المحكم في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٢

أما في الصورة الاولى ـ وهي التردد بين الأقل والأكثر ـ فالظاهر ـ تبعا لما صرح به جماعة ـ هو حجية العام في مورد الإجمال والاشتباه.

لما تقدم من أن سقوط العام عن الحجية في مورد الخاص المنفصل ليس لارتفاع ظهوره فيه ، ولا لكشفه عن عدم استعماله في العموم ، بل لمزاحمة ظهوره فيه بما هو أقوى منه ، وما يكون عرفا من سنخ الرافع لمقتضي حجيته.

وذلك لا يتم بالإضافة إلى مورد إجمال الخاص ، لأن الخاص لا يكون حجة إلا فيما هو ظاهر فيه ، وهو الأقل المتيقن ، دون مورد الإجمال والاشتباه ، فلا يصلح لمزاحمة العام ، الذي تقدم أنه المقتضي للحجية ، بل يتعين العمل فيه بالعام ، لعدم جواز رفع اليد عن المقتضي في المقام ، إلا مع ثبوت المانع. فمورد الإجمال في المقام كسائر موارد الشك في التخصيص الزائد ، الذي تقدم حجية العام المخصص فيها. ومجرد احتمال شمول التخصيص المعلوم له لا يصلح فارقا بينه وبينها بعد فرض عدم حجية الخاص فيها.

ودعوى : أن الخاص وإن كان مجملا يكشف عن عدم إرادة أفراده من العام ـ وإن كان العام ظاهرا في إرادتها ـ فمع فرض إجماله لا يعلم بإرادة مورد الإجمال من العام ، فلا وجه لحجيته فيه.

مدفوعة : بأن كشف الخاص عن عدم إرادة أفراده من العام بنحو يلزم برفع اليد عن ظهور العام فيها لما كان بملاك تقديم أقوى الحجتين كان متفرعا على حجيته في أفراده ، فمع فرض عدم حجيته في مورد الإجمال لا يصلح للكشف عن عدم إرادته من العام ، ليرفع به اليد عن مقتضى الحجية فيها.

نعم ، لو كان الجمع بين العام والخاص مبتنيا على كون الخاص قرينة على استعمال العام في ما عداه ، خروجا به عن معناه الموضوع له فقد تتجه الدعوى المذكورة ، حيث يلزم إجمال المعنى المستعمل فيه العام وعدم وضوح شمولاه لمورد الاشتباه بعد فرض عدم استعماله في ما هو ظاهر فيه في نفسه ، فلا أثر

٨١

لشمولاه للمورد المذكور ، نظير : ما لو وجب إكرام العالم ، ثم قامت القرينة الخارجية على عدم استعمال العالم في معناه الحقيقي ، بل اريد منه مجازا معنى مرددا بين خصوص العامل به في نفسه النافع به لغيره ، ومطلق العامل به وإن لم ينفع به غيره.

لكن سبق عدم ابتناء الجمع بينهما على ذلك ، بل على تقديم الخاص بملاك تقديم أقوى الحجتين ، فيقصر عن مورد الإجمال ، كما تقدم ، وينفرد به العام.

بل قد يدعى أن العام يكون بيانا للخاص وشارحا له ، لأن العام حيث يكون حجة في مورد الإجمال وصالحا للكشف عن كونه مرادا جديا منه فاللازم عدم إرادته من الخاص وقصوره عنه.

لكن الظاهر عدم تمامية ذلك ، لعدم نظر العام للخاص ، ليكون بيانا شارحا للمراد منه ورافعا لإجماله.

وأصالة العموم وإن اقتضت حجية العام في الفرد المشكوك ، إلا أنها لا تنهض بشرح المراد من الخاص وتعيين مفهومه ، وإن كان لازما له ، لعدم وضوح بناء العقلاء على ذلك الذين هم المرجع في تحديد مقتضى أصالة العموم ، وقد تقرر في محله أن حجية الأمارة في لازم مؤداها سعة وضيقا تابع لبناء العقلاء الذي هو المعيار في حجيتها.

وإن شئت قلت : المتيقن من بناء العقلاء على أصالة العموم هو الرجوع إليها في إجراء حكم العام في مورد الشك في التخصيص ، دون ترتيب جميع لوازم ذلك بما فيها شرح مفاد الأدلة الأخر ورفع إجمالها ، وبيان مفاهيم العناوين المأخوذة فيها.

كيف ولازم ذلك ارتفاع الإجمال في عنوان الخاص بلحاظ جميع أحكامه ، حتى غير حكم الخاص! ولا يظن من أحد البناء عليه.

٨٢

ولعله يأتي نظير ذلك في بعض المباحث المتعلقة بالمقام.

وأما في الصورة الثانية ـ وهي الدوران بين المتباينين ـ فالظاهر سقوط العام عن الحجية في كل طرفي الترديد بخصوصه ، للعلم الإجمالي بإرادته من الخاص ، فيكون الخاص حجة فيه إجمالا ، بنحو يمنع من جريان أصالة العموم في كل منهما بخصوصه ، للعلم الإجمالي بكذبها معه ، مع عدم المرجح لأحدهما بعد كون نسبتهما لكل من العام والخاص بنحو واحد.

ولا مجال لقياسه بالعلم الإجمالي بكذب الأصل العملي في أحد الموردين إجمالا ، حيث تقرر في محله جريان كل منهما وترتب الأثر عليه ما لم يلزم مخالفة عملية لعلم إجمالي منجز.

للفرق بينهما بأن لأدلة الاصول العملية إطلاقا يشمل أطراف العلم الإجمالي من دون محذور في التعبد الظاهري على خلاف العلم الإجمالي إذا لم يكن منجزا ، لعدم التنافي بين الحكم الظاهري والواقعي.

بل لا يلزم التكاذب بين التطبيقين حقيقة بلحاظ ذلك.

أما أصالة العموم فليس الدليل عليها إلا بناء العقلاء ، وهو يقصر عن صورة العلم الإجمالي بالكذب بعد كون مفاد العام حكما واقعيا ، وثبوته في أحد طرفي الترديد بمقتضى عموم العام مستلزم لانتفائه في الآخر ، فيلزم التكاذب بين تطبيقي العام في كلا طرفي الترديد بلحاظ المدلول الالتزامي المذكور.

ولا أقل من الشك في بناء العقلاء على الرجوع لأصالة العموم حينئذ ، حيث يلزم التوقف عنها بعد انحصار الدليل عليها به.

نعم ، الظاهر أنها إنما تقصر عن كل منهما بخصوصيته ، لا عن أحدهما إجمالا ، لأن الخاص إنما يكون حجة في أحدهما إجمالا ، لا في كليهما ، والتوقف في كل منهما بخصوصه إنما هو لعدم المرجح ، لا بنحو يمنع من حجية العام في أحدهما إجمالا ، لأصالة العموم.

٨٣

فيلزم البناء على ثبوت حكم العام كذلك وترتيب أثره من وجوب الاحتياط ـ لو كان تكليفا ـ وغيره.

وعلى ذلك يلزم الرجوع إلى قواعد العلم الإجمالي في طرفي الترديد ، فإن كان حكم الخاص إلزاميا دون العام ، أو بالعكس ، أو كلاهما إلزاميا من دون تناف عملي بينهما ـ كما لو تضمّن أحدهما وجوب الإكرام بديا نار والآخر وجوب الإكرام بثوب ـ لزم الاحتياط في الفردين على طبق الحكم الإلزامي المفروض ، وان كان كلاهما إلزاميا مع التنافي بينهما عملا ـ كما لو تضمن أحدهما وجوب الإكرام والآخر حرمته ـ امتنع الاحتياط ، وكان كلا الطرفين موردا للدوران بين محذورين ، الذي تحقق في محله أن حكمه التخيير.

إلا أن يكون هناك دليل أو أصل آخر مانع من منجزية العلم الإجمالي ، وشارح للوظيفة في كل من الفردين بنحو لا ينافي العلم الإجمالي المذكور. على ما يذكر في محله من مباحث العلم الإجمالي.

ونظير ذلك ما لو علم إجمالا بالتخصيص في أحد فردين من عام واحد أو عمومين ، لا لإجمال المخصص الواحد ـ كما هو محل الكلام ـ بل للعلم الإجمالي بصدور أحد الخاصّين أو حجيته ، لعين الوجه المتقدم.

بل الظاهر جريانه أيضا فيما لو دار الأمر بين التخصيص في أحدهما المردد والتخصيص في كليهما ، فإن التخصيص المعلوم إجمالا واحد ، وهو وإن لم يحرز تعينه واقعا ، لاحتمال ثبوت التخصيصين معا ، ولا مرجح لأحدهما في انطباق التخصيص المعلوم عليه ، إلا أن الظاهر من بناء العقلاء حجية العام في تمام الباقي بعد التخصيص المعلوم إجمالا وإن لم يكن له تعين واقعي.

ولازمه البناء على ثبوت حكم العام في أحد طرفي الترديد ، فيجري فيه ما سبق من مقتضى العلم الإجمالي. فلاحظ.

٨٤

تنبيه :

قد يكون الدليل المجمل مرددا بين معنيين يلزم تخصيص العام من أحدهما دون الآخر ، كما لو ورد : يجب إكرام كل فقيه ، وورد : لا يجب إكرام زيد ، وتردد زيد بين شخصين أحدهما فقيه والآخر نحوي ، أو ورد : لا يجب إكرام أولاد عمرو ، وورد : يجب إكرام زيد ، وتردد زيد بين أحد أولاد عمرو وغيره.

وحينئذ لا إشكال في أن الدليل المجمل المذكور لا ينهض بتخصيص العام ، بل مقتضى أصالة العموم في العام إرادة فرده الذي هو طرف الترديد.

نعم ، إن كان ثبوت الحكم للفرد الآخر منافيا لعموم آخر ، كما لو ورد المثال الأول عموم وجوب إكرام النحوي أيضا ، لزم العلم الإجمالي بتخصيص أحد العمومين الذي تقدم الكلام فيه.

وأما إن كان منافيا لأصل عملي ، كما في المثال الثاني المتقدم ، لأن مقتضى أصالة البراءة عدم وجوب إكرام الشخص المذكور ، فلا يبعد لزوم رفع اليد عن الأصل المذكور ، لأن الدليل المذكور وإن لم ينهض بنفسه لرفع اليد عن الأصل بسبب إجماله ، كما أن العام لا يصلح لشرح المراد منه بنحو يرفع إجماله ، لما سبق من قصور العموم عن ذلك ، إلا أن الخاص لما كان بنفسه حجة على ثبوت حكمه لمورده على إجماله ، والعام حجة على ثبوت حكمه لفرده الذي هو طرف الترديد ، وكان لازم ثبوت حكمه لفرده المذكور ثبوت حكم الدليل المجمل للفرد الآخر ، كان العام حجة بمدلوله الالتزامي على ذلك ، لأن الظاهر من بناء العقلاء حجية العام في مثل هذا من لوازم مؤداه ، فيكون حاكما على الأصل الجاري في الفرد المذكور.

ومن هنا لا مجال للبناء على التوقف عن عموم العام في فرده المذكور وعن الأصل العملي في الفرد الآخر ، لدعوى : مخالفة مؤداهما للعلم الإجمالي بثبوت التكليف في أحد الفردين من دون مرجح لأحدهما. فتأمل جيدا.

٨٥

المقام الثاني

في الشبهة الموضوعية

وقد اختلف كلماتهم في حجية العام في مورد الاشتباه بين القول بحجيته مطلقا ، وبعدمها كذلك ، وبالتفصيل بوجوه مختلفة يأتي الكلام فيها.

ومحل كلامهم ـ حسبما يظهر من حججهم ـ هو صورة الشبهة البدوية.

أما مع العلم الإجمالي بفردية أحد فردين للخاص فالظاهر عدم الإشكال بينهم في جريان حكم العلم الإجمالي بالتخصيص الذي تقدم الكلام فيه في المقام الأول ، لعدم الفرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية فيه ، وإنما لم يتعرضوا لذلك لوضوحه ، وليس الإشكال إلا من حيثية الشك بنفسه مع قطع النظر عن الخصوصيات الزائدة عليه ، لاختلاف الشبهة الحكمية والموضوعية فيه.

نعم لو دار الأمر بين فردية فرد واحد للخاص وفردية فردين فالشك في فردية الثاني من صغريات الشبهة البدوية التي هي محل الكلام ، ولا مجال للجزم فيها بحجية العام ، كما تقدم في المقام الأول ، لابتنائه هناك على المفروغية عن حجية العام مع الشك في التخصيص بنحو الشبهة الحكمية.

إذا عرفت هذا ، فالظاهر عدم حجية العام في الشبهة المذكورة مطلقا ، وأن ما قيل بحجيته فيها من الموارد إما غير تام أو خارج عنها حقيقة.

والوجه في ذلك : أن التمسك بالعام ـ بل بكل دليل ـ في مورد إنما هو بعد الفراغ عن تعيين المراد الجدي به ، بحيث ينقح به موضوع الحكم المستلزم له ثبوتا ، ثم إحراز تحقق ذلك الموضوع في ذلك المورد بالوجدان أو بدليل آخر.

فالتمسك بالعام يبتني على قياس اقتراني مؤلف من كبرى حملية تتضمن موضوع الحكم الملازم له ثبوتا يستفاد من الدليل كون مضمونها مرادا بالإرادة

٨٦

الجدية ، وصغرى حملية تتضمن ثبوت الموضوع المذكور في الموارد الذي يراد الرجوع للدليل فيه.

فإذا ورد : أكرم كل عالم ، فلا بد في التمسك به لوجوب إكرام زيد أن يحرز ..

أولا : المراد الجدي منه ، لينقح به موضوع الحكم الواقعي.

وثانيا : تحقق الموضوع المستفاد من ذلك في زيد. ولا يكفي إحراز أن زيدا عالم في وجوب إكرامه إذا لم يحرز تعلق الإرادة الجدية بالعموم ، فضلا عما إذا احرز عدم تعلقها به. ولذا لو كان العموم مخصصا واحرز دخول زيد في الخاص لم ينهض العموم بإثبات وجوب إكرامه بلا إشكال.

وحينئذ حيث كان مقتضى العام والخاص عدم تعلق الإرادة الجدية بالعموم ، بل بما عدا مورد الخاص منه ، لا وجه للاكتفاء بإحراز عنوان العام في مورد الشك في تحقق عنوان الخاص ، لعدم إحراز موضوع الحكم الواقعي المستلزم له ثبوتا بذلك.

ولا أثر لإحراز عنوان العام بعد ثبوت عدم كونه تمام الموضوع ، إذ لا يكفي في ترتب الحكم إحراز جزء الموضوع قطعا.

وبعبارة اخرى : التوقف عن حكم العام في الفرد ليس لحجية الخاص فيه ، بل لحجيته بعد فرض عدم الإجمال فيه في شرح المراد من العام وتحديد موضوع حكمه وتخصيصه بما عدا أفراد الخاص الواقعية ، فمع فرض عدم ظهور حال الفرد من هذه الجهة يتعين التوقف فيه عن حكم كل من العام والخاص بعد عدم إحراز موضوعه الواقعي المتحصل بعد الجمع بين الأدلة.

نعم ، لو كان الخارج عن العام واقعا خصوص ما علم كونه من أفراد الخاص اتجه حجية العام في مورد الشك وخرج عن محل الكلام ، لرجوعه إلى اليقين بعدم فردية مورد الشك من الخاص.

٨٧

لكن ذلك إن ابتنى على ظهور الخاص في نفسه في الاختصاص ، فهو مخالف لإطلاق دليله.

وان ابتنى على تنزيل الخاص على ذلك في مقام الجمع بينه وبين العام ، فلا وجه له بعد فرض إطلاق الخاص وكون الفرد المذكور كسائر أفراد الخاص موردا للتنافي بينه وبين العام المفروض تقديمه عليه.

كما أنه لو احرز خروج الفرد عن الخاص بدليل آخر أو بأصل فالمتجه البناء على ثبوت حكم العام على ما يأتي الكلام فيه في ذيل الكلام في المسألة. لكنه خارج عن محل الكلام.

وربما يوجه المدعى بوجه آخر يرجع لما تقدم ، حاصله : أن العام كسائر الأدلة إنما يكون حجة على مضمونه المراد منه جدا ، المستكشف به باستقلاله أو بضميمة القرائن الخارجية ، ومنها الخاص ، وهو في المقام الحكم التابع للموضوع بما له من حدود مفهومية ، ولا يكون بنفسه حجة على ثبوت الحكم للفرد ، لعدم تعرضه له بوجه ، وانما يبني على ثبوت حكمه في الفرد لأن ذلك مقتضى طبيعة نفس الحكم المستفاد منه والمضمون المؤدى به ، الذي هو حجة فيه ، فإن ثبوت الحكم للموضوع بضميمة تحقق الموضوع في الفرد يقتضي ثبوت الحكم للفرد.

وحينئذ بعد فرض كون مقتضى الجمع بين العام والخاص قصور موضوع حكم العام عن بعض أفراد عنوانه ـ وهو الداخل في الخاص واقعا ـ واختصاصه بما عداه ، فملازمة الحكم للموضوع إنما تنفع في إثبات الحكم للفرد بعد إحراز الموضوع الحقيقي فيه ، وهو المتحصل بعد التخصيص ، ولا يكفي فيه إحراز عنوان العام الذي ثبت عدم كونه تمام الموضوع.

ولا مجال لقياسه بصورة إجمال مفهوم الخاص ، لأن كلا من العام والخاص لما كان متعرضا للحكم ، وكانا متنافيين في تحديد موضوعه ، فمع

٨٨

فرض عدم حجية الخاص في مورد الإجمال يتعين حجية العام في إحراز عموم موضوع الحكم له ، لظهوره فيه من دون معارض ، فمع إحراز تحققه في الفرد يتعين ثبوت الحكم له.

هذا ، ويظهر من التقريرات الاستدلال لعدم حجية العام في المقام بأن العام لا يصلح لرفع الشك في المصداق المشتبه ، ولا يكون بيانا على خروجه عن أفراد الخاص ، لعدم سوق الكلام له ، وعدم كون بيانه وظيفة للمتكلم.

ولا يخفى أن الاستدلال بذلك إنما يتجه بعد الفراغ عن توقف الرجوع للعام في الفرد المشتبه على رفع الشك المذكور فيه.

وبعد تسليم ذلك لا يظن من أحد التوقف في عدم حجية العام ليحتاج للاستدلال المذكور ، وإن كان قد يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه نهوض العام برفع الاشتباه ، كما يأتي.

والظاهر أن عمدة أدلة القائلين بحجية العام ترجع إلى حجيته مع بقاء الاشتباه في الفرد ، نظير حجيته مع إجمال المخصص مفهوما ، حيث تقدم أن العام حجة وإن لم ينهض بشرح حال الخاص ، وأنه شامل لمورد الشك أولا.

ومن ثمّ كان الأنسب في الاحتجاج على المدعى ما ذكرنا. فلاحظ.

لكن يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه العكس ، فقد ذكر أن العمدة في المنع عن التمسك بالعام ما سبق من التقريرات ، وأنه لولاه تعين حجية العام في مورد الاشتباه ، لأن دليل التخصيص لا يوجب رفع اليد عن ظهور العام في كون عنوانه تمام الموضوع للحكم ، بل يبقى عنوان العام على ما هو عليه من الموضوعية والتخصيص لا يكشف إلا عن خروج مورده عن حكم العام ، دون أن يقتضي إضافة جزء آخر متمم للموضوع ، وذكر أن هذا هو الفرق بين التخصيص والتقييد ، فإن تقييد الإطلاق يوجب رفع اليد عن ظهور المطلق في كون عنوانه تمام الموضوع ، ويكشف عن كون عنوان القيد متمما لموضوع

٨٩

حكم المطلق ، بخلاف التخصيص ، فإنه لا يقتضي إلا رفع اليد عن عموم الحكم مع بقاء عنوان العام تمام الموضوع لحكمه.

وحينئذ لا مانع من التمسك بالعام في الفرد المشتبه بعد فرض إحراز عنوان العام فيه الذي هو تمام الموضوع لحكمه ، وعدم إحراز خروجه بالتخصيص ، لعدم إحراز عنوانه. وإنما يتجه ذلك في المطلق إذا ثبت تقييده وشك في دخول أفراده تحت المقيد ، لما تقدم من عدم كون المطلق حينئذ تمام الموضوع.

وكأن مبنى الفرق الذي ذكره بين التخصيص والتقييد على ما قد يدعى من أن أداة العموم تكشف عن كون مدخولها الماهية المطلقة ، وحيث كان التخصيص منافيا لسريان الحكم في أفرادها تعين حمل الخاص على الإخراج من دون أن يكشف عن إرادة الماهية المقيدة من الدخول ، لمنافاته للأداة. أما في المطلق فاستفادة إرادة الماهية المطلقة لما كان بسبب مقدمات الحكمة ، وكان ورود المقيد مانعا من التعويل على المقدمات المذكورة ، تعين كشف المقيد عن إرادة الماهية المقيدة من المطلق المستلزم لدخل القيد في موضوع الحكم.

هذا ، ولا يهم الكلام في تمامية الفرق المذكور ، وإنما المهم تحقيق حال ما ذكره في التخصيص ، فانه لا يخلو عن غموض.

إذ المراد بالموضوع في كلامهم ما يكون بمنزلة العلة التامة للحكم ، بحيث يستلزمه ولا يحتاج ثبوت الحكم معه إلى امر آخر. وحينئذ يكون الجمع بين كون عنوان العام تمام الموضوع للحكم وعدم ثبوت الحكم لأفراد الخاص كالجمع بين النقيضين.

إلا أن يريد بكون العام تمام الموضوع أنه تمام الموضوع العنواني بمعنى أن دليل التخصيص لا يقتضي إضافة عنوان لموضوع الحكم غير عنوان العام يكون قيدا فيه ، بل مجرد خروج مورده المستلزم لعدم ثبوت الحكم لتمام أفراد

٩٠

الموضوع العنواني ، وعدم كونه تمام الموضوع بالمعنى الأول المتقدم منهم.

وهو حينئذ أمر معقول في نفسه يأتي الكلام فيه في ذيل المسألة ، إلا أنه لا ينفع في حجية العام في ما نحن فيه ، لأن إحراز الموضوع العنواني في الفرد إنما يقتضي ثبوت الحكم له إذا احرز كونه موضوعا بالمعنى الأول المتقدم ، بحيث يثبت الحكم لجميع أفراده ـ ليترتب معه شكل قياسي بالنحو المتقدم ـ لا في مثل المقام مما فرض فيه خروج بعض الأفراد منه ، واحتمل كون الفرد من القسم الخارج.

ثم إنه قدّس سرّه قد أشار في مقالاته إلى دفع الإشكال الذي ذكرناه بقوله : «كما أن مجرد كون المخصص موجبا لتضييق دائرة حجية العام بغير ما انطبق عليه مفهومه ـ ومع الشك في مصداق المخصص يشك في انطباق الحجة من العام عليه أيضا ـ لا يوجب رفع اليد عن العام بالمرة ، إذ العام إنما خرج عن الحجية من جهة الشبهة الحكمية. وأما بالنسبة إلى الشبهة الموضوعية فلا قصور للعام بعد صدقه على هذا الفرد أن يشمله ، وبالملازمة يستكشف بأن المشكوك خارج عن مصداق الخاص ...».

وهو كما ترى! لوضوح أن الملازمة لو كانت كافية في مثل ذلك ـ وغض النظر عما تقدم في نظير المقام ـ فمن الظاهر أن الخروج عن مصاديق الخاص ليس ملازما لعنوان العام المفروض إحرازه في الفرد المشتبه ، بل لحكمه المفروض الشك فيه ، وقد سبق أن العام إنما يكون حجة على إثبات حكمه في الفرد بعد حجيته على تحديد الموضوع الواقعي للحكم ، وإحراز ذلك الموضوع في الفرد ، وحيث كان العام قاصرا عن أفراد الخاص الواقعية ـ بمقتضى فرض التخصيص واعترف به في الإشكال ـ لم يكن حجة في إثبات حكمه للفرد المشتبه ، ليتعدى منه للازمه ، وهو خروجه عن مصاديق الخاص.

وبعبارة اخرى : حجية العام في الشبهة الموضوعية فرع حجيته في الشبهة

٩١

الحكمية ، لما تقدم من أن التمسك به في الفرد إنما هو بعد إحراز كونه من مصاديق موضوع الحكم الذي يكون العام حجة فيه ، وحيث فرض قصور موضوع الحكم المتحصل بعد التخصيص وعدم إحرازه في الفرد لا وجه لحجيته العام فيه على إثبات حكمه ، ليتعدى من ذلك إلى إحراز خروجه عن الخاص بضميمة الملازمة المذكورة.

على أنه إذا كانت حجية العام في حكم الفرد المشتبه موقوفة على إحراز خروجه عن الخاص لزم إحرازه في مرتبة سابقة على حجيته فيه ، وإحرازه في مرتبة لاحقة بضميمة الملازمة دوري ، وإن لم تكن موقوفة عليه فلا أهمية لإثبات نهوض العام بإحرازه بضميمتها ، لأن المهم إنما هو إثبات الحكم في الفرد المشتبه.

وبالجملة : الظاهر عدم الإشكال في عدم نهوض العام بإثبات خروج الفرد عن عنوان الخاص ، لعدم تعرض العام إلا لثبوت حكمه في فرض ثبوت موضوعه ، من دون نظر لتنقيح موضوعه ، فضلا عن تنقيح عنوان الخاص ونفيه. وعليه يبتني ما سبق من التقريرات ، وسبق أنه قدّس سرّه قد عول عليه. ومن ثم كان كلامه في غاية الاضطراب والإشكال.

بقي الكلام في وجه القول بحجية العام في مورد اشتباه الخاص في المقام ، فاعلم أنه قد يستدل عليه بوجهين :

الأول : أن الخاص إنما يزاحم العام في ما هو حجة فيه ، وحيث لا يكون حجة في مورد الاشتباه لا وجه لرفع اليد عن العام فيه ، إذ لا ترفع اليد عن الحجة إلا بالحجة.

ويظهر اندفاعه مما سبق ، إذ الخاص بعد أن لم يكن مجملا كان حجة في تمام أفراده حتى ما كان منها موردا للاشتباه ، وصالحا لمزاحمة العام فيها ، بنحو يكشف حكمه عنها بتمامها ، وحيث كان العمل بالدليل في الفرد متفرعا على

٩٢

إحراز تحقق موضوع حكمه فيه ، لا يكفي في العمل بالعام في مورد الاشتباه إحراز عنوانه بعد أن كان مقتضى الجمع عدم كونه تمام الموضوع للحكم ، بل لا بد من إحراز تمام الموضوع المتحصل منه بعد الجمع ، وبعد فرض عدم إحرازه فيه لا مجال للبناء على ثبوت حكمه فيه ، وإن لم يكن الخاص حجة فيه أيضا.

الثاني : أن عنوان العام مقتض لثبوت حكمه ، وعنوان الخاص من سنخ المانع منه ، فمع إحراز المقتضي في الفرد المشتبه والشك في المانع يتعين البناء على عدم المانع والعمل على طبق المقتضي ، ومرجع ذلك إلى عدم تعويل العقلاء على احتمال المانع وهو الخاص بعد إحراز المقتضي وهو العام في المقام ، بل يبنون معه على ثبوت المعلول ، وهو حكم العام.

ويندفع بما ذكره غير واحد من منع الكبرى والصغرى. حيث لم يتضح من بناء العقلاء عموم الرجوع لقاعدة المقتضي ، سواء اريد بها مجرد عدم الاعتناء باحتمال المانع في مقام العمل ، أم التعبد ظاهرا بعدمه عند احتماله ، وإنما ثبت في خصوص بعض الموارد وليس منها المقام.

كما أنه لا يطرد كون عنوان العام من سنخ المقتضي للحكم وعنوان الخاص من سنخ المانع منه ، بل قد يكون عنوان العام جزء المقتضي أو من سنخ ارتفاع المانع ، والتخصيص متضمنا بيان المقتضي أو متممه أو شرطه.

وهو لا ينافي ما سبق منا في وجه حجية العام في الباقي من أن العام من سنخ المقتضي للحجية والخاص من سنخ المانع ، فإن كون دليل العام من سنخ المقتضي للحجية لا يستلزم كون عنوانه من سنخ المقتضي للحكم ، كما لا يلزم من كون دليل الخاص من سنخ المانع من حجية العام كون عنوانه من سنخ المانع من حكمه ، لعدم السنخية بين مقامي الإثبات والثبوت.

وحيث اتضح وجه الاستدلال للقول بحجية العام في الشبهة المصداقية

٩٣

وبعدمها يقع الكلام في الأقوال المفصلة ، وقد أشرنا آنفا إلى أن ما قيل فيه بحجية العام من موارد الشبهة المصداقية إما غير تام أو خارج عنه حقيقة.

ومن ثم يتعين النظر في الأقوال المفصلة وفي أدلتها.

فاعلم أن النظر في كلماتهم يشهد بعد التأمل بتداخل التفصيلات في كلماتهم ، حيث قد يظهر منهم الاستدلال والتمثيل لكل منها بما يناسب الآخر. ولعل الأولى إرجاعها إلى وجوه أربعة ..

الأول : ما يظهر من التقريرات في عنوان كلامه ـ وإن لم يناسبه تمامه بلحاظ الأمثلة ووجه الاستدلال ـ من أن الخاص إذا كان عنوانيا لم يكن العام حجة في الفرد المشتبه ، وإن لم يكن عنوانيا كان العام حجة فيه.

وتوضيح ذلك أن الخاص ..

تارة : يكون مسوقا لبيان دخل عنوانه في الحكم ، بحيث يكون ثبوته للأفراد من حيثيته. كما هو الظاهر في العنوان الذي له منشأ انتزاع في الخارج كالعالم والجار ونحوهما ، دون مثل (هؤلاء) مما يحكى عن الأفراد رأسا.

واخرى : يكون مسوقا لمحض الحكاية عن الأفراد والإشارة إليها مع كونها بخصوصياتها المتباينة موضوعا للحكم ، سواء كانت الأفراد جزئيات خارجية ، كما لو سبق من المتكلم ذكر مجموعة أشخاص للمخاطب ، ثم قال : لا تكرم من سبق ذكره ، لوضوح أن سبق الذكر لا دخل له في الحكم ، أم عناوين كلية ، كما في قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ)(١) ، لوضوح أن موضوع التحريم هو العناوين الخاصة من الخنزير والميتة وغيرهما بخصوصياتها المتباينة ، لا بعنوان كونها مما يتلى.

أما الأول فمقتضاه ثبوت الحكم لعنوانه المستلزم لقصور حكم العام عن

__________________

(١) سورة المائدة : ١.

٩٤

مورده تبعا لقصور موضوعه عنه ، من دون فرق بين أن يكون العام عنوانيا وأن يكون غير عنواني.

ولازم ذلك امتناع الرجوع للعام في مورد الشك في الخاص ، لعدم إحراز موضوع حكمه ، كما تقدم. من دون فرق في ذلك بين أن يكون العنوان دخيلا في الملاك ثبوتا ، وأن يكون ملازما لعنوان آخر هو الدخيل فيه لا يتيسر تشخيصه من غير طريقه ، لأن الفرق المذكور لا يوجب الفرق في إناطة الحكم بالعنوان في مقام الاحتجاج والإلزام ، إذا إناطة الحاكم حكمه بالعنوان إنما هو لتحديد مورد الملاك ، وهو حاصل في المقام.

نعم ، لو صرح بأن ذكر العنوان إنما هو لملازمته لعنوان أو عناوين أخر لم يبعد ظهور حاله في إناطة الحكم بذلك العنوان أو العناوين الأخر على إجمالها.

لكن حيث كان الشك في العنوان المذكور ملازما للشك الذي هو موضوع الحكم جرى فيه ما سبق من لزوم التوقف عن العام في مورد الشك في عنوان الخاص ، لعدم الفرق بينهما في الجهة المتقدمة.

نعم ، قد يظهر الفرق بينهما عند الرجوع للاصول الموضوعية ، حيث يلزم هناك تنقيح الأصل للعنوان المذكور في دليل التخصيص ، وهنا تنقيحه للعنوان الآخر على إجماله ، وهو خارج عن محل الكلام. فتأمل.

وأما الثاني فهو حجة على ثبوت الحكم للأفراد المتعددة بخصوصياتها المستلزم لتخصيصات متعددة بعدد الأفراد تبعا لتعدد الخصوصيات التي لا يثبت حكم العام معها. ولازم ذلك أن يرجع الشك في انطباق عنوان الخاص على بعض الأفراد إلى الشك في تخصيص العام بذلك الفرد بخصوصيته استقلالا زائدا على التخصيص بالأفراد المعلومة ، من دون فرق بين أن يكون العام بنفسه عنوانيا وكونه غير عنواني ، فيتعين حجية العام فيه بعد فرض عدم حجية الخاص فيه ، لأصالة العموم مع الشك في زيادة التخصيص بلا إشكال.

٩٥

وبعبارة اخرى : وضوح العنوان مفهوما لا أثر له بعد فرض عدم كونه بنفسه موردا للتخصيص ، وإنما المهم وضوح أفراده التي هي مورد التخصيص ، والتي سبق لمحض الحكاية عنها ، ومع فرض الاشتباه في بعضها وعدم المنجز للفرد المشتبه من غير طريق العنوان يتعين الرجوع فيه لأصالة العموم.

فهو في الحقيقة خارج عن محل الكلام من الشك في مصداق الخاص إلى الشك في مقدار التخصيص.

ودعوى : أن ظاهر حال الحاكم أنه أو كل تشخيص موضوع حكمه إلى المكلف ، فمع فرض تقييده بقيد لم يحرزه المكلف في مورد الاشتباه لا مجال لإحرازه الحكم.

مدفوعة : بأنه بعد فرض دوران القيد بين الأقل والأكثر ، وكون نفي الزائد مقتضى أصالة العموم يحرز موضوع الحكم في مورد الاشتباه ، فيحرز الحكم بتبعه.

ومن هنا كان الظاهر تمامية التفصيل المذكور. لكنه ليس تفصيلا في محل الكلام حقيقة وإن أوهمه.

هذا ، وقد احتج عليه في التقريرات بما يناسب التفصيل الثاني الذي يأتي الكلام في وجهه.

الثاني : أنه إذا كان العام ظاهرا في إحراز عنوان المشتبه ـ المفروض إناطة الحكم به زائدا على عنوان العام ـ في تمام أفراده تبعا لتحقق الحكم فيها كان حجة في الفرد المشتبه وتعين البناء على ثبوت حكمه فيه ، وإن لم يكن ظاهرا في ذلك تعين عدم حجيته في الفرد المشتبه والتوقف عن ثبوت حكمه فيه.

وتوضيح ذلك : أنه لما كان ظاهر العام بدوا ثبوت حكمه في تمام أفراده ، كان مقتضاه بدوا ثبوت تمام ما يتوقف عليه الحكم من الملاك وما يستلزمه فيها ، فإذا قال المولى : أكرم كل من يدخل بيتي ، وعلم من الخارج توقف وجوب

٩٦

الإكرام بنظره على العلم والعدالة كان ظاهر العموم المتقدم كون كل من يدخل بيته عالما عادلا ، كما يكون مقتضاه تمامية ملاك وجوب الإكرام في جميعهم ، ومقتضاه عدم التنافي بينه وبين ما دل على اعتبار العلم والعدالة في من يجب إكرامه.

لكن البناء على ذلك مما لا يمكن في أكثر عمومات الأحكام ـ الشرعية وغيرها من الأحكام العامة في القوانين ونحوها ـ مع أدلة اعتبار بعض الامور في موضوعاتها ، لوضوح غلبة عدم التلازم خارجا بين العناوين المأخوذة في العمومات والعناوين المأخوذة في تلك الأدلة ، بنحو لا مجال عرفا معه لحمل العام على تحقق تلك الأمور والعناوين في أفراده ، بل يتعين البناء على التنافي بين الدليلين.

ومن ثمّ يبنى على أن أدلة اعتبار تلك الامور في حكم العام مخصّصة للعام وكاشفة عن أن المراد الجدي بالعام إثبات حكمه في بعض أفراد موضوعه أو أحواله ، وهو مورد تحقق ما دلت تلك الأدلة على اعتباره في الحكم. ومرجعه إلى اختصاص موضوع حكم العام بصورة تحقق ذلك الشيء.

ولذا تقدم منا في الاستدلال للمدعى أن إحراز عنوان العام في الفرد لا يكفي في جريان حكمه فيه ، بل لا بد من إحراز موضوعه الحقيقي المتحصل منه بعد الجمع بينه وبين الخاص.

لكن كثيرا ما يكون ظاهر العام ـ في القضايا الشرعية وغيرها ـ تحقق ذلك الأمر المعتبر في الحكم في تمام أفراد ، وأنه ملازم لعنوان العام كحكمه ، لعدم المانع من ذلك بسبب عدم وضوح الانفكاك بينهما عند العرف. بل لا إشكال في دلالته على ذلك لو كان ذلك الأمر ظاهر الملازمة للحكم عقلا ، كالملاك ، أو عرفا ، كالطهارة اللازمة عرفا وارتكازا للمطهرية ، حيث يكون وضوح لزومها فيها مستلزما لدلالة عموم مطهرية الشيء على عموم طهارته ، فيما لو لم يتضح

٩٧

عدم التلازم بينهما ، على ما فصلنا الكلام فيه في مباحث المياه من الفقه.

وفي مثل ذلك لا مجال لدعوى تقييد موضوع حكم العام بصورة وجود ذلك الشيء ، إذ لا معنى للتقييد به مع الحكم بوجوده تبعا لعموم الحكم الملزوم له ، بل يكون مقتضى عمومه ثبوته في تمام أفراده ، حتى أنه لو فرض عدم ثبوته في فرد كان منافيا للعموم المذكور وكاشفا عن تخصيص موضوع حكم العام بالإضافة إلى ذلك الفرد بخصوصيته.

ومثل ذلك ما لو كان المستفاد من العام ـ بنفسه أو بقرائن خارجية ـ أنه وارد لتحديد مفهوم ذلك الأمر المعتبر في الحكم أو مصداقه أو بيان مورده ، وأن ما تضمنه من جعل الحكم مترتب على ذلك ومتفرع عليه.

فالأول : مثل ما لو دل الدليل على جريان حكم التوارث بالشهادتين ، ودل آخر على اعتبار الاسلام فيه ، حيث يفهم من الأول أن مفاد الشهادتين مطابق لمفهوم الإسلام ، وأن الدليل الأول شارح لموضوع الثاني.

والثاني : ما دل على ترك المرأة الصلاة إذا رأت الدم ثلاثة أيام مع ما دل على اعتبار الحيض في جواز ترك الصلاة ، حيث يفهم من الأول تحديد مصاديق الحيض ، وأنها تتحقق بالدم المذكور.

والثالث : مثل ما لو دل الدليل على الأمر بلعن بني أمية قاطبة مع ما دل على حرمة لعن المؤمن ، حيث يستفاد من الأول أنهم مستحقون للعن ، لأنهم غير مؤمنين.

وفي جميع ذلك لا ينبغي التأمل في عدم التنافي بين الدليلين ، ليكون أحدهما مخصصا للآخر ، بل يكون العام واردا على الآخر ومنقحا لموضوعه.

ولو فرض ثبوت عدم تحقق ذلك الأمر ـ المعتبر في الحكم ـ في بعض أفراد العام المستلزم لعدم ترتب حكمه ـ كما لو ثبت كفر منكر الضروري ، وإن شهد الشهادتين ، وعدم حيضية الدم المستمر ثلاثة أيام إذا لم يفصل بينه وبين

٩٨

الحيض السابق عشرة ، أو إيمان بعض بني أمية المعين ـ لم يرجع إلى تخصيص عموم العام بصورة وجوده ـ بأن يبنى في الأمثلة المتقدمة على تخصيص عموم جريان حكم التوارث بالشهادتين بما إذا كان قائلهما مسلما ، وعموم ترك الصلاة مع استمرار الدم ثلاثة أيام بما إذا كان حيضا ، وعموم الأمر بلعن بني أمية بما إذا لم يكونوا مؤمنين ـ لأن ذلك خلاف فرض سوق العموم لبيان وجوده.

بل لا بد من البناء على تخصيص العموم المذكور بذلك الفرد بخصوصيته ، فيبنى مثلا على تخصيص عموم إسلام من أقر بالشهادتين المستفاد من عموم جريان حكم التوارث معهما بغير منكر الضروري ، وتخصيص عموم حيضية الدم المستمر ثلاثة أيام المستفاد من عموم ترك الصلاة معه ، بما إذا فصل بينه وبين الحيض السابق عشرة أيام ، وتخصيص عموم عدم إيمان بني امية المستفاد من الأمر بلعنهم بغير الشخص الخاص الذي ثبت إيمانه.

ومنه يظهر أن المرجع مع الشك في حال بعض أفراد العام المذكور وأنه واجد للأمر المفروض اعتباره في الحكم أو فاقد له هو عموم ذلك العام ، لصلوحه لأن يكون بيانا على ثبوته فيه اقتصارا في تخصيصه على الفرد المتيقن عدم ثبوته فيه ، لما ذكرناه من كون التخصيص به بخصوصيته لا بعنوانه المشكوك ثبوته في الفرد الآخر. ومن هنا يتم التفصيل المذكور.

لكنه ليس تفصيلا في محل الكلام ، لعدم الشك في دخول الفرد تحت عنوان يعلم بتخصيص العام بالإضافة إليه ـ كما هو محل الكلام ـ بل في التخصيص بالفرد بخصوصيته زائدا على التخصيص المتيقن الذي لا إشكال في حجية العام معه ، وصلوحه لأن يكون بيانا لجهة الشك وإحراز ما يعتبر في الحكم.

وكأن بعض الأعاظم قدّس سرّه نظر إلى ما ذكرنا حين ذكر أن الشك إذا كان في

٩٩

الملاك كان العام صالحا لبيان ثبوته في تمام أفراده ، فلا يعتنى بالشك في ثبوته في بعضها ، بل يتمسك فيه بعموم الحكم ، وأن ذلك ليس من صغريات محل الكلام ، لعدم كون الملاك قيدا في موضوع الحكم ، ليكون الشك فيه شكّاً في المخصص.

ولعله لذا مثل له بمثال اللعن المتقدم ، مع وضوح أن ذلك ليس من الشك في الملاك ، فإن عدم الإيمان ليس ملاكا لجواز اللعن ، بل موضوع له كما ذكره بعض مشايخنا. غايته أنه الموضوع الذي يستفاد من العام بيان مورده ، أو مما يستفاد من العام ثبوته للملازمة الذهنية بينه وبين حكمه نظير ملازمة المطهرية للطهارة.

الثالث : ما ذكره غير واحد من أن المخصص إن كان لفظيا لم يكن العام حجة في الفرد المشتبه ، وإن كان لبيا كان العام حجة فيه.

وربما نسب ذلك للتقريرات. لكن ما في التقريرات ظاهر في إرادة التفصيل الأول. غاية الامر أنه ذكر أن أغلب ما يكون المخصص عنوانيا إذا كان لفظيا ، وأغلب ما يكون غير عنواني إذا كان لبيا. وهو أمر آخر غير التفصيل في حجية العام بين المخصص اللفظي واللبي ، الذي نحن بصدده.

على أنه غير ظاهر ، وإنما الذي يكثر في المخصص اللبي إجمال مورد التخصيص وتردده مفهوما بين الأقل والأكثر أو نحوهما.

وكيف كان ، فقد استدل عليه بوجوه ..

أحدهما : ما ذكره المحقق الخراساني من أن المخصص إذا كان لفظيا فقد ألقى المولى حجتين يجب اتباع كل منهما ، وحيث كان مقتضى الجمع بينهما تقديم الخاص بنحو يكشف عن عدم إرادة مورده من العام وقصور موضوع حكم العام عنه لزم التوقف في مورد الشك ، لعدم العلم بدخوله في ما اريد من العام.

١٠٠