شرح كتاب سيبويه - ج ٣

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٣

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

ذكره فيه.

وأما قوله :

ويسلم عامر (١)

فرفعه على أن (الواو) واو حال ، كأنه قال : وعامر هذه حاله ، وتأويله : وعامر يسلم ، لأن (واو) الحال تطلب الأسماء المبتدأة ، والنصب في (يسلم) أجود مثل قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)(٢).

لأن معناه : لأن كنت مقتولا مع سلامة عامر.

هذا باب أو

واعلم أن ما انتصب بعد (أو) فإنه ينتصب على إضمار (أن) كما انتصب في (الفاء) و (الواو) على إضمارها ، ولا يستعمل إظهارها كما لم يستعمل في (الفاء) و (الواو) ؛ والتمثيل هاهنا مثله ثمّ هذا تفسير لكلامه وقع في النسخ هكذا تقول إذا قال : لألزمنك أو تعطيني ، كأنه قال : ليكن اللزوم أو أن تعطيني. واعلم أن معنى ما انتصب بعد (أو) على إلا (أن) ، كما كان معنى ما انتصب بعد الفاء على غير معنى التمثيل ، تقول : لألزمنك أو تقضيني ، ولأضربنّك أو تسبقني ، والمعنى : لألزمنك إلا أن تقضيني ، ولأضربنك إلا أن تسبقني. هذا معنى النصب. قال امرؤ القيس :

فقلت له لا تبك عينك إنمّا

نحاول ملكا أو نموت فنعذرا (٣)

والقوافي منصوبة ، والتمثيل على ما ذكرت لك ، والمعنى على : إلا أن نموت فنعذرا ، وإلا أن تعطيني ، كما كان تمثيل (الفاء) على ما ذكرت لك ، وفيه المعاني التي فصلت لك.

ولو رفعت كان عربيا جائزا على وجهين :

على أن تشرك بين الأول والآخر.

وعلى أن يكون مبتدأ مقطوعا من الأول ، يعني : ونحن ممن يموت. وفي القرآن : (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)(٤).

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٤٢.

(٣) البيت في ديوانه ٦٦ ، ابن يعيش ٧ / ٢٢٢.

(٤) سورة الفتح ، الآية : ١٦.

٢٤١

وإن شئت كان على الاشتراك ، وإن شئت كان على : أو هم يسلمون. وقال ذو الرمة :

حراجيج ما تنفكّ إلا مناخة

على الخسف أو نرمي بها بلدا فقرا (١)

فإن شئت لكان على ألا تنفك نرمي بها ، أو على الابتداء.

وتقول : الزمه أو يتقيك بحقك ، واضربه أو يستقيم ؛ وقال زياد الأعجم :

وكنت إذا غمزت قناة قوم

كسرت كعوبها أو تستقيما (٢)

معناه : إلا أن ، وإن شئت رفعت في الأمر على الابتداء ، لأنه لا سبيل إلى الاشتراك.

وتقول : هو قاتلي أو افتدي منه ؛ وإن شئت ابتدأته كأنه قال :

أو أفتدي ، وقال طرفة بن العبد :

ولكنّ مولاي امرؤ هو خانقي

على الشّكر والتّسآل أو أنا مفتدى (٣)

وسألت الخليل عن قول الله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ)(٤) فزعم أن النصب محمول على (أن) سوى هذه التي قبلها ؛ ولو كانت هذه الكلمة على (أن) لم يكن للكلام وجه ، ولكنه لما قال : ((إلا وحيا)) كان في معنى : إلا أن يوحي ، وكان (أو يرسل) فعلا لا يجري على (إلا) ، فأجرى على (أن) هذه ، كأنه قال : إلا أن يوحي أو يرسل ، لأنه لو قال : إلا وحيا وإلا أن يرسل ، كان حسنا ، وكان (أن يرسل) بمنزلة الإرسال ، فحملوه على (أن) ، إذا لم يجز أن يقولوا : أو إلا يرسل ، فكأنه قال : إلا وحيا أو أن يرسل قال الحصين بن الحمام المري :

ولو لا رجال من رزام أعزة

وآل سبيع أو أسوءك علقما (٥)

يضمر (أن) وذلك لأنه امتنع أن يجعل الفعل على (لو لا) فأضمر (أن) كأنه قال : لو لا ذاك ، ولو لا أن أسوءك.

__________________

(١) البيت في ديوانه ١٧٣ ، الخزانة ٤ / ٩٤ ؛ الكتاب ٣ / ٤٨.

(٢) البيت في ديوانه ١٠١ ، الكتاب ٣ / ٤٨ ؛ المقتضب ٢ / ٩٢.

(٣) البيت في ديوانه ، الكتاب ٣ / ٤٩.

(٤) سورة الشورى ، الآية : ٥١.

(٥) البيت في ديوانه ، الخزانة ٣ / ٣٢٤ ؛ ابن يعيش ٣ / ٥٠.

٢٤٢

وبلغنا أن أهل المدينة يرفعون هذه الآية : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ) [الشورى : ٥١]. فكأنه قال ـ والله أعلم ـ : الله لا يكلم البشر إلا وحيا أو يرسل رسولا ، أي في هذه الحال ، وهذا كلامه إياهم ، كما تقول العرب : تحيتك الضرب ، وعتابك السيف ، وكلامك القتل ؛ وقال عمرو بن معدي كرب :

وخيل قد دلفت لها بخيل

تحية بينهم ضرب وجميع (١)

وسألت الخليل عن قول الأعشى :

إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا

أو تنزلون فإنّا معشر نزل (٢)

فقال : الكلام هاهنا على قولك : أيكون كذا ، أو يكون كذا ، لما كان موضعها لو قال فيه : أتركبون لم ينقض المعنى ، صار بمنزلة قولك :

ولا سابق شيئا (٣)

وأما يونس فقال : أرفعه على الابتداء ، كأنه قال : وأنتم نازلون ، على هذا الوجه فسّر الرفع في الآية ، كأنه قال : أو هو يرسل رسولا ، كما قال طرفة بن العبد :

أو أنا مفتدى (٤)

وقول يونس أسهل ، وأما ما قاله الخليل فجعله بمنزلة قول زهير :

بدا ليّ أني لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا (٥)

والاشتراك على هذا التوهم بعيد كبعد (ولا سابق شيئا). ألا ترى أنه لو كان هذا كهذا لكان في (الواو) و (الفاء) ؛ وإنما توهم هذا فيما خالف معناه التمثيل.

قال أبو سعيد : أصل (أو) العطف حيث كانت ، والمنصوب بعدها على وجهين :

أحدهما : أن يتقدم فعل منصوب بناصب من الحروف ، ثم يعطف عليه ب (أو) كما يعطف بسائر حروف العطف ، كقولك : أريد أن تخرج إلى الكوفة أو تلازم زيدا ، أو مدحت الأمير كي يهب لي دنانير أو يحملني على دابة ؛ ومعناها أحد الأمرين ؛ وفي هذا

__________________

(١) البيت في ديوانه ١٤٩ ، الخزانة ٩ / ٢٥٢ ؛ الكتاب ٣ / ٣٢.

(٢) البيت في ديوانه ١١٣ ؛ الخزانة ٨ / ٣٩٤ ؛ الكتاب ٣ / ٥١.

(٣) هذا جزء من بيت قاله زهير بن أبي سلمى وقد سبق تخريجه.

(٤) سبق تخريجه.

(٥) سبق تخريجه.

٢٤٣

المعنى يجوز أن يكون ما بعدها مرفوعا ومجزوما ، فالمرفوع نحو قولك : أنا ألزمك أو أخرج لك إلى صنيعتك ؛ والمجزوم : ليخرج زيد إلى البصرة أو يقم في مكانه.

والآخر : أن يخالف ما بعدها ما قبلها ، ويكون معناها مع ما بعدها معنى (إلا أن) والفصل بين هذا وبين الأول أن الأول لا تعلق بين ما قبل (أو) وبين ما بعدها ، وإنما هو دلالة على أحد الأمرين ، وليس بين الأمرين ملابسة. كما لا ملابسة بين (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦] ، إنما هو إخبار بوجود أحدهما. وكذلك أنا ألزمك أو أخرج إلى ضيعتك ، بما هو إخبار بوجود لزوم أو وجود خروج إلى الضيعة ، وهذا كعطف الاسم على الاسم ب (أو) كقولك : جاءني زيد أو عمرو ونحوه.

والوجه الثاني : الفعل الأول فيه قبل (أو) كالعام في كل زمان ، والثاني كالمخرج من عمومه ، ولذلك صيّر معناه معنى (إلا أن) ؛ ألا ترى أن قولك : (لألزمنك) متضمن للأوقات المستقبلة ، وكذلك لأضربنك فإذا قلت أو تقضيني أو تسبقني ، فقد أخرجت بعض الأوقات المستقبلة من ذلك المتضمّن وكأن التقدير : لألزمنك إلا الوقت الممتد الذي أوله قضاؤك لي ، ولأضربنك إلا الوقت الذي أوله سبقك إياي ؛ واجتمع (أو) و (إلا) في هذا المعنى للشبه الذي بينهما في العدول عما أوجبه اللفظ الأول ؛ وذلك إذا قلنا : جاءني القوم إلا زيدا ، فاللفظ الأول قد أوجب دخول (زيد) في القوم لأنه منهم ، فإذا قلت (إلا) ، فقد أبطلت ما أوجبه اللفظ الأول ، وإذا قلت : جاءني زيدا وعمرو ، فقد وجب المجيء لا لزيد في اللفظ قبل دخول (أو) ، فلما دخلت بطل ذلك الوجوب ؛ ولهذا المعنى احتيج إلى تقدير الفعل مصدرا وعطف الثاني عليه ، فذلك التقدير على ما مضى في (الفاء) ، وجاز : أو نموت فنعذر ، على وجهين : بالعطف على (تحاول) وبالاستئناف ؛ لأن المعنى لا يفسد وأما (تقاتلونهم أو يسلمون) فالثاني عطف على الأول ، والذي يقع من ذلك أحد الأمرين إما القتال وإما الإسلام.

وذكر أن في بعض المصاحف : أو يسلموا ، ويسلموا نصب على معنى (إلا أن) فيجوز أن يقع القتال ثم يرتفع بالإسلام. وأما

حراجيح لا تنفكّ إلا مناخة (١)

فالأصمعي وأبو عمر الجرمي ومن بعدهما كانوا يقولون : أخطأ ذو الرمة ، لأنه لا يقال : لا يزال زيد إلا قائما ، كما لا يقال : يزال زيد قائما ، لأن ذلك لا يستعمل إلا بلفظ

__________________

(١) صدر بيت سبق تخريجه.

٢٤٤

الجحد ، وإذا استثنينا صار الجحد إيجابا ، فلذلك لم يجز الاستثناء منه ؛ و (لا تنفك) بمعنى : لا تزال.

قال أبو سعيد : ولقول ذي الرمة وجهان صحيحان :

أحدهما : أن يكون (تنفك) بغير معنى : تزال ، ويكون بمعنى : انفك الشيء من الشيء إذا انفصل منه ، كما يقال : فككت الغلّ عنه فانفك ، وفككت زيدا مما وقع فيه فانفك منه.

ويجوز دخول الاستثناء في هذا الوجه ، تقول : ما انفك زيد إلا بعد شدّة ، فيكون التقدير : لا ينفك من الشدة والسير إلا مناخة على الخسف ؛ كما تقول :

ما انفصل زيد من الموضع إلا مجهودا.

والوجه الثاني : أن يكون (على الخسف) خبر (تنفك) ، و (إلا مناخة) استثناء مقدم. فكأنا قلنا : لا تنفك مجهودة ، كما تقول : لا تزال مجهودة إلا في حال إناختها ، فإنها تستريح إذا أنيخت.

وقوله :

أو نرمى بها بلدا قفرا (١)

فيه وجهان :

الأول : أن يكون معطوفا على خبر (تنفك) وهو (على الخسف) ، كأنك قلت : لا تزال على الخسف ، ولا نزال نرمي بها بلدا قفرا ؛ ويجوز أن يكون على الابتداء ، أو نحن نرمي بها بلدا قفرا.

ويجوز الرفع في :

كسرت كعوبها أو تستقيما (٢)

فيقال : أو تستقيم ، في غير هذه القصيدة ، لأن (كسرت) في موضع رفع لأنه جواب (إذا) ، وجوابها بالفعل المستقبل رفع.

وأما قول الله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً)(٣). فقوله (يرسل) لا يجوز أن يكون معطوفا على

__________________

(١) عجز بيت سبق تخريجه.

(٢) عجز بيت سبق تخريجه.

(٣) سورة الشورى ، الآية : ٥١.

٢٤٥

(يكلمه الله) ولا يكون الناصب له (أن) هذه الظاهرة ، لأنا إذا أوقعنا (أن) هذه الظاهرة على (يرسل) صار التقدير : ما كان لبشر أن يرسل الله إليه رسولا وهذا فاسد في المعنى ولكنه محمول على ما بعد إلا وتقديره : ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي إليه أو يرسل إليه ، وهو عطف مصدر على مصدر.

وأما من قرأ : ((أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه)) فإنه يجعل (وحيا) بمنزلة (موحيا) ، كما تقول : أتاني زيد مشيا أي ماشيا ، فيكون (وحيا) الذي هو مصدر في موضع اسم الفاعل حالا ، و (يرسل) فعل مستقبل في موضع اسم الفاعل حال معطوف على (وحيا) ، تقول : جاءني زيد يضحك في معنى : ضاحكا.

وأما قول الأعشى :

أو تنزلون فإنّا معشر نزل (١)

فقد ذكر سيبويه فيه قول الخليل على تقدير : أو تركبون أو تنزلون ، وذكر عن يونس أنه يرفعه على الابتداء كأنه قال : أو أنتم نازلون قال وقول يونس أسهل.

قال أبو سعيد : وفيه قول ثالث ، وهو عندي أسهل من هذين القولين ، وهو أن تقدر في موضع (إن تركبوا) إذا تركبون ، لأن (إن) و (إذا) يجازى بهما وهما مقارنان في معنى ما يريده المتكلم ، وإن كان بعد (إن) مجزوم ، وبعد (إذا) مرفوع ؛ فإذا قدرنا (أتركبون) وهو في معنى (أن تركبوا) عطفنا (أو تنزلون) عليه في التقدير.

قال سيبويه : لما ذكر قول الخليل في (أو تنزلون) وعطفه على تقدير (أتركبون) وأنه جعله كقول زهير (ولا سابق شيئا) على تقدير : لست بمدرك ما مضى ، والاشتراك على هذا التوهم بعيد كبعد (ولا سابق شيئا) ، يعني بعد عطف (أتنزلون) على توهمهم (أتركبون) كبعد عطف (سابق) على توهم (بمدرك ما مضى) ؛ ولو كان هذا كهذا التوهمّ في (الفاء) و (الواو) من غير ضرورة إلى ذلك.

وقيل : هو يأتيك فيحدثك ، على توهم : يكون منه إتيان فحديث ؛ وإنما تفعل ذلك فيما خالف معناه التمثيل للضرورة نحو : لا تأته فيشتمك ، على : لا يكون منك إتيان فشتيمة. وباقي الباب مفهوم مستغنى عن شرحه بما ذكره سيبويه أو بشرح نظائره.

__________________

(١) عجز بيت سبق تخريجه.

٢٤٦

هذا باب اشتراك الفعل في (أن) وانقطاع الآخر من الأول الذي

عمل فيه (أن)

فالحروف التي تشرك : الواو ، والفاء ، وأو ، وثم. وذلك قولك : أريد أن تأتيني ثم تحدثني ، وأريد أن تفعل ذلك وتحسن ، وأريد أن تأتينا فتبايعنا ، وأريد أن تنطق بجميل أو تسكت. ولو قلت :

أريد أن تأتيني ثم تحدثني جاز ، كأنك قلت : أريد إتيانك ثم تحدثني ويجوز الرفع في جميع هذه الحروف التي تشرك على هذا المثال ،

وقال ـ الله تبارك ـ : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ)(١) ثم قال ـ عزوجل ـ : (وَلا يَأْمُرَكُمْ)(٢) ، فجاءت منقطعة من الأول ، لأنه أراد : ولا يأمركم الله ؛ وقد نصبها بعضهم على قوله : وما كان لبشر أن يأمركم أن تتخذوا.

وتقول : أريد أن تأتيني فتشتمني ، لم يرد الشتيمة ، ولكنه أراد : كلما أردت إتيانك شتمتني ؛ هذا معنى كلامه ، فمن ثم انقطع من أن.

قال :

يريد أن يعربه فيعجمه (٣)

أي : فإذا هو يعجمه. وقال الله ـ تبارك وتعالى ـ : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ)(٤) أي : ونحن نقر في الأرحام ، لأنه ذكر الحديث للبيان ، ولم يذكره للإقرار ؛ وقال الله ـ جل ثناؤه ـ : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى)(٥) فانتصب لأنه أمرها بالإشهاد لأن تذكّر ، ومن أجل أن تذكّر.

فإن قال إنسان : كيف جاز أن نقول : أن تضلّ ، ولم يعدّ هذا للضلال والالتباس؟ فإنما ذكر (أن تضلّ) لأنه سبب الإذكار ، كما يقول الرجل :

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٧٩.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ٨٠.

(٣) البيت ورد منسوبا لرؤبة بن العجاج ونسب أيضا إلى الحطيئة ، ملحقات ديوان رؤبة ١٨٦ ، ديوان الحطيئة ١٢٣.

(٤) سورة الحج ، الآية : ٥.

(٥) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٢.

٢٤٧

أعددته أن يميل الحائط فأدعمه ، وهو لا يطلب بإعداده ذلك ميل الحائط ، ولكنه أخبر بعلة الدّعم وسببه.

وقرأ أهل الكوفة : (فتذكّر) رفعا.

وسألت الخليل عن قول الشاعر :

فما هو إلّا أن أراها فجاءة

فأبهت حتىّ ما أكاد أجيب (١)

فقال : أنت في (أبهت) بالخيار ، إن شئت حملتها على (أن). وإن شئت لم تحملها عليه ، فرفعت ، كأنك قلت : ما هو إلا الرأي فأبهت.

وقال ابن أحمر فيما جاء منقطعا من (أن):

يعالج عاقرا أعيت عليه

ليلقحها فينتجها حوارا (٢)

كأنه قال : يعالج فإذا هو ينتجها ، وإن شئت على الابتداء.

وتقول : لا يعدو أن يأتيك فيصنع ما تريد ، وإن شئت رفعت ، كأنك قلت : لا يعدو ذلك فيصنع ما تريد.

وتقول : ما عدا أن رآني فيثب ، كأنه قال : ما عدا ذلك فيثب ، لأنه ليس على أول الكلام ، فإن أردت أن تحمل الكلام على (أن) ، فإنّ أحسنه ووجهته أن تقول : ما عدا أن رآني فوثب ، فضعف (يثب) هاهنا كضعف (ما أتيتني فتحدّثني) إذا حملت الكلام على (ما).

وتقول : ما عدوت أن فعلت وهذا هو الكلام ، وما أعدو أن أفعل ، وما آلو أن أفعل ، يعني : لقد جهدت أن أفعل.

وتقول : ما عدوت أن آتيك ، أي : ما عدوت أن يكون ذلك من رأى فيما يستقبل. ويجوز أن يجعل (أفعل) في موضع (فعلت) ولا يجوز (فعلت) في موضع أفعل إلا في مجازاة نحو : إن فعلت فعلت.

وتقول : والله ما أعدو أن جالستك ، أي : أن كنت فعلت ذلك : أي : ما أجاوز مجالستك فيما مضى ، ولو أراد : ما أعدو أن جالستك غدا ، كان محالا ونقضا ، كما أنه لو قال : ما أعدو أن أجالسك أمس كان محالا.

__________________

(١) البيت ورد منسوبا لكثير ٥٢٢ ، الخزانة ٢ / ١٧ ؛ الكتاب ٣ / ٥٤.

(٢) البيت في ديوانه ٧٣ ، ابن يعيش ٧ / ٣٦ ؛ الكتاب ٣ / ٥٤.

٢٤٨

وإنما ذكرت لك هذا التصرّف وجوهه ومعانيه ، وألا تستحيل منه مستقيما ، فإنه كلام يستعمله الناس.

ومما جاء منقطعا من الأول قول عبد الرحمن بن أم الحكم :

على الحكم المأتيّ يوما إذا قضى

قضيته ألا يجوز ويقصد (١)

كأنه قال : عليه غير الجور ، ولكنه يقصد ، أو هو قاصد ، فابتدأ ولم يحمل الكلام على (أن) ، كما تقول : عليه أن لا يجوز ويقصد ، وينبغي له كذا وكذا ؛ فالابتداء في هذا أسبق وأعرف ، لأنها بمنزلة قولك : كأنه قال :

ونؤلك. فمن ثمّ لا يكادون يحملونها على (أن).

قال أبو سعيد : حروف العطف إنما تعطف ما دخل في معنى الأول ، فإن لم يدخل في معناه رفع على الاستئناف كقولك : أريد أن تزورني ، وأريد أن تأتيني فتقعد عني ، وأريد أن تطيعني فتخالفني فما بعد (الفاء) في هذا ونحوه مرفوع لا غير ، لأنه لم يدخل في الإرادة ، و (أن) الناصبة كانت في صلة الإرادة ، فلو نصبنا الثاني ، وعطفناه على الأول ، كان قد دخل في الإرادة ؛ وإنما ينصب بحروف العطف ما يصح دخوله في معنى الأول ، كنحو ما ذكره سيبويه وما يصح دخوله في معنى الأول ؛ وقد يجوز أن يقطع عنه ويستأنف.

وقول الله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً)(٢) من قرأ بالرفع فهو عطف جملة على جملة بعد تمامها ، كأن قوله : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران : ٧٩] قد انقطعت الجملة عند قوله (تدرسون) ثم ابتدأ (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) [آل عمران : ٧٩] ؛ ومن قرأ (وَلا يَأْمُرَكُمْ) فهو في الجملة الأولى ، لأن معناه : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ، ولا كان له أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ؛ وفي هذا الوجه في (يأمركم) ضمير فاعل من (بشر) وفي الوجه الأول ضمير فاعل من (الله) تعالى.

وأما قول الله ـ تبارك وتعالى ـ : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ)(٣) فلا يصح

__________________

(١) البيت في ديوانه ، ابن يعيش ٧ / ٣٨.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ٧٩.

(٣) سورة الحج ، الآية : ٥.

٢٤٩

نصب (نقر) ونحمله على (نبين) ، وذلك أن الله ـ عزوجل ـ ذكر خلق الإنسان من تراب ، ونقله من حال إلى حال وهم معترفون بذلك ، ليبين به البعث الذي لا يعترفون به فقال ـ عز من قائل ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)(١) ، فبين ـ جل ثناؤه ـ بقدرته على هذه الأحوال التي يعترفون بها قدرته على البعث ، لأنه أحيا ما قد بلى ورمّ وصار ترابا من الجلد والعظم وغير ذلك ونقله إلى الحياة ، كنقل التراب إلى الحيوان في الابتداء ؛ وذكر الله ـ تبارك وتعالى ـ ذلك للبيان لهم أمر البعث.

وقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى)(٢) (أن) في صلة ما قبله ، وسياقه : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ)(٣) يعني : إن لم يكن الشهيدان رجلين فالمستشهدون رجل وامرأتان ؛ وبين السبب في جعل المرأتين مكان الرجل وهو إذكار إحداهما الأخرى الشهادة إذا نسيتها ؛ ولو كانت امرأة واحدة فنسيت ، لم يكن لها من يذاكرها للشهادة إذا نسيتها.

فإن قال قائل : يذكرها الرجل الشاهد معها.

قيل له : العادة الجارية أن النساء يلاقين النساء في المجادلة والمؤانسة والمطاولة في المجالسة والحديث ، كما أن الرجال فيما بينهم كذلك ، فلنقصد النساء ضم إلى المرأة مثلها ليقوى بالضم حالهما. وتذكرهما في هذه الحال على ترتيب الكلام ؛ وامرأتان لتذكر إحداهما الأخرى إذا ضلت.

والعرب تتسع في مثل هذا بالتقديم والتأخير ، فيقدمون الإذكار مرة على ما يوجبه الترتيب الذي ذكرناه ، ومرة يقدمون سببه وهو الضلال ، والضلال : النسيان في هذا الموضع ، لأنه لا يقع في ذلك لبس ، ومثله : أعددت الخشب أن يميل الحائط فأدعمه به ، وهو إنما أعده للدعم ، وذكر الميل الذي هو سبب الدعم.

وقراءة أهل الكوفة بكسر (إن) قرأ حمزة : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا) [البقرة : ٢٨٢] كما تقول : إن تأتني فأحسن إليك ؛ ولا يدخل هذا فيما ذكره سيبويه.

وأما (فأبهت) بالرفع ، فهو بمنزلة : فإذا أنا مبهوت ، وهو من نحو :

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٥.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٢.

(٣) المصدر السابق.

٢٥٠

سرت فأدخلها ،

و (فإنّ المندّى رحلة فركوب) (١)

فأما قوله :

يعالج عاقرا أعيت عليه

 ... فينتجها ... (٢)

فرفع (ينتجها) سهو وغلط وذلك لأن العاقر لا تلد ولا يكون لها نتاج ، فكيف يرفع وهو لا يخبر بكونه ، وإنما يصف ابن أحمر رجلا من قومه يعالج أمرا في مكروه ابن أحمر ونسائه لا يتم ولا يكون ، وذلك الأمر هو العاقر ، والرجل يعالجها ليلقحها ولينتجها ، وذلك لا يكون ، كأن هذا الرجل يعالج هذه العاقر لتلد وهي لا تلد ، فلا يكون في (ينتجها) إلا النصب ، وقبل هذا البيت :

أر أنا لا يزال لنا حميم

كداء البطن سلّا أو صغّارا

يعالج عاقرا أعيت عليه

ليلقحها فينتجها حوارا

يدنّس عرضه لينال عرضي

أبا دغفاء ولّدها فقارا

ولّدها فقارا أي : عظاما ، يهزأ به ، وأبا دغفاء : كنية الرجل ودغفاء : حمقاء ، ويقال : عاصت واعتاصت واعتاظت ، ومعناها : ذلهاء امتنعت من الحمل.

وكل واحد من وجهي الرفع لا يصح في (ينتجها) لأنك إذا عطفته على (يعالجها) لم يجز ، لأن العلاج للعاقر يكون ، ونتاجها لا يكون ؛ كما يقال : فلان يطلب ما لا يكون ؛ وإذا جعلته مستأنفا بمعنى : فهو ينتجه ، لم يصح أيضا لأنها عاقر.

وأما الرفع في (لا يعدو أن يأتيك فيصنع ما تريد) ، فلأن (لا يعدو أن يأتيك) بمعنى : يأتيك ، فكأنه قال : يأتيك فيصنع ما تريد ؛ وموضع (لا يعد) موضع فعل مرفوع يعطف عليه (فيصنع ما تريد) ، ومثله :

لا يخالف أمرك فيصنع ما تريد ، لأن معناه : يطيع أمرك (فيصنع ما تريد) عطف عليه.

والكلام في (ما عدا أن يأتي فوثب) كالكلام في (ما أتيتني فحدثتني) وهو مستحسن.

والكلام في (ما عدا أن رآني فيثب) كالكلام في (ما أتيتني فتحدثني) في ضعف

__________________

(١) عجز بيت سبق تخريجه.

(٢) سبق تخريجه.

٢٥١

الرفع إذا أردت العطف على الماضي ؛ وقد ذكرناه في باب الجواب بالفاء وقوله (ما عدوت أن آتيك) فيه وجهان :

أحدهما : أن تريد : ما عدوت فيما مضى أن آتيك فيما استقبل ، ومعناه : رأيت فيما مضى أن آتيك فيما استقبل ، وما تجاوزت فيما مضى اعتقاد أن آتيك في المستقبل.

والوجه الآخر : ما عدوت فيما مضى أن آتيك وتجعل (آتيك) في موضع (آتيتك) ؛ وهذا معنى قوله : ويجوز أن تجعل (أفعل) في موضع (فعلت) ؛ وإنما جاز ذلك لأنك تقول : كنت أتيتك ، وكنت آتيك ، ومعناهما واحد ، وجئتك إذ قام زيد ، وإذ يقوم زيد ، ومعناهما واحد ؛ وإنما يجوز ذلك إذا تقدم قبله شيء قد مضى ، أو شيء فيه دلالة على المعنى ، والفعل المستقبل مصاحب له ، كما تقول : جاءني زيد أمس يضحك ، و (يضحك) وإن كان ماضيا وهو بمنزلة الحال لمصاحبته لجاءني ؛ وكونه في وقته ، ولا يجوز الماضي في موضع المستقبل إلّا في المجازاة نحو : إن فعلت فعلت ، لو قلت : يكون زيد قام ، لم يجز كما جاز : كان زيد يقوم ؛ فهذا فرق واضح وقوله : ما أعدو أن جالستك ، فمعناه : ما أعدو الساعة مجالستك فيما مضى ، كأن المجالسة فيما مضى شيء قد ثبت ، فهو لا يعدوه ولا يتجاوزه ، كما تقول : لا أعدو زيدا ، ولا أعدو دارك ومنزلك ، أي : لا أعدو ذلك إلى غيره.

وإنما لم يجز (ما أعدو أن أجالسك أمس) ، لأن قولك (أعدو) مستقبل ، وإذا كان ابتداء الكلام مستقبلا ، لم يجز أن يكون بعده المستقبل في معنى الماضي ، وإنما قال : (أن) لا يجوز (ويقصد) لأنه جعله بمنزلة : وينبغي له أن يقصد ، فناب (يقصد) عن (ينبغي له أن يقصد) ؛ ومن أجل ذلك تضمن معنى الأمر ، ولم يحمل على (أن) ؛ ومثله في القرآن : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ،)(١) وفيها معنى : ينبغي لهن أن يرضعن ، ويكون في ذلك معنى الأمر ، وإن لم يكن لفظ الأمر ، كما لو قال المولى لعبده : الواجب عليك أن تفعل ، أو الذي أريده منك أن تخرج إلى السوق ، وجب عليه فعل ذلك ، وإن لم يظهر لفظ الأمر له بذلك.

هذا باب الجزاء

فما يجازى به من الأسماء غير الظروف : من ، وما ، وأيّهم. وما يجزي به من

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٣٣.

٢٥٢

الظروف : أيّ حين ، ومتى ، وأين ، وأنىّ ، وحيثما. ومن غيرهما : إن ، وإذ ما.

ولا يكون الجزاء في (حيث) و (لا) في (إذ) حتى يضم إلى كل واحدة منهما (ما) ، فتصير (إذ) مع (ما) بمنزلة (إنما) وكأنما ، وليست (ما) فيهما بلغو ، ولكن كل واحد منهما مع (ما) بمنزلة حرف واحد.

فما كان من الجزاء ب (إذ ما) قول العباس بن مرداس :

إذ ما أتيت على الرسول فقل له

حقا عليك إذا اطمأنّ المجلس (١)

وقال الآخر ، وقالوا : هو لعبد الله بن همام السلولى :

إذ ما تريني اليوم مزجي ظعينتي

أضعّف سيرا في البلاد وأفزع

فإنّي من قوم سواكم وإنّما

رجالي فهم بالحجاز وأشجع (٢)

سمعناهما ممن يرويهما عن العرب ، والمعنى (إما).

ومما جاء من الجزاء ب (أنّي) قول لبيد :

فأصبحت أنّى تأتها تلتبس بها

كلا مركبيها بين رجليك شاجر (٣)

وفي (أين) قول ابن همام السلولي :

أين تضرب بنا العداة تجدنا

نصرف العيس نحونا للتّلاقي (٤)

وإنما منع (حيث) أن يجازي بها أنك تقول : حيث تكون أكون ، ف (تكون) وصل لها ، كأنك قلت : المكان الذي تكون فيه أكون ويبّين هذا أنها في الخبر بمنزلة (إنما) و (كأنما) و (إذا) ، أنه يبتدأ بعدها الأسماء ، أنك تقول : حيث عبد الله قائم زيد ، وأكون حيث زيد قائم.

ف (حيث) كهذه الحروف التي تبتدأ بعدها الأسماء في الخبر ، ولا يكون هذا في حروف الجزاء ؛ فإذا ضممت إليها (ما) ، صارت بمنزلة (إن) وما أشبهها ، ولم يجز فيها ما جاز فيها قبل أن تجيء ب (ما) وصارت بمنزلة (إمّا).

وأما قول النحويين : يجازي بكل شيء يستفهم به ، فلا يستقيم ، من قبل أنك تجازي ب (إن) وب (حيثما) و (إذ ما) ، ولا يستقيم بهن الاستفهام ؛ ولكن القول فيه

__________________

(١) البيت في ديوانه ، الخزانة ٣ / ٤٣٦ ؛ ابن يعيش ٤ / ٩٧ ؛ الكتاب ١ / ٣٤٢.

(٢) البيت في ديوانه ، الخزانة ٩ / ٢٤٩ ؛ ابن يعيش ٧ / ٤٧ ؛ الكتاب ٣ / ٥٧.

(٣) البيت في ديوانه ٢٢٠ ، الخزانة ٧ / ٩١ ، ٩٣ ، ١٠ / ٤٥ ، ٤٦ ؛ الكتاب ٣ / ٥٨.

(٤) البيت في ديوانه ، ابن يعيش ٤٠ / ١٠٥ ، ٧ / ٤٥ ؛ الكتاب ٣ / ٥٨.

٢٥٣

كالقول في الاستفهام ، ألا ترى أنك إذا استفهمت لم تجعل ما بعده صلة؟ والوجه أن تقول : الفعل ليس في الجزاء بصلة لما قبله ، كما أنه في حروف الاستفهام ليس صلة لما قبله ؛ وإذا قلت : حيثما تكن أكن ، فليس بصلة لما قبله ، كما أنك إذا قلت : أين تكون؟ وأنت تستفهم ، فليس الفعل بصلة لما قبله فهذا في الجزاء ليس بصلة لما قبله ، كما أن ذلك في الاستفهام ليس بوصل لما قبله.

ويقول : من يضربك؟ في الاستفهام ، وفي الجزاء : من يضربك اضربه ، فالفعل فيهما غير صلة.

وسألت الخليل عن (مهما) فقال : هي ما أدخلت عليها (ما) لغوا ، بمنزلتها مع (متى) إذا قلت : متى تأتني آتك ؛ وبمنزلتها مع (إن) إذا قلت : إن ما تأتني آتك ؛ وبمنزلتها مع (أين) كما قال الله ـ تبارك وتعالى ـ : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ)(١) ؛ وبمنزلتها مع (أي) إذا قلت :

(أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)(٢) ؛ ولكنهم استقبحوا أن يكرروا لفظا واحدا فيقولوا : ما ما ، فأبدلوا (الهاء) من (الألف) التي في (ما) الأولى ، وقد يجوز أن تكون (مه) كإن ضمّ إليها (ما).

وسألت الخليل عن قوله : كيف تصنع أصنع ، فقال : هي متكرهة ، وليست من حروف الجزاء ، ومخرجها على الجزاء ؛ لأن معناها على أي حال تكن أكن ، وسألته عن (إذا) ، ما منعهم أن يجازوا بها؟ فقال : الفعل في (إذا) بمنزلة الفعل في (إذ) ، إذا قلت : أتذكر إذ تقول ، ف (إذا) فيما يستقبل بمنزلة (إذ) فيما مضى ؛ ويبيّن هذا أن (إذا) يجيء وقتا معلوما ، ألا ترى أنك لو قلت : آتيك إذا احمّر البسر ، كان حسنا ، ولو قلت : آتيك إن احمّر البسر ، كان قبيحا ؛ ف (إن) أبدا مبهمة ، وكذلك حروف الجزاء ؛ و (إذا) توصل بالفعل ، فالفعل في (إذا) بمنزلته في (حين) كأنك قلت :

الحين الذي تأتيني فيه آتيك فيه. قال ذو الرمة :

تصغي إذا شدّها بالرّحل جانحة

حتّى إذا ما استوى في غرزها تثب (٣)

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٧٨.

(٢) سورة الإسراء ، الآية : ١١٠.

(٣) البيت في ديوانه ٤٨ ؛ الكتاب ٣ / ٦٠.

٢٥٤

وقال آخر ، ويقال : وضعه النحويون :

إذا ما الخبز تأدمه بلحم

فذاك أمانة الله الثريد (١)

وقد جازوا بها في الشعر مضطرين ، شبهوها ب (إن) ، حيث رأوها لما يستقبل ، وأنها لا بد لها من جواب. وقال قيس بن الخطيم الأنصاري :

إذا قصرت أسيافنا كان وصلها

خطانا إلى أعدائنا فنضارب (٢)

القافية مكسورة ، وقال الفرزدق :

ترفع ليّ خندف والله يرفع لي

نارا إذا خمدت نيرانهم تقد (٣)

وقال بعض السلوليين :

إذا لم تزل في كلّ دار عرفتها

لها واكف من دمع عينك يسجم (٤)

ويروي : يسكب. فهذا اضطرار ، وهو في الكلام خطأ ، ولكن الجيد قول كعب بن زهير :

وإذا ما تشاء تبعث منها

مغرب الشمس ناشطا مذعورا (٥)

واعلم أن حروف الجزاء تجزم الأفعال ، وينجزم الجواب بما قبله ، وزعم الخليل أنك إذا قلت : إن تأتني آتك ، ف (آتك) انجزمت ب (إن تأتني) ، كما تنجزم إذا كانت جوابا للأمر حين تقول : ائتني آتك.

وزعم الخليل أن (إن) هي أمّ حروف الجزاء ، فسألته : لم قلت ذلك؟

فقال : من قبل أني أرى حروف الجزاء قد يتصرفن فيكنّ استفهاما ، ومنها ما يفارقه (ما) فلا يكون فيه الجزاء ، وهذه على حال واحدة أبدا لا تفارق المجازاة.

واعلم أنه لا يكون جواب الجزاء إلا بفعل أو بالفاء.

فأما الجواب بالفعل فنحو قولك : إن تأتني آتك ، وإن تضرب أضرب ، ونحو ذلك.

وأما الجواب بالفاء فنحو قولك : إن تأتني فأنا صاحبك. ولا يكون الجواب في

__________________

(١) ابن يعيش ٩ / ٩٢ ؛ الكتاب ٣ / ٦١ ؛ لسان العرب ١٢ / ٩ (أدم).

(٢) البيت في ديوانه ٨٨ ، الكتاب ٣ / ٦١.

(٣) البيت في ديوانه ٢١٦ ، الخزانة ٣ / ١٦٢ ؛ الكتاب ١ / ٤٣٤.

(٤) البيت في الكتاب ٣ / ٦٢.

(٥) البيت في ديوانه ٢٩ ، ابن يعيش ٨ / ٩٣٤ ؛ الكتاب ٣ / ٦٢.

٢٥٥

هذا الموضع بالواو ، ولا بثمّ. ألا ترى أن الرجل يقول : افعل كذا وكذا ، فتقول :

فإذن يكون كذا وكذا ، ويقول : لم أغث أمس ، فتقول : قد أتاك الغوث اليوم ؛ ولو أدخلت (الواو) و (ثمّ) في هذا الموضع تريد الجواب لم يجز.

وسألت الخليل عن قول الله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ)(١) فقال هذا كلام معلق بالكلام الأول ، كما كانت (الفاء) معلّقة بالكلام الأول ، وهذا هاهنا في موضع (قنطوا) كما كان الجواب بالفاء في موضع الفعل قال : ونظير ذلك قول الله ـ عزوجل ـ : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ)(٢) بمنزلة (أم صمتّم) ؛ ومما يجعلها بمنزلة (الفاء) أنها لا تجيء مبتدأة ، كما أن (الفاء) لا تجيء مبتدأة.

وزعم الخليل أن إدخال (الفاء) على (إذا) قبيح ، ولو كان إدخال (الفاء) على (إذا) حسنا ، لكان الكلام بغير (الفاء) قبيحا ؛ فهذا قد استغنى عن (الفاء) كما استغنت (الفاء) عن غيرها ، فصارت (إذا) هاهنا جوابا ، كما صارت (الفاء) جوابا.

وسألته عن قوله : إن تأتني أنا كريم ، فقال : لا يكون هذا إلا أن يضطّر شاعر ، من قبل أنّ (أنا كريم) يكون كلا ما مبتدأ ، و (الفاء) و (إذا) لا يكونان إلا معلقتين بما قبلهما ، فكرهوا أن يكون هذا جوابا كما صارت (الفاء) جوابا حيث لم يشبه (الفاء) ؛ وقد قال الشاعر مضطرا ، يشبّهه بما يتكلم به من الفعل قال :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشرّ بالشرّ عند الله مثلان (٣)

وقال الأسدي :

بني ثعل لا تنكعوا العنز شربها

بني ثعل من ينكع العنز ظالم (٤)

وزعم أنه لا يحسن في الكلام : إن تأتني لأفعلن من قبل أن (لأفعلن) تجيء مبتدأة. ألا ترى أن الرجل يقول : لأفعلن كذا وكذا فلو قلت : " إن أتيتني لأكرمنك ، ولئن لم تأتني لأغمّنّك" جاز ؛ لأنه في معنى : لئن أتيتني لأكرمنك ، ولئن لم تأتني لأغمنك ، ولا بدّ من هذه (اللام) مضمرة أو مظهرة لأنها لليمين ، كأنك قلت : والله لئن

__________________

(١) سورة الروم ، الآية : ٣٦.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٩٣.

(٣) البيت ورد منسوبا إلى حسان بن ثابت كما نسب لآخرين ، الكتاب ٣ / ٦٥ ، ١١٤.

(٤) البيت في ديوانه ، الكتاب ٣ / ٦٥.

٢٥٦

أتيتني لأكرمنك.

فإن قلت : لئن تفعل لأفعلنّ قبح ؛ لأن (لأفعلن) على أول الكلام ، وقبح في الكلام أن تعمل (إن) أو شيء من حروف الجزاء في الأفعال حتى تجزمها في اللفظ ، ثم لا يكون لها جواب تنجزم بما قبله. ألا ترى أنك تقول : آتيك إن أتيتني ، ولا تقول : آتيك إن تأتني ، إلا في شعر ، لأنك أخّرت (إن) وما عملت فيه ، ولم تجعل ل (إن) جوابا ينجزم بما قبله.

فهكذا جرى هذا في كلامهم. ألا ترى. أنه قال ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)(١) وقال ـ عزوجل ـ : (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٢). لمّا كانت (إن) العاملة لم يحسن إلا أن يكون لها جواب ينجزم بما قبله. فهذا الذي يشاكلها في كلامهم إذا عملت.

وقد تقول : إن أتيتني آتيك ، أي : آتيك. إن أتيتني.

قال زهير :

وإن أتاه خليل يوم مسألة

يقول لا غائب مالي ولا حرم (٣)

ولا يحسن : إن تأتني آتيك ، من قبل أنّ (إن) هي العاملة ، وقد جاء في الشعر ، قال جرير بن عبد الله البجلي :

يا أقرع بن حابس يا أقرع

إنك إن يصرع أخوك تصرع (٤)

أي تصرع إن يصرع أخوك ، ومثل ذلك قوله :

هذا سراقة للقرآن يدرسه

والمرء عند الرّشا إن يلقها ذيب (٥)

أي : المرء ذئب إن يلق الرشا. قال الأصمعي : وهذا قديم أنشدنيه أبو عمرو.

وقال ذو الرمة :

وأنيّ متى أشرف على الجانب الذي

به أنت من بين الجوانب ناظر (٦)

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٢٣.

(٢) سورة هود ، الآية : ٤٧.

(٣) البيت في ديوانه ٥١ ، ابن يعيش ٨ / ١٥٧ ؛ الكتاب ٣ / ٦٦.

(٤) البيت في ديوانه ، ابن يعيش ٨ / ١٥٧ ؛ الكتاب ٢ / ٩٨.

(٥) البيت في الكتاب ٣ / ٦٧.

(٦) البيت في ديوانه ١١٤ ، الكتاب ١ / ٦٨ ؛ والمقتضب ٢ / ٧١.

٢٥٧

أي : ناظر متى أشرف. فجاز هذا في الشعر ، وشبّهوه بالجزاء إذا كان جوابه منجزما ؛ لأن المعنى واحد ، كما شبه (الله يشكرها) و (ظالم) ب (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) [الروم : ٣٦] جعله بمنزلة : يظلم ، ويشكرها الله ، كما كان هذا بمنزلة (قنطوا) ، وكما قالوا في اضطرار : إن تأتني أنا صاحبك ، يريد معنى (الفاء) ، فشبّهه ببعض ما يجوز في الكلام حذفه وأنت تعنيه.

وقد يقال : إن أتيتني آتك ، وإن لم تأتني أجزك ، لأن هذا في موضع الفعل المجزوم ؛ فكأنه قال : إن تفعل أفعل ؛ ومثل ذلك قول الله ـ جل وعز ـ : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها)(١).

فكان فعل ، وقال الفرزدق :

دسّت رسولا بأنّ القوم إن قدروا

عليك يشفوا صدورا ذات توغير (٢)

وقال الأسود بن يعفر :

ألا هل لهذا الأمر من متعلل

عن النّاس مهما شاء بالنّاس يفعل (٣)

وقال : إن تأتني فأكرمك ، أي : فأنا أكرمك ، فلا بد من رفع (فأكرمك) إذا سكت عليه لأنه جواب ، وإنما ارتفع لأنه مبني على مبتدأ. ومثل ذلك قول ـ الله تعالى ـ : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ)(٤) ، ومثله قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً)(٥) ومثله قوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً)(٦).

قال أبو سعيد : فرّق سيبويه بين (حيثما) وبين (إذ ما) ، فجعل (حيثما) في حيز الظروف التي يجازى بها ، فهي اسم مثل : أين ، ومتى ؛ وجعل (إذ ما) في حيز الحروف ، لأنه ذكر ما كان من غير الأسماء والحروف ، فذكر (إن) و (إذ ما) ، والفرق بينها أن (إذ) لما ضممت إليها (ما) وجوزى بها ، خرجت عن معناها ، لأنها كانت من قبل دخول (ما) عليها لما مضى من الزمان ، وبعد دخولها للمستقبل ك (إن) ؛ وقد يركّب الشيآن

__________________

(١) سورة هود ، الآية : ١٥.

(٢) البيت في ديوانه ٢١٣ ، والكتاب ٣ / ٦٩.

(٣) البيت في ديوانه ٥٦ ، والكتاب ٢ / ٢٤٦.

(٤) سورة المائدة ، الآية : ٩٥.

(٥) سورة البقرة ، الآية : ١٢٦.

(٦) سورة الجن ، الآية : ١٣.

٢٥٨

فيخرجان عن حكم كل واحد منهما إلى حكم مفرد نحو : لو لا ، وهلا ، وغيرهما.

وجعلها سيبويه حرفا لوقوعها موقع (أن) ، ولم يقم دليلا على اسميتها ، وما علمنا أحدا من النحويين ذكر (إذ ما) غير سيبويه ، إلا أن يكون من بعض أصحابه ، ومن يأخذ عنه.

وقد قال بعض النحويين : (إذ ما) هي (إمّا) ، عدلوا عن (إما) إليها ، لأن (إما) لا تكاد تأتي إلا بدخول (النون) على الفعل الذي بعدها نحو قول الله ـ عزوجل ـ : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ)(١) و (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً)(٢) و (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً)(٣). وليس في القرآن ـ فيما اعلم ـ فعل بعد (إما) إلا ب (النون) ؛ فلما احتاج الشاعر إلى (إما) وكانت (النون) تكسر البيت ، جعل مكانها (إذ ما) وأما دخول (ما) على (حيث) للمجازاة ، فلأن (حيث) اسم للمكان ، فكان يلزمها الإيضاح قبل المجازاة بها كقولك : أقمت حيث زيد مقيم ، وحيث زيد مقيم أقيم ؛ ولو قلت : حيث أقيم أو أقمت لم يجز ، فلما أرادوا المجازاة لزمهم إبهامها وإسقاط ما يوضحها ، وألزموها (ما) كما ألزموا (ما) إنما ، وكأنما ، وربما ؛ وجعلوا لزوم (ما) دلالة على إبطال مذهبها الأول. ثم جعلوها بمنزلة (أين) في المجازاة ولم تزل عن معناها الأول وقصد المكان بها لزوال (إذ) عن معناها الأول.

وأما قول لبيد :

فأصبحت أنّى تأتها تلتبس بها (٤)

ففي معناه بعض اللبس ، والبيت في موضعين فيه اختلاف رواية :

أحدهما : أنىّ تأتها تلتبس بها ، وتبتئس بها.

والآخر : تحت رجلك ، وتحت رحلك.

ومعناه : أنه يخاطب رجلا قد وقع في معضلة وقصة صعبة يعسر التخلص منها ، فنقول : كيف أتيت هذه المعضلة من قدّام أو من خلف تلتبس بها ولا مخلص ، وهو جواب الشرط ؛ والالتباس بها : الدخول فيها والاختلاط بها ، وتبتئس : يصيبك منها بؤس.

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية : ٥٧.

(٢) سورة الأنفال ، الآية : ٥٨.

(٣) سورة مريم ، الآية : ٢٦.

(٤) صدر بيت سبق تخريجه.

٢٥٩

كلا مركبيها تحت رجلك شاجر (١)

يعني : مركبها من قدام ومن خلف ، وشاجر : داخل تحت الرجل وتحت الرحل ، وإذا دخل الشيء تحت شيئين ففرجهما فقد شجرهما ، ومركبيها : يعني مركبي المعضلة ، وقد بين أن مركبيها من قدام وخلف في البيت الذي بعده.

فإن تتقدم تلن منها مقدما

غليظا وإن أخّرت فالكفل فاجر

والكفل : كساء يضعه الرجل على ظهر البعير ثم يركبه يتوقى العرق ، وفاجر : مائل.

وقد عاب قوم سيبويه على النحويين حين حكى عنهم أنهم قالوا : يجازى بكل شيء يستفهم به ، فقال سيبويه : لا يستقيم هذا ، من قبل أنك تجازى بأن وبحيثما وإذ ما ، فقال العائب ، وهو أبو عمر الجرمي ومن وافقه : لا يكون ما قال سيبويه ردا عليهم لأنهم لم يقولوا :

لا تكون المجازاة إلا بما يستفهم به فيلزمهم هذا ، وإنما قالوا : تطلب المجازاة بما يستفهم به ، ولا يمنع هذا المجازاة بغيره ، كما لو قال قائل : يكون الرفع بأنه الفاعل والنصب بأنه مفعول به ، لم يمنع الرفع والنصب بغيرهما.

وعابوا أيضا ما حكى عنهم : يجازى بكل شيء يستفهم به ، وليس بينهم خلاف أنه لا يجازى بألف الاستفهام ، وبهل.

قال أبو سعيد : أما الأول : فإن الذي حكي عنهم أنهم قالوه هو أن أصل الجزاء الاستفهام ، فكل شيء جوزي به إنما هو منقول من الاستفهام فأراهم أنهم يجازون بحيثما وأن ، وهما لا يكونان استفهاما ، فهذا مخرج هذا.

وأما الثاني : فقد فهم عن سيبويه أنه أراد الأسماء التي يستفهم بها ، لأنهم لا يختلفون في الحروف أنها لا يجازى بها ، فكان فسر قولهم على ظاهر ما حكي عنهم أن يقال : أنتم تستفهمون ب (كم) ولا يجازى بها ، وكذلك (كيف) يستفهم بها ولا يجازى بها.

وأما (مهما تفعل) ففيها وجهان :

أحدهما : ما قاله الخليل ، وهو أن أصله (ما) زيدت عليها (ما) أخرى كما تزاد (ما) على (متى) في قولك : متى ما تفعل أفعل ؛ ف (ما) الأولى في هذا القول للمجازاة ، والثانية زائدة.

والآخر : ما قاله أبو إسحاق الزجاج ، أن أصله (مه) في معنى (اسكت) لكلام

__________________

(١) عجز بيت سبق تخريجه.

٢٦٠