المحكم في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٢

ما يكون غرض المتكلم مقصورا على ذلك ، إما لعدم كون غرضه من البيان ترتب العمل عليه ، بل مجرد الإعلام بالمضمون اكتفاء ببيان آخر يكفي في ترتب العمل ، أو لعدم إحاطته حين الخطاب بخصوصيات ما هو الدخيل في الغرض ـ كما في الموالي العرفيين الذين يمكن في حقهم الجهل ـ أو لتعلق الغرض بتأخير بيان الخصوصيات لوقت آخر ، أو لغير ذلك مما لا يكون الغرض معه من البيان استقلاله بترتب العمل عليه ، ولم يتضح بناء العرف وأهل اللسان على عدم الاعتناء بالاحتمالات المذكورة ، بنحو يكون الأصل عندهم كون المتكلم في مقام البيان الذي يستقل بترتب العمل عليه ، المستلزم لكونه في مقام بيان تمام ما هو الدخيل في الغرض والموضوع ، فيلزمه حمل الإطلاق على القضية الكلية.

ولذا لا إشكال في عدم بنائهم على ذلك في غير الإطلاق مما يتضمن دخل شيء في موضوع الحكم والغرض في الجملة ، كما لو قيل : يتوقف وجوب الحج على ملك الزاد والراحلة ، نظير ما تقدم في رد الوجه السابق.

نعم قد يحتفّ بالكلام ما يدل على سوقه للبيان الذي يترتب عليه العمل فعلا ، فيتعين وروده لبيان تمام ما هو الدخيل في الموضوع والغرض ، وحمله على القضية الكلية دون المهملة. كما لو ورد الخطاب بالإطلاق أو غيره مما يدل على دخل شيء في موضوع الحكم عند طلب المكلف من المولى بيان ما يعمل عليه حال فراقه له وعدم توقعه بيانا آخر منه ، أو نحو ذلك. لكن من الظاهر أن حمل الإطلاق على العموم لا يختص بالمورد المذكور.

الرابع : بناء العقلاء على أصالة كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد في خصوص الإطلاق.

وقد استشهد له غير واحد ببناء العرف في محاوراتهم على التمسك بالاطلاقات ما لم يفهم من مساق الكلام صدوره في مقام بيان أصل التشريع من

٦١

دون نظر لبيان ما هو المشروع نظير قول الطبيب للمريض : لا بد لك من استعمال الدواء ، أو في مقام البيان من خصوص بعض الجهات ، كقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)(١) ، حيث ينصرف إلى بيان تحقق الذكاة بالصيد وحلية الأكل من حيثيتها ، لا من جميع الجهات بحيث لا يجب تطهير محل الإمساك ، ولا يفرق بين أقسام الحيوان المصيد ، وغير ذلك مما لا يرجع للتذكية.

وفيه : أن السيرة المذكورة لا تكشف عن أن الأصل عندهم كون المتكلم في مقام البيان إلا إذا ثبت توقف التمسك بالإطلاق عندهم على إحراز كون المتكلم في ذلك المقام ، نظير توقفه على عدم التقييد المتصل ، حيث يكشف بناؤهم على التمسك بالإطلاق مع الشك في القرينة على التقييد عن بنائهم على أصالة عدم القرينة. لكن بناءهم على توقف التمسك بالإطلاق عندهم على إحراز كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد غير ثابت ، بل قد يكون مبنيا على وجه آخر ، ومجرد صحة التمسك به مع إحراز كون المتكلم في المقام المذكور أعم منه ، لإمكان صحته مع عدم إحرازه أيضا للوجه الآخر.

ومن هنا لا يبعد عدم ابتناء التمسك بالإطلاق على المقدمة المذكورة ، بل هو مبتن على أن الإهمال كالتقييد خلاف الأصل لا يحمل عليه المطلق عرفا إلا بدليل.

فإن ما تقدم من صحة إرادة المهملة من الإطلاق وإن كان تاما ، إلا أن مصححه لما كان هو الرجوع لطريقة أهل اللسان وسيرة أهل المحاورة ، فاللازم النظر في كيفية سيرتهم ، وحيث تقدم أن بناءهم على التمسك بالإطلاق وحمله على العموم ، لظهوره فيه ، ما لم يحتفّ بما يقتضي صدوره لبيان أصل التشريع من دون نظر لخصوصياته أو في مقام البيان من خصوص بعض الجهات ، تعين

__________________

(١) سورة المائدة : ٤.

٦٢

متابعتهم في ذلك من دون حاجة إلى دعوى ابتنائه على إحراز كونه في مقام البيان من جميع الجهات وبيان تمام المراد ، ثم النظر في وجه إحراز ذلك والتشبث له بما لا ينهض به.

بل التأمل في المرتكزات العرفية الاستعمالية قاض بأن ورود المطلق في مقام البيان بالنحو المذكور مقتضى ظهوره في العموم والسريان وتابع له ، كالعام الوضعي ، لا من مقدمات الظهور في العموم التي يلزم إحرازها في رتبة سابقة على الظهور فيه من دون أن تستفاد منه ، نظير عدم وجود القيد المتصل الذي هو مقتضى أصالة عدم القرينة من دون أن يستفاد من نفس الكلام.

ولذا لو ثبت من الخارج عدم كون المتكلم في مقام البيان من دون قرينة على ذلك محتفّ بها الكلام لم ينكشف عدم ظهور المطلق في السريان ، بل الظهور باق وإن سقط عن الحجية.

بخلاف ما لو ثبت احتفافه بقرينة متصلة حالية أو مقالية دالة على التقييد ، حيث ينكشف بذلك عدم الظهور في السريان ، وكذب أصالة عدم القرينة ، لا أن الظهور باق وإن سقط عن الحجية.

والذى تحصل من جميع ما تقدم : أن حمل الإطلاق على العموم وظهوره فيه لا يتوقف إلا على مقدمات ثلاث ..

الاولى : عدم اشتماله على التقييد المتصل.

الثانية : عدم احتفافه بما يصلح للقرينة على التقييد ، وإن لم يكن ظاهرا فيه عرفا ، بل يكون موجبا لإجماله. ويكفي في إحرازهما في فرض الشك أصالة عدم القرينة المعول عليها عند أهل اللسان في جميع الموارد من دون خصوصية للإطلاق.

الثالثة : عدم احتفافه بما يناسب وروده في مقام البيان من خصوص بعض الجهات غير الجهة التي يراد التمسك بالإطلاق من حيثيتها ، وإلا تعين

٦٣

الإهمال من تلك الجهة.

وأما ما عدا ذلك مما عدّ من مقدمات الإطلاق فليس دخيلا فيه.

كما ظهر مما سبق في المقدمة الاولى أن ما ذكروه من ابتناء اقتضاء مقدمات الإطلاق العموم على قرينة الحكمة ـ حتى سميت بمقدمات الحكمة ـ ليس بلحاظ منافاة عدم إرادة العموم معها للحكمة فعلا ، بل بلحاظ خصوص المقتضيات الأولية بحسب طبع الكلام.

ومما ذكرنا يظهر حال الانصراف إلى خصوص بعض الأفراد الذى كثيرا ما يذكرون مانعيته من التمسك بالإطلاق ، فإنه إنما يمنع منه إذا كان مانعا من تمامية إحدى المقدمتين الاوليين ، إما لكونه عرفا بمنزلة القرينة الحالية الظاهرة في التقييد ، أو لكونه صالحا للقرينية عليه وإن لم يكن ظاهرا فيه ، بل يكون موجبا للإجمال. سواء كان ناشئا من كثرة الاستعمال أم غيرها ، كمناسبة الحكم والموضوع.

أما لو لم يكن بأحد النحوين المذكورين فهو بدوي لا يعتد به في رفع اليد عن الإطلاق ، كالناشئ من كثرة الابتلاء بالفرد أو من كونه أظهر الأفراد أو نحوهما.

وأما كثرة الاستعمال في بعض الأفراد الموجبة للاشتراك أو ما يقاربه بنحو يكون كالمجاز المشهور فهي موجبة لإجمال لفظ المطلق وتردده بين الماهية الواسعة والضيقة ، فيلزم الاقتصار على المتيقن.

وليس ذلك من الانصراف في شيء ، لأنه عبارة عن قصور ظهور دليل الحكم عن بعض أفراد الموضوع ، والمفروض في محل الكلام عدم إحراز عموم مفهوم الموضوع بما هو معنى إفرادي مع قطع النظر عن الحكم ، كسائر موارد إجمال مفردات الكلام.

٦٤

الفصل الثالث

في العام المخصّص

ذكرنا في مباحث التعارض أنه مع تنافي الدليلين بدوا لو كان أحدهما أظهر من الآخر تعين العمل بالأظهر وتنزيل الآخر عليه من باب الجمع العرفي.

وعلى هذا يبتني تقديم الخاص على العام مع التنافي بينهما ، لأن الخاص أظهر في مورده من العام ، على كلام تعرضنا له هناك.

ومحل الكلام في المقام العام والخاص المتنافيان بعد الفراغ عما ذكرنا من تقديم الخاص في مورده على العام بنحو يمنع من البناء على عمومه له ، ولذا كان عنوان البحث العام المخصّص.

نعم ، محل كلامهم يعم ما إذا كان المخصّص متصلا ، كالوصف والاستثناء ، ولا يختص بما إذا كان منفصلا ليكون من موارد الجمع العرفي الذي أشرنا إليه بسبب تنافي الدليلين.

إذا عرفت هذا ، فالمعروف عدم سقوط العام عن الحجية رأسا بالتخصيص ، بل يبقى حجة في الباقي غير مورد التخصيص قال في الفصول : «كما عزي إلى أصحابنا ، وعليه المحققون من مخالفينا» ،

وفي المعالم : «ولا أعرف في ذلك من الأصحاب مخالفا. نعم ، يوجد في كلام بعض المتأخرين ما يشعر بالرغبة عنه».

وعن بعضهم أنه أنكر حجيته مطلقا ، أو مع تفصيلات لا مجال لاستقصائها ، والمهم منها التفصيل بين ما إذا كان المخصّص متصلا وما إذا كان

٦٥

منفصلا ، فالعام في الأول حجة في الباقي ، دون الثاني.

وقد احتج منكر الحجية في الباقي مطلقا أو مع التفصيل ..

تارة : بأن اللفظ حقيقة في العموم ، وهو غير مراد منه بقرينة التخصيص ، وما دونه من المراتب مجازات ، واللفظ صالح لكل منها ، ولا قرينة على تعيين اللفظ المستعمل فيه ، فيبقى اللفظ مجملا.

واخرى : بأن العام بعد التخصيص غير ظاهر في الباقي ، وما لا يكون الكلام ظاهرا فيه لا يكون حجة فيه.

هذا ، وقد تقدم في أول الفصل السابق أن التخصيص المتصل نحو نسبة تقتضي قصور الحكم عن مورد التخصيص ، من دون أن تستلزم استعمال العام الوضعي أو الإطلاقي في غير المعنى الموضوع له ، ليلزم المجاز فيه.

على أنه لو فرض لزوم المجاز فلا إشكال في ظهور العام في إرادة تمام الباقي بعد التخصيص ، وهو كاف في الحجية ، بل المدار عليه لا على الحقيقة.

ولذا لم يقع الكلام في دلالة القضايا ذات القيود الخاصة كالاستثناء والتوصيف وغيرهما على المنطوق ، ولا في حجيتها فيه ، وإنما وقع الكلام في دلالتها على المفهوم. فتأمل.

وبالجملة : لا إشكال في أن ثبوت الحكم لتمام ما عدا مورد التخصيص مقتضى الظهور الحجة ، وضعيا كان أو إطلاقيا أو عرفيا.

هذا ، والظاهر عموم ذلك لما إذا كان التخصيص بقرينة حالية غير لفظية ، قد احتفّ بها الكلام بسبب ظهورها حين صدوره ، بنحو يصلح للمتكلم الاعتماد عليها في البيان ، فإن العام معها ظاهر في إرادة الباقي بلا إشكال.

غاية الأمر أن الاستعمال معها ..

تارة : يبتني على حذف التخصيص وتقديره اعتمادا على القرينة ، الذي هو كسائر موارد الحذف والتقدير ليس من المجاز في شيء.

٦٦

واخرى : يبتني على التوسع في استعمال الكلام الدال في نفسه على العموم ، لتنزيل التخصيص منزلة العدم ، فيلزم المجاز.

ولا أهمية لتشخيص موارد كل من القسمين بعد اشتراكهما فيما هو المهم ، وهو ظهور العام في إرادة الباقي ، وحجية الظهور المذكور ومن هنا يلزم صرف الكلام لما إذا كان المخصص منفصلا ، فنقول :

العمدة في تقريب الإشكال فيه : أن العام في نفسه ظاهر في إرادة العموم ، وحيث كان الخاص منافيا لذلك ، وفرض تقديمه على العام ، فلا بد من رفع اليد به عن ظهور العام في إرادة العموم. ولا مجال مع ذلك لإحراز إرادة تمام الباقي لا من العام بنفسه ، لعدم ظهوره في نفسه إلا في إرادة العموم بتمامه ، دون تمام ما عدا مورد التخصيص ، ولا بضميمة دليل التخصيص ، لأنه إنما يتضمن عدم إرادة مورده من العام ، من دون أن يتضمن شرح المراد من العام.

نعم ، لو فرض نظره للعام وشرحه للمراد منه تعين البناء على مفاده ، كما لو أمر المولى بإكرام جيرانه ، ونبه بعد ذلك على أنه أراد من عدا زيد منهم.

لكن الخاص يكون حاكما على العام حكومة بيانية ، وهو خارج عن محل الكلام.

ثم إنه لا يهم مع ذلك تحقيق أن استعمال العام في مورد التخصيص المنفصل حقيقي أو مجازي ، إذ لو كان ظاهرا بنفسه أو بضميمة المخصص في إرادة الباقي كان حجة وإن كان مجازا ، وإن لم يكن ظاهرا فيه لم يكن حجة وان كان حقيقة ، لإمكان إرادة ما دونه الذي هو حقيقة أيضا. وإن كان ربما يتضح الحال فيه من هذه الجهة تبعا للكلام في وجه الحجية الذي هو المهم في المقام.

هذا ، وقد حاول غير واحد دفع الإشكال في حجية العام في الباقي ، وما ذكر في كلماتهم أو يمكن أن يذكر وجوه :

الأول : أن الاستعمال في ما دون العموم من المراتب وإن كان مجازا إلا أن

٦٧

الترجيح لتمام الباقي بعد التخصيص ، لأنه أقرب للعام مما دونه ، فيتعين الحمل عليه بعد تعذر الحمل على المعنى الحقيقي ، وهو العموم.

وفيه : أنه لا اعتبار في الترجيح لبعض المجازات بالأقربية بحسب المقدار ، بل المعيار فيه الأقربية الذهنية عرفا ، إما لتعارف الاستعمال فيه وكثرته عند عدم إرادة الحقيقة ، أو لقوة المناسبة بينه وبين المعنى الحقيقي ، بحيث ينتقل الذهن منه إليه ، فمثلا إرادة خصوص المنافع من عموم العالم بلحاظ مناسبة العلم للنفع أقرب عرفا من إرادة كل من عدا زيد منه ، وإن كان الثاني أكثر أفرادا أو أقرب مقدارا للعام.

الثاني : ما في التقريرات من دعوى ظهور العام في تمام الباقي بعد التخصيص ، لأن دلالة العام على أفراده انحلالية ، فدلالته على كل فرد غير منوطة بدلالته على بقية الأفراد. وحينئذ فصرف دليل التخصيص للعام عن دلالته على مورده لا ينافي ظهوره في غيره من افراده ودلالته عليه ، فيلزم العمل به فيه بعد فرض عدم الصارف عنه.

وفيه : أن دلالة العموم على حكم الأفراد ليست انحلالية ، بل ارتباطية ، لأن العموم ان كان وضعيا فأداة العموم لها مدلول واحد ، وهو العموم ، وإن كان إطلاقيا فمقتضى مقدمات الحكمة كون الماهية تمام الموضوع ، المستلزم لعموم الحكم لتمام أفرادها. وتحليله في القسمين إلى حكم كل فرد فرد عقلي لا عرفي يبتني على استقلال كل منها في كونه مدلولا للكلام ، بنحو يكون للكلام دلالات متعددة ، نظير تعدد المضامين تبعا لتعدد الكلام.

إلا أن يرجع إلى ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه من التفكيك بين الدلالات الضمنية في الحجية.

بتقريب : أن العام وإن كان له دلالة واحدة على حكم جميع الأفراد بنحو الارتباطية ، إلا أنها لا ترتفع بالمخصّص بعد فرض كونه منفصلا.

٦٨

غايته أن المخصص ينافي دلالة العام الضمنية على حكم مورد التخصيص ، فيلزم رفع اليد عنها بعد فرض تقديمه ، ولا ملزم معه برفع اليد عن بقية دلالاته الضمنية على حكم بقية الأفراد ، لأن دلالات الكلام الواحد الضمنية وإن كانت ارتباطية حدوثا وارتفاعا ، إلا أنه لا ارتباطية بينها في الحجية.

بل هي أولى بعدم الارتباطية في الحجية من الدلالة الالتزامية بالإضافة إلى الدلالة المطابقية ، حيث تقرر عدم سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجية بسقوط الدلالة المطابقية عنها ، وإن كانت تابعة لها ومتفرعة عليها ثبوتا ، وليست كالدلالات التضمنية التي ليس بينها إلا مجرد التلازم من دون تفرع لبعضها على بعض.

لكن الظاهر عدم تمامية ما ذكره قدّس سرّه من عدم الارتباطية في الحجية بين الدلالة الالتزامية والمطابقية ، على ما ذكرناه في مبحث التعارض عند الكلام في دلالة المتعارضين على نفي الثالث ، بل سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية بالمعارضة مستلزم لسقوط الدلالة الالتزامية عنها.

ونظيره المقام ، الراجع إلى الارتباطية في الحجية بين الدلالة المطابقية والتضمنية ، لا بين الدلالات التضمنية فقط ، لوضوح أن الخاص كما ينافي دلالة العام التضمنية على ثبوت حكمه في مورد التخصيص ينافي دلالته المطابقية على العموم ، فلو بني على بقائه حجة في دلالاته التضمنية على ثبوت حكمه في بقية الأفراد لزم التفكيك في الحجية بين الدلالة المطابقية والتضمنية ، الذي هو كالتفكيك بين الدلالة المطابقية والالتزامية ، لا أهون منه.

ومنه يظهر عدم نهوض ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه بدفع الإشكال ، فإنه ذكر أن تخصيص العام بالمنفصل لا يستلزم مجازيته ، لأنه إنما يكشف عن أن المراد بمدخول أداة العموم هو المقيد لا المطلق ، وذلك لا يوجب المجاز ، لا في الأداة ، ولا في المدخول.

٦٩

أما الأداة فلأنها موضوعة لعموم ما يراد من المدخول ، فاذا اريد منه المقيد لم تقتض وضعا إلا عموم أفراده.

وأما المدخول فلأنه موضوع للماهية المهملة الصادقة مع الإطلاق والتقييد ، وإنما تحمل على المطلقة بمقدمات الحكمة ، وغاية ما يلزم من التخصيص هو انكشاف عدم مطابقة مقتضى مقدمات الحكمة لمراد المتكلم ، وأن مراده الماهية المقيدة ، وإن أخل بذكر القيد غفلة أو لمصلحة في إهماله.

للإشكال فيه : بأنه لما كان مقتضى مقدمات الحكمة كون المطلق تمام المراد من دون دخل أي قيد فيه ، فمع قيام الدليل المنفصل على دخل قيد خاص يكون منافيا لمقتضى المقدمات المذكورة ، وإثبات كون تمام الموضوع هو خصوص واجد القيد الخاص بلا حاجة إلى انضمام قيد آخر مما لا ينهض به الخاص ، ولا العام إلا بناء على التفكيك في الحجية بين الدلالة المطابقية ـ وهي الدلالة على كون المطلق تمام المراد ـ والدلالة الالتزامية ـ وهي الدلالة على عدم دخل بقية القيود غير القيد الخاص ـ فتبقى الثانية حجة مع سقوط الأولى ، لمنافاتها للخاص ، وقد سبق المنع منه.

على أن ما ذكره من الوجه يبتني على أن استفادة العموم لتمام أفراد. المدخول من الأدوات الموضوعة له يتوقف على جريان مقدمات الحكمة في المدخول ، وقد سبق في المبحث الأول من الفصل السابق المنع منه.

كما سبق هنا أن المهم تحقيق الظهور في إرادة الباقي ، ولا يهم تحقيق أن استعمال العام في مورد التخصيص حقيقي أو مجازي.

الثالث : ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من أن العام في مورد التخصيص لا يلزم استعماله في الخصوص ، ليكون مجازا مرددا بين مراتب الخصوص ، بل يمكن استعماله في العموم من باب ضرب القاعدة مع كون الخاص مانعا من حجية ظهوره تحكيما للنص أو الأظهر على الظاهر ، لا مصادما لأصل ظهوره في

٧٠

العموم ، فيقتصر في الخروج عنه على مورد المزاحمة ، وهو مورد التخصيص ، ويرجع إلى ظهوره في الباقي.

ودعوى : أن ذلك مجرد احتمال لا يرتفع به إجمال العام ، لاحتمال عدم استعماله في العموم بقرينة الخاص ، بل في بعض مراتب الخصوص التي يلزم بسبب عدم تعيينها الإجمال.

مدفوعة : بأن مجرد احتمال الخروج بالعام عما وضع له من العموم لا يمنع من الرجوع لأصالة الحقيقة فيه بعد فرض استقرار ظهوره في العموم المطابق لها ، بل يتعين البناء عليه والاقتصار في الخروج عنه على مورد مزاحمته بالخاص ، هذا حاصل ما يستفاد من كلامه قدّس سرّه.

ولا يخلو المراد به عن إجمال ، لأن القاعدة إذا كانت مجعولة حقيقة بنحو العموم لبيان الحكم الواقعي امتنع مخالفتها بالتخصيص ، إلا أن يرجع إلى النسخ الذي هو خلاف الفرض.

ومن هنا فقد يوجه ما ذكره بوجهين ..

أحدهما : أن العام لم يرد لبيان الحكم الواقعي ، بل الظاهري الذي يكون قاعدة يرجع إليها عند الشك ، فإنه كثيرا ما لا يتسنى بيان الحكم الواقعي بوجه تفصيلي إما لكثرة الخصوصيات المأخوذة فيه بنحو لا مجال معه للمتكلم لاستيعابها بالبيان ولو لخوف ضياعها على المخاطب ، أو لمحذور خارجي في بيان الخصوصيات المأخوذة فيه ، فيبين الحكم الظاهري بوجه عام ثم يبين خلافه في مورد الحاجة.

مثلا : لو علم المولى أن أكثر الواردين عليه يستحق الإكرام ، وأن من لا يستحقه منهم قليل يعسر ضبطه أو لا يحسن بيانه بعنوان جامع له ، فقد يوجه الخطاب لوكيله بدوا بأن عليه ظاهرا أن يكرم كل من يرد عليه ، منبها له على أنه إذا راى أحدا منهم لا يستحق ذلك أعمله به.

٧١

غايته أن القرينة على ورود العام بالنحو المذكور قد لا تضيع ، وقد تضيع فيحمل العام بدوا على بيان الحكم الواقعي ، وبورود الخاص ينكشف حال العام ويحمل على بيان الحكم الظاهري من باب الجمع العرفي.

ويشكل : بأن ذلك وان كان وجها للجمع يرفع به التعارض بين الدليلين ، كما أنه يفي بحجية العام في الباقي ، لوجوب الرجوع للحكم الظاهري عند الشك في الحكم الواقعي.

إلا أنه خلاف الظاهر جدا ، لما فيه من التصرف في موضوع حكم العام بتقييده بالشك في حكمه الواقعي ، وفي نفس حكمه بحمله على التعبد بالحكم ظاهرا في مقام العمل ، لا على جعل نفس الحكم ، كما أن لازمه عدم التنافي بين حكمي العام والخاص وتحكيم الثاني عملا بأقوى الدليلين ، بل شرح الخاص للمراد من العام مع التباين بين حكميهما سنخا ، على وجه يكون ورود الخاص رافعا لموضوع العام.

وكل ذلك مما تأباه المرتكزات العرفية في الجمع بين الأدلة.

ومنه يظهر أن هذا الوجه لا يرجع إلى استعمال العام في العموم ، ليكون مقتضى أصالة الظهور والحقيقة ، لأن تقييد الموضوع بالجهل نحو من التخصيص ، كاستعمال العام في الخاص ، ويزيد عليه بأن حمل القضية على إرادة التعبد بالحكم ظاهرا ، لا على جعله واقعا نحو من الخروج بها عما هي موضوعة له وظاهرة فيه.

ومن هنا كان هذا الوجه خلاف المقطوع به من مرتكزات أهل اللسان ، ولا سيما أهل الاستدلال ، حيث لا إشكال عندهم في أن العام المخصّص من الأدلة الواقعية ، دون الأصول الظاهرية العملية.

ثانيهما : أن العام وإن تضمن بيان الحكم الواقعي التابع لواقع العنوان المأخوذ في العام مع قطع النظر عن الجهل به ، إلا أنه لم يرد لبيان المراد الجدي

٧٢

الذي يجب العمل عليه ، كما هو مقتضى الأصل العقلائي في كلام المتكلم المعبر عنه بأصالة الجهة ، بل لضرب القاعدة التي يرجع إليها عند عدم المخرج عنها ، ويخرج عنها في مورد دليل أقوى منها ، تسهيلا لبيان المراد الجدي فيما لو لم يتسن للمتكلم استيعابه بتمام خصوصياته ببيان واحد ، لما تقدم في الوجه السابق ، إذ كما يكون للمتكلم مخالفة بيانه مراده الجدي لتقية أو لمصلحة الامتحان ، كذلك يكون له مخالفته لمصلحة يتعلق بالبيان نفسه.

وبذلك يظهر الفرق بين هذا الوجه وما قبله ، لابتناء الوجه السابق على ورود العام لبيان المراد الجدي ، وإن كان هو الحكم الظاهري عند الشك ، وابتناء هذا الوجه على تضمن العام الحكم الواقعي من دون أن يكون مرادا جديا ، بل لضرب القاعدة.

كما أن الرجوع لحكم العام ظاهرا عند احتمال التخصيص على الأول مقتضى نفس الحكم المؤدى بالعام ، أما على الثاني فليس هو مقتضى نفس الحكم المؤدى ، لفرض أن المؤدى هو الحكم الواقعي ، بل مقتضى الغرض من بيان القضية ، وهو ضرب القاعدة التي يرجع إليها عند عدم المخصص.

ودعوى : أنه مع عدم ورود العام لبيان المراد الجدي لا مجال لحجيته في الباقي ، لأن الخاص وإن لم يصلح لبيان عدم إرادة غير مورده بالإرادة الجدية ، إلا أنه لا طريق لإحراز إرادة الباقي بإرادة جدية بعد فرض عدم صدور العام لذلك.

والتفكيك في أصالة الجهة بالإضافة لأفراد العام مما لا مجال له مع وحدة الاستعمال والبيان. نظير : ما لو علم بصدور العام تقية واحتمل إرادة بعض أفراده بارادة جدية ومطابقة مضمونة فيه للحكم الواقعي.

مدفوعة بأن مبنى ضرب القاعدة ـ الذي فرض في هذا الوجه ـ على ذلك ، وإلا لم يصلح العام لأن يكون قاعدة يرجع إليها في مقام العمل عند فقد المعارض.

٧٣

هذا حاصل ما قد يوجه به كلام المحقق الخراساني قدّس سرّه. ولعله أقرب إلى كلامه من الوجه السابق ، لظهور كلامه في أن تقديم الخاص لأنه أقوى الدليلين ، لا لأنه رافع لموضوع حكم العام. كما شيد هذا الوجه غير واحد من مشايخنا على اختلاف منهم في بيانه.

لكنه يشكل ..

أولا : بأن مرجع ذلك إلى رفع اليد عن أصالة الجهة في العام ، وليس هو بأولى من رفع اليد عن أصالة الظهور والحقيقة فيه بحمله على الاستعمال في الخصوص.

بل لعل العكس هو الأولى ، وأن أصالة الجهة مقدمة على أصالة الظهور ، ولذا كان بناء أهل الاستدلال على عدم حمل أحد الدليلين على التقية إلا مع تعذر الجمع عرفا بينهما بالتصرف في ظهور أحدهما أو ظهورهما معا ولو بنحو يلزم المجاز.

على أن رفع اليد عن أصالة الجهة في العام ليس بأولى من رفع اليد عنها في الخاص ، بحمله على التقية أو نحوها ، لأن أقوائية الخاص ليست من حيثية جهة ، بل من حيثية ظهوره ، وذلك إنما يقتضي تقديمه على العام من حيثية الظهور مع المحافظة على أصالة الجهة فيهما معا ، لا تقديمه على العام من حيثية الجهة مع المحافظة على أصالة الظهور فيهما معا ، كما هو مقتضى هذا الوجه.

وثانيا : بأن هذا الوجه لا يصلح لتوجيه الرجوع للعام المخصّص عند الشك في زيادة التخصيص بعد فرض منافاة الخاص له ، لأنه قد اخذ فيه مفروغا عنه ، حيث كان غرضا من العام لم ينظر في وجه ترتبه عليه ، لما تقدم من أن ترتبه عليه بعد البناء على هذا الوجه مقتضى فرض كون الغرض من العام ضرب القاعدة. فهو أشبه بالقضية بشرط المحمول لا تتكفل ببيان وجه ترتب المحمول.

٧٤

وهذا بخلاف الوجه السابق ، لأن ابتناءه على حمل العام على الحكم الظاهري مستلزم لعدم التنافي بين العام والخاص الوارد لبيان الحكم الواقعي ، فيكون الرجوع للعام مع الشك في وجود الخاص الآخر مقتضى عموم العام غير المخصص في الحقيقة والذي لا منافي له ، الذي هو حجه بلا إشكال.

وبالجملة : لا يصح كون الغرض من العام ـ المفروض تضمنه الحكم الواقعي ـ ضرب القاعدة التي يرجع إليها عند الشك في زيادة التخصيص إلا بعد الفراغ عن حجية العام المخصّص ، فلا يصلح لأن يكون توجيها لحجية العام المذكور الذي هو محل الكلام.

بل لا أثر للبناء عليه مع ذلك بعد عدم وقف الأثر العملي عليه.

نعم ، لو ابتنى هذا الوجه على مجرد رفع اليد عن أصالة الجهة في العام بالإضافة إلى مورد التخصيص من دون أن يبتني على كون الغرض منه ضرب القاعدة التي يرجع إليها عند عدم المخرج عنها ـ كما قد يظهر من بعض تقريباته في كلماتهم ـ كان بنفسه صالحا لبيان وجه الرجوع للعام المخصص بعد فرض الاستعمال في العموم وجريان أصالة الجهة فيه بالإضافة إلى بقية الأفراد.

لكن يتوجه عليه حينئذ ما سبق من أنه لا مجال للتفكيك في أصالة الجهة في العام بالإضافة إلى أفراده مع وحدة الاستعمال والبيان.

وربما يظهر من بعض كلماتهم تقريب هذا الوجه بأن الخاص لا يقتضي رفع اليد عن ظهور العام في الاستعمال في العموم ، ولا عن أصالة الجهة فيه ، بل عن حجيته في الفرد بإرجاع أصالة الجهة إلى الحجية ، وحيث كان منشأ رفع اليد بالخاص عن حجية العام معارضته له وأقوائيته منه لزم الاقتصار على مورد المعارضة ، دون غيره.

ويشكل : بأن حجية الكلام متفرعة عن كاشفيته عرفا ـ بمقتضى سيرة أهل اللسان ـ عن مراد المتكلم الجدي التابع للملاك والمستتبع للعمل ، وحيث يمتنع إرادة المتنافيين بالوجه المذكور كان الخاص منافيا للعام لو كان مستعملا في

٧٥

العموم بداعي المراد الجدي.

فإن كان المدعى كاشفيته عن عدم استعمال العام في العموم امتنع العمل بالعام مع عدم تعيين ما استعمل فيه ـ كما قرر في أصل الإشكال ـ

وإن كان المدعى كاشفيته عن عدم صدور العام بداعي بيان المراد الجدي رجع لهذا الوجه الذي عرفت الكلام فيه.

وأما رافعيته لحجيته في الفرد من دون أن يكشف عن أحد الأمرين فلا نتعقله.

الرابع : ما أشار إليه بعض الأعاظم قدّس سرّه في توجيه حجية العام المخصص من أن تخصيص العام لا يستلزم عدم إرادة العموم منه ، لإمكان أن يراد العموم منه إرادة تمهيدية ، ليكون ذكر العام توطئة لبيان مخصصه.

وفيه : أن المراد إن كان هو التمهيد بضرب القاعدة التي يرجع إليها تسهيلا للبيان رجع للوجه السابق ، وجرى فيه ما تقدم.

وإن كان هو التمهيد البياني ، نظير التمهيد بذكر عموم الحكم للمستثنى منه او الموصوف لذكر التقييد بالمستثنى أو الوصف.

فهو إنما يتم في التخصيص المتصل بهيآت خاصة ويكون المحصل معه من مجموع الكلام مضمونا واحدا عرفا ، وهو إرادة تمام أفراد الباقي ، ولا مجال لذلك في التخصيص المنفصل الذي يكون المحصل منه مضمونا مباينا لمضمون العام عرفا ومنافيا له بنحو لا بد من الجمع بينهما.

وصحة اتكال المتكلم أو خصوص الشارع على القرائن المنفصلة كالمتصلة لا يصحح التمهيد لها بالنحو المذكور بعد خروجه عن طريقه أهل المحاورة في الاستعمال.

غاية الأمر أنها تكون صالحة لرفع اليد بها عن مقتضى الظهور المنعقد للكلام الآخر ، ومن الظاهر أنها كما قد تكون قرينة عرفا على تعيين المراد به على خلاف مقتضاه الأول ، كذلك قد تكون موجبة للتوقف في مفاده وصيرورته

٧٦

بحكم المجمل ، فلا بد في بيان وجه عدم إجمال العام في المقام بعد النظر في حجة القائلين به.

ولعل الأولى أن يقال : الوجه في حجية العام المخصّص في الباقي بناء أهل المحاورة على ذلك وسيرتهم القطيعة الارتكازية التي جرت على طبقها سيرة العلماء في مقام الاستدلال من صدر الإسلام إلى يومنا هذا بمقتضى طبعهم من غير نكير منهم ولا توقف.

ولا يعتنى بخلاف من تقدم لشبهة حصلت له بعد شذوذه وخروجه عن سيرتهم وسيرة أهل المحاورة ، التي لولاها لاختل نظام الاستدلال واستنباط الأحكام ، لكثرة التخصيص في العمومات ، حتى قيل : ما من عام إلا وقد خص.

وكفى بسيرة أهل المحاورة وارتكازياتهم حجة في المقام ، لأنها الدليل على حجية الظواهر الكلامية في جميع الموارد.

والظاهر ابتناء حجية العام في الباقي عندهم على صرف العام للباقي بعد تعذر إبقائه على عمومه بسبب الخاص ، لا لكون الخاص ناظرا له وشارحا للمراد منه ، ولا لكون الباقي أقرب المجازات ، ولا لكون دلالة العام على أفراده انحلالية ، ولا لبقية الوجوه المتقدمة ، لما سبق من الإشكال فيها.

بل لكون العام بنظر العرف من سنخ المقتضي للكشف عن إرادة المتكلم لأفراده وأحواله ، فلا يرفع اليد عنه فيها إلا في مورد المزاحمة بالخاص ، عملا بالمقتضي ما لم يثبت المانع ، بناء منهم على التفكيك بين الأفراد والأحوال في استكشاف مراد المتكلم من العام ، لخصوصية في العام ، لا لعموم التفكيك في الحجية بين الدلالات التضمنية.

نعم ، لا بد من كون الباقي صالحا لأن يحمل العام عليه عرفا ، ولا يكون سوقه لأجله مستنكرا عند أهل المحاورة ومستهجنا لديهم ، وإلا امتنع حمل العام عليه ، ولزم الجمع بوجه آخر إن أمكن ، وإلا كان التعارض بين العام والخاص مستحكما ، كما لو لزم تخصيص الأكثر أو أظهر الأفراد أو المورد أو

٧٧

غيرها. كما لا بد من تعيين الخاص للتقديم عرفا في مقام الجمع بينهما ، فلو كان هناك وجه آخر صالح لأن يبنى عليه في مقام الجمع تعين اختياره ان كان أقرب عرفا ، ولزم التوقف مع عدم المرجح لأحدهما.

وحيث لا ضابط لذلك تعين إيكاله لنظر الفقيه عند الابتلاء بالأدلة ومحاولة الجمع بينها. إلا أن المفروض في محل الكلام تقديم الخاص ورفع اليد به عن عموم العام ، كما سبق في أول الفصل.

هذا ، وبعد الفراغ عن تقديم الخاص على العام ، وحجية العام في الباقي معه ، فالعام المخصص يبتني صدوره ثبوتا ..

تارة : على التسامح والتوسع في العموم بتنزيل الأفراد الخارجة بالتخصيص منزلة العدم لقلتها أو عدم الاعتداد بها ، أو في اللفظ الدال على الماهية بارادة المقيد منها مجازا ، لقرينة اختفت علينا.

واخرى : على وجود قرينة على التخصيص المتصل ، الذي تقدم أنه لا يبتني على المجاز ، وقد اختفت تلك القرينة أيضا ، وعلى الوجهين لا يكون العام ظاهرا في العموم حين صدوره ، وإن ظهر فيه بعد ذلك بسبب اختفاء القرينة والتعويل على أصالة عدمها.

وثالثة : على كون الداعي من بيان العام الظاهر في العموم حين صدوره ضرب القاعدة التي يرجع إليها في مقام العمل اعتمادا على البيان المنفصل وقت الحاجة ، وإن لم يكن العموم مرادا جديا ... إلى غير ذلك مما يمكن ثبوتا ، وإن لم يدركه العرف في مقام الجمع بين العام والخاص ، بل لا يدركون إلا مجرد صرف الخاص للعام عن مورده إلى الباقي ، وحجيته فيه لأجل ذلك ، لأن ذلك هو المهم الذي يناط به العمل ، فيقتصر نظر العرف عليه ، وما سواه امور واقعية لا دخل لها في العمل قد تدرك بدليل خارج وقد لا تدرك.

٧٨

الفصل الرابع

في إجمال الخاص واشتباهه

لا إشكال في أن التمسك بالدليل في مورد فرع إحراز موضوعه فيه ، فلا يتمسك به مع عدم إحرازه للشبهة الموضوعية أو لإجمال الدليل بنحو الشبهة المفهومية أو غيرها.

ومن هنا لا إشكال في عدم حجية كل من العام والخاص مع عدم إحراز عنوانه. وإنما الإشكال والكلام بينهم في حجية العام بعد إحراز عنوانه في مورد إجمال الخاص والشك في تحقق عنوانه.

هذا ، وحيث سبق أن المخصّص المتصل مانع من انعقاد ظهور العام في العموم تعين عدم حجية العام في مورد اشتباه الخاص المتصل وإجماله مطلقا لسريان إجمال الخاص المذكور للعام ، ويكون العام مجملا بالإضافة إليه حقيقة ، كما لو كان الإجمال والاشتباه في عنوان العام بنفسه.

ومن هنا ينبغي جعل موضوع الكلام اشتباه الخاص المنفصل الذي لا يسري إجماله إلى العام حقيقة ، ولا يمنع من انعقاد ظهوره في العموم الذي عرفت أنه المقتضي للحجية.

إذا عرفت هذا ، فإجمال الخاص واشتباهه في بعض الموارد ..

تارة : يكون للشبهة المفهومية.

واخرى : للشبهة المصداقية ، بسبب اشتباه الامور الخارجية مع وضوح المفهوم وعدم إجمال معنى الخاص.

٧٩

فيقع الكلام في مقامين ..

المقام الأول

في الشبهة المفهومية.

والمعيار فيها خفاء المراد بالخاص ، إما لإجمال مفهوم عنوانه لغة أو شرعا أو عرفا ، أو لاحتفافه بما يمنع من انعقاد ظهوره ويوجب إجماله.

بل يكفي إجماله حكما مع انعقاد ظهوره بدوا ، بسبب القرائن المنفصلة الكاشفة عن عدم إرادة ظاهره به ، وأن المراد به أمر آخر مورد للإجمال.

ولا يخفى أن الإجمال بأحد الأنحاء المذكورة ..

تارة : يكون للتردد بين الأقل والأكثر ، حيث يكون الأقل متيقنا والزائد مشكوكا ، كما لو تردد الفاسق بين مطلق العاصي وخصوص مرتكب الكبيرة ، حيث يكون مرتكب الصغيرة فقط موردا للاشتباه ، وكما لو تردد المسافر بين مطلق من خرج عن بلده وخصوص قاطع المسافة بنحو يوجب التقصير شرعا.

واخرى : يكون للتردد بين المتباينين ، لاشتراك أو غيره ، كما لو تردد زيد بين رجلين.

ومنه ـ إذا تردد بين مفهومين بينهما عموم من وجه ، كما لو تردد الشريف بين العلوي وذي الشأن والمقام الاجتماعي ، لأن مورد الاجتماع وإن كان متيقنا من الخاص ـ نظير صورة التردد بين الأقل والأكثر ـ إلا أن تباين موردي افتراق كل منهما ، والعلم بارادة أحدهما إجمالا كاف في جريان حكم المتباينين ، إذ لا أثر لوجود المتيقن في محل الكلام ، حيث لا إشكال في حجية الخاص دون العام فيه ، وإنما الإشكال في حجية العام في مورد الشك ، الذي قد يختلف حاله مع العلم الإجمالي.

٨٠