المحكم في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٢

الوجود.

مدفوعة : بأنه لم يفرض في كلام المحقق المذكور خروج المانع المعدوم عن كونه مانعا وعن كون عدمه من أجزاء العلة ، بل مجرد عدم فعلية توقف وجود المعلول الموجود على عدمه ، لتحقق العدم المذكور. وإلا فالخصوصية الذاتية بين المانع والممنوع لا تتوقف على وجود الممنوع قطعا.

وكيف كان ، فلا ينبغي التأمل في بطلان التفصيل المذكور ، فإن عدم المانع لما كان من أجزاء العلة فلا يفرق في افتقار المعلول إليه وتوقفه عليه بين تحققه وعدمه. قال في التقريرات : «الفرق بين حالة وجود الضد وحالة عدمه والتزام التوقف في الأول دون الثاني مما لا سبيل إليه ، إذ غاية ما هناك أن يكون الموقوف عليه حاصلا في الثاني ، ولا معنى لمنع التوقف في المقدمات الحاصلة».

نعم ، قد يدعى أنه مع تحققه لا مجال للتكليف به غيريا تبعا لوجوب المعلول نفسيا ، لأنه طلب الحاصل.

لكنه ـ مع خروجه عن محل الكلام من التوقف والاستناد الذي هو منشأ لزوم الدور ـ إنما يتم مع تعذر ارتفاعه بعد حدوثه ، أما مع عدم تعذره فيتعين التكليف غيريا بالمحافظة عليه ، كسائر المقدمات الموجودة.

هذا ما تيسر لنا الكلام فيه من الوجوه المذكورة في كلماتهم للتخلص من محذور الدور الموجه على دعوى التمانع بين الضدين. وقد يظهر عدم تماميتها.

بقى فى المقام شيء ، وهو أنه ذكر سيدنا الأعظم قدّس سرّه في توجيه امتناع مانعية الضد أن عدم المانع لما كان سابقا رتبة على الممنوع لأنه من أجزاء علته كان وجود المانع سابقا عليه أيضا ، لأن النقيضين في رتبة واحدة ، فلو كان كل منهما مانعا من الآخر لزم تقدم كل منهما رتبة على الآخر وهو محال ، بل لا بد من

٣٢١

البناء على أنهما في رتبة واحدة كنقيضهما ، وقد حكي ذلك عن بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه أيضا.

ويشكل : بأن الملاك في تقدم الشيء على الآخر رتبة خصوصية بينهما مقتضية لذلك ، كالعلية ، ولا يكفي فيه كون أحدهما في رتبة ما هو متقدم على الآخر ، فالعم لا يكون متقدما على ابن أخيه رتبة ، وإن كان هو فى رتبة أبيه المتقدم عليه بملاك العلية.

وحينئذ فمجرد كون الضد في رتبة نقيضه المتقدم على ضده الآخر رتبة بملاك العلية لا يقتضي تقدمه على الضد الآخر المذكور.

بل كون النقيضين في رتبة واحدة بمعنى عدم المنشأ لتقدم أحدهما على الآخر مسلم ، وأما بمعنى لزوم كونهما في رتبة واحدة ، كالعنوانين المتضايفين المنتزعين من منشأ انتزاع واحد ، فهو مورد لكلام لا مجال لإطالة الكلام فيه.

فالعمدة في منع التمانع بين الضدين لزوم محذور الدور المتقدم ، وإن تقدم أنّا في غنى عنه بعد ما سبق منا من ذكر المعيار في المانعية ، وأن مجرد التضاد بين الشيئين والتنافر بينهما في الخارج بحيث يمتنع اجتماعهما لا يكفي فيها.

الأمر الخامس : أشرنا في الأمر الثاني من التمهيد لهذه المسألة الى أن الثمرة المهمة لها هي فساد الضد لو كان عبادة ، بناء على اقتضاء النهي عن العبادة الفساد.

وقد يظهر من بعض الأعاظم قدّس سرّه إنكار الثمرة المذكورة ، بدعوى : أن النهي الغيري لا ينافي ثبوت ملاك الأمر المصحح للتقرب والعبادية ـ على ما يأتي ـ فلا موجب للفساد معه.

وهو مبني على أن منشأ اقتضاء النهي فى العبادة الفساد هو كشفه عن عدم ملاك الأمر فيها ـ كما ذكره في تلك المسألة ـ وما ذكرناه يبتني على أن منشأه

٣٢٢

امتناع التقرب بما يكون معصية للمولى وتمردا عليه ، على ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى.

ولذا سبق اختصاص الثمرة المذكورة بما إذا التفت المكلف لجهة المبعدية المذكورة ، إذ مع الغافلة عنه لا يمتنع التقرب بالعبادة بخلاف ما لو كان مبنى الثمرة القصور الملاكي ، حيث يبطل العمل الخالي عن ملاك الأمر مطلقا ، كصلاة الحائض.

ثم إن امتناع التقرب بالضد مع النهي الغيري المبتني على مانعية الضد ومقدمية عدمه لوجود ضده المأمور به مما لا إشكال فيه ، بل تقدم في الأمر الثالث امتناعه مع فرض المانعية وإن لم نقل باستلزامها النهي الغيري.

وأما امتناعه مع النهي التبعي المبتني على محض الملازمة بين فعل الشيء وترك ضده ، الذي سبق الكلام فيه في الأمر الثاني ، فهو موكول الى نظر القائلين بثبوت هذا النهي ، وأنه هل يقتضي مبعدية المنهي عنه وامتناع التقرب به أو لا؟ ولا يتيسر لنا النظر فيه بعد ما سبق منا من المنع عن ثبوت النهي المذكور ، لعدم الموضوع.

هذا ويظهر مما عن البهائي إنكار الثمرة المذكورة بدعوى : أن الأمر بالضد وإن لم يقتض النهي عن ضده إلا أنه يستلزم عدم الأمر بضده ، فيمتنع التقرب به ، لأنه فرع الأمر به ، فيبطل لو كان عبادة ، فبطلان الضد لو كان عبادة لازم مطلقا سواء قيل باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده أم لا.

أقول : أما امتناع التقرب بالعبادة ولو مع عدم النهي ، لاستلزام فعلية الأمر بضدها عدم الأمر بها ، فإن ابتنى استلزام الأمر بضدها عدم الأمر بها على قصور الأمر عنها خطابا وملاكا ، نظير الصلاة الفاقدة للطهارة ، فلا مجال للبناء عليه ، لأن قصور الأمر المذكور إنما هو من جهة التزاحم بين الأمرين ، وهو إنما يوجب فعلية الأهم وقصور المهم خطابا لا ملاكا ، على ما تقدمت الإشارة إليه من بعض

٣٢٣

الأعاظم قدّس سرّه ، وأوضحناه عند الكلام في معيار التزاحم من مقدمات مبحث التعارض. فراجع.

وإن ابتنى الاستلزام المذكور على قصور الأمر بها خطابا مع بقاء الملاك ، مع البناء على توقف العبادية على قصد الأمر الفعلي فيظهر ضعفه مما تقدم في مبحث التعبدي والتوصلي من أن معيار العبادية التقرب بقصد ملاك المحبوبية ، وأن قصد الأمر راجع إليه لكشف الأمر عن الملاك ، فمع فرض ثبوته في المقام يكفي قصده في التقرب المعتبر في العبادية ما لم يمنع منه وقوع الفعل على نحو التمرد على المولى ، لكونه منهيا عنه ، أو لكون تركه مقدمة لواجب نفسي فعلي ، وهو الذي يرجع إليه الكلام في هذه المسألة ، ولازم ذلك ابتناء بطلان العبادة على الكلام في هذه المسألة.

وأما ما ذكره من استلزام الأمر بالضد عدم الأمر بضده الآخر فهو يتم في الجملة مع كون الأمر بالضد الآخر مزاحما له لا يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال ، إذ مع فرض فعلية أحدهما لأهميته بتعين سقوط الآخر وعدم فعليته في عرضه لامتناع التكليف بغير المقدور.

نعم ، وقع الكلام في إمكان الأمر به في طول الأمر الفعلي المفروض بالأهم بنحو الترتب ، ويأتي تحقيقه في الأمر السادس إن شاء الله تعالى.

وإنما الإشكال فيما لو لم يكن الأمر بالضد الآخر مزاحما للأمر الفعلي المفروض ، لإمكان الجمع بينهما في مقام الامتثال بامتثال الأمر بالضد الآخر بفرد لا يزاحم الضد المأمور به فعلا ، ما لكونه موسعا ، كما لو وجبت المبادرة لتطهير المسجد مع سعة وقت صلاة الواجبة ، حيث يمكن الجمع بين الامتثالين بتطهير المسجد ثم الصلاة ، أو لكونه مضيقا ذا فردين فرد مضاد للواجب الفعلي يتعذر جمعه معه وأخر غير مضاد له كما لو وجبت المبادرة لتطهير المسجد وضاق وقت الغسل للصلاة ، إلا أنه يمكن الغسل تارة : بنحو يتحقق معه تطهير

٣٢٤

المسجد بتكثير ماء الغسل حتى يجري على الموضع النجس منه فيطهره ، واخرى : بنحو لا يتحقق معه التطهير بالغسل بالماء القليل.

فقد وقع الكلام بينهم في مثل ذلك في أن الأمر بالضد الآخر هل يشمل الفرد المزاحم للمأمور به الفعلي بحيث يمكن قصد امتثال الأمر وإن استلزم عصيان ذلك الأمر ، أو يقصر عنه فلا يمكن قصد الامتثال به إلا بناء على ثبوت الأمر الترتبى الطولي المشار إليه آنفا ، ويأتي الكلام فيه.

ويظهر من غير واحد ابتناء الكلام في ذلك على الكلام في مسألة تعلق الأمر والنهي بالطبائع والأفراد ، فعلى الأول ـ الراجع عند بعضهم إلى تعلق الأمر التعيينى بالطبيعة من دون دخل للخصوصيات الفردية ـ لا مانع من قصد الامتثال بالفرد المزاحم ، لأن قصد الأمر به ليس لكونه بنفسه مأمورا به كي لا يجتمع مع الأمر الفعلي بضده المزاحم له ، بل لتعلق الأمر بالطبيعة المنطبقة عليه قهرا ، فمع عدم سقوط الأمر بالطبيعة لعدم مزاحمته للأمر الفعلي بالضد لإمكان امتثاله بفرد غير مزاحم بتعين إمكان قصد الامتثال بالفرد المزاحم منها أيضا. أما بناء على الثاني ـ الراجع عند بعضهم الى تعلق الأمر بالأفراد تخييرا ـ فيتعين سقوط الأمر بالفرد المزاحم واختصاص الأمر بغيره ، فلا مجال لقصد الامتثال به. هذا ما يظهر من بعض تقريرات درس شيخنا الأعظم قدّس سرّه وحكاه بعض الأعاظم قدّس سرّه عن المحقق الثاني قدّس سرّه ، بل قد يظهر منه جريان غير واحد ممن تأخر عنه من المحققين إليه.

وهو يرجع الى دعويين ..

الاولى : تحقق الامتثال بالفرد المزاحم بناء على تعلق الأوامر بالطبائع ، لعدم سقوط أمر الطبيعة بعد فرض عدم مزاحمته للتكليف الفعلي بالضد وانطباقها على الفرد المزاحم قهرا.

وقد استشكل فيها بعض الأعاظم قدّس سرّه بأنها إنما تتم بناء على أن منشأ اعتبار

٣٢٥

القدرة في التكليف هو قبح تكليف العاجز ، حيث يكفي في رفع قبح التكليف بالطبيعة القدرة على فرد منها.

لكن التحقيق اقتضاء التكليف بنفسه القدرة على متعلقه ، لأن الغرض منه إحداث الداعي للمكلف لتحريك عضلاته نحو متعلقه باختياره ، وذلك يقتضي لزوم القدرة على المتعلق ، لامتناع جعل الداعي نحو الممتنع عقلا ـ لأمر تكويني ـ أو شرعا ـ بسبب المزاحمة لتكليف فعلي ، كما في المقام ـ ولازم ذلك تقييد الطبيعة المأمور بها بالقدرة ، وخروج غير المقدور عنها ، وهو الفرد المزاحم في المقام ، فلا يقع امتثالا ، لعدم انطباق الطبيعة المأمور بها عليه بعد فرض التقييد المذكور.

ويندفع : بأن ذلك ـ كقبح تكليف العاجز ـ إنما يقتضي اعتبار القدرة وصفا للماهية المكلف بها شرطا للتكليف ، لا قيدا للماهية المكلف بها ، بحيث يقتضي تحصيصها الى حصتين مقدورة وغير مقدورة ، ليختص التكليف بالاولى ويقصر عن الثانية ، كما هو الحال في سائر القيود المأخوذة في المادة ، وحينئذ حيث يكفي في القدرة على الطبيعة القدرة على بعض أفرادها كفى ذلك في التكليف بها من دون حاجة لتقييدها بالأفراد المقدورة ، فتنطبق على الفرد المزاحم قهرا أو يمكن قصد امتثال أمرها به بعد فرض فعليته.

نعم ، إنما يتم ذلك فيما اذا كان عدم التزاحم بين التكليفين مع تعدد أفراد الضد العرضية واختصاص المزاحمة ببعضها ، نظير ما تقدم في مثال الغسل وتطهير المسجد ، لفعلية القدرة على الطبيعة ، أما إذا انحصر منشؤه بوجود أفراد طولية ، لكون أمره موسعا ، نظير ما تقدم في مثال الصلاة والتطهير ، فهو يبتني على إمكان الواجب المعلق ، أما بناء على امتناعه فالمتعين سقوط التكليف بمزاحمة بعض الأفراد الطولية للضد المكلف به فعلا ، لعدم فعلية القدرة المصححة للتكليف بها ، لا بلحاظ الفرد المزاحم لتعذره شرعا ، ولا بلحاظ

٣٢٦

الأفراد الاخرى ، لأنها استقبالية ، لا تكون القدرة عليها مصححة للتكليف على المبنى المذكور المزاحم ومعه لا موضوع لقصد الامتثال بالفرد.

ومن ثمّ كان الأولى لبعض الأعاظم قدّس سرّه سلوك ذلك في وجه منع الامتثال به ، لما سبق منه من منع الواجب المعلق قدّس سرّه ، كما نبه لذلك بعض مشايخنا دامت بركاته.

لكن حيث تقدم منا في محله إمكانه فلا مجال للتوقف من هذه الجهة في فعلية التكليف بالطبيعة ، وفي إمكان قصد الامتثال بالفرد المزاحم.

الثانية : تعذر الامتثال بالفرد المزاحم بناء على تعلق الأوامر بالأفراد ـ بالوجه المتقدم ـ حيث لا بد من سقوط أمره التخييري بالمزاحمة واختصاص الأمر بغيره. والظاهر عدم تماميتها ، لأن الأمر بالفرد المزاحم لما كان تخييريا على المبنى المذكور لم يكن مزاحما للأمر الفعلي بالضد ، لأنه إنما يقتضي صرف القدرة للامتثال بأحد الأفراد المفروض عدم مزاحمة بعضها ، لا بخصوص الفرد المزاحم منها ، بل هو من حيثية الفرد المذكور لا اقتضائي ، فلا يزاحم الاقتضائي ، وهو الأمر الفعلي بالضد ، فلا وجه لقصور الأمر التخييري عن الفرد المزاحم.

إن قلت : يلغو الأمر التخييري بالفرد المزاحم ، لأن أثره العملي هو التخيير عقلا بين فعل الفرد المذكور وتركه الى البدل ، ومع فرض التكليف الفعلي بالضد المزاحم للضد المذكور لا مجال للتخيير المذكور ، بل يتعين عقلا امتثال الأمر بالفرد غير المزاحم ، فلا بد من اختصاص التكليف به. نظير ما لو استلزم الواجب مباحا بالأصل ، حيث لا مجال معه لبقاء الإباحة وفعليتها ، بدعوى : أنها غير اقتضائية ، فلا تزاحم الوجوب الاقتضائي ، بل لا بد من البناء على لغويتها ، لعدم بقاء اثر العملي ، وهو التخيير العقلي بين الفعل والترك مع فرض الملازمة المذكورة.

٣٢٧

قلت : لا يختص الأثر العملي للأمر التخييرى بالتخيير عقلا بين الأفراد ، ليلغو مع فرض ارتفاعه بالمزاحمة ، نظير ما ذكر في ملازمة الواجب للمباح ، بل له أثر آخر ، وهو امتثال التكليف التخييري بكل من أطراف التخيير وسقوطه به ، ومن الظاهر عدم منافاة هذا الأثر للأمر الفعلي بالضد المزاحم بوجه ، فلا وجه لارتفاعه به ، وبلحاظه يتعين بقاء الأمر التخييري على سعته ، ولا يلزم لغويته.

وبالجملة : الأمر الفعلي بالضد لا ينافي الأمر الموسع بالضد الآخر ، لا من جهة المزاحمة ، لغرض إمكان الجمع بينهما في مقام الامتثال ، ولا من جهة لزوم اللغوية ، لأن تحقق الامتثال بالفرد اثر مصحح للأمر التخييري ، فلا وجه لقصوره عن الطرف المزاحم ، ولازم ذلك إمكان قصد الامتثال حتى لو قيل بتعلق الأوامر بالأفراد.

ولو فرض امتناع سعة الأمر التخييري للفرد المزاحم للزوم اللغوية تعين امتناع بقاء الطبيعة على سعتها له بناء على تعلق الأمر بالطبائع أيضا ، لأن الأثر العملي للأمر بالطبيعة المطلقة ليس إلا السعة العملية أيضا والتخيير العقلي في امتثال الأمر بها وصلوح كل فرد له ، ومع المزاحمة لا تبقى السعة العملية بالوجه المذكور ، كما لا تبقى مع الأمر التخييري بتمام أفرادها ، بل يتعين تقييدها بالأفراد المقدورة وتعذر قصد الامتثال بالفرد المزاحم.

وكيف كان ، فلا يتم ما سبق منهم من ابتناء إمكان قصد الامتثال بالفرد المزاحم على الخلاف في مسألة تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع والأفراد. بل التحقيق إمكانه مطلقا.

ونظير ذلك يجري في الأمر الشرعي التخييري ، كالأمر بخصال الكفارة لو كان بعض الأطراف مزاحما لتكليف فعلي ، حيث يتعين عدم سقوطه ، لعين ما سبق.

وعلى ذلك يختص سقوط الأمر بالضد مع فعلية الأمر بضده بما إذا كان

٣٢٨

مزاحما للأمر الفعلي المذكور ، لتعذر الجمع بينهما في مقام الامتثال.

هذا كله بناء على عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده ، بل مجرد سقوط أمره. وأما بناء على اقتضائه له ففي منافاة النهي المذكور للأمر بالضد مطلقا أو في خصوص صورة المزاحمة ، لانحصار الضد المأمور به بالفرد المنهي عنه ، أو عدم منافاته له مطلقا ، كلام يأتي في مبحث اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى.

الأمر السادس : حيث سبق سقوط الأمر بالضد في فرض فعليه الأمر بضده مطلقا أو في فرض التزاحم بين الأمر وتعذر الجمع بينهما في مقام الامتثال فالمتيقن من ذلك سقوطه في الجملة ، بمعنى عدم بقائه على النحو الذي كان عليه بحسب أصل تشريعه من الإطلاق بنحو يقتضي ثبوته ولزوم امتثاله ولو مع مخالفة الآخر ، لأنه مناف لفرض فعلية الآخر ولزوم امتثاله.

أما سقوطه مطلقا فهو محل كلام بينهم ، حيث اشتهر في العصور المتأخرة الكلام في ثبوته بنحو لا يقتضي معصية الآخر ، بل في طولها وبنحو الترتب بينهما مع فعليته في ظرف فعلية الآخر ، بحيث يمكن قصد الامتثال بمتعلقه ويصح لو كان عبادة وإن قيل بعدم كفاية قصد الملاك في التقريب المعتبر في العبادة.

والكلام المذكور وإن حرر في كلمات المتأخرين في مسألة الضد المفروض فيها التزاحم بين الأمرين تبعا للتضاد بين متعلقيهما ، إلا أن ملاكه لا يختص بذلك ، بل يجري في النهيين المتزاحمين تبعا لامتناع ترك متعلقيهما معا ، وفي الأمر والنهي لو فرض التلازم بين متعلقيهما بحيث لا يمكن فعل متعلق الأمر وترك متعلق النهي. فهو من مباحث التزاحم بين التكليفين الذي لم يختص في كلامهم بباب يبحث عنه وعن أحكامه بل صار البحث فيه وفي أحكامه متفرقا في الأبواب المناسبة لكل منها.

٣٢٩

إذا عرفت هذا ، فاعلم انه قد تقرر في محله أنه مع تزاحم التكليفين في مقام الامتثال فمع عدم المرجح لأحدهما يتخير في امتثال كل منهما ، ومع وجوده يتعين الراجح.

ومرجع ذلك الى تصرف صاحب التكليف وجاعله مع التفاته في تكليفه بنحو يقتضي ذلك. ويأتي الكلام في مرجع التخيير مع عدم المرجح.

وأما تعين الراجح مع وجوده فهو يبتني على بقاء الراجح على إطلاقه بنحو يقتضي صرف القدرة إلى امتثاله وإهمال المرجوح ، ولا إشكال معه في امتناع بقاء المرجوح على إطلاقه بنحو يقتضي صرف القدرة لامتثاله ولو مع إهمال الراجح ، لتنافي مقتضاهما بعد فرض التزاحم بينهما ، فيمتنع فعليتهما مع فرض قصور القدرة عن الجمع بينهما.

وإنما الكلام في إمكان فعلية المرجوح في الجملة في ظرف فعلية الراجح لكن بنحو لا يصلح لمزاحمته ، بل بنحو الترتب عليه ، كما قرّبه جماعة من الأعيان أولهم ـ في ما قيل ـ المحقق الثاني قدّس سرّه (١) ، ثم تبعه كاشف الغطاء ، وتلميذه التقي في حاشية المعالم ، وأخوه في فصوله وغيرهما ، وشيد ذلك السيد الشيرازي الكبير وأوضحه ، وتبعه جماعة من أعاظم المتأخرين عنه إلى عصرنا الحاضر ، وصرح بعضهم بامتناعه ، وأنه لا بد من سقوطه مطلقا بحيث لا يصير فعليا إلا بعد سقوط الراجح بالامتثال أو العصيان ، كما أصر عليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ على ما في التقريرات ـ وشدد النكير على القول بالترتب ، وتبعه

__________________

(١) نسب ذلك له بلحاظ ما ذكره في جامع المقاصد في رد حكم العلامة قدّس سرّه ببطلان الصلاة في أول الوقت من المدين المكلف بأداء دينه فورا. وكلامه على طوله غير ظاهر في الترتب بل على عدم التنافي بين الأمر الموسع بأحد الضدين والأمر المضيق بالآخر ، فلا يكون المضيق مستلزما لتقييد الموسع ، وهو ما تقدم الكلام فيه في الأمر السابق. نعم ذيل كلامه قد يناسب الترتب. فليلحظ.

٣٣٠

المحقق الخراساني قدّس سرّه.

وقد يوجه الأمر الترتبي بالمرجوح في ظرف فعلية الأمر بالراجح بما عن التقي في حاشيته على المعالم ، وهو : أن يكون مشروطا بعصيان الراجح بنحو الشرط المتأخر ، بحيث يكون عصيان الراجح في وقته مستلزما لفعلية المرجوح من أول الأمر ، فيجتمع الأمران في مقام الفعلية ، الراجح لإطلاقه ، والمرجوح لتحقق شرطه ـ وهو عصيان الراجح ـ في وقته.

أما لو كان مشروطا بعصيان الراجح بنحو الشرط المتقدم أو المقارن فلا يجتمع الأمران ، إذ لا يكون المرجوح فعليا إلا في المرتبة المتأخرة عن عصيان الراجح ، وهي مرتبة سقوط الراجح عن الفعلية.

لكن أصر بعض الأعاظم قدّس سرّه على كفاية أخذ عصيان الراجح شرطا في فعلية المرجوح بنحو الشرط المقارن في اجتماع الأمرين ، بدعوى : أن العصيان كالامتثال لا يكون إلا في زمان ثبوت الحكم وفعليته ، لأنه الموضوع لهما ، كما أن زمان فعلية الحكم هو زمان تحقق شرطه وتمامية موضوعه ، لا متأخر عنه ، لاستحالة انفكاك الحكم عن موضوعه.

وحينئذ فحيث فرض كون عصيان الراجح مأخوذا موضوعا للمرجوح وشرطا لفعليته كان زمانه وزمان فعلية الراجح وزمان فعلية المرجوح واحدا ، ويجتمع الأمران في الزمان المذكور ، وهو كاف في الترتب.

وفيه : أن التكليف الراجح وإن كان محفوظا في مرتبة عصيانه ، إلا أنه يسقط في المرتبة المتأخرة عنه ، والتكليف المرجوح لما كان شرطه المتمم لموضوعه عصيان الراجح كان متأخرا عن العصيان رتبة. فلا يجتمع التكليفان رتبة ، حيث لا يكون المرجوح فعليا إلا في المرتبة المتأخرة عن العصيان والتي يسقط فيها الراجح. كما لا يجتمعان زمانا ، لأن زمان حدوث العصيان هو زمان سقوط الراجح وفعلية المرجوح ، فهما متصلان متعاقبان في الفعلية ، لا مجتمعان

٣٣١

فيها ، نظير وجوب الصوم المنتهى بالمغرب وجواز الإفطار الحاصل به ، وانشغال الذمة بالدين الذي ينتهي بالإبراء وفراغ الذمة منه الحاصل به.

ولو لا ذلك لزم اجتماع النقيضين في زمان واحد ، لأن زمان حدوث الرافع هو زمان وجود المرفوع ، كما أن الرافع علة لعدم المرفوع وموضوع له ، فيلزم اجتماع وجود المرفوع وعدمه في زمان وجود الرافع.

وحينئذ فليس مثل ذلك منشأ لتوهم التزاحم ، كي يحتاجه في تصحيحه للترتب ، إذ التزاحم بين التكليفين إنما يكون مع اجتماع مقتضى الداعوية لكل منهما لتمامية شرط فعليته وتعذر الجمع بين مقتضاهما ، لا مع تعاقب مقتضي الداعوية لكل منهما ، حيث يتعين تأثير كل مقتض في الداعوية ، لعدم المزاحم له حين وجوده.

وهو أيضا لا ينفع في ما نحن فيه الذي لأجله قيل بالترتب ، إذ الهم وقوع الضد امتثالا للأمر المرجوح مع فعلية الأمر الراجح بضده ، إما مع كون الأمر الراجح مستمرا ، كالأمر بتطهير المسجد المبني على لزوم الإتيان به فورا ففورا ، فعصيانه في كل ان لا ينافي توجهه في الآن الثاني ، أو مع كون زمان الراجح أوسع منه قليلا بنحو لا يكفي للمرجوح ، كما لو شرع في الصلاة في زمان يمكن إنقاذ الغريق فيه قبل إكمالها ، بحيث لا يتعذر بمجرد الشروع فيها ويتعذر بعد إكمالها ، حيث لا إشكال في فعلية الأمر الراجح حين إرادة امتثال أمر المرجوح وعدم سقوطه بالعصيان بعد ، لفرض سعة وقته.

وأما ما ذكره فهو إنما ينفع فيما إذا كان الشروع في امتثال المرجوح مقارنا لسقوط الراجح بالعصيان وإن كان لذلك صورتان :

إحداهما : ما إذا كان منشؤه سببية الشروع في المرجوح لعصيان التكليف بالراجح ، ومانعيته من امتثاله ، كما لو كان مشغولا بصلاة يجب إتمامها ويحرم قطعها ، فبدأ مؤمنا بالسلام عليه الذي هو مأمور به ذاتا.

٣٣٢

وهي خارجة عما نحن فيه من فرض التزاحم لمجرد التضاد ، لأن التزاحم حينئذ لمانعية المأمور به المرجوح من المأمور به الراجح زائدا على التضاد بينهما.

على أنه يتعذر وقوع المرجوح ـ كالسلام على المؤمن ـ امتثالا لأمره ، بناء على ما ذكره قدّس سرّه لأن الامتثال متأخر رتبة عن حدوث الأمر ، وفي مرتبة الإقدام على المرجوح لا أمر به ، لعدم فعلية العصيان لأمر الراجح ، بل هو في مرتبة متأخرة عن فعل المرجوح.

ثانيتهما : ما إذا كان امتثال المرجوح مقارنا صرفا للعصيان من دون أن يكون سببا له ، كما لو وجب على المكلف أن يكون مسافرا حين طلوع الفجر ، فعصى وصام ذلك النهار.

وفي مثل ذلك كثيرا ما يتعذر الراجح ـ كالسفر في المثال ـ إن لم يؤت به قبل الوقت اثما ، فيسقط قبل فعلية أمر المرجوح ، فلا يتعاقبان زمانا ، فضلا عن أن يجتمعا.

نعم ، قد لا يتعذر ، كالأمور القصدية غير المحتاجة إلى مقدمة خارجية ، كنيّة الإقامة للمسافر أو تركها ، فينفع ما ذكره قدّس سرّه في توجيه تحقق الامتثال مع التعاقب.

لكن كلام الأصحاب الذي دعاهم لتحرير مسألة الترتب لو شمل ذلك فليس هو المهم في المقام.

ومنه يظهر أنه ليس من الترتب المهم عند الأصحاب ما إذا وجب السفر على الحاضر أو ترك الإقامة على المسافر ، ثم وجب عليه الصوم على تقدير عصيان الأمر بالسفر أو بترك الإقامة. وإن جعله قدّس سرّه من الترتب بتقريب : أن الصوم والسفر أو ترك الإقامة متضادان ، مع أنه لا إشكال في وجوب الصوم في فرض عصيان الأمر بالسفر أو بترك الإقامة ، كما جعل هذا من شواهد صحة الترتب.

٣٣٣

وبما ذكرنا يتضح أن كلامه إنما ينفع فيها ، لأن عصيان الأمر بالسفر أو بترك الإقامة في كل ان من النهار قبل الزوال شرط لوجوب الصوم في ذلك الآن.

كما عرفت خروجها عن المهم من الترتب الذي هو محل الكلام ، وإنما المهم ما إذا كان عصيان الراجح شرطا متأخرا لفعلية المرجوح.

نعم ، من يرى امتناع الشرط المتأخر ـ كبعض الأعاظم قدّس سرّه ـ يمكنه التخلص بفرض كون الشرط المقارن هو تعقب العصيان المنتزع في الزمن السابق من تحققه في الزمن اللاحق ، حيث لا فرق عملا بينه وبين كون العصيان بنفسه شرطا متأخرا. فلا بد من النظر في توجيه الأمر الترتبي معه مع استلزامه التكليف بالضدين.

إذا عرفت هذا ، فقد يوجه الأمر المذكور بأنه وإن استلزم التكليف بالضدين المفروض تعذر الجمع بينهما ، إلا أن ذلك حيث كان باختيار المكلّف عصيان الراجح لم يكن محذورا ، لقدرته على عدم عصيانه فلا يكلف بالمرجوح ، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

ويشكل بما ذكره غير واحد : بأن امتناع التكليف بالضدين وما لا يقدر عليه المكلف لا يختص بما إذا كان موضوع التكليف خارجا عن اختيار المكلّف ، بل يجري حتى مع كونه باختياره ، لما تقدم من أن الغرض من التكليف إحداث الداعي للمكلّف نحو امتثاله ، فمع تعذر امتثاله يكون التكليف لغوا.

وقاعدة أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار إنما تنفع في استحقاق العقاب على ما يستند تعذره للاختيار ، لا في تصحيح فعلية التكليف بما يستند تعذره للاختيار ، فضلا عن تصحيحه بمجرد استناد موضوعه له ، كما في المقام.

فالعمدة في دفع المحذور المذكور ما ذكر في كلام غير واحد ..

وحاصله : أن تعذر الجمع بين التكليفين في الامتثال إنما يمنع من الجمع

٣٣٤

بينهما في مقام الفعلية بلحاظ اقتضاء كل منهما صرف القدرة لامتثاله وترك امتثال الآخر ، فيتزاحمان ، ولا يصلحان لإحداث الداعي لموافقة مقتضاهما.

وذلك غير لازم مع الجمع بينهما بنحو الترتب ، لعدم منافاة المرجوح للراجح ، إذ حيث كان مشروطا بعصيان الراجح فهو لا يقتضي عصيانه ، لأن التكليف لا يقتضي حفظ شرطه ، وإنما يقتضي امتثاله في فرض تحقق شرطه وفعليته.

كما أن الراجح لا ينافي المرجوح أيضا ، لأن المرجوح حيث لا يقتضي حفظ نفسه بحفظ شرطه فالراجح لما كان مقتضيا امتثال نفسه وعدم عصيانه كان مقتضيا لرفع التكليف المرجوح برفع شرطه ، لا لمخالفته في ظرف فعليته وتحقق شرطه ، كي ينافي مقتضاه.

وبعبارة اخرى : مجرد فعلية التكليفين مع تعذر امتثالهما لا يكفي في التزاحم بينهما ، بل لا بد فيه من تنافي مقتضاهما بنحو لا بد معه من مخالفة أحدهما ، فيتزاحمان ، وذلك غير حاصل في المقام ، لأن المرجوح لا يقتضي صرف القدرة لامتثاله بنحو يستلزم عصيان الراجح ، لأن التكليف لا يدعو لحفظ شرطه ، والراجح وإن اقتضى صرف القدرة لامتثاله وعدم موافقة المرجوح ، إلا أن عدم موافقة المرجوح حينئذ ليست مخالفة لمقتضاه ، ولا عصيانا له ، لارتفاعه تبعا لارتفاع شرطه بامتثال الراجح وعدم عصيانه ، فكل من التكليفين لا ينافي مقتضى الآخر ولا يقتضى عصيانه.

ولو فرض تحقق العصيان للراجح وحده أو مع المرجوح فهو مستند لسوء اختيار المكلف من دون أن يكون مقتضى أحد التكليفين ليلزم التزاحم بينهما المانع من فعليتهما.

وما اشتهر من أن التكليف المشروط يصير مطلقا بتحقق شرطه ، راجع إلى أنه يصير كالمطلق في فعلية داعويته تبعا لفعليته بتحقق شرطه ، لا أنه

٣٣٥

كالمطلق في إطلاق داعويته بنحو يقتضي حفظه مطلقا ولو بحفظ شرطه.

ومما ذكرنا يتضح أن اجتماع التكليفين بالنحو المذكور لا يقتضي الجمع بينهما في مقام الامتثال ، ليمتنع مع تعذر الجمع المذكور ، بل يقتضي امتثال الراجح مطلقا وامتثال المرجوح عند عصيان الراجح ، وكل منهما مقدور للمكلف من دون تزاحم بينهما ، فلا وجه لامتناع اجتماعهما.

ودعوى : أن إطلاق الراجح يوجب تعذر امتثال المرجوح ، وسلب القدرة عليه شرعا ، فلا مجال لجعله ولو مقيدا.

مدفوعة : بأن سلب القدرة على امتثال المرجوح شرعا بسبب الراجح إنما هو لاقتضاء الراجح صرف القدرة إليه ، فمع فرض عدم تأثيره بسبب مزاحمته بالدواعي الموجبة للعصيان فلا وجه لمانعيته من التكليف المرجوح مع القدرة التكوينية على امتثاله ، بل يصح جعله حينئذ.

وإنما امتنع جعلهما معا بنحو الإطلاق مع القدرة على امتثال كل منهما في ظرف عصيان الآخر ، لاقتضائهما الجمع في مقام الامتثال المتعذر تكوينا ، فمع فرض عدم اقتضائهما ذلك لتقييد المرجوح بعصيان الراجح لا وجه لامتناع اجتماعها. بل يلزم جعلهما حينئذ بالنحو المذكور بعد فرض تمامية ملاك المرجوح المقتضي لوجوب حفظه على المولى بجعل التكليف مهما أمكن.

وتعذر حفظه مع تحصيل ملاك الراجح بالامتثال لا يصحح التفريط فيه مع فوته بالعصيان ، بل يلزم حفظه بجعل الحكم على طبقه ، كما يجب جعله على الإطلاق مع عدم المزاحمة بالراجح.

هذا ، وقد يستشكل في الترتب بوجهين ..

الأول : ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من أن ملاك استحالة جعل التكليفين اللذين يتعذر امتثالهما في عرض واحد آت في جعلهما بنحو الترتب ، لأنهما وإن لم يجتمعا في مرتبة التكليف الراجح ، لتأخر المرجوح عنه رتبة

٣٣٦

بسبب أخذ عصيانه في موضوعه ، إلا أنهما يجتمعان في مرتبة المرجوح. قال في حاشية الرسائل : «لعدم تقيد تنجز الأول بمرتبة ، بل يعم المراتب ومنها هذه المرتبة».

وفيه .. أولا : أن الوجود البقائي الاستمراري للشيء لا يكون إلا بالاضافة إلى الزمان تبعا لاستمرار العلة أو تجددها ، أما بالإضافة إلى المرتبة فلا بقاء ولا استمرار له ، ليكون في مرتبة ما هو متأخر عنه ، لأن منشأ اختلاف الرتبة في الشيئين والترتب بينهما خصوصية فيهما تقتضي ذلك ، وهي لا ترتفع عنهما بعد فرض وجودها فيهما ، فلا يعقل ارتفاع الترتب بين المترتبين طبعا كالعلة والمعلول ، ومنه المقام لأن منشأ الترتب بين التكليفين أخذ عصيان أحدهما في موضوع الآخر ، وقد سبق أن تحقق شرط التكليف لا يجعله مطلقا ، بحيث ترتفع إناطته بالشرط وتكون داعويته مطلقة.

وبعبارة اخرى : منشأ التأخر الرتبي خصوصية في المترتبين غير قابلة للارتفاع ، وهي في المقام أخذ عصيان الراجح في موضوع المرجوح غير المرتفع بوجود الشرط ، فلا يجتمعان في رتبة واحدة ، بخلاف منشأ التقدم الزماني ، فإنه ليس إلا وجود علة المتقدم وعدم وجود علة المتأخر ، ويمكن اختصاص الزمان الأول بذلك ، واجتماع العلتين بعده في الوجود ، فيجتمع المعلولان زمانا.

وثانيا : أن محذور اجتماع التكليفين اللذين يتعذر امتثالهما ليس هو وجودهما في رتبة واحدة ، ويكون مراد القائل بالترتب التخلص من المحذور المذكور ، كي ينفع ما ذكره قدّس سرّه ـ لو تم ـ في دفعه ، بل هو تزاحم التكليفين وتنافي مقتضاهما ، الذي سبق عدم لزومه مع الترتب ، ولذا لا إشكال في امتناع اجتماعهما مع اختلافهما رتبة بوجه آخر لا يرفع التزاحم ، كاشتراط أحدهما بالعلم بالآخر أو إطاعته ، فمع ارتفاع محذور التزاحم بالترتب بالوجه المتقدم

٣٣٧

لا يهم ما ذكره قدّس سرّه من لزوم اجتماعهما في مرتبة وجود المرجوح وفعليته وإن تم.

ولعله لذا تدرّج في الكفاية من الحديث المتقدم إلى الإصرار على عدم ارتفاع التزاحم بالترتب بما يظهر اندفاعه مما تقدم. فراجع كلامه وتأمل فيه.

ومن ثم لا يختص الترتب الذي يندفع به المحذور بما إذا كان شرط المرجوح هو عصيان الراجح بعنوانه ، ليلزم تأخره عنه رتبة ، بل يكفي فيه كون الشرط عدم تحقق مقتضى الراجح بترك المأمور به وفعل المنهي عنه ، وإن لم يلزم معه تأخر المرجوح عنه رتبة ، فلا فرق في عدم مزاحمة الأمر بالصلاة للأمر بإنقاذ الغريق بين كون أمر الصلاة مشروطا بعصيان أمر الإنقاذ بعنوانه ، ليتأخر رتبة عن الأمر بالإنقاذ ، وكونه مشروطا بعدم الإنقاذ بنفسه من دون أخذ العصيان ، فلا يتأخر عن الأمر بالإنقاذ.

بل لعل مرادهم بالاشتراط بالعصيان ذلك ، لا أخذ العصيان بعنوانه ، ويكون هو الوجه في إطلاقهم الترتب عليه ، لا اختلاف التكليفين رتبة لأخذ أحدهما في موضوع الآخر ، لعدم دخل ذلك للأثر المهم في المقام.

الثاني : ما ذكره هو قدّس سرّه أيضا من أن لازمه استحقاق عقابين في صورة مخالفة كلا التكليفين ، ولا يظن التزامهم به ، لضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه المكلف.

قال : «وكان سيدنا الاستاذ قدّس سرّه لا يلتزم به على ما هو ببالي ، وكنا نورد به على الترتب وكان بصدد تصحيحه».

لكن أصر غير واحد ممن يلتزم بالترتب على تعدد العقاب في المقام تبعا لتعدد التكليف وتعدد العصيان ، وقد وجهه بعض الأعاظم قدّس سرّه بوجهين ..

أولهما : أن العقاب ليس ترك الجمع بين الامتثالين المفروض تعذره على المكلف ، بل على الجمع بين العصيانين ، بمعنى أن يعاقب على ترك امتثال كل منهما في حال ترك الآخر ، ومن الظاهر أن ترك امتثال كل منهما في حال ترك

٣٣٨

امتثال الآخر مقدور للمكلف ، فيعاقب عليه.

وفيه : أن العقاب إن كان على الجمع بين العصيانين المقدور للمكلف لزم وحدة العقاب ، لأن الجمع أمر واحد.

مضافا إلى أن الجمع لا دخل له في غرض المولى ، ولا في تكليفه ، وإنما هو عنوان انتزاعي لكل من العصيانين المتعلقين بتكليفي المولى.

وإن كان على منشأ انتزاع الجمع المذكور ، وكل من العصيانين بنفسه المفروض اجتماعه مع الآخر ، بأن يكون لكل عصيان عقاب يخصه. فالوجه المذكور لا ينهض بدفع الإشكال ، لوضوح أن العقاب لا يحسن بمجرد القدرة على المعصية ، بل لا بد فيه من القدرة على الطاعة أيضا ، ومن الظاهر عدم القدرة على طاعة التكليفين معا.

ومجرد القدرة على كل منهما في ظرف عدم الآخر لا يكفي في صحة العقاب ، بل لا بد من القدرة المطلقة على الشيء من تمام الجهات ، فمع العجز من بعض الجهات يتعين قصور العقاب من جهتها ، والعقاب على قدر الطاقة ، وإلا جرى ذلك في التكليفين المتزاحمين أيضا ، مع ارتكاز أن امتناع العقاب عليهما معا ليس لمجرد امتناع فعليتهما ذاتا ، لامتناع إحداث الداعي لغير المقدور ، بل لكونه ظلما أيضا قبيحا بملاك قبح العقاب على ما لا يطاق.

على أن ذلك لو كفى فلا داعي لدعوى العقاب على الجمع بين العصيانين ، بل يمكن له دعوى أن العقاب على ترك كل من الامتثالين المفروض كونه مقدورا في نفسه مع قطع النظر عن الآخر.

ثانيهما : أنه لا يلزم في جواز تعدد العقاب القدرة على الجمع بين العصيانين ، بل يكفي فيه القدرة على كل منهما في نفسه ومع قطع النظر عن الآخر ، فمع فرض تعدد التكليف وعدم الارتباطية بين التكليفين يكون لكل منهما عصيانه المختص به المقدور في نفسه مع قطع النظر عن الآخر.

٣٣٩

ويظهر اندفاعه مما تقدم من أن مجرد القدرة على كل منهما في ظرف عدم الآخر لا يكفي في تعدد العقاب عليهما مع امتناع الجمع بينهما في مقام الامتثال والعصيان.

اللهم إلا أن يرجع ما ذكره إلى ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه من عدم اعتبار القدرة في العقاب إلا لتصحيح التكليف.

قال : «بل ضرورة حسن العقاب على مخالفة التكليف الفعلي تقتضي الالتزام بترتب عقابين بعد ما عرفت من إمكان التكليف بهما وفرض معصيتهما معا. وقبح العقاب على ما لا يقدر عليه لا أصل له ما لم يرجع إلى قبح العقاب على ما لا تكليف به ، فلا يكون العقاب عليه عقابا على المعصية».

لكن يظهر مما سبق منا في رد الوجه الأول المنع من ذلك ، وأن العقاب إنما يحسن على قدر الطاقة.

نعم ، بعد أن كان القائلون بالترتب مختلفين في وحدة العقاب ـ كما حكاه المحقق الخراساني قدّس سرّه عن السيد الشيرازي الكبير قدّس سرّه ـ وتعدده ـ كما تقدم من بعض الأعاظم وسيدنا الأعظم قدّس سرّه ووافقهما غيرهما ـ يظهر أنه لا مجال للاستدلال على بطلان الترتب باستلزامه تعدد العقاب ، لأن ذلك إنما يصلح للاستدلال إذا لم يلتزم به القائل بالترتب ، كما لا يخفى.

ومن هنا فالكلام في ذلك لا يرجع لتتميم الاستدلال على الترتب ، بل لتحقيق حال التكليف والعقاب في المقام.

وحينئذ نقول : كبرى استلزام المعصية للعقاب تقضي بتعدد العقاب مع ثبوت الأمر الترتبي ووحدته مع عدمه. وحيث كان ثبوت الأمر الترتبي مقتضى كبرى لزوم حفظ الملاك والغرض تشريعا ، كما تقدم ، وتعدد العقاب مناف لكبرى قبح العقاب على ما لا يطاق ، لزم التدافع بين الكبريات الثلاث المذكورة الكاشف عن قصور بعضها عن المقام ، وحيث لم تكن الكبريات المذكورة

٣٤٠