في

٣٧٩

التعارض. وقد أطال الكلام في بيان ذلك وفي المقدمات التي يبتني عليها.

والذي يتحصل مما تضمنه تقرير درسه لبعض مشايخنا : أن موضوع الأحكام التكليفية لما كان هو فعل المكلف ، وهو المبدأ المصدري ، كالقيام والصلاة والسفر والغصب وغيرها ، فإن كان أحد المبدأين الصادرين من فاعل واحد مبانيا للآخر وجودا وإيجادا ، بمعنى أن إيجاد أحدهما لا يستلزم إيجاد الآخر ، كالصلاة والنظر للأجنبية ، خرجا عن محل الكلام من فرض اجتماع العنوانين في موجود واحد ، بلا إشكال.

وكذا إن كانا موجودين بتأثير واحد ، بنحو لا يمكن التفكيك بينهما في الخارج إلا أن الإشارة الحسية لأحدهما لا تكون إشارة للآخر ، كاستقبال المغرب واستدبار المشرق.

وإن كانا موجودين بتأثير واحد ، وكانت الإشارة لأحدهما عين الإشارة للآخر ـ كالغصب والصلاة في الدار المغصوبة ـ كان بينهما نحو من التركب ، لكن التركب المذكور ليس اتحاديا مبنيا على اتحادهما في الموجود الواحد ، بل هو انضمامي يبتني على امتياز أحدهما عن الآخر حقيقة ، بخلاف العنوانين الاشتقاقيين منهما ـ كالغاصب والمصلي ـ فإن التركيب بينهما يكون اتحاديا.

والسر في الفرق : أن مبدأ الاشتقاق ـ ومنه فعل المكلف ـ ماهية واحدة موجودة في جميع الأفراد ، فالصلاة في المكان المغصوب متحدة مع الصلاة في غيره ماهية ، والغصب الموجود في ضمن الصلاة متحد مع الغصب الموجود في غيرها ، والبياض الموجود في اللبن متحد مع البياض الموجود في العاج ، فمع اجتماعهما في الموجود الواحد يمتنع اتحادهما في الخارج ، لاستحالة صدق الماهيتين المتباينتين في فرد واحد ، لوضوح أنه ليس للفرد إلا ماهية واحدة.

وحينئذ يتعين أن يكون التركب بينهما في الخارج انضماميا مع التعدد حقيقة ، ويدخل في موضوع مسألة الاجتماع.

٣٨٠