المحكم في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٢

الفصل السّابع

في الجمع بين المطلق والمقيد

لقد جرى أهل الفن على تحرير هذه المسألة في مبحث المطلق والمقيد الذي هو بحسب تبويبهم مباين لمبحث العام والخاص.

وحيث سبق ما في أول مبحث العام والخاص أن موضوعه يعم المطلق والمقيد تعين إلحاق هذه المسألة بالمبحث المذكور ، كما جرينا عليه هنا.

هذا ، وقد سبق في أول فصل العام المخصص أن الكلام فيه بعد فرض تقديم الخاص على العام من باب الجمع العرفي الذي ذكرنا في مبحث التعارض ضوابطه ولزوم الجري عليه ، وهو مبني على فرض التنافي بين العام والخاص بحسب ظهورهما البدوي ، وعلى كون ظهور الخاص أقوى بحيث يصلح قرينة عرفا على تنزيل العام على غير مورده ، والأول مما يسهل تشخيصه بعد الإحاطة بالضوابط العامة للظهورات النوعية وملاحظة القرائن الخاصة المحيطة بالكلام ، والثاني مقتضى العام والخاص بطبعهما ، لأن الخاص في مورده كالنص بالإضافة إلى العام ، وإن أمكن أقوائية العام بلحاظ جهات أخر ، بحيث يكون التصرف في الخاص وتنزيله على ما لا ينافي العام أقرب من تخصيص العام به ، ولا ضابط لذلك ، بل يوكل لنظر الفقيه عند الابتلاء بالأدلة.

وذلك كما يجري فيما لو كانت الدلالة على الشمول بالوضع ليكون من صغريات العموم يجري فيما لو كانت بمقدمات الحكمة ، ليكون من صغريات الإطلاق باصطلاحهم.

١٤١

غير أنه وقع الكلام بينهم في الجمع بين المطلق والمقيد بلحاظ بعض الجهات التي أوجبت تنبههم لتحرير الكلام في ذلك ، دون الكلام في الجمع بين العام والخاص.

ونحن نتابعهم في ذلك ونذكر بعض الضوابط التي قد تنفع في غير المطلق والمقيد. ومن هنا فحيث كان الجمع بين المطلق والمقيد فرع التنافي بدوا بينهما فالتنافي بينهما يتوقف على أمرين.

أحدهما : وحدة الحكم الكبروي الذى يردا لتحديده ، فلو كان ظاهر كل منهما بيان حكم خاص به فلا تنافي بينهما ، لأن الإطلاق والتقييد من سنخ الضدين اللذين يتوقف التنافي بينهما على وحدة الموضوع ، وذلك ظاهر مع اختلاف موضوعيهما ، كما لو ورد : إن ظاهرت فأعتق رقبة ، و : إن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة ، أو : إن أفطرت فلا تعتق رقبة غير مؤمنة.

ومنه ما لو اطلق أحدهما وعلق الآخر على موضوع خاص. وأما في غير ذلك فلا إشكال فيما لو صرح فيهما بوحدة الحكم أو كانت مقتضى مساقهما.

بل لا يبعد البناء على الوحدة بمجرد كونهما مطلقين غير معلقين على شيء أو معلقين على أمر واحد ، حيث لا يبعد انسباق وحدة الحكم منهما ، لبعد اقتصار المتكلم في كل دليل على بيان أحد التكليفين ، وإهمال الآخر مع وحدة الموضوع.

نعم ، الظاهر عدم الفرق بين الاحتمالين في لزوم الاتيان بالمقيد ، بناء على ما يأتي من حمل المطلق على المقيد مع وحدة التكليف ، وفي جواز الاقتصار على فرد منه ، بناء على ما سبق في مسألة التداخل من أن مقتضى القاعدة تداخل التكليفين في الامتثال مع اختلاف متعلقهما بالإطلاق والتقييد.

وإنما يختلفان في أنه بناء على وحدة التكليف لا يكون الإتيان بالفاقد للقيد مع القدرة على المقيد مشروعا ، لعدم التكليف به بعد فرض حمل المطلق

١٤٢

على المقيد ، بل وكذا مع تعذر القيد إلا بدليل خارجي يقتضي الاكتفاء بالميسور. وأما بناء على تعدده فيكون الإتيان بالفاقد مشروعا امتثالا لأمر المطلق ، كما يجب عند تعذر القيد ، لأن تعذر امتثال أحد التكليفين لا يسقط الآخر ، كما هو ظاهر.

ثانيهما : أن يتنافيا بحسب ظهورهما في تحديد الحكم الكبروي الواحد ، كما لو كان المطلق بدليا ، ظاهرا في الاكتفاء بأصل الماهية وكان المقيد ظاهرا في مطلوبية خصوصية منها ، أو عدم الاكتفاء بخصوصية منها ، كما في قولنا : اعتق رقبة ، مع قولنا : اعتق رقبة مؤمنة ، أو : لا تعتق رقبة كافرة.

وأما لو كان المطلق شموليا ، وكان المقيد متضمنا ثبوت الحكم لبعض الأفراد أو في بعض الأحوال. فإن كان المقيد ظاهرا في الحصر فلا إشكال في التنافي بينهما. من دون فرق بين أن تكون دلالته نوعية وضعية أو سياقية ، كما في المفاهيم المتقدمة ، كقولنا : أكرم العالم ، مع قولنا : إنما يكرم العالم العادل ، أو : أكرم العالم إن نفع ، وأن تكون شخصية لخصوصية خاصة في الكلام ، كما لو ورد مورد التحديد. والظاهر وضوح لزوم تنزيل المطلق على المقيد عندهم ، لأن ظهور المقيد في الحصر أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق ، بل كثيرا ما يكون أقوى من ظهور العام الوضعي في العموم ، كما يأتي إن شاء الله تعالى في الفصل الآتي.

وأظهر من ذلك ما لو دل المقيد على نفي الحكم عن بعض الأفراد أو الأحوال صريحا أو ظاهرا ، كما في قولنا : أكرم العالم ، مع قولنا : لا يكرم العالم الفاسق ، أو : لا يكرم العالم إن لم ينفع.

وإن لم يكن المقيد ظاهرا في الحصر فلا تنافي بين الدليلين ، لأن ثبوت الحكم لبعض الأفراد لا ينافي ثبوته لجميعها.

ومن ثمّ يختص الكلام في المقام بالقسم الأول. بل مقتضى فرضهم

١٤٣

الكلام الإثباتيين كون محل كلامهم بعض أقسامه ، وأن تحكيم المقيد مع كونه نافيا ليس موردا للإشكال ، كما صرح به بعضهم.

إذا عرفت هذا ، فالمعروف بينهم حمل المطلق على المقيد. والوجه فيه ما أشار إليه المحقق الخراساني قدّس سرّه من أن ظهور المقيد في الأمر التعييني الإلزامي أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق والاجتزاء بالفرد الفاقد للقيد ، فيتعين تحكيم المقيد ورفع اليد عن الإطلاق. دون العكس وتحكيم المطلق وحمل المقيد على الوجوب التخييري ، بأن يراد به في المقام بيان أحد أفراد الواجب ، أو على الاستحباب التعييني ببيان أفضل الأفراد. لأن حمل الأمر بالشيء على كونه تخييريا لبيان أحد افراد الواجب بعيد عن ظاهره جدا ومحتاج إلى عناية خاصة.

وحمله على بيان أفضل الأفراد وإن لم يكن كذلك ، إلا أنه أبعد من حمل المطلق على المقيد ، ولذا لا إشكال عندهم في تقديم المقيد المنفي مع أنه يمكن أيضا حمله على الكراهة ببيان الفرد المرجوح وإن كان مجزيا تحكيما للمطلق.

نعم ، قد يحتفّ المطلق أو المقيد بخصوصية أو قرينة داخلية أو خارجية تقتضي أقوائية المطلق ، فيلزم تحكيمه وحمل المقيد عليه بأحد الوجهين المتقدمين ، ولا سيما الثاني منهما ، كما لا يبعد ذلك في العموم البدلي الوضعي لقوة دلالته على العموم ، بنحو قد لا يسهل تنزيله على المقيد.

لكن الظاهر خروج ذلك عن محل الكلام ، وأن مورد البحث المطلق المستفاد عمومه من مقدمات الحكمة مع المقيد في نفسيهما ، مع قطع النظر عن الخصوصيات المكتنفة لهما. ولذا قد يجري ذلك في بقية الأقسام ، التي عرفت عدم الإشكال بينهم في تقديم المقيد فيها ، كما لو كان المقيد منفيا أو مثبتا دالا على الحصر ، فيحكم المطلق للقرينة المذكورة ، ويحمل المقيد المنفي على بيان الفرد المرجوح ، والمثبت على أفضل الأفراد.

١٤٤

هذا ، وقد استدل في كلماتهم على تقديم المقيد في محل الكلام ..

تارة : بأنه جمع بين الدليلين ، وهو أولى من الطرح كما عن المشهور.

واخرى : بأن المقيد يكشف عن عدم صدور المطلق في مقام البيان الذي هو شرط في انعقاد الإطلاق ، فلا إطلاق معه كي يرفع به اليد عن ظهور المقيد في الوجوب كما يظهر من التقريرات.

وثالثة : بأنه مقتضى مفهوم الوصف ، كما عن البهائي ، ولذا أورد على المشهور بالتناقض ، لعدم بنائهم على ثبوت مفهوم الوصف.

ورابعة : بالاحتياط ، كما يظهر مما عن المحقق القمي.

والكل كما ترى! لاندفاع الأول : بعدم انحصار الجمع بالوجه المذكور ، كما يظهر مما سبق.

والثاني : بأنه يكفي في انعقاد الإطلاق عدم البيان المتصل ، كما سبق عند الكلام في مقدمات الحكمة.

والثالث : بأن موضوع المقيد قد لا يكون وصفا ، فلا مفهوم له إجماعا ، ولو كان له مفهوم خرج عن محل كلامهم من فرض الدليلين مثبتين ، كما نبه له في التقريرات.

والرابع : بأن الكلام في مفاد الجمع بين الدليلين عرفا ، لا في مقتضى الأصل العملي الذي هو مورد للكلام في مسألة الدوران بين المطلق والمقيد. فالعمدة ما سبق.

نعم ، قد يستشكل فيه بعدم بنائهم عليه في المستحبات ، بل يغلب بناؤهم فيها على حمل المقيد على أفضل الأفراد مع مشروعية فاقد القيد واستحبابه تحكيما للإطلاق. ولعل ذلك هو الموجب لتحرير المسأله في كلماتهم والمنبه لخصوصيتها من بين فروض العام والخاص ، حتى افردت بالبحث والكلام.

وقد حاول في التقريرات تقريب الفرق بين الواجبات والمستحبات ..

١٤٥

تارة : بغلبة العلم بورود المطلقات في المستحبات في مقام البيان ، فلا يصلح المقيد للكشف عن عدم ورودها في المقام المذكور ، ليمنع من انعقاد الإطلاق على مسلكه المتقدم. ويحمل مورد الشك على الأعم الأغلب.

واخرى : بغلبة العلم باختلاف مراتب المحبوبية في المستحبات ، ويحمل مورد الشك على الأعم الأغلب.

وزاد عليه المحقق الخراساني قدّس سرّه بأن مقتضى قاعدة التسامح في أدلة السنن استحباب المطلق على إطلاقه.

ويشكل الكل : بعدم المنشأ للعلم بورود المطلقات في المستحبات في مقام البيان ، وعدم صلوح المقيد المنفصل للمنع من انعقاد الإطلاق حتى في الواجبات كما سبق. كما أن غلبة اختلاف مراتب المحبوبية ـ مع قرب استناد إحرازها ولو ببعض مراتبها لبنائهم على الجمع المذكور ، فلا تكون مستندا له ـ لا تختص بالمستحبات ، لما هو المعلوم من كثرة اختلاف أفراد الواجبات في الفضيلة. مضافا إلى الإشكال فيه وفي ما قبله بعدم وضوح كون الغلبة من القرائن الموجبة لتبدل مقتضى الجمع العرفي.

وأما قاعدة التسامح في أدلة السنن فهي ـ على التحقيق ـ إنما تنهض بحسن الإتيان بالفعل بالرجاء المطلوبية ، لا بالاستحباب الشرعي ، كما هو مبناهم في المستحبات في المقام.

على أنه لما كان موضوعها بلوغ الثواب على العمل فالمطلق وإن كان في نفسه دليلا على استحباب ما عدا أفراد المقيد فيصدق به بلوغ الثواب عليه ، إلا أنه إذا كان مقتضى الجمع العرفي حمله بقرينة المقيد على ما عدا فاقد القيد خرج عن كونه دليلا على ذلك ولم يتحقق به موضوع القاعدة. فتأمل.

مضافا إلى أنه لو تم كون مقتضى القاعدة استحباب فاقد القيد فلا يتضح وجه البناء على كون فاقد القيد أفضل الأفراد. وقد أشار إلى بعض ما ذكرنا

١٤٦

المحقق الخراساني قدّس سرّه.

فالذي ينبغي أن يقال أنّه : إن كان إطلاق دليل المستحب شموليا ، كدليل استحباب قراءة القرآن ، وزيارة المعصومين عليهم السّلام ، والدعاء ، والصدقة ، والإحسان ، وغيرها مما هو كثير ، فلا إشكال بلحاظ ما سبق من عدم التنافي بين المطلق الشمولي والمقيد ، ليلزم رفعه بالتقييد ، لأن ثبوت الحكم لبعض أفراد الماهية لا ينافي ثبوته لتمامها.

نعم ، لا ينهض دليل المقيد حينئذ بإثبات كون واجد القيد أفضل الأفراد ، بل لا بد في البناء على ذلك من التشبث بإشعار أخذ العنوان في المتعلق في كونه علة للحكم ، حيث يكون مقتضى ذلك عليه كل من عنوان المطلق والمقيد للحكم المستلزم لتأكد الحكم في أفراد المقيد بتعدد مقتضيه ، أو الاستعانة بالمناسبات الارتكازية أو القرائن الخارجية المقتضية لأفضلية المقيد لو تمت ، وبدونها لا يبنى على ذلك.

وأما إن كان بدليا فالمقيد وإن كان ظاهرا في التعيين وعدم امتثال أمره بغير واجد القيد ، إلا أن أمره كما يمكن أن يكون هو عين الأمر بالمطلق المستلزم للتنافي بين الدليلين ـ لامتناع اختلاف متعلق متعلق الأمر الواحد بالإطلاق والتقييد ـ فيلزم الجمع بتنزيل المطلق على المقيد ، والالتزام بعدم إرادة فاقد القيد من المطلق وعدم تحقق الامتثال به ، كذلك يمكن أن يكون أمرا آخر متعلقا بالخصوصية زائدا على الماهية المطلوبة بأمر المطلق ، من دون أن ينافي المطلق ليلزم حمله عليه ، بل يبقى المطلق على إطلاقه متعلقا أمره بأصل الماهية دون الخصوصية ، فيصلح فاقد القيد لامتثاله ، ومرجعه إلى أن المقيد أفضل الأفراد.

ولا مجال للبناء على الأول بعد منافاته لمقتضى الإطلاق إلّا بقرينة خاصة.

وأما ما سبق عند الكلام في الشرط الأول للتنافي بين الدليلين ، من استبعاد تعدد الحكم مع إطلاقه في الدليلين او تعليقه على شرط واحد ، فهو

١٤٧

مختص بالحكم الإلزامي ، الذي يهتم ببيانه والقيام بمقتضاه ، حيث يبعد اهتمام الحاكم ببيان أحد الحكمين الإلزاميين دون الآخر مع وحدة موضوعهما واتحاد سنخهما بمجرد اختلاف متعلقهما بالإطلاق والتقييد ، بخلاف الحكمين غير الإلزاميين ، حيث قد يهتم الحاكم ببيان بعض المطلوب لإحداث الداعي له ، دون بعض ، لعدم كونه إلزاميا وعدم مناسبة المقام لبيانه.

على أن الأثر المهم في الواجبات هو الاجتزاء بفاقد القيد ، وفي المستحبات هو مشروعية فاقد القيد.

وقد سبق أن الأول كما لا يترتب مع وحدة الحكم لا يترتب مع تعدده ، ولا ينفع الإطلاق في الواجبات في ترتبه إما لتقييده مع كون الحكم واحدا ، أو للزوم امتثال أمر المقيد مع كون الحكم متعددا ، ومن هنا لا يهم إثبات وحدة الحكم هناك.

وأما الثاني فيترتب مع تعدد الحكم لا مع وحدته ، وحيث كان مقتضى الإطلاق ترتبه المستلزم لتعدد الحكم ، فلا بد في الخروج عنه من قرينة ملزمة بوحدة الحكم.

وبعبارة اخرى : حمل المقيد على بيان أفضل الأفراد في الواجبات مستلزم لرفع اليد عن ظهوره في الإلزام وهو أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق غالبا ، فيلزم رفع اليد به عن الإطلاق ، أما في المستحبات فحيث فرض عدم إرادة الإلزام منه لا ينافي المطلق ، فلا بد في الخروج فيها عن مقتضى الإطلاق من قرينة خاصة تقضي بوحدة الحكم ، كما ذكرنا.

نعم ، ذلك إنما يتم إذا كان المقيد بلسان محض الأمر بعنوانه ، أما إذا كان الأمر فيه واردا لشرح الماهية المستحبة ، كما ورد السؤال عن زيارة الحسين عليه السّلام فاجيب بالأمر باستقبال القبلة فيها فمقتضاه وحدة الحكم وانحصار الماهية المذكورة بالمقيد ، فيلزم تنزيل المطلق عليه ورفع اليد عن الإطلاق به. وحمله

١٤٨

حينئذ على أفضل الأفراد مخالف للظاهر ومحتاج للقرينة. هذا وقد أشار في التقريرات لبعض ما ذكرنا في توجيه مبنى المشهور على مسلكهم من عدم مانعية البيان المنفصل من انعقاد الإطلاق. فراجع.

هذا كله إذا كان المقيد بلسان الأمر ، وأما إذا كان بلسان النهي عن بعض الأفراد ، فإن أمكن إبقاؤه على ظاهره من كونه مولويا تحريميا أو تنزيهيا فلا إشكال في كونه أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق ، فيقيد به المطلق لو كان شموليا ، بل لو كان بدليا أيضا على ما يأتي عند الكلام في تضاد الأحكام من مبحث اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى.

وان كان للإرشاد لبيان كيفية الامتثال كان ظاهره امتناع امتثال المستحب بمورده إلا بقرينة تقضي بحمله على بيان الفرد المرجوح والأقل فضيلة. وكذا لو كان بلسان تحديد الموضوع إثباتا ، نحو قولنا : إنما النافلة بعد الفريضة ، أو نفيا ، نحو قلنا : لا نافلة لمن لا يؤدي الفريضة ، حيث يكون حاكما على إطلاق الاستحباب حكومة عرفية.

هذا ما تيسر لنا في ضبط مقتضيات الجمع العرفي بحسب طبيعة الأدلة المفروضة ، وكثيرا ما تتحكم القرائن الخاصة بما فيها مناسبات الحكم والموضوع في كيفية الجمع بين الأدلة بنحو تؤكد ما ذكرنا أو تلزم بالخروج عنه ، ولا ضابط لذلك.

١٤٩
١٥٠

الفصل الثامن

في تخصيص العام بالمفهوم

لما كان المعيار في التخصيص على قوة الخاص ظهورا من العام ـ كما سبق ـ فقد وقع الكلام في تخصيص العام بالمفهوم بلحاظ أن دلالة الكلام على المفهوم ليست كدلالته على المنطوق ، وحيث كانت دلالة العام على العموم بالمنطوق كان أقوى من الخاص من هذه الجهة وإن كان أضعف منه من حيثية العموم والخصوص.

ومن ثمّ اختلفوا في تخصيص العام بالمفهوم.

لكن لا يبعد غلبة أقوائية المفهوم من العموم وتخصيصه له ، وإن كان اللازم ملاحظة الخصوصيات المحيطة بالكلامين والقرائن الصالحة للتحكم في كيفية الجمع العرفي بينهما ، والتي لا ضابط لها ، بل توكل لنظر الفقيه.

هذا في مفهوم المخالفة ، وأما مفهوم الموافقة فلا إشكال بينهم في تخصيص العام به ، لأن وضوح ملازمته للمنطوق تمنع من التفكيك بينهما عرفا ، فعدم تخصيص العام لا ترجع إلى رفع اليد عن المفهوم وحده ، بل عن المنطوق أيضا ، فلا يجري فيه الوجه السابق للتوقف.

ثم إن أهل الفن قد حرروا في مبحث العام والخاص بعض المسائل الاخرى ، كمسألة تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد ، ومسألة الدوران بين التخصيص والنسخ ، ومسألة العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص.

ويظهر الحال في المسألة الاولى مما يأتي في استدلال المانعين من

١٥١

حجية خبر الواحد بمخالفته بكثرة مخالفته لظواهر الكتاب.

وفي الثانية مما يأتي في مبحث الجمع العرفي من مباحث التعارض عند الكلام في الدوران بين النسخ والجمع العرفي بين الدليلين.

وفي الثالثة مما يأتي في خاتمة علم الاصول من الكلام في وجوب الفحص عن الأدلة.

ولا مجال مع ذلك لتحرير الكلام هنا في هذه المسائل ، لأن البحث في تلك المواضع أوسع وأشمل.

كما أنهم عقدوا بحثا للمجمل والمبين وأطالوا الكلام في تعريفهما ، وفي بعض صغرياتهما بما لا مجال لصرف الوقت فيه ، بعد كون مفهومهما بالمقدار الذي يحتاج إليه في مقام العمل من المفاهيم العرفية الجلية ، وعدم انضباط صغرياتهما ، لأنها كما تتبع الظهورات النوعية المنضبطة تتبع القرائن الشخصية غير المنضبطة ، لو تعارضت ، كما تتبع تحديد مفاهيم المفردات وعدمه. ومن هنا كان الأنسب إيكال تشخيصها لنظر الفقيه عند ممارسة النظر في الأدلة.

١٥٢

خاتمة مباحث الألفاظ

ما ذكرناه من الكبريات في هذه المباحث مبتن على ملاحظة الظهورات النوعية المنضبطة التي تكون مرجعا لو لا القرائن الخاصة. وعلى الفقيه أن لا يتسرع في استنباط الأحكام تبعا لها ، بل يلزمه التأمل في خصوصيات الموارد وفي ما يكتنف بالكلام من القرائن ، ولا سيما الحالية منها التي كثيرا ما يغافل عنها.

كما عليه أن يتحفظ ويتروى كي لا يخرج في فهم الكلام اعتمادا على ما عنده من مقدمات الاستظهار عما تقتضيه السليقة العرفية والذوق السليم في خصوصيات الاستعمالات ، فإن مؤدى الكلام هو المفهوم هو المفهوم العرفي منه ، وليست الكبريات المتقدمة ونحوها مما يذكر في علوم اللغة إلا لتسهيل فهمه وإدراكه من دون أن تستقل به وحدها ، فلا ينبغي أن يكتفي بها ، بل ينبغي عرض نتائجها على المفهوم العرفي وتحكيم الذوق والسليقة فيها ، فإن خالفتها كشف ذلك عن قرينة مغفول عنها يلزم التأمل لتحديد مفادها ، أو خطأ بعض الكبريات التي اعتمدها فلا بد من النظر في حالها.

ومن ثمّ كان الفقه من أشق العمليات العلمية ، لعدم انضباط مقدماته ، وعدم تحديد نتائجه ومحصلاته ، بخلاف غالب العلوم الاخرى. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

انتهى الكلام في مباحث الألفاظ ضحى الجمعة السادس والعشرين من شهر ربيع الأول ، من السنة الثانية بعد الألف والأربعمائة ، للهجرة النبوية على صاحبها وآله أفضل الصلاة وأزكى التحية. في النجف الأشرف ببركة الحرم

١٥٣

المشرف على مشرفه الصلاة والسلام ، بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه ، نجل العلّامة الجليل حجة الإسلام والمسلمين السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته.

والحمد لله في البدء والختام ، وبه الاعتصام ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الكرام أعلام الهدى ومصابيح الظلام.

وانتهى تبييضه بعد تدريسه ضحى الاثنين ، التاسع والعشرين من الشهر المذكور ، بقلم مؤلفه الفقير حامدا مصليا مسلما.

١٥٤

١٥٥
١٥٦

الباب الثاني

في الملازمات العقلية

أشرنا في المقدمة إلى أن الاصول النظرية التي يكون مضمونها أمرا واقعيا مدركا لا يتضمن العمل بنفسه ، بل بخصوصية متعلقة ـ لكونه حكما شرعيا عمليا أو ملازما له ـ تنحصر في مباحث الألفاظ المتضمنة تشخيص الظهورات الكلامية ـ والتي تقدم الكلام فيها ـ ومباحث الملازمات العقلية المتضمنة للكلام في إدراك العقل أمرين لينتقل من أحدهما للآخر. وهي التي عقد البحث في هذا المقام لها.

ويفترقان في أن الظهورات اللفظية ، حيث لا تستلزم العلم بمضمونها ، توقف العمل بها على ثبوت كبرى حجية الظهور التي هي من مسائل الاصول ، فهي ترجع إلى تنقيح صغريات الكبرى المذكورة.

أما الملازمات العقلية فحيث كانت وجدانية قطعية فترتب العمل عليها لا يتوقف على حجية شيء غير العلم الذي لا يكون البحث عن حجية من مسائل الاصول ، بل يكون البحث في مسائل الاصول بعد الفراغ عن لزوم العمل به ، حيث لا يترتب العمل عليها لولاه.

وأما ما جرى عليه بعض المعاصرين في اصوله من جعل مسائل الملازمات صغريات لكبرى مسألة اصولية ، وهي مسألة حجية الدليل العقلي.

فهو خروج عما يقتضيه نظم البحث في المسائل الاصولية. وربما جرّه اضطراب كلماتهم في المقام.

١٥٧

ثم إن الملازمات العقلية المبحوث عنها في علم الاصول في نتائجها وكيفية الاستدلال بها ، فغالبها يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ، بخلاف مسألة الإجزاء فإنها تقع في طريق تشخيص الوظيفة العملية العقلية.

كما أن غالبها ينتج بواسطة صغرى شرعية ، فمسألة مقدمة الواجب التي يبحث فيها عن ملازمة وجوب الشيء لوجوب مقدمته ـ لو بني عليها ـ لا تكون نتيجتها وجوب كل مقدمة لشيء إلا بعد فرض وجوبه شرعا ، ومثلها غيرها ، بخلاف مسألة ملازمة حكم الشرع لحكم العقل ، فإنها لو تمّت لا تنتج حكم الشارع في مورد إلا بعد فرض حكم العقل في ذلك المورد ، بلا حاجة إلى فرض حكم الشارع.

ومن هنا يكون الدليل على الحكم الشرعي المبتني عليها عقليا محضا ، بخلاف ما قبلها. ولذا قسم بعض المعاصرين بحث الملازمات العقلية إلى قسم المستقلات العقلية ، وقسم غير المستقلات العقلية. وإلا فالملازمات ـ التي هي موضوع هذا الباب ـ بنفسها عقلية محضة في الجميع ، فهو أشبه بالتقسيم بلحاظ حال المتعلق ، ومن ثمّ لا نرى داعيا لهذا التقسيم.

إذا عرفت هذا ، فالكلام في هذا الباب يقع في ضمن فصول ..

١٥٨

١٥٩
١٦٠