المحكم في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٢

ولا أقل من كون ذلك مقتضي الإطلاقات المقامية لأدلة تشريع الاضطراري ، للغافلة عن وجوب القضاء معه جدا.

ولعله لأن مقتضى القاعدة الارتكازية في تعذر المطلوب الارتباطي في الوقت ـ ولو بتعذر قيده ـ هو تعذر تحصيل شيء من الملاك المستلزم لسقوط الأمر رأسا وعدم وجوب الميسور الاضطراري ، بل انتظار القضاء عند ارتفاع التعذر لتحصيل الملاك بتمامه إذا كان العمل مما يقبل القضاء ، فدليل تشريع المأمور به الاضطراري كما يكون ردعا عن مقتضى القاعدة من سقوط الأمر في الوقت يكون عرفا ردعا عن وجوب القضاء لتحصيل الملاك بتمامه ، لكونه مترتبا على ذلك ، ووجوب القضاء لتتميم الملاك الحاصل بالاضطراري وإن كان ممكنا إلا أنه مغفول عنه ، لعدم اقتضاء القاعدة له ، فعدم التنبيه عليه في أدلة تشريع الاضطراري موجب لظهورها في عدمه بمقتضى إطلاقاتها المقامية.

ومرجع ذلك إلى عدم تعلق الغرض الفعلي بعد الوقت بتحصيل الملاك الفائت الذي لم يستوف بالاضطراري إما لتعذره ، أو لرفع اليد عنه ولو لمصلحة التسهيل ، وإن كان مهما في نفسه لازم التحصيل في ضمن الوقت ، ولذا اختص تشريع الاضطراري والاكتفاء به بالتعذر المستوعب لتمام الوقت ، كما هو مفروض الكلام.

على أنه لو فرض إجمال دليل تشريع المأمور به الاضطراري من هذه الجهة ، ولو لكونه لبيا لا ينهض المتيقن منه بإثبات سقوط القضاء فلا أقل من كون نفيه مقتضى الأصل ، لاختصاص أدلة القضاء بفوت الفريضة أو عدم الإتيان بها رأسا بالنحو المستلزم لفوت ملاكها رأسا ، ولا يشمل فرض الإتيان بالفرد أو البدل الاضطراري المحصل لبعض ملاك الفريضة. فوجوب القضاء في محل الكلام يحتاج إلى دليل خاص.

نعم ، لو كان لدليل الأمر الاختياري بالعمل التام إطلاق يقتضي عدم

٢٠١

التوقيت ، ولم يكن لدليل التوقيت ظهور في قيدية الوقت ودخله في مصلحة الماهية المأمور بها ، بل في مجرد مطلوبية إيقاع العمل فيه ولو بنحو تعدد المطلوب ، يكون وجوب الإتيان به بعد ارتفاع التعذر خارج الوقت مقتضى الإطلاق المذكور ، الذي يخرج به عن الأصل المتقدم ، واحتاج إجزاء المأمور به الاضطراري عن القضاء للدليل ، كالتشبث له بما سبق.

لكن في صدق القضاء حينئذ إشكال ، لما سبق في مبحث الموقت من اختصاصه بما إذا كان الوقت قيدا في المطلوب ودخيلا في مصلحته. فراجع وتأمل جيدا.

تنبيه

حيث ذكرنا ظهور أدلة تشريع الاضطراري في بيان الاجتزاء به عن الإعادة والقضاء ، وكان ذلك ـ بضميمة ارتكاز عدم وفائه بتمام الملاك ـ منشأ لانصراف إطلاقاته إلى التعذر المستوعب للوقت ، فلا مجال لأن يستفاد من الإطلاقات المذكورة مشروعيته بمعنى عدم لغويته بالتعذر غير المستوعب للوقت وإن لم يكن مجزئا ، بل لا بد فيه من دليل خاص ، هو مفقود غالبا.

٢٠٢

المقام الثاني

في إجزاء الأمر الظاهري

ولا فرق فيه بين أن يكون أوليا اختياريا ، وأن يكون ثانويا اضطراريا ، غايته أن إجزاء الثاني يراد به إجزاؤه عن الأمر الاضطراري الواقعي ، ويبتني إجزاؤه عن الأمر الاختياري الواقعي على ما سبق في المقام الأول.

ومحل الكلام في المقام هو مقتضى الحكم الظاهري بمقتضى ظاهر دليله أو دليل خارج بعد الفراغ عن ظهور دليل الحكم الواقعي في نفسه في تبعية الأمر للواقع.

أما لو فرض ظهور دليل الحكم الواقعي في أن موضوعه الأعم من الواقع والظاهر أو خصوص الظاهر فلا إشكال في الإجزاء ، ويدخل في إجزاء موافقة الأمر الواقعي عن امتثاله والتعبد به ثانيا ، الذي تقدم الكلام فيه في أول الفصل.

ومن هنا لزم البناء على الإجزاء بناء على التصويب المنسوب للأشاعرة ، الراجع إلى عدم جعل حكم واقعي غير مؤدى الطريق ، والتصويب المنسوب للمعتزلة المبني على جعل الأحكام الواقعية في مرتبة سابقة على التعبد الظاهري مع كون قيام الطرق المخالفة لها رافعا لها ، لكونه سببا لحدوث الملاكات المزاحمة لملاكاتها والمانعة من فعلية تعلق الغرض بها ، بل يتعلق الغرض الفعلي بالملاكات الناشئة من قيام الطرق بنحو يستتبع جعل الحكم على طبقها ورفع اليد عن الحكم الواقعي.

أما على الأول فظاهر ، لعدم وجود واقع تفرض مخالفته ، بل ليس الواقع

٢٠٣

إلا ما أدى إليه الطريق الذي فرض العمل على طبقه.

غاية الأمر أن قيام الطريق المخالف للطريق الذي عمل على طبقه يوجب تبدل الواقع ، وهو إنما يقتضي تبدل الوظيفة في حق المكلف إذا لم يعمل على طبق الطريق الأول ، أما مع عمله على طبقه فقد سقط الأمر ، نظير ما لو سافر بعد أن صلى تماما.

وأما على الثاني فلأن الواقع لما لم يكن فعليا ، لعدم فعلية تعلق الغرض بملاكه فلا أثر لموافقته ومخالفته ، بل الأثر للحكم الفعلي المفروض موافقته.

ومن هنا كان الإجزاء بناء على التصويب ـ بكلا وجهيه ـ خارجا في الحقيقة عن محل الكلام من إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي ، حيث لا أمر واقعي حين العمل وراء الظاهر ، ليقع الكلام في إجزاء الظاهر عنه.

نعم ، هذا مختص بما إذا اختلف الطريقان في كيفية العمل المطلوب ، كما لو أدى الأول إلى عدم اعتبار الطهارة في الصلاة على الميت ، والثاني إلى اعتبارها ، أو أدى الأول إلى وجوب صلاة الجمعة ، والثاني إلى وجوب صلاة الظهر.

أما لو اختلفا في ثبوت الوظيفة وعدمه ، كما لو دل الأول على عدم وجوب صلاة الكسوف والثاني على وجوبها ، فإن كان قيام الثاني في الوقت فلا إشكال في وجوب الأداء على طبقه ، لتمامية موضوعه ، وإن كان خارج الوقت فالظاهر عدم وجوب القضاء ، لأنه فرع فعلية ملاك الأداء ، كما سبق ، والمفروض عدم فعليته.

كما أن الظاهر اختصاص ذلك بما إذا كان موضوع التعبد الشرعي الظاهري الكبريات الشرعية المتضمنة للأحكام الكلية ، دون ما إذا كان موضوعه الموضوعات الجزئية المستلزمة لأحكام جزئية ، حيث ادعي الإجماع على عدم التصويب فيها.

٢٠٤

وإن كان تحقيق مقتضى التصويب بوجهيه سعة وضيقا موقوفا على الإحاطة بمباني القائلين بها وحججهم ، وهو مما لا يسعه الوقت ، كما أنه غير مهم بعد ظهور بطلان التصويب ، والمهم إنما هو الكلام بناء على التخطئة التي ادعي اتفاق أصحابنا عليها.

وقد ظهر مما سبق في محل الكلام أن مقتضى الأصل الأولي عدم الإجزاء ، لأن مقتضى فرض ظهور دليل الحكم الواقعي في لزوم متابعته عدم ترتب الأثر مع مخالفته ، فلا بد في دعوى الإجزاء من إقامة الدليل المخرج عن ذلك ، إما لاستفادته من نفس دليل الحكم الظاهري أو من دليل آخر.

إذا عرفت هذا ، فقد ذكر المحقق الخراساني قدّس سرّه في كفايته أن الحكم الظاهري إن ابتنى على تعبد الشارع بالموضوع من جزء العمل أو شرطه وجعله ظاهرا ـ كما هو مفاد قاعدة الحل والطهارة ، بل الاستصحاب ، بناء على أنه يتضمن تنزيل المشكوك منزلة المتيقن ، لا تنزيل الشك منزلة اليقين ـ اقتضى الإجزاء ، لحكومة دليله على دليل الأمر الواقعي ، حيث يكون موسعا للموضوع ومبينا أنه أعم من الواقعي والظاهري ، فيصح العمل ويجزي لواجديته لجزئه أو شرطه ، وانكشاف الخلاف فيه بعد العمل لا يوجب انكشاف فقدان العمل لجزئه أو شرطه ، بل ارتفاع أحدهما من حين ارتفاع الجهل.

بخلاف ما يبتني منه على التعبد بوجود الشرط واقعا ، كما في موارد الأمارات ، فإنه حيث لا يبتني على جعل الموضوع في قبال الواقع ، بل على إحراز ثبوت الموضوع في الواقع ـ كما هو مقتضى لسان الأمارة بضميمة دليل حجيتها ـ فبانكشاف الخطأ ينكشف عدم تحقق الموضوع واقعا ، وفقد العمل لجزئه أو شرطه ، فلا يجزي.

أقول : الحكم بثبوت عنوان الموضوع في مورد ..

تارة : يبتني على التطبيق الحقيقي لاشتباه المصداق أو المفهوم ، كما في

٢٠٥

قوله عليه السّلام في الفقاع : «هو خمر مجهول» (١) ونحو : كل دين جر نفعا فهو ربا.

واخرى : يبتني على الجعل الحقيقي فيما لو كان الموضوع أمرا جعليا ، مثل ما تضمن الحكم بالملكية مع الحيازة بالإضافة إلى أحكام الملك.

وثالثة : يبتني على التطبيق الادعائي التنزيلي بلحاظ الاشتراك في الأحكام ، نحو : المطلقة رجعيا زوجة.

والأولان لا يبتنيان على توسيع موضوع الحكم ، بل على بيان مفهومه أو مصداقه أو جعل مصداقه ، ويكون ثبوت الحكم في مورد التطبيق مقتضى إطلاق دليل الحكم وإن كان بمعونة دليل التطبيق في الجملة.

وأما الثالث فحيث كان مصحح الادعاء فيه هو الاشتراك في الأحكام كان كناية عن عدم اختصاص موضوع الحكم بعنوانه الذي تضمنه دليله ، وأنه يعم مورد التطبيق ، فهما يشتركان في الحكم الواحد ، وهو راجع إلى توسيع موضوع الحكم ، ولذا يكون ثبوت الحكم في مورد التطبيق مقتضى دليل التطبيق ، لا دليل الحكم.

وحيث ظهر ذلك فإن كان مبنى كلامه قدّس سرّه أن مقتضى أدلة الجزئية والشرطية ونحوهما في أنفسها كون الجزء أو الشرط هو الأعم من الأمر الواقعي والظاهري من الطهارة والحلية ونحوهما ، فدليل الحكم الظاهري وإن تضمّن جعل الحل والطهارة حقيقة لا يكون حاكما على دليل الجزئية والشرطية ، ولا موسعا لموضوعهما ، بل يكون واردا عليه ، لتضمنه جعل الموضوع حقيقة ، كما تقدم في الوجه الثاني. ويكون الإجزاء حينئذ مقتضى دليل الحكم الواقعي ، كالإجزاء مع الطهارة أو الحل الواقعيين.

وإن كان مبنى كلامه أن مقتضى أدلة الجزئية والشرطية كون الجزء

__________________

(١) الوسائل ج ١٧ باب : ٢٧ من ابواب الأشربة المحرمة : حديث : ١١.

٢٠٦

والشرط خصوص الأمر الواقعي من الطهارة أو الحلية أو نحوهما فدليل الحكم الظاهري إنما يكون حاكما عليه لو كان مفاده الحكم بالطهارة والحل ونحوهما ادعاء وتنزيلا من دون أن يتضمن جعلا حقيقيا ، على ما سبق في الوجه الثالث. وهو خلاف مفروض كلامه.

أما لو كان مفاده الحكم بهما ظاهرا بنحو يتضمن الجعل الحقيقي ـ كما هو مقتضى كلامه ـ. فإن كان الحل والطهارة الظاهريان من أفراد الحل والطهارة الواقعيين ، وليس الفرق بينهما إلا في الموضوع ، حيث يكون موضوع الواقعيين الذات بنفسها ، وموضوع الظاهريين الذات بعنوان كونها مجهولة الحال ، لم يكن دليلهما حاكما على دليل الجزئية والشرطية ، بل واردا عليه ، نظير ما تقدم على المبنى الأول.

وإن كانا مباينين للحل والطهارة الواقعيين لم يكن الحكم بهما مقتضيا لترتب حكم الحل والطهارة الواقعيين ظاهرا ، فضلا عن ترتبه واقعا بنحو يقتضي الإجزاء حتى لو انكشف الخطأ ، لعدم كونهما حينئذ من أفراد الموضوع.

إلا أن يثبت بدليل آخر تنزيلهما منزلة الحل والطهارة الواقعيين في الأحكام. ولا تنهض به أدلة جعلهما لأن جعل الموضوع في مرتبة سابقة على جعل حكمه ، فلا يتكفل بهما معا دليل واحد متضمن لجعل واحد. ومن هنا لم يكن كلامه خاليا من الاضطراب.

على أن لازمه تأسيس فقه جديد ، فإن مفاد أدلة الاصول المذكورة ـ ومنها الاستصحاب ـ لو كان حاكما على أدلة الأحكام الواقعية وموسعا لدائرة الجزء والشرط بنحو يقتضي الإجزاء واقعا في المأمور به الذي هو موضوع الصحة والفساد والإجزاء لجرى في شروط وأجزاء غيره مما يكون مردا للآثار ، كالعقود والإيقاعات وموضوعات الأحكام الأخر ، فإذا تم التعبد الظاهري ـ الذي تتضمنه تلك الاصول ـ بتلك الشروط صحت العقود والإيقاعات وترتبت تلك الأحكام

٢٠٧

واقعا ولو مع خطأ التعبد المذكور ، فيصح بيع ووقف مستصحب الملكية ، وتستحق مستصحبة الزوجية النفقة ، ويكون عقد الغير عليها محرّما لها عليه مؤبدا ، وينجس الجسم بملاقاة مستصحب النجاسة ، كما يطهر المتنجس بغسله بماء مستصحب الطهارة ، إلى غير ذلك ، لأن دليل التعبد الظاهري كما يكون حاكما على دليل الشرطية في المأمور به يكون حاكما على سائر أدلة الشرطية ، لأن نسبته للجميع على نحو واحد.

كما لا يختص ذلك بما اذا كان موضوع التعبد أمرا مجعولا شرعا ـ كالملكية والزوجية والطهارة والنجاسة وغيرها ـ بل يجري فيما إذا كان موضوعة أمرا خارجيا مأخوذا في موضوع أحكام شرعية ، ككون المرأة في العدة المستلزم لتحريمها مؤبدا بالعقد عليها ، وكونها حائضا المستلزم لوجوب الكفارة بوطئها ، وكونها طاهرا المستلزم لصحة طلاقها ، ونحو ذلك ، إما للتعبد بنفس الأمر الخارجي أو بأحكامه على ما يذكر في محله. ووهن اللازم المذكور غني عن البيان. بل لا يظن الالتزام به حتى من القائلين بالتصويب.

ومنه يتضح أنه لا مجال للبناء على أن موضوع الشرطية والجزئية ـ للمأمور به وغيره من العقود والايقاعات ـ وغيرهما من الأحكام الأعم من الظاهر والواقع ، ولا على كون موضوعها خصوص الواقع مع كون مؤدى التعبد الظاهري من أفراد الواقع ، لأن المبنيين معا مستلزمان للمحذور المتقدم وهو ترتب الأثر واقعا ولو مع خطأ التعبد.

كما أن البناء على أن الموضوع خصوص الواقع مع كون مؤدى التعبد الظاهري مباينا له وليس من أفراده مستلزم لعدم ترتب الأثر على التعبد حتى ظاهرا حال الجهل ، لعدم كون مؤدى التعبد من أفراد موضوع الحكم الشرعي ، ليترتب عليه الحكم. وهو أوهن مما سبق ، لاستلزامه لغوية جعل الحكم الظاهري ، كما لا يخفى.

٢٠٨

فالتحقيق : أن مفاد التعبد الظاهري ليس هو جعل حكم نظير جعل الحكم الواقعي ، ليقع الكلام في أنه من سنخه وأفراده أو مباين له ، بل ليس في المقام إلا أمر واحد حقيقي كالموضوعات الخارجية أو جعلي اعتباري كالأحكام الشرعية يكون بنفسه موضوعا للاثر العملي الشرعي أو العقلي.

وتحققه في مقام الثبوت تابع لأسبابه التكوينية إذا كان خارجيا حقيقيا ، ولجعله من قبل الشارع إذا كان جعليا اعتباريا ، وهو الذي تتضمنه أدلة الأحكام الواقعية.

كما أن البناء عليه في مقام الإثبات والعمل تابع للقطع به ، ومع عدمه فللتعبد الظاهري ، فالتعبد الظاهري لا يتضمن جعل الحكم في عرض الحكم الواقعي ، بل جواز البناء في مقام العمل عليه إثباتا وفي طوله. غايته أن البناء عليه بمقتضى التعبد الشرعي ..

تارة : يتفرع على قيام الحجة عليه ، لصلوحها شرعا لإثباته.

واخرى : لا يتفرع عليها ، بل يكون التعبد به ابتدائيا لمحض الجهل به أو مع سبق اليقين به أو لغير ذلك ، على ما يأتي تفصيل الكلام فيه في مسألة قيام الطرق والاصول مقام القطع الموضوعي إن شاء الله تعالى.

ومنه يظهر أن ترتيب أثر الواقع في مورد التعبد مقتضى نفس دليل التعبد ، وإن كان موضوع الأثر ثبوتاً هو الواقع بنفسه ، لا ما يعمه والظاهر ، وأن عدم الإجزاء بانكشاف الخلاف إنما هو لانكشاف عدم تحقق الموضوع وفقدان العمل لجزئه أو شرطه بعد سقوط دليل التعبد بسبب اختصاصه بحال الجهل المفروض ارتفاعه.

ومن هنا لا مخرج عما يقتضيه الأمر الواقعي من عدم الإجزاء بعد انكشاف وقوع العمل على خلاف ما أخذ فيه.

هذا ، وقد يدعى أنه يلزم الإجزاء بناء على أن الطرق والاصول مجعولة

٢٠٩

بنحو السببية لا الطريقية ، بمعنى أن جعلها ناش عن مصلحة في متابعتها. إذ عليه يتدارك الواقع الذي اخطأه بتلك المصلحة ، ومع تداركه يتعين البناء على الإجزاء.

ويشكل : بأن مصلحة جعل الطريق إن كانت في قبال الملاك الواقعي بنحو تصلح لمزاحمته وتدارك فوته بنحو يستلزم الإجزاء لزم التصويب المنسوب للمعتزلة الذي هو خارج عن الفرض.

بل يلزم التصويب الباطل حتى لو لم يلزم الإجزاء من التدارك ، لكون المتدارك ، خصوص مفسدة تاخير الواجب عن وقته إذا استلزمه العمل بالطريق ، على ما يأتي في مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية إن شاء الله تعالى. كما ربما يأتي هناك وفي مبحث قيام الطرق والاصول مقام القطع الموضوعي ما ينفع في المقام. فلاحظ.

بقي في المقام امور ..

الأول : لا ينبغي التأمل في عدم الإجزاء لو كان العمل مخالفا للأمر الواقعي من دون أمر ظاهري ، بل لنسيان أو غفلة أو اعتقاد خاطئ في الموضوع أو الحكم ، لأن مجرد العذر العقلي لا ينافي بطلان العمل المستلزم لوجوب التدارك بمقتضى الأصل.

نعم ، يمكن دلالة الدليل الخاص فيه على الإجزاء الواقعي خروجا عن مقتضى الأصل ، كما قد يدل على إجزاء الأمر الظاهري كذلك ، على ما يأتي في التنبيه الثالث إن شاء الله تعالى.

الثاني : حيث ذكرنا أن مقتضى الأصل عدم الإجزاء مع مخالفة الأمر الواقعي فالمخالفة ..

تارة : تثبت بالعلم الوجداني. ولا إشكال حينئذ في لزوم ترتيب أثرها المذكور ، وهو عدم الإجزاء. وهو المتيقن مما سبق.

٢١٠

واخرى : تكون مقتضى التعبد الشرعي ، لتبدل الاجتهاد في حق المجتهد أو عدول المقلد عن فتواه السابقة أو تقليد غيره في حق المقلد ، أو لابتناء العمل على أصل قامت الأمارة بعد العمل على خلاف مقتضاه ، أو تبدل مفاد الأمارة ، كما لو عدلت البينة عن الشهادة بوجه إلى غيره ، وغير ذلك مما لا يبلغ العلم. وقد وقع الكلام بينهم في الإجزاء في هذا القسم في الجملة وعدمه.

ولا يخفى أنه بعد فرض اختلاف مؤدى التعبد الشرعي حين العمل عنه بعد العمل لا يعقل حجيتهما معا في واقعة واحدة ، لامتناع التعبد بالنقيضين.

وحينئذ حيث فرض حجية التعبد الثاني ، فإن اختص دليل حجيته بالوقائع اللاحقة مع بقاء التعبد الأول حجة في الوقائع السابقة فلا إشكال في إجزاء العمل السابق بمقتضى حجية التعبد الأول وعدم انكشاف مخالفته للأمر الواقعي بالتعبد الثاني.

نعم ، قد يلزم من ذلك مخالفة علم إجمالي منجّز ، فيسقط كلا التعبدين عن الحجية في الوقائع المختصة به ، كما لو قلد من يقول بوجوب التقصير بالسفر ثمانية فراسخ ملفقة ، وعمل عليه مدة ، ثم قلد من يقول بوجوب الإتمام في ذلك ، وأنه لا بد في التقصير من السفر ثمانية فراسخ امتدادية. فلو فرض حجية كل من التقليدين في الوقائع المقارنة له فحيث يعلم اتحاد جميع الوقائع في الحكم الواقعي يعلم إجمالا إما بخطإ مقتضى التقليد الأول ، فيجب قضاء ما وقع على طبق التقليد الأول تماما ، أو بخطإ الثاني ، فيجب القصر في الوقائع اللاحقة.

وإن كان دليل حجيته يعم الوقائع السابقة بنحو ينهض بإثبات وجوب التدارك فيها بالإعادة والقضاء المستلزم لسقوط التعبد الأول عن الحجيّة فيها واختصاصه بصورة عدم قيام التعبد الثاني تعين عدم الإجزاء ولزوم التدارك ، كما لو استندت فتوى المجتهد أو عمل المكلف للأصل الترخيصي الجاري في

٢١١

الشبهة الموضوعية أو الحكمية ، ثم عدل المجتهد عن فتواه لعثوره على خبر معتبر ، أو قامت بينة عند المكلف ، على خلاف مقتضى الأصل المفروض الذي وقع العمل على طبقه.

وإن فرض الشك في حال التعبدين بنحو لا يحرز عموم الثاني للوقائع السابقة وسقوط الأول عنها ، ولا قصور عنها وبقاء الأول حجة فيها ، لإجمال دليلهما ، كان العمل السابق غير محرز الصحة والإجزاء ، لأن الحكم بصحة العمل وإجزائه وترتيب أثرهما في كل زمان موقوف على حجية التعبد بهما في ذلك الزمان ، ولا يكفي حجيته عليهما في زمان صدور العمل ، كما هو الحال في القطع.

وحينئذ إن كانت الشبهة موضوعية ـ كما لو شك في الطهارة الحديثة فيما اعتبر فيه الطهارة ـ فلا ينبغي التأمل في لزوم الإعادة ، لأصالة الاشتغال بالتكليف المتيقن المفروض الشك في امتثاله.

بل لا يبعد وجوب القضاء لأصالة الاشتغال ـ أيضا بناء على ما هو الظاهر من أن القضاء وإن احتاج إلى دليل إلا أنه بعد فرض ثبوته متحد مع الأداء ، وأن الوقت مأخوذ بنحو تعدد المطلوب ، فسقوطه بالتعذر لا ينافي جريان قاعدة الاشتغال في أصل المكلف به.

ولو فرض مباينته للأداء ، بحيث يسقط التكليف بالأداء ويخلفه التكليف بالقضاء كفت أصالة عدم الإتيان بالواجب في وقته في وجوب القضاء ، بناء على ما هو الظاهر من أن موضوعه ذلك ، لا عنوان الفوت الذي لا يحرز بالأصل.

ويأتي بعض الكلام في ذلك في ذيل التنبيه الثاني من تنبيهات أصل البراءة ، كما ذكرناه في الفقه في المسألة الحادية والثمانين من مباحث الوضوء من شرح منهاج الصالحين. فراجع.

نعم ، لو كان هناك محرز آخر لصحة العمل غير التعبد الأول ، كقاعدة

٢١٢

الفراغ ، وقاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد خروج الوقت جاز التعويل عليه. ولا مجال لإطالة الكلام في صغريات ذلك ، بل يوكل لمورد الحاجة من الفقه ، لخروجه عن محل الكلام ، إذ الكلام في الإجزاء من حيثية التعبد الأول لا غير.

وإن كانت الشبهة حكمية فإن كان مفاد التعبد الأول عدم التكليف أصلا ومفاد الثاني ثبوته ووجوب القضاء بالتخلف عن مقتضاه ، كما لو قلد من يفتي بعدم وجوب صلاة الكسوفين وعمل على ذلك مدة ثم قلد من يفتي بوجوبهما ووجوب قضائهما ، كان مقتضى أصالة البراءة عدم التكليف في الوقائع السابقة بعد فرض كون المتيقن من حجية فتوى الثاني الوقائع اللاحقة.

وكذا لو اختلفا في اعتبار خصوصية مفقودة في العمل السابق ، كما لو صلى بدون سورة مقلدا لمن يقول بعدم وجوبها ثم قلد من يقول بوجوبها ، بناء على ما هو الظاهر من جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين فيبنى على الاجزاء في الفرض.

إلا أن يلزم مخالفة علم إجمالي ، كما لو صلى قصرا تبعا لتقليد من يفتي به ، ثم قلد من يفتي بالتمام ، حيث يعلم إجمالا إما بوجوب قضاء ما صلاه قصرا أو وجوب القصر في الصلوات اللاحقة.

وأما لو اختلفا في إحراز المكلف به مع الاتفاق على تحديده فيجري ما سبق في الشبهة الموضوعية ، كما في موارد الاختلاف في المحصل ، مثل ما لو قلد من يقول بكفاية المسح بماء جديد في الوضوء وترتب الطهارة المطلوبة عليه ، ثم قلد من يقول ببطلان الوضوء معه.

ومثلها موارد الاختلاف في التعبد الظاهري ، كما لو عمل تبعا لتقليد من يقول بجريان قاعدة الفراغ مع عدم الالتفات لمنشا الشك حين العمل ، أو من يقول بأصالة العدالة في المسلم ، ثم قلد من يخالف في ذلك.

وقد تحصل من جميع ما تقدم : أن المدار في الإجزاء على بقاء التعبد

٢١٣

الأول حجة في الوقائع السابقة ، ليحرز به مطابقة العمل فيها للأمر الواقعي ، لا على مجرد عدم حجية التعبد الثاني فيها ، كي لا يحرز به مخالفة العمل للأمر الواقعي ، إلا فيما إذا كانت الشبهة حكمية وكان الشك في أصل التكليف أو في جزء المكلف به أو شرطه مع عدم لزوم مخالفة علم إجمالي منجز ، فيكفي في الإجزاء مجرد عدم حجية التعبد الثاني في الوقائع السابقة وإن لم يثبت بقاء حجية التعبد الأول فيها ، لإجمال دليله.

إذا عرف هذا ، فاعلم أنه لم يتضح منهم الخلاف في أصالة عدم الإجزاء مع تبدل مقتضى التعبد إلا في اختلاف مقتضى الاجتهاد ، حيث يظهر من جملة منهم أن الأصل فيه الإجزاء وعدم وجوب تدارك ما وقع من الأعمال على طبق الاجتهاد الأول.

وقد استدل له في كلامهم بوجوه ..

أولها : ما ذكره في الفصول من أن الواقعة الواحدة لا تحتمل اجتهادين ، ولو بحسب زمانين ، لعدم الدليل على ذلك.

ومرجعه إلى أنه بعد فرض سبق حجية الاجتهاد الأول في الوقائع السابقة ، لا دليل على حجية الاجتهاد الثاني فيها بعد حدوثه ، ليجب العمل على مقتضاه بالبناء على عدم الإجزاء.

وفيه .. أولا : أنه ظهر مما تقدم أن مجرد عدم الدليل على حجية الاجتهاد الثاني في الوقائع السابقة لا يكفي في الإجزاء في كثير من الموارد ، بل لا بد فيه من بقاء الاجتهاد الأول على الحجية في تلك الوقائع ، وهو محتاج إلى الدليل.

وثانيا : أن حجية الاجتهاد الثاني في الوقائع السابقة مقتضى عموم أدلة حجية الأدلة التي ابتنى عليها ، لعدم الفرق في حجية الظواهر وخبر الواحد والاصول وغيرها بين الوقائع.

ومجرد العمل على خلافها في بعضها اعتمادا على حجة اخرى قد ظهر

٢١٤

لزوم رفع اليد عنها لا يخرجها عن موضوع الحجية ، بل هي كما لو لم يعمل فيها بتلك الحجة السابقة بعد فرض تقديم الحجة اللاحقة عليها ورفع اليد بها عنها.

ثانيها : ما حكاه في التقريرات عن بعض الأجلة من أن تبدل الاجتهاد وقيام حجة اخرى على خلاف الحجة الاولى ليس إلا نظير النسخ ، فإنه بوصول الحجة الثانية ينقضي زمان الحجة الاولى ، من دون أن ترتفع حجيتها في ما كانت حجة فيه.

وفيه : أنه بعد فرض عدم تبدل الواقع باختلاف الحجج لا مجال لقياس المقام بالنسخ ، لا بالإضافة للواقع ، كما هو ظاهر ، ولا بالإضافة للحجة السابقة ، لأنه إن اريد بذلك بقاء حجيتها في الوقائع السابقة فهو موقوف على ثبوت الإطلاق لها وقصور إطلاق دليل الحجة الثانية عن شمول تلك الوقائع ، وقد سبق أنه لا مجال لذلك في الأدلة التي يبتنى عليها الاجتهاد.

وإن اريد به الاكتفاء في الإجزاء بمطابقة العمل للحجة السابقة حين صدوره ولو بعد سقوطها عن الحجية ، فهو أوهن ؛ لوضوح أن البناء عملا على الإجزاء في كل زمان موقوف على قيام الحجة عليه في ذلك الزمان ، ولا يكفي قيامها عليه سابقا بعد فرض سقوطها عن الحجية بعد ذلك ، نظير القطع.

ثالثها : أن الأخذ بالأمارة الثانية في الوقائع السابقة دون الأولى ترجيح من غير مرجح بعد كونهما معا ظنيتين ، فعن كاشف الغطاء بعد كلام له في المقام : «على أنه لا رجحان للظن على الظن السابق حين ثبوته».

ويظهر ضعفه مما تقدم ، فإنه بعد فرض سقوط الأمارة الاولى عن الحجية ـ بمقتضى أدلة الأمارتين ـ يتعين التعويل على الثانية دون الآلي ، وإنما تكون الآلي كالثانية بالثانية ما دامت حجة ، كما هو الحال قبل قيام الثانية ، لا مطلقا ولو بعد سقوطها عن الحجية بها.

رابعها : أنه مقتضى الاستصحاب.

٢١٥

وفيه : أنه إن اريد به استصحاب الحكم الظاهري التابع للأمارة الاولى فهو معلوم الارتفاع بعد سقوطها عن الحجية ، لما تقدم.

وإن أريد به استصحاب الحكم الواقعي المحكي بالأمارة الاولى ، فهو ـ مع اختصاصه بما إذا كان التعبد بلسان الأمارة او الأصل التعبدي ، على كلام في الثاني ـ غير متيقن الحدوث بعد سقوط الأمارة الاولى عن الحجية ، بل هو بمنزلة متيقن العدم بعد حجية الثانية.

على أن الشك ليس في استمراره بعد حدوثه الذي هو مفاد الاستصحاب ، بل في أصل ثبوته وهو موضوع الأثر ، وإن كان استمراره على تقدير ثبوته معلوما.

خامسها : أنه لو بني على عدم الإجزاء يلزم الحرج ويرتفع الوثوق بالاجتهاد ، لكثر التعرض للاختلاف فيه ، وهو خلاف الحكمة الداعية إليه.

وفيه : ـ مع أن لزوم الحرج غير مطرد ، وقاعدة نفيه لا تنهض بتشريع حجية التعبد السابق ونحوه من الأحكام التي يتدارك بها الحرج ، وأنه لا طريق لإحراز أن الحكمة من الاجتهاد هو الوثوق بالنحو المذكور ، كما يأتي في الأمر الثالث توضيحه ـ أن ذلك إن رجع إلى كون الجهتين المذكورتين كاشفتين عن بقاء الاجتهاد الأول على الحجية في الوقائع السابقة ، واختصاص سقوطه وحجية الاجتهاد الثاني بالوقائع اللاحقة.

فهو مخالف للمرتكزات جدا بعد النظر في أدلة حجية الأدلة التي يبتني عليها الاجتهاد ، كما ذكرناه آنفا ، ويبتني على عناية خاصة لا مجال للبناء عليها لأجل الجهتين المذكورتين.

نعم ، قد يدعى كشف الجهتين المذكورتين عن كون موافقة العمل للاجتهاد الأول موجبة للإجزاء ثبوتا ولو مع مخالفة الأمر الواقعي ، بحيث يبني على الإجزاء بالمخالفة ، فضلا عما لو كانت مقتضى الاجتهاد الثاني غير قطعي ،

٢١٦

وهو أمر آخر خارج عن مقتضى الأصل المتقدم ، يأتي الكلام فيه في الأمر الثالث كما يأتي الكلام في حال الجهتين المذكورتين ، ومحل الكلام هنا في ما يقتضيه الأصل والقاعدة الظاهرية بعد الفراغ عما سبق من أن مقتضى الأصل عدم الإجزاء مع مخالفه الحكم الواقعي. ولذا صرح بعضهم بعدم الإجزاء مع العلم الوجداني بالمخالفة ، وتقدم أنه المتيقن من محل الكلام.

هذا كله مع أن ما عدا الوجه الأول ـ لو تمّ ـ لا يختص بتبدل الاجتهاد ، بل يجري في غيره من مورد تبدل مقتضى التعبد في الشبهة الموضوعية والحكمية.

بل لا يبعد ذلك في الوجه الأول أيضا ، لعدم الفرق غالبا بين ألسنة أدلة حجية الأدلة التي يبتني عليها الاجتهاد وألسنة غيرها مما يبتني عليه التعبد في الموارد الاخرى. بل قد يرجع التعبد الذي يبتنى عليه الاجتهاد في الشبهة الحكمية والتعبد في الشبهة الموضوعية إلى دليل واحد ، كما هو الحال في الاصول.

لكن من البعيد جدا بناؤهم على مقتضى الوجوه المتقدمة في غير تبدل الاجتهاد ، بل الظاهر مفروغيتهم فيه عن رفع اليد عن الإجزاء الذي هو مقتضى التعبد السابق بالتعبد اللاحق المخالف له وإن كانت بعض كلماتهم قد لا تناسبه ..

ثم إنهم ذكروا عدم الفرق في البناء على الإجزاء اعتمادا على الاجتهاد السابق بين المجتهد نفسه والمقلد ، لعموم الوجوه المتقدمة.

والظاهر أن ما سبق منا في وجه المنع عن ذلك كما يجري في حق المجتهد نفسه يجري في حق المقلد ، سواء عدل مقلده عن فتواه السابقة أم اجتهد هو على خلاف مقتضى تقليده السابق ، حيث لا إشكال في عموم حجية الاجتهاد الثاني منه أو من مقلده للوقائع ، تبعا لعموم حجية الأدلة التي يبتني عليها الاجتهاد ، كما تقدم.

وأما لو عدل عن تقليد المجتهد إلى تقليد غيره ممن يخالفه في الاجتهاد

٢١٧

ويرى بطلان العمل السابق ، فعموم حجية اجتهاد الثاني للوقائع السابقة موقوف على عموم دليل العدول لها ، وهو يختلف باختلاف موارد العدول ، ولا يسع الوقت استقصاء ذلك ، بل يوكل لمباحث الاجتهاد والتقليد الآتية في محلها.

كما أنا قد استوفينا الكلام في هذا المقام في الفقه في المسألة السادسة عشرة من مباحث الاجتهاد والتقليد من شرح منهاج الصالحين. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.

الثالث : لا يخفى أن عدم الإجزاء بموافقة الأمر الظاهري مع مخالفته للواقعي وإن كان مقتضى الأصل ـ كما تقدم ـ إلا أنه لا إشكال في إمكان حكم الشارع بالإجزاء بنحو يرجع إلى أن موضوع الحكم الواقعي أعم من الوجود الواقعي والظاهري ، بل هو يخرج في الحقيقة عن موضوع الأصل المتقدم ، لرجوعه إلى موافقة الحكم الواقعي ، الذي لا بد معه من الإجزاء كما تقدم.

كما يمكن حكمه بالإجزاء مع تبعية الحكم الواقعي للواقع وفرض تحقق المخالفة له بمتابعة الحكم الظاهري ، على خلاف مقتضى الأصل المتقدم ، من باب الاكتفاء عن المأمور به بغيره ، إما لوفائه بغرضه في ظرف الإتيان به خطأ ، أو لسقوط غرضه معه عن الفعلية ، لمصلحة الامتنان والتسهيل أو لتعذر استيفاء غرضه معه ، أو لغير ذلك.

وقد ثبت ذلك في جملة من موارد الخطأ في الحكم الشرعي أو الموضوع الخارجي ، كموارد : «لا تعاد الصلاة ...» وغيرها مما لا ضابط له ، ولا مجال لاستقصائه ، فلا مجال للكلام فيه هنا ، بل يوكل لمباحثه المناسبة في الفقه.

نعم ، ينبغي الكلام هنا في ما وقع الكلام فيه بينهم من الإجزاء وعدمه مع استناد العمل لاجتهاد أو تقليد سابق يلزم رفع اليد عن مؤداه ، لأنه أمر عام منضبط في الجملة ، ومورد للابتلاء الكثير.

وهو وإن كان من شئون الاجتهاد والتقليد ، ولذا حرره غير واحد في

٢١٨

مباحثهما ، إلا أنه لابتناء بعض الكلام فيه على مباني مسألة الإجزاء ومناسبته لها يحسن التعرض له هنا.

فنقول : لا يخفى أن المراد بالإجزاء ..

تارة : هو الإجزاء الظاهري ، لاحتمال إصابة مقتضى الاجتهاد أو التقليد السابق الواقع.

واخرى : هو الإجزاء الواقعي حتى مع فرض المخالفة للواقع ، لاجتزاء الشارع بالعمل المذكور عن الواقع لإحدى الجهات المتقدمة.

ولازم الأول عدم الإجزاء مع العلم الوجداني بالمخالفة ، بخلاف الثاني. وقد يظهر من جملة كلماتهم إرادة الأول ، ويظهر حاله مما تقدم في التنبيه السابق.

والذي يناسب البحث المعقود له هذا التنبيه هو الثاني. وقد يستدل عليه بوجوه ..

الأول : أنه لو لاه يلزم العسر والحرج ، لعدم وقوف المجتهد غالبا على رأي واحد بالإضافة لعمل نفسه ، وتعرض المقلد لاختلاف الفتاوى عليه لأجل ذلك ، ولأجل العدول في التقليد أو حدوث الاجتهاد له بعد العمل على التقليد مدة طويلة ، ومقتضى قاعدة نفي العسر والحرج البناء على الإجزاء وسقوط التكليف الواقعي حينئذ.

وفيه : أن لزوم الحرج من عدم الإجزاء في غير موارد (لا تعاد) ونحوها مما دل الدليل على الإجزاء فيه بالخصوص لا يطرد في جميع الموارد ، بل يختلف باختلاف التكاليف ومدة العمل على الاجتهاد الخاطئ ، وغاية ما يدعى لزوم الحرج نوعا ، وهو لا ينفع في جريان القاعدة ، لأن موضوعها الحرج الشخصي.

مع أن ذلك منتقض بما إذا تفرعت المخالفة على تعبد شرعي غير الاجتهاد والتقليد في الشبهات الموضوعية كاستصحاب عدم البلوغ وأصالة

٢١٩

الطهارة والتذكية وغيرها. وكذا لو لم يتفرع على تعبد شرعي ، بل على خطأ أو نسيان ، وكذا لو تعمد ترك الواجب مدة طويلة ، مع أنه ليس البناء على سقوط التكليف في ذلك ، بل غايته رفع وجوب المبادرة لو كانت واجبة بالأصل ونحوها.

الثاني : أن حكمة تشريع الاجتهاد والتقليد هو الوثوق بهما في العمل على طبقهما والركون إليهما فيه ، ومع عدم الإجزاء لا تترتب الحكمة المذكورة ، بسبب كثرة التعرض للاختلاف ، كما اشير إليه في الوجه الأول ، لأن صعوبة القضاء تمنع من الركون بالوجه المذكور وتحمل على الاحتياط مهما أمكن.

وفيه : ـ مع عدم اختصاص الحكمة المذكورة بالاجتهاد ، بل هي لو تمت تجري في غيرهما من موارد التعبد الظاهري التي لم يظهر منهم البناء فيها على الإجزاء ـ أنه لا دليل على كون الحكمة هو الوثوق بالنحو المذكور ، بل لعلها رفع التحير حال الجهل لا غير. فالوجه المذكور كسابقه استحساني لا ينهض بالاستدلال. نعم ، قد ينهضان بالتأييد على ما يأتي في تقريب الاستدلال بالسيرة.

الثالث : الإجماع المدعى في كلام بعض ، ففي التقريرات عن بعض الأفاضل في تعليقاته على المعالم : أنه ظاهر المذهب ، وعن آخر : أنه مقتضى الإجماع ، بل الضرورة.

نعم ، ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن المتيقن منه العبادات ، بل ذكر بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه أن المتيقن منه الصلاة ، وأن عهدة دعوى الإجزاء مطلقا على مدعيها.

وفيه : أنه لا مجال للاستدلال بالإجماع في مثل هذه المسألة المستحدثة التحرير ، ولا سيما مع إنكار مثل شيخنا الأعظم قدّس سرّه له ، حتى نسب في التقريرات دعوى الإجماع والضرورة إلى بعض من لا تحقيق له. مضافا إلى إطلاق جماعة عدم الإجزاء في الأمارات والطرق الظاهرية بعد انكشاف خطئها بنحو يشمل

٢٢٠