المحكم في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٢

وقد حاول غير واحد توجيه عدم المجاز في الاستعمال المذكور ، بدعوى : أن الموضوع له هو القدر المشترك بين الماهية الذهنية والخارجية المطلقة والمقيدة ، الذي قد يعبر عنه باللابشرط المقسمي.

لكن لا يخفى أن القدر المشترك المذكور مما لا يمكن لحاظه في نفسه ، لانحصار الماهية الملحوظة بأحد الوجوه المتقدمة.

ومن ثمّ قيل : انه ليس اعتبارا للماهية في قبال الاعتبارات الأخر ، بل هو موجود في ضمنها ، فهو جامع انتزاعي بينها ، لا جامع حقيقي مفهومي يمكن لحاظه بنفسه بنحو يشملها ، فليس مرجع الوضع له إلى تصور الماهية بنحوه حين الوضع وتعيين اللفظ بإزائه ، بل إلى الوضع لأقسامه الثلاثة بنحو الترديد ، نظير الاشتراك وتعدد الوضع ، وهو مما يقطع بعدمه ، لما فيه من التكلف.

بل التحقيق ما سبق من كون الموضوع له هو الماهية بما لها من حدود مفهومية قابلة للتحديد والتصور ، التي عرفت أنها تقبل اللحاظ على أحد الوجوه المذكورة.

وحينئذ يرجع الإشكال مع التقييد المنفصل ، لفرض عدم تقييد الماهية عند الحكم عليها ، فإن ابتنى ذلك على إرادة المقيد من اللفظ الموضوع للماهية لزم المجاز ، للخروج به عما وضع له ، وهو الماهية بنفسها الشاملة له ولغيره.

فالظاهر أن الأمر يبتني على أمر آخر ، وهو أنه هل يعتبر في الحكم على الماهية الخارجية بحدودها المفهومية وبنحو اللابشرط ثبوت الحكم لتمام أفرادها ، بحيث لو كان مختصا ببعض أفرادها لم يصح نسبته إليها إلا مع التقييد المتصل بما يطابق تلك الأفراد ـ الذي سبق عدم لزوم المجازية ـ أو استعمال اللفظ في المقيد خروجا به عما وضع له ـ المستلزم للمجاز ـ أو لا؟ بل يكفي في نسبة الحكم لها بما لها من المعنى ثبوته لبعض أفرادها من دون حاجة للتقييد.

إذا عرفت هذا ، فالظاهر هو الثاني ، ومرجعه إلى صحة الاستعمال بنحو

٢١

القضية المهملة الراجعة إلى ثبوت الحكم للماهية في الجملة بالنحو المردد بين تمام الأفراد وبعضها ، من دون أن يبتني الاستعمال مع ثبوت الحكم للبعض على قصده بنحو التقييد المبتني على أخذ الخصوصية المعينة له ، ولا بنتيجته المبتنية على ملاحظته بذاته ، بل على ملاحظة الماهية بذاتها ونسبة الحكم إليها في الجملة.

ويشهد بما ذكرنا عدم العناية في الاستعمال المذكور ارتكازا ، الذي يبتني على كثير من القضايا الشائعة بين أهل اللسان ، كقولنا : قد رأيت الأسد ، وركبت الفرس ، وأكلت اللحم ، وشربت اللبن ، وغيرها ، وكما في القضايا المتضمنة للأحكام عند عدم كون المتكلم في مقام البيان من بعض الجهات ، حيث لا إشكال في عدم ذلك على العناية باستعمال اللفظ في المقيد.

كيف وقد لا يحيط المتكلم عند الاستعمال بالخصوصيات والقيود الدخيلة في الحكم ليتسنى له الاستعمال في المقيد بها أو المقارن لها. فلو لا صحة الحكم على الماهية بحدودها المفهومية بمجرد ثبوته لبعض أفرادها لم تصح الاستعمالات المذكورة.

والفرق بين ما ذكرنا وما سبق من المتأخرين من دعوى الوضع للجامع بين المطلق والمقيد : أن التوسع ـ على ما ذكروه ـ في مفهوم اللفظ الدال على الماهية ، و ـ على ما ذكرنا ـ في مفاد الحمل والحكم على الماهية.

ولعل ارتكازية صحة الاستعمال المذكور وعدم مجازيته هو الذي أوهم سعة ما وضع له لفظ الماهية بالنحو المتقدم ، الذي ذكرنا عدم إمكان الالتزام به ، وأنه يتعين توجيه هذا الاستعمال بما سبق.

نعم ، لا يتعين ما ذكرنا في التقييد المنفصل ، بل كما يمكن ذلك فيه ، يمكن أن يبتني على قيام قرينة متصلة حالية أو مقالية على التقييد وإن خفيت ، أو على استعمال المطلق في المقيد مجازا ، كما سبق من القدماء. لأنه بعد أن

٢٢

فرض انعقاد الظهور في العموم والإطلاق كما تكون جميع الوجوه المذكورة مخالفة للأصل ، فلا بد في تعيين أحدها من معين.

ولعله يتضح بعض الكلام في ذلك عند الكلام في الجمع بين العام والخاص.

كما أن ما ذكرنا من صحة إرادة المهملة إنما يتجه في القضية الموجبة ونحوها ، أما السالبة ونحوها فلا إشكال في عدم صحتها مع الإهمال وتوقفها على استيعاب السلب لتمام الأفراد فلا بد من أحد الوجهين الآخرين أو نحوهما لو ثبت الخصوص.

وتمام الكلام في ذلك عند الكلام في مفاد النكرة في سياق النفي والنهي إن شاء الله تعالى.

ثم إن ما ذكرنا من صحة الحمل على الماهية ..

تارة : بنحو الإطلاق ..

واخرى : بنحو التقييد المتصل ، وأن الأول يكفي فيه ثبوت الحكم في الجملة بنحو الإهمال الذي يناسب التقييد المنفصل ، يجري نظيره في النسبة التي إليها يرجع العموم الأحوالي ، فنسبة الحكم للموضوع قد تبتني على ثبوته له في خصوص حال يستفاد من تقييده بشرط أو غاية أو غيرهما من القيود المتصلة ، كما تبتني على ثبوته له في الجملة بنحو الإهمال الذي يجتمع مع ثبوته له دائما ، وثبوته له في خصوص حال ، وعلى الثاني قد يبتني التقييد المنفصل ، من دون أن يخرج في شيء منها عن مفاد النسبة وضعا.

وقد تحصل من جميع ما تقدم : أن مفاد الوضع في المفردات والهيات مع عدم التقييد ليس إلا ثبوت الحكم للماهية في الجملة بنحو القضية المهملة بالإضافة إلى الأفراد والأحوال.

ومن هنا لا بد من الكلام في ما يدل على العموم وضعا أو عقلا أو بقرائن

٢٣

عامة ، ليترتب عليه الظهور النوعي الذي هو المهم في المقام ، وله عقدنا هذا الفصل. ويكون ذلك في ضمن مباحث ..

٢٤

المبحث الأول

لا إشكال في دلالة بعض الأدوات على العموم الأفرادي أو الأحوالي وضعا ، مثل : (كل) و (جميع) و (أي) في مثل : أكرم كل رجل ، أو جميع الرجال ، أو أي رجل ، ودائما في مثل : الخمر نجسة دائما ، ونحوها ، لأن ذلك هو المتبادر منها.

ومعه لا مجال لما حاوله بعضهم من تقريب اشتراكها بين العموم والخصوص ، أو اختصاصها بالخصوص.

كما لا مجال لإطالة الكلام في حججهم بعد ظهور ضعفها بمراجعتها في كتاب المعالم وغيره.

هذا ، ويظهر من غير واحد أن مفاد أداة العموم ليس هو عموم الحكم لتمام أفراد الماهية الداخلة عليها ، حيث لا إشكال في عدم دلالتها على العموم لها مع تقييدها ، ففي مثل : أكرم كل عالم عادل لا يستفاد العموم لكل أفراد العالم ، بل لخصوص أفراد العادل منه ، ومرجع ذلك إلى أن مفاد الأداة هو عموم الحكم لأفراد ما يراد من مدخولها مطلقا كان أو مقيدا ، فلا بد في استفادة العموم منه لتمام افراد المدخول من إحراز كون المراد به الماهية المطلقة المرسلة ، وهو إنما يكون بضميمة مقدمات الحكمة ، ومع عدم تماميتها لا مجال لإحراز العموم لتمام أفرادها من الأداة.

لكنه يبتني على كون اللفظ الدال على الماهية موضوعا للقدر المشترك بين المطلقة المرسلة والمقيّد ، حيث يحتاج تعيين إرادة الأولى إلى قرينة

٢٥

الحكمة.

وقد سبق ضعفه ، وأنه موضوع للماهية بحدودها المفهومية ، والتقييد نسبة زائدة عليها ، غاية الأمر أن نسبة الحكم للماهية لا يقتضي بنفسه استيعاب أفرادها به ، بل يكفي ثبوته لها في الجملة بنحو القضية المهملة ، فمع فرض دلالة الأداة على عموم الحكم لتمام أفراد ما أريد من مدخولها ـ وهو الماهية بحدودها المفهومية ـ يتعين خروجها عن الإهمال ، والبناء على العموم لتمام الأفراد بلا حاجة لمقدمات الحكمة.

ولا ينافي ذلك قصور العموم مع تقييد المدخول بقيد متصل ، واختصاصه بأفراد المقيد ، لأن نسبة التقييد كما تقتضي قصر الحكم على أفراد المقيد تقتضي قصر العموم عليها ، ومع عدمه لا بد من سعة العموم.

نعم ، لو احتمل التقييد المتصل بقرينة حالية أو مقالية قد اختفت علينا فاستفادة العموم لتمام الأفراد تبتني على أصالة عدم القرينة ، وهي مباينة لمقدمات الحكمة مفادا وموردا ، كما هو ظاهر.

أما لو لم يحتمل التقييد المتصل فأداة العموم بنفسها تقتضي سعته لتمام أفراد المدخول وضعا ، من دون ضميمة مقدمات الحكمة ، وإلا خرجت أدوات العموم في إفادته عن التأسيس ، للتأكيد ، إذ مع عدم تمامية المقدمات المذكورة لا تصلح لإفادة العموم لأفراد المدخول ، بسبب احتمال إرادة المقيد منه ، ومع تماميتها تستند إفادة العموم لها ، غاية الأمر أنها قد تنفع في تبدل نحو العموم من البدلية للاستغراقية أو المجموعية ، كما لو كان مدخولها نكرة.

وهو كما ترى بعيد عن المرتكزات الاستعمالية ، لقضاء التأمل فيها بإفادة الأدوات أصل العموم تأسيسا ، لا تأكيدا. ومعها لا تتم مقدمات الحكمة ، لأن منها عدم البيان. فلاحظ.

٢٦

المبحث الثاني

لا إشكال في دلالة النكرة في سياق النفي والنهي العموم ، لأن سعة وجود الماهية بتعدد أفرادها كما يستلزم وجودها بوجود بعضها يستلزم عدم انتفائها الذي هو مفاد النفي ومقتضى النهي إلا بانتفاء تمام الأفراد.

ومن ثمّ كانت الدلالة على العموم في ذلك عقلية متفرعة على دلالة اللفظ على الماهية ذات الوجود الواسع بما لها من حدود مفهومية.

وبذلك ظهر عدم اختصاص ذلك بالنكرة ، بل يجري في كل ما يدل على الماهية إذا وقع في سياق النفي والنهي.

وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في الفصل الخامس من مقصد الأوامر والنواهي عند الكلام في الفرق بين الأمر والنهي في مقام الامتثال.

هذا ، وقد استشكل في ذلك بعض المحققين رحمه الله ، قال في أوائل مبحث النهي : «لا يخفى عليك أن الطبيعة توجد بوجودات متعددة ، ولكل وجود عدم هو بديله ونقيضه ، فقد يلاحظ الوجود مضافا إلى الطبيعة المهملة التي كان النظر مقصورا على ذاتها وذاتياتها ، فيقابله إضافة العدم إلى مثلها ، ونتيجة المهملة جزئية ، فكما أن مثل هذه الطبيعة تتحقق بوجود واحد كذلك عدم مثلها. وقد يلاحظ الوجود مضافا إلى الطبيعة بنحو الكثرة ، فلكل وجود منها عدم هو بديله ، فهناك وجودات وأعدام ، وقد يلاحظ الوجود بنحو السعة ، أي بنهج الوحدة في الكثرة بحيث لا يشذ عنه وجود ، فيقابله عدم مثله ، وهو ملاحظة العدم بنهج الوحدة في الأعدام المتكثرة ، أي طبيعي العدم بحيث لا يشذ عنه عدم ... فما

٢٧

اشتهر من أن تحقق الطبيعة بتحقق فرد وانتفاءها بانتفاء جميع أفرادها لا أصل له ، حيث لا مقابلة بين الطبيعة الملحوظة على نحو تتحقق بتحقق فرد منها والطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع أفرادها».

لكنه كما ترى! لأنه إذا كان وجود الطبيعة المهملة بوجود بعض الأفراد وعدمها بعدم بعضها لزم اجتماع الوجود والعدم المضافين لها بوجود بعض الأفراد دون بعض ، وإذا كان وجود الطبيعة بنحو الكثرة ـ الراجعة إلى ملاحظة كل فرد فرد بنحو العموم الانحلالي ـ أو بنحو السعة ـ الراجعة إلى ملاحظة مجموع الأفراد شيئا واحدا بنحو الارتباطية والمجموعية ـ بوجود تمام الأفراد وعدمها بأحد النحوين بعدم كل منها ، لزم ارتفاع الوجود والعدم المضافين لها بأحد النحوين المذكورين ، بوجود بعض الأفراد دون بعض.

ولازم ذلك عدم التناقض بين الوجود والعدم مع وحدة موضوعهما ، لإمكان اجتماعهما في الأول ، وارتفاعهما في الأخيرين ، مع أن التناقض بينهما من أول البديهيات.

ومن ثمّ كانت الطبيعة المهملة المفروض وجودها بوجود فرد واحد لا تنعدم إلا بعدم جميع الأفراد ، ولذا كان نقيض المهملة ـ التي هي في قوة الجزئية ـ سالبة كلية. كما أن الطبيعة الملحوظة بنحو الكثرة والتي توجد بوجود تمام أفرادها تنعدم بعدم بعض أفرادها. ولذا كان (ليس كل) سورا للسالبة الجزئية.

وكذا الملحوظة بنحو السعة في الوجود التي يتحد وجودها مع وجود تمام أفرادها بنحو المجموعية والارتباطية ، لوضوح أنه يكفي في صدق نقيض الكل أو المقيد عدم جزئه أو قيده.

والذي ينبغي أن يقال : الوجود والعدم عارضان حقيقة على الفرد ، دون الماهية ، بل هي أمر اعتباري انتزاعي لا يصح نسبة الوجود له إلا اعتبارا بلحاظ وجود أفراده ، إلا أن سعة مفهومها بنحو تنطبق على تمام الأفراد ـ على ما هي

٢٨

عليه من الاعتبار والانتزاع ـ مستلزم لصحة نسبة الوجود إليها بوجود فرد واحد ، وتوقف نسبة العدم إليها على عدم تمام الأفراد ، وتقابل وجود كل فرد إنما يكون مع عدمه اذا نسب الوجود والعدم للفرد ، دون ما إذا نسب للماهية المنطبقة على كل فرد فرد ، لما ذكرنا.

هذا ، وقد سبق أن الإهمال في القضية ليس لسعة مفهوم اللفظ الدال على الماهية ، بل ليس الموضوع له اللفظ إلا الماهية بحدودها المفهومية ، وليس الإهمال إلا من شئون النسبة ، حيث يكفي في صحة نسبة الحكم للماهية ثبوته لبعض أفرادها ، أما سلبه فيتوقف على عدم ثبوته لشيء من أفرادها ، كما سبق.

ثم إن لازم ما ذكره عدم دلالة النكرة في سياق النفي والنهي على العموم إلا مع إحراز كون المراد بها الماهية غير المهملة ، بل المطلقة السارية في تمام الأفراد بأحد النحوين الأخيرين المذكورين في كلامه. ولذا التزم بتوقف دلالتها على العموم على تمامية مقدمات الحكمة فيها.

وهو الذي ذكره غيره أيضا ، لا لاحتمال صدق السلب على الماهية ببعض أنحائها بعدم بعض أفرادها ، كما سبق منه قدّس سرّه ، بل للبناء منهم على أن الموضوع له هو القدر المشترك بين المطلق والمقيّد ، ووقوع المقيّدة في سياق النفي والنهي لا يقتضي العموم إلا لأفرادها ، فاستفادة العموم لتمام أفراد المدخول موقوف على كون المراد به المطلقة الذي يحرز بالمقدمات المذكورة.

وأما ما ذكره بعضهم من أن النفي قرينة عند العرف على إرادة الشياع بلا حاجة إلى مقدمات الحكمة.

فغير ظاهر ، إذ لم يتضح وجه خصوصية النفي في ذلك لأنه كسائر النسب الطارئة على الموضوع لا تقتضي بيان المراد منه زائدا على مدلوله اللفظي ، وأنه قد لحظ بنحو السريان والشياع.

فالعمدة في وجه الاستغناء عن المقدمات المذكورة ما تقدم منا من عدم

٢٩

الوضع للقدر المشترك بين المطلق والمقيد ، بل ليس الموضوع له إلا الماهية بحدودها المفهومية ، التي ذكرنا أن لازم سعة وجودها بتكثر أفرادها هو صدق الوجود عليها بوجود بعضها ، وتوقف عدمها على عدم تمام الأفراد.

كما ذكرنا آنفا أنه يكفي في إثبات الحكم لها ثبوته لبعض أفرادها ، ولا يصح سلبه عنها إلا بعدم ثبوته لشيء من أفرادها.

نعم ، لو شك في العموم الأحوالي الراجع للشك في إطلاق النسبة نفسها فالظاهر عدم جريان ما تقدم ، لعدم الفرق بين النسبة الإيجابية والسلبية في الصلوح للإهمال ، فمع عدم إحراز إطلاقها من مقدمات الحكمة أو نحوها يتعين التوقف ، وعدم البناء على العموم الأحوالي. فتأمل جيدا.

تنبيه

ذكر غير واحد أن مفاد النكرة الطبيعة المتشخصة بالفرد الواحد.

لكن الظاهر أنه يختلف ـ مع قطع النظر عن خصوصية النسبة ـ باختلاف أقسامها ، فهي ...

تارة : تدل على الماهية بنفسها مع قطع النظر عن القلة والكثرة ، فتنطبق على الكثير بعين انطباقها. على القليل ، كالمصادر الأصلية. ومثلها في ذلك مواد المشتقات. ولذا تقدم أن الأمر لا يدل على المرة ولا التكرار. وكذا اسم الجنس الإفرادي ، كماء وتراب وحنطة.

واخرى : تدل على الماهية المتشخصة بواحد. كالمصدر الذي على وزن فعلة ، ومثل رجل وامرأة وثوب ، وما يقترن بالتاء مما يفرق بينه وبين واحده بها ، كشجرة ، وثمرة ، وحبة وتمرة ، وما يتجرد عنها من عكسه ككمء.

وثالثة : تدل على الماهية المتكثرة ، وهو اسم الجنس الجمعي ، كالمجرد عن التاء مما يفرق بينه وبين واحده بها ، كشجر وثمر ، وحب ، وتمر ، والمقترن

٣٠

بها من عكسه ، ككمأة ، بناء على أنه ليس جمعا ، بل اسم جنس.

هذا ، وربما يجمع بين ما ذكرنا وما ذكروه من إطلاق دلالة النكرة على الطبيعة المتشخصة بالفرد الواحد بأن مرادهم بما ذكروه دلالة النكرة على الفرد المردد بالنحو المدلول للنكرة المأخوذ فيها من إطلاق أو تقييد بالوحدة أو التكثر ، فمثل شجر وإن كان يدل على أشجار كثيرة ، إلا أنه يدل على فرد واحد شايع في أفراد الشجر الكثير ، كما يدل لفظ شجرة على فرد شايع في أفراد الشجرة الواحدة ويدل لفظ حنطة على فرد شايع في أفراد الحنطة الصادقة على القليل والكثير ، فأخذ الكثرة في القسم الثالث لا تنافي دلالة النكرة على الفرد الواحد ، والذي تكون الكثرة مقومة لفرديته.

إذا عرفت هذا ، فلا يخفى أن ما تقدم في وجه دلالة النكرة في سياق النفي أو النهي على العموم من توقف انتفاء الطبيعة على انتفاء تمام أفرادها كما يجري في القسم الأول يجري في القسم الثاني ، لأن انتفاء المتشخص بالواحد لا يكون مع وجود الأفراد المتكثرة ، وكما ينافيه انحصار الوجود بالواحد ينافيه وجود المتكثر.

نعم ، لو كان مفاد نفيها انتفاء التشخص بالواحد وانتفاء وحدة التشخص لم يناف التشخص بالمتكثر. لكن من المعلوم أن مفاد النكرة ليس هو التشخص بالواحد ووحدة التشخص ، الذي لا يصدق مع التكثر ، بل المتشخص بالواحد الذي يصدق معه ، فلا يصح نفيه إلا مع نفيه.

وأما مثل : لا رجل في الدار بل رجلان ، فالظاهر ابتناؤه على تقييد الوجود المنفي بالانفراد بقرينة الاستدراك ، ولولاه يكون المفهوم نفي الرجل مطلقا ولو مع الكثرة ، فكأنه قيل : لا رجل فقط في الدار بل رجلان ، نظير قولنا : ليس بعض العلماء في الدار بل كلهم ، وليس زيد في الدار ، بل الزيدان معا.

وإليه يرجع ما ذكره بعض النحويين من أن (لا) لنفي الوحدة ، لا لنفي

٣١

الجنس ، وإلا فالظاهر عدم اختلاف معنى (لا) وأنها دائما لنفي الجنس.

وأما الثالث فقد يشكل جريان ما تقدم فيه ، لعدم توقف انتفاء الطبيعة المتكثرة على انتفاء الفرد الواحد أو الفردين ، فيلزم عدم دلالة وقوع هذا القسم في سياق النفي والنهي على انتفاء الطبيعة رأسا ، بل على انتفاء المتكثر منها.

لكن الرجوع للمرتكزات الاستعمالية يأبى ذلك ، فمثل : لا شجر في الدار ، ولا ثمر في الشجرة ، ولا بقر في المرعى ، يدل على انتفاء الماهية رأسا ، كما عن بعض النحويين التنبيه على ذلك.

وليس هو كنفي الجمع أو المثنى ، حيث لا يدل قولنا : ليس في الدار شجرتان ، أو أشجار ، على انتفاء الشجرة الواحدة في الأول ، والشجرتين في الثاني.

ولعله ناشئ عن شيوع استعمال النكرة في سياق النفي والنهي في نفي الطبيعة فأوجب الانصراف إلى ذلك وفهمه عرفا منه حتى في هذا القسم ، وإن لم يقتضه الجمود على المعنى اللغوي له.

كما ربما يبتني على أن استعمال هذا القسم في خصوص المتكثر ليس لأخذ التكثر قيدا في مفهومه لغة ، بل هو موضوع لغة للطبيعة بما هي كالقسم الأول ، وإن كان ينصرف إلى المتكثر بسبب كثرة الاستعمال فيه عرفا ، كما احتمله أو جزم به بعض النحويين.

ولذا يتجرد عن قيد التكثر عند دخول لام الجنس عليه ، ويراد به الطبيعة من حيث هي ، كما في مثل قولنا : الشجر نبت له ساق مرتفع وأغصان متكثرة ، وقولنا : رأيت الشجر ، وأكلت التمر والثمر ، فمع وقوعه في سياق النفي أو النهي يستعمل في معناه ومدلوله اللغوي المذكور ، الذي لا يكون انتفاؤه إلا بانتفاء تمام الأفراد.

ولعل الأول أقرب ارتكازا.

٣٢

هذا ، ومن الظاهر اختلاف مفاد النكرة ، حيث يراد بها ..

تارة : الكلي القابل ثبوتا للانطباق على كل فرد فرد من دون تعيين ، كما في قولنا : أكرم رجلا. ولك علي درهم.

واخرى : الفرد المعين ثبوتا المردد إثباتا بين أفراد ، كما في قولنا : أكرمت رجلا ، أو : يدخل الدار غدا رجل.

والظاهر أن الاختلاف ليس في مفاد النكرة وضعا ، لبعد الاشتراك جدا ، بل هي موضوعة للأول : وهو الكلي القابل للانطباق على كل فرد من دون تعين له ثبوتا ، لأن ذلك هو المتبادر منها مع قطع النظر عن خصوصيات النسب ، ولبعد الاشتراك جدا.

والتعيين ثبوتا في الثاني ناشئ عن خصوصية النسبة ، لأن النسبة الخبرية قد يتعين مطابقها ثبوتا ، وإن كان قد لا يتعين ، كما لو كان الحاصل في الخارج أكثر من فرد واحد ، حيث لا يتعين فرد بعينه لمطابقة النسبة الخبرية حتى ثبوتا ، لعدم المرجح.

أما النسبة الطلبية ونسبة التمليك الواردة على الكلي فهما لا يتعلقان إلا بالكلي على ما هو عليه من الشياع والسريان ، وليس التشخّص والتعيّن إلا من لوازم تحقيق مقتضاها في مقام الامتثال أو الوفاء المتأخرين عن مقام الخطاب والجعل رتبة ، ولذا لا تعيّن لو فرض عدم الوفاء أو الامتثال.

ثم إن الظاهر عدم الإشكال في أن شيوع مفاد النكرة في الطبيعة لا يقتضي العموم المجموعي أو الاستغراقي لأفراد الطبيعة في مثل الأوامر مما يقتضي إيجاد المتعلق ، بل غايته العموم البدلي ، إذ بعد ما سبق من تحقق الطبيعة بتحقق فرد واحد يتعين موافقة الحكم به.

نعم ، استفادة سعته لتمام الأفراد ، بحيث يجزئ أي منها تتوقف على قرينة خارجية ، ولو كانت هي مقدمات الحكمة ، لإمكان نسبة الحكم للطبيعة

٣٣

بنحو الإهمال ، نظير ما تقدم في مفاد أسماء الأجناس.

لكن القرينة المذكورة إنما تقتضي السعة للطبيعة على النحو الذي تضمنه الكلام من إطلاق أو تقييد ، فمع تقييدها بمتصل لا تقتضي القرينة المفروضة سعته لغير المقيد.

٣٤

المبحث الثالث

لا إشكال في دلالة اللام على التعريف في الجملة ، وإنما الإشكال في اختصاصها به أو دلالتها على غيره ، وفي سنخ التعريف الذي تدل عليه.

وقد ذكر غير واحد أنها تدل ..

تارة : على التعريف العهدي ، الذي يراد به الإشارة لفرد معهود بسبب تقدم ذكره ، وهو العهد الذكري ، نحو قوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)(١) ، أو انس الذهن به وهو العهد الذهني ، نحو قوله تعالى : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها)(٢).

واخرى : على الاستغراق لتمام أفراد المدخول نحو قوله تعالى : (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)(٣).

وثالثة : لتعريف الجنس نحو : الرجل خير من المرأة ، و : أكلت الخبز ، وشربت الماء ، ورأيت الأسد ، حيث لا عهد.

ورابعة : للتزيين أو للمح المعنى الأصلي الذي نقل عنه اللفظ ، كما في الأعلام الشخصية (كالحسن) و (الحسين) و (الفضل).

هذا ، والظاهر بعد الرجوع للمرتكزات الاستعمالية عدم خروج اللام في الجميع عن التعريف ، وحقيقته الإشارة لما اريد من المدخول بما أنه متعين ذهنا

__________________

(١) سورة المزمل : ١٥ ، ١٦.

(٢) سورة القصص : ١٥.

(٣) سورة العصر : ١ ، ٢ ، ٣.

٣٥

وحاضر عند العقل. لكن لا على أن يكون الوجود الذهني هو تمام المراد من المعرف ، أو جزءاً منه ، كما قد توهمه بعض عبارات النحويين في بعض أقسام التعريف ، ليمتنع كون المعرف طرفا للنسبة ذات المطابق الخارجي ، لعدم انطباق الوجود الذهني على ما في الخارج ، إلا بالتجريد والعناية اللذين لا مجال للبناء عليهما في الاستعمالات العرفية الشائعة.

بل على أن يكون مقارنا للاستعمال مع كون المراد نفس المفهوم ـ في التعريف الجنسي ـ أو الفرد ـ في التعريف العهدي ـ المفروض حضوره ذهنا.

فطرف النسبة هو المفهوم أو الفرد بنفسه من دون دخل لحضوره ذهنا حتى بنحو التقييد ، من دون أن يلزم التجريد أو العناية. وليس حضوره ذهنا المستفاد من اللام إلا مقارنا للاستعمال.

فالتعريف نظير الإشارة التي هي خارجة عن المشار إليه غير دخيلة في طرفيته للنسبة بوجه.

ومنه يظهر اندفاع ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في وجه كون التعريف الجنسي في علم الجنس ولامه لفظيا من استلزام كونه حقيقيا تعذّر حمل المعرف على الأفراد ، لعدم انطباق ما في الذهن على ما في الخارج ، على ما أوضحناه في تعقيب كلامه وشرحه. فراجع.

ثم إن تمحض اللام في إفادة التعريف بالمعنى المتقدم لا ينافي اختلاف مفاد الكلام في ما سبق ذكره من الأقسام لاختلاف خصوصيات الموارد.

فحيث يكون هناك ما يقتضي تعيّن فرد بخصوصيته من تقدّم ذكره أو أنس الذهن به ينصرف التعريف للماهية من حيثية تشخصها في الفرد المذكور ، فيشار بها إليه من حيثية تعيّنه ذهنا ، دون بقية الأفراد ، ويكون التعريف عهديا.

ومع عدمه ينصرف التعريف للماهية والمفهوم بنفسه ، لأنه هو مدلول المدخول المتعين ذهنا ، من دون صارف عنه ، فيكون التعريف جنسيا ، ويراد

٣٦

بالمدخول مفهومه من حيثية تعيّنه ذهنا.

ودعوى : أن مفهومه مع العلم بالوضع متعين بنفسه ذهنا بلا حاجة إلى اللام ، ومع الجهل به لا تصلح اللام لتعيينه ، فلا بد من كون التعريف صوريا لفظيا ، لا حقيقيا معنويا ، بخلاف التعريف العهدي ، حيث تكون فائدة اللام رفع الشياع في الفرد الحاصل لو لا اللام ، وتعيّنه بالفرد المعهود ، فيكون تعريفا حقيقيا معنويا.

مدفوعة : بأن فائدة اللام ليست هي التعيين ذهنا بل الإشارة للمتعين بما هو متعين ، مع استناد التعين الذهني لغيرها ، فهي تقتضي التنبيه لتعيّن المراد ذهنا ، من دون فرق بين الفرد الذي يكون تعريفه عهديا ، والمفهوم الذي يكون تعريفه جنسيا ، وإنما يقتضي التعريف العهدي رفع الشياع وانحصار المراد بالفرد المعهود لأن المدخول بنفسه لا يصلح لتعيين الفرد ، وإنما يصلح لبيان إرادة الفرد الشائع في الأفراد المردد بينها ، فمع اقتضاء اللام التنبيه على تعيين المراد وفرض انحصار التعين في الذهن بالفرد الخاص يتعين انصراف المراد إليه واختصاصه به ، فيرتفع الشياع والتردد فيه.

أما مع عدم تعين فرد خاص في الذهن وتساوي الأفراد فيه ولزوم كون التعريف والتعيين المفروض من مفاد اللام للمفهوم نفسه ، فحيث لا شياع في المفهوم بنفسه يتعين عدم استفادة رفع الشياع ، لعدم الموضوع له ، من دون أن ينافي إفادتها التعريف الذي هو عبارة عن الإشارة لتعين المراد ومعهوديته في الذهن ، ولا ملزم بكون التعريف حينئذ لفظيا صوريا.

ولذا كان دخول اللام في مثل ذلك موجبا لفهم عدم إرادة الفرد الشائع بين الأفراد ، كما يكون هو المراد مع التجرد عنها ، بل الماهية والمفهوم بنفسه ، لأنه هو المتعين دون الفرد المفروض عدم تعينه ، ولو كانت اللام في ذلك منسلخة عن التعيين والتعريف الحقيقي لم يكن وجه لاختلاف مفاد النكرة عن

٣٧

مفاد اللام في مثل ذلك.

وأما ما ذكره بعضهم من أن المدخول في مثل قولنا : ادخل السوق ، واشتر اللحم ، مع عدم العهد في معنى قولنا : ادخل سوقا واشتر لحما.

فهو مخالف للوجدان ، لأن المستفاد مع التنكير نسبة الحكم رأسا للفرد الواحد الشائع في الأفراد والمردد بينها ، وإن أمكن ثبوته لما زاد عليه ، والمستفاد مع التعريف باللام نسبته رأسا للجنس ، وثبوته للفرد بتبعه ، لعدم صحة نسبة الحكم المذكور للماهية إلا بلحاظ ثبوته لأفرادها.

ولذا لا نظر فيه لكمية الأفراد ، لأن ثبوت الحكم للماهية يصح بلحاظ ثبوته لأفرادها في الجملة.

وبالجملة : وضوح الفرق ارتكازا ـ مع عدم العهد ـ بين المعرف باللام والمجرد عنها مانع من البناء على كون التعريف صوريا لفظيا.

ومجرد عدم إفادة اللام رفع الشياع والترديد لا يستلزم ذلك ، لعدم تقوّم التعريف برفع الشياع ، بل بالإشارة للمتعين ذهنا بما هو متعين ، ورفع الشياع إنما يستلزمه في تعريف الفرد القابل له ، دون المفهوم الكلي غير القابل له.

وبذلك يظهر أن مؤدى اللام العهدية والجنسية واحد ، وأن خصوصية العهد تابعة لخصوصية المورد ، لا لاختلاف مؤدى اللام.

ثم إن اللام حيث تكون للجنس مع عدم العهد ، ويكون طرف النسبة هو الجنس والماهية ، فإن كان الحكم من شئون الماهية بحدودها المفهومية مقصورا على ذاتها وذاتياتها من دون نظر للخارج لم يقبل العموم ولا الخصوص ، كما في القضايا الذهنية ، مثل : الانسان نوع ، أو الواردة للتحديد ، مثل : الإنسان حيوان ناطق.

وإن كان من شئون الماهية الخارجية ، لكونه لا حقا للأفراد ، فهو يقبل العموم والخصوص ، وحيث تقدم أنه يكفي في نسبة الحكم للماهية ثبوته

٣٨

لبعض أفرادها ، فليس مفاده إلا قضية مهملة ، ولا يستفاد عمومها إلا بقرينة عامة ، كمقدمات الحكمة ، أو خاصة ، كالاستثناء الذي هو فرع العموم. وإليه ترجع اللام الاستغراقية المتقدمة في كلماتهم.

وليس العموم معه مستفادا من نفس اللام ، بحيث يكون مؤدى لها في مقابل التعريف ، وتكون في قبال الجنسية قسيمة لها ، لاستبعاد الاشتراك في الأدوات ، وعدم الفرق في معنى اللام ارتكازا.

وقد يشهد بما ذكرنا من استناد استفادة العموم للاستثناء أنه لو تعذر العموم الحقيقي في مورده يستفاد العموم الإضافي بالنحو المناسب له ، ففي مثل : أكلت اللحم إلا لحم البقر أو : إلا اللحم المشوي حيث يعلم بعدم إرادة العموم الحقيقي بلحاظ تمام أفراد اللحم يتعين الحمل على العموم الإضافي بلحاظ أنواعه في الأول ، لتقوّم المستثنى بالنوع ، وبلحاظ حالاته في الثاني ، لتقوّم المستثنى بالحال.

ولو كانت الدلالة على العموم مستندة للام لزم إما البناء على أن اللام للاستغراق التام إلا فيما علم بخروجه ، أو أنها جنسية ليست للاستغراق مع التسامح والتوسع في نسبة الاستثناء بجعل متعلقها القضية المهملة التي لا عموم فيها. فلاحظ.

نعم ، لا يبعد ظهور تعريف المبتدأ أو ما هو بمنزلته ـ كاسم كان ـ في عموم الحكم لتمام الأفراد ، بخلاف تعريف غيره من أطراف النسب كالفاعل والمفعول به ونحوهما.

ولذا نجد الفرق الواضح بين قولنا : أكلت اللحم ، وقولنا : اللحم مأكول ، حيث يتعين حمل الثاني على العموم وإرادة القابلية للأكل ، دون القضية المهملة وإرادة فعلية الأكل ، كما في الأول. ومنه مثل قولنا : الرجل خير من المرأة ، والعالم خير من الجاهل. حيث يراد به أن كل رجل خير من المرأة ، وكل عالم خير من

٣٩

الجاهل ، لكن لا من جميع الجهات ، بل من حيثية الرجولة والانوثة ، والعلم والجهل ، لا أن الرجل والعالم خير من المرأة والجاهل في الجملة لا بنحو العموم.

ومن هنا كان على من يرى وجود لام الاستغراق عدّ اللام في ذلك منها ، لا جنسية. لكن ربما يكون ذلك لخصوصية في هيئة الجملة ، لا لخصوصية في اللام.

كما ربما يكون مستندا لمقدمات الحكمة على ما قد يتضح عند الكلام فيها وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في تعريف المسند إليه من مفهوم الحصر.

وبالجملة : الظاهر بعد التأمل في المرتكزات الاستعمالية عدم دلالة اللام بنفسها وضعا على الاستغراق ، بل هي في مورده متمحضة في التعريف الجنسي ، والاستغراق مستفاد من خصوصيات الموارد المختلفة.

كما أن الظاهر رجوع لام التزيين في الأعلام الشخصية إلى لام العهد التي هي لتعريف الفرد وتعيينه ، لما هو المرتكز من خروج الاسم بها عن العلمية إلى المعنى الأصلي الكلي القابل للانطباق على كثيرين ، والذي يمكن أن يراد به ـ بضميمة اللام ـ خصوص الفرد المعهود.

ولذا تكون الإشارة بها للمسمى من حيثية ذلك المعنى ، فتشعر بواجديته له ، وليست متمحضة في الدلالة على الذات ، كما هو حال الأعلام الشخصية ، لتكون اللام لمحض التزيين اللفظي ، بل هي لتزيين البيان ، بلحاظ تضمنه معنى زائدا على الذات ، أو لتزيين المراد بها إذا كان المعنى الأصلي حسنا ، ولو كان ذما كانت للتهجين والذم.

ويناسب ما ذكرنا أنهم ذكروا أن اللام المذكورة للمح المعنى المنقول عنه اللفظ ، واعتبروا في جواز دخولها قابلية المعنى المذكور لها.

نعم ، ربما يغافل عن ذلك في مقام الاستعمال في أعرافنا المتأخرة للبعد

٤٠