شرح كتاب سيبويه - ج ٣

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٣

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

وذكر الفراء عن البصريين أنهم قالوا : نصبنا المستثنى بإضمار فعل معناه لا أعني زيدا.

وأظنه أراد ما قاله سيبويه في الموضع الذي حكينا فيه عنه من هذا الباب" ولكن زيدا. ولا أعني زيدا".

قال أبو سعيد : هذا تفسير لمعنى الاستثناء وليس بتحقيق للناصب له. وناقضهم الفراء على الذي حكاه عنهم. ولم يتشاغل به لأنه ظن ظنه بهم.

وأما قول سيبويه عقيب قوله" وعلى هذا : ما رأيت أحدا إلا زيدا فننصب زيدا على غير رأيت" فإنما يريد : فتنصب زيدا على غير البدل ولكن على الاستثناء كما تستثني من" أتاني القوم إلا زيدا".

فإذا قلنا : " ما رأيت أحدا إلا زيدا ، فنصب (زيد) على وجهين :

أحدهما : أن تجعله بدلا من" أحد".

والآخر : أن تنصبه على الاستثناء.

والعامل للنصب في الوجهين هو : رأيت.

ومثله مما ينصب على معنيين وتقديرين مختلفين قولك : " صمت اليوم" نصبت اليوم على وجهين :

على الظرف ، وعلى أنه مفعول على سعة الكلام.

والعامل فيه" صمت" في الوجهين جميعا.

ومعنى نصبه على الظرف أن تقدر فيه"في"وإن حذفت كأنه قال : صمت في اليوم.

ومعنى نصبه على سعة الكلام : أن تقدير" في" ويكون وصول" صمت" إلى" اليوم" كوصول" ضربت" إلى زيد".

وقال الكوفيون في ذلك قولين مختلفين :

أما الكسائي : فيما حكي عنه فقال : إنما نصبنا المستثنى لأن تأويله : قام القوم إلا أن زيدا لم يقم".

وقد رده الفراء بأن قال : " لو كان هذا النصب بأنه لم يفعل لكان مع" لا" أوجب في قولك : " قام زيد لا عمرو".

قال أبو سعيد : ولا يلزم الكسائي ما ألزمه الفراء على ظاهر الكلام ؛ لأن الكسائي احتج بظهور عامل ناصب بعد" إلا" فحمل" زيدا" على ذلك الناصب وهو" أن" في قوله : إلا أن زيدا لم يقم" فإذا قلت : قام زيد لا عمرو" لم تقل : قام زيد لا أن عمرا لم يقم.

٦١

والذي يفسد به قول الكسائي : أن" أن" إذا وقعت بعد" إلا" فلها تقدير ؛ لأنها واسمها وخبرها في موضع اسم يقدر له عامل يعمل فيه. فلو قيل : قام القوم إلا أن زيدا لم يقم.

فلأن موضع من الإعراب وهو نصب وعامله هو العامل في" زيدا" إذا نصب. فيعود الكلام إلى أن تطلب الناصب لموضع" أن".

وقال بعض النحويين : قول الكسائي يرجع إلى قول سيبويه وأن قوله : " وتقدير إلا أن زيدا لم يقم" تقدير لمعنى الكلام لا لعامله.

وحكي عن الكسائي أنه شبه المستثنى بالمفعول وجعله خارجا من الوصف ، وجعل خروجه من الوصف بأن قال : " لم يفعل كما فعلوا". وهذا نحو قوله في المفعول المنصوب بالفعل.

وقال الفراء : " إلا" أخذت من حرفين : " إن" التي تنصب الأسماء ضمت إليها" لا" ثم خففت فأدغمت النون في اللام فصارت إلا ، فأعملوها فيما بعدها عملين : عمل" إنّ" فنصبوا بها. وعمل" لا" فجعلوها عطفا. وشبهها بحتى ، حين ضارعت حرفين أجروها في العمل مجراهما. فخفضوا بها : لأنها بتأويل" إلى" وجعلوها كالعطف : لأن الفعل يحسن بعدها كما يحسن بعد حروف العطف إذا قلت : ضربت القوم حتى زيد". أي حتى انتهيت إلى زيد".

وحتى زيدا ، أي حتى ضربت زيدا.

وشبهها أيضا" بلو لا" لأنها" لو" و" لا" ركبتا وجعلتا حرفا واحدا.

قال أبو سعيد : والذي قاله الفراء فاسد. لأنه خلاف بينهم في أن يقال" ما قام إلا زيد" فيرفع ولا شيء قبله فيعطف عليه. ولا هو منصوب فيحمل على" أن" فبطل أثر الحرفين جميعا في هذا الموضع.

وأما تشبيهه إياها" بحتى" فبعيد. لأن" حتى" حرف واحد ليس بمركب من حرفين فيعمل عمل الحرفين. وإنما هو حرف واحد يتأول فيه تأويل حرفين في حالين. فإن ذهب به مذهب الحرف الجار فكأنه الحرف الجار لا يتوهم غيره. وإن ذهب به مذهب حرف العطف فكأنه حرف العطف لا يتوهم به غيره. و" إلا" عنده" إن" و" لا" منطوق بهما وكل واحد منهما يعمل عمله مفردا لو لم يكن معه الآخر.

ويقال للمحتج عنه : إذا كان كل واحد منهما يعمل عمله مفردا فينبغي ألا يبطل عمله ألبتة. لأن" لا" إذا كانت للعطف مفردة لم يبطل العطف بها. و" إنّ" إذا كانت ناصبة

٦٢

مفردة لم يبطل النصب بها. وهو لم يجعل" إلا" كذلك. لأنه إذا اعتمد على أحد الحرفين بطل عمل الآخر وهو حاضر منطوق به. ليس بمستنكر عندنا ولا عند غيرنا أن يركب حرفان فيبطل معنى كل واحد منهما مفردا.

ويحدث معنى ثالث كقولك في حروف التحضيض : لو لا ضربت زيدا و" ألا ضربت زيدا" و" لو لا" و" لو ما" إذا كن للتحضيض وقد بطل من" هلا" معنى" هل" ومعنى" لا". وكذلك سائر الحروف إذا فصّلت.

وقد قال بعض النحويين : إن هذا القول قال له صاحبه ليخالف مذهب النحويين إلى قول ينسب إليه.

ونحن متى قلنا : إن" إلا" بكمال حروفها موضوعة لمعناها كوضع" حتى" بكمال حروفها لمعناها كنا متمسكين بظاهر لفظها وهو جملة هذه الحروف لهذا المعنى.

والذي يزعم أن بعض هذه الحروف منفصل من بعض فهو يدعي ما يحتاج إلى برهان عليه.

وقول سيبويه : " ومثله في الانقطاع من أوله : إن لفلان مالا إلا أنه شقي".

يعني : بالانقطاع من أوله : أنه ليس ببدل منه ؛ لأنه ذكر" ما مررت بأحد إلا زيدا" وما بعده مما ينصبه بالاستثناء ولم يجمله على ما قبل" إلا" من طريق البدل. وكذلك لم يحمل" أنه شقي" على البدل مما قبله. لا سبيل إلى البدل فيه. لأن ما قبل" إلا" موجب. ولما كان حرف الاستثناء فيه مخالفة ما قبله لما بعده بالنفي والإيجاب فإذا كان ما قبله موجبا كان ما بعده منفيّا كقولك :

" أتاني القوم إلا زيدا" أوجبت الإتيان للقوم ونفيه عن" زيد" وإن كان ما قبله منفيّا كان ما بعده موجبا كقولك :

" ما قام القوم إلا زيد" نفيت القيام عن القوم وأوجبته لزيد ، وفي" لكن" معنى الاستثناء وذلك أنها للاستدراك فإن كان ما قبلها منفيّا كان ما بعدها موجبا مستدركا له ما نفي عما قبلها نحو قولك : ما قام عمرو لكن زيد. وما خرج القوم لكن أخوك. أثبتّ لما بعد" لكن" ما نفيته عما قبلها.

وتقول : خرج عمرو لكن زيد لم يخرج". وخرج القوم لكن أخوك لم يخرج ، غير أن ما بعد" لكن" في الأكثر من الكلام غير الذي قبلها كقولنا : ما قام زيد لكن عمرو.

وقد يكون الذي بعدها جزءا من الذي قبلها لقولك : ما قام القوم لكن زيدا و" زيد" بعض القوم. فإذا كان ذلك في الاستثناء ، وكان الذي بعد" إلا" جزءا من الاستثناء

٦٣

المذكورة قبلها فهو الاستثناء المطلق الذي ليس بمنقطع مما قبله فيما يتعارفه النحويون ، كقولك : " أتاني القوم إلا زيدا" أو" ما أتاني أحد إلا زيد وإلا زيدا".

وإن كان الذي بعد" إلا" ليس بجزء مما قبله فهو الاستثناء المنقطع كقولك : " ما في الدار إنسان إلا حمارا" و" إلا حمار".

وهو الذي يجري مجرى" لكن" على ما ذكرته من مذهب" لكن" فإذا قال : إن لفلان مالا" فقد أخبر بأنه سعيد بملكه المال واستدرك ذلك بقوله : " إلا أنه شقي" كأنه قال : " إلا أنه بخل على نفسه" وكأنه قال : إن فلانا سعيدا بملك المال لكنه شقي بترك الانتفاع به بإنفاق المال ولم يتلذذ بالانتفاع به وترك نفقته. وكذلك : إذا قال : " إلا أنه شقي. كذلك لو قال : إن لزيد مالا لكن عمرا شقي" أو" إلا أن عمرا شقي" جاز لأن مذهب" لكن" يكون الأول فيه غير الثاني وكذلك" إلا" إذا كانت بمعناه.

هذا باب يختار فيه النصب لأن الآخر ليس من نوع الأول وهو

لغة أهل الحجاز

وذلك قولك : ما فيها أحد إلا حمارا. جاءوا به على معنى : ولكن حمارا. وكرهوا أن يبدلوا الآخر من الأول فيصير كأنه من نوعه فحمل على معنى" ولكن" وعمل فيه ما قبله كعمل العشرين في الدرهم.

وأما بنو تميم فيقولون : لا أحد فيها إلا حمارا. أرادوا : ليس فيها إلا حمار. ولكنه ذكر" أحدا" توكيدا ؛ لأن يعلم أنه ليس بها آدمي. ثم أبدل فكأنه قال : ليس فيها إلا حمار. وإن شئت جعلته إنسانها.

قال الشاعر وهو أبو ذؤيب الهذلي :

فإن تمس في قبر برهوة ثاويا

أنيسك أصداء القبور تصيح (١)

فجعلها أنيسها.

ومثل ذلك :

" ما لي عتاب إلا السيف" جعلته عتابك.

كما أنك تقول : ما أنت إلا سير إذا جعلته هو السير.

وعلى هذا أنشدت بنو تميم قول النابغة الذبياني :

__________________

(١) البيت في شرح أشعار الهذليين ١ / ١٥٠.

٦٤

يا دار ميه بالعلياء فالسند

 ...

 ...

عيت جوابا وما بالربع من أحد

إلا أواري لأياما أبينها

والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد (١)

وأهل الحجاز ينصبون.

ومثله ذلك قوله :

وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس (٢)

جعلها أنيسها. وإن شئت كان على الوجه الذي فسرته لك في الحمار أول مرة. وهو في كلا المعنيين إذا لم تنصب بدل.

ومن ذلك من المصادر : ما له عليه سلطان إلا التكلف.

لأن التكلف ليس من السلطان. وكذلك : إلا أنه يتكلف هو بمنزلة : التكلف وإنما يجيء هذا على معنى" ولكن".

ومثل ذلك قوله عزوجل : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ)(٣).

ومثله : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ* إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا)(٤).

ومثل ذلك قول النابغة :

حلفت يمينا غير ذي مسنوية

ولا علم إلا حسن ظن بصاحب (٥)

وأما بنو تميم فيرفعون ذلك كله ، يجعلون اتباع الظن علمهم وحسن الظن علمهم والتكلف سلطانه. وهم ينشدون بيت ابن الأيهم التغلبي ـ رفعا ـ.

ليس بيني وبين قيس عتاب

غير طعن الكلى وضرب الرقاب (٦)

__________________

(١) الديوان ١٦ ، والخزانة ٢ / ١٢٥ ، وابن يعيش ٢ / ٨٠ ، والرواية في الديوان هكذا :

يا دار مية بالعلياء فالسند

أقوت وطال عليها سالف الأمد

وقفت فيها أصيلانا أسائلها

عيت جوابا وما بالربع من أحد

إلا الأواري لأياما أبينها

والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد

(٢) البيت منسوب لجران العود النميري في ديوانه ٥٢ ، والخزانة ٤ / ١٩٧ ، وابن يعيش ٢ / ٨٠.

(٣) النساء : ١٥٧.

(٤) يس : ٤٣ ، ٤٤.

(٥) الديوان ٣ ، والخزانة ٢ / ٩ ، والتصريح ٢ / ٢٢٧.

(٦) البيت في معجم الشعراء للمرزباني ٢٤٢ ، والحماسة للبحتري ٣٢ ، وابن يعيش ٢ / ٨٠.

٦٥

جعلوا ذلك : العتاب.

وأهل الحجاز ينصبون على التفسير الذي ذكرناه.

وزعم الخليل أن الرفع في هذا على قوله : ـ

وخيل قد دلفت لها بخيل

تحية بينهم ضرب وجيع (١)

جعلوا الضرب تحيتهم كما جعلوا اتباع الظن علمهم. وإن شئت كان على ما فسرت لك في الحمار إذا لم تجعله أنيس ذلك المكان.

وقال الحارث بن عباد :

والحرب لا يبقى لجا

حمها التخيل والمراع

إلا الفتى الصبار في الن

نجدات والفرس الوقاح (٢)

وقال :

لم يغذها الرسل ولا أيسارها

إلا طري اللحم واستجزارها (٣)

وقال :

عشية لا تغني الرماح مكانها

ولا النبل إلا المشرف المصمّم (٤)

وهذا يقوي : ما أتاني زيد إلا عمرو. وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه ؛ لأنها معارف ليست الأسماء الآخرة بها ولا منها".

قال أبو سعيد : أصل الاستثناء : إخراج بعض ما يوجبه لفظ من عموم ظاهر أو عموم حكم أو معنى يدل عليه اللفظ ؛ فأما عموم اللفظ قولك : قام القوم إلا زيدا.

وأما عموم الحكم فقولك : والله لا أكلمك إلا يوم الجمعة. لأن قولك : " لا أكلمك" حكم اللفظ ألا يكلمه أبدا. ويوم الجمعة" داخل في جملة الأوقات التي لا يكلمه فيها في الحكم. وخرج يوم الجمعة من ذلك الحكم بالاستثناء.

وأما ما خرج عن عموم معنى دل عليه الحكم فقولك : " ما قام إلا زيد" قد علم بما دل عليه الكلام أن المنفي معموم في المعنى. وأن" زيدا" مستثنى من جملة ما عم بالنفي في المعنى.

__________________

(١) البيت لعمرو بن معديكرب في الخزانة ٤ / ٥٣ ، ومعجم الشعراء ٢٠٨ ، والمقتضب ٢ / ١٨.

(٢) البيتان في الخزانة ١ / ٢٢٣ ، وشرح الرضي للكافية ١ / ٢٢٩.

(٣) البيت لم يستدل على قائله.

(٤) البيت لضرار بن مالك الأزور في الخزانة ٢ / ٥ ، والعيني ٣ / ١٠٩ ، والكشاف ٢ / ١٤٩.

٦٦

ومثله : " ما زيد إلا خارج" وليس زيدا إلا خارجا ومعناه : إن كل شيء يذكر لزيد منفي وخرج" خارجا" من عموم النفي كأنه قال : ليس زيد شيئا إلا خارجا.

وهذا التقدير : تقدير معنى وليس بتقدير لفظ مقدر محذوف والدليل على ذلك : أنك تقول : ما قام إلا زيد. لا يجوز في" زيد" غير الرفع ولو كان" أحد" منويّا في اللفظ لجاز" إلا زيدا". كما يجوز : ما قام أحد إلا زيدا".

ومن الدليل على أن أصل الاستثناء ما ذكرناه. أنا تقول : استثنيت زيدا من القوم. ولا تقول : استثنيت زيدا من البساتين. ولا استثنيت زيدا من عمرو ؛ لأنه ليس بعض البساتين. ولا بعمرو و" من" للتبعيض فكأنه في الأصل : زيد من القوم ثم أخرجته عنهم في المعنى الذي جعلته. ولا يجوز أن تكون" من" هاهنا لابتداء غاية المكان كما تقول : أخرجته من الكوفة. لأن" القوم" ليسوا بأمكنة ، ولا يراد أنهم ابتداء غاية للمستثنى منهم.

وقولهم : استثنى الحالف إذا قال : إن شاء الله أو أراد بعد يمينه ما تنصرف به الأيمان إلى بعض الوجوه التي كان يوجبها اليمين في إطلاق لفظها قبل التقييد. فإذا قال لزوجته" أنت طالق" أو قال لعبده : أنت حر فهي طالق. وهو حر على كل وجه وسبب.

وإذا قال : " أنت طالق" أو أنت حر إن خرج زيد أو إن قدم زيد أو إن دخلت الدار ، فقد جعل الطلاق والعتاق على بعض الوجوه.

وكذلك إذا قال : أنت طالق أو أنت حر إن شاء الله فقد علق الطلاق والعتاق بمشيئة الله تعالى.

فمن الفقهاء من لا يوقع الطلاق ولا العتاق ؛ لأنه لما كان لا يعلم مشيئة الله تعالى له في الحكم كأنه لم يشأ فلم يقع الطلاق ولا العتاق ؛ لأن المعلق به لم يكن.

ومنهم من يقول إنه يقع ؛ لأن يجعل مشيئته شاملة لكل شيء ، وسمي استثناء ؛ لأنه يعقب به اللفظ المطلق العام فصار على بعض الوجوه. وهذا يوضح ما أصلناه في الاستثناء.

وأما قولهم : ما فيها أحد إلا حمارا ونحوه مما يشتمل عليه الباب. فنصب أهل الحجاز ما بعد" إلا" لأنه ليس من نوع الأول. لأن" أحدا" وضع لما يعقل. وإنما يبدل القليل من الكثير إذا كان بعضه كقولك : مررت بتميم بعضهم.

فحملوه على وجه النصب الذي ذكرناه قبل هذا الباب وهو الاستثناء.

وأما بنو تميم فرفعوه ونحوه على تأويلين ذكرهما سيبويه.

أحدهما : أنك إذا قلت ما في الدار أحد إلا حمار فإنك أردت : ما في الدار إلا حمار.

٦٧

وقولك : ما في الدار إلا حمار. قد نفيت به الناس وغيرهم في المعنى. فدخل في النفي ما يعقل وما لا يعقل ثم ذكرت" أحدا" توكيدا لأن يعلم أنه ليس بها آدمي.

والوجه الآخر :

أن تجعل المستثنى من جنس ما قبله على المجاز كان" الحمار" هو من إحدى ذلك الموضع. ومن عقلاء ذلك الموضع مثل : أنيسك أصداء القبور. وعتابك السيف. وأشباه ذلك من المجازات.

وقال المازني : إن فيه وجها ثالثا وهو : أنه خلط ما يعقل" بما لا يعقل" فعبر عن جماعة ذلك بأحد ثم أبدل" حمار" من لفظ مشتمل عليه وعلى غيره. وقال الله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ)(١). لما خلط ما يعقل وهم بنو آدم الذين يمشون على رجلين بما لا يعقل وهو الحية التي تمشي على بطنها والبهائم التي تمشي على أربع خبّر عنها كلها بلفظ ما يعقل وهو : منهم" و" من". ولو كان ما لا يعقل لقال : فمنها ما يمشي.

قال أبو سعيد : قد ذكرت معنى ما قال المازني وبسطته واحتججت له.

وقول سيبويه بعد الأبيات التي في آخر الباب" وهذا يقوي : ما أتاني زيد إلا عمرو. وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه لأنها معارف ليست الأسماء الآخرة بها ولا منها".

فأما الأبيات فقوله : " لا يبقى لجاحمها التخيل والمراح" (٢) وهو على وجهي ما فسرته من لغة بني تميم.

أحدهما : كأنه قال : لا يبقى لجاحمها إلا الفتى الصبار ، ودل ذل على أنه لا يبقى شيء سواه. وذكر التخيل" والمراح" توكيدا.

والوجه الآخر : أنه جعل الفتى الصبار هو التخيل في الحرب والمراح مجازا. كما جعل : حمارا هو من الأحدين مجازا.

وفيه وجه ثالث : وهو أن التخيل على معنى : ذوو التخيل وحذف ذوو وأقام التخيل مقامه مثل قوله عزوجل : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٣). وهذا على الوجه الذي يتفق عليه

__________________

(١) سورة النور ، الآية : ٤٥.

(٢) جزء من بيت سبق تخريجه.

(٣) سورة يوسف ، الآية : ٨٢.

٦٨

أهل الحجاز وبنو تميم.

وقوله : " لم يغذها الرسل ولا أيسارها" الرسل : اللبن. والهاء في" أيسارها" و" استجزارها" تعود إلى المرأة التي تقدم ذكرها. وإنما قال : ولا أيسارها وإن كان الأيسار أيسار اللحم ؛ لأن الميسر لا يأكل منه إلا الضعيف الفقير منهم.

وتقويه الأبيات ب (ما أتاني زيد إلا عمرو) أن المنفي الذي ليس من جنس ما بعد إلا ، يقدر فيه تقدير إسقاطه من اللفظ. وأن الاعتماد عليه في النفي على العموم وأنه يذكر ما يذكر من المنفي لتوكيد النفي فيه. ولأن يخرج من قلب السامع ذهاب الوهم إلى أنه قد فعل الفعل المنفي كأنك لم تذكر زيدا. ولم تذكر إخوانك وقلت : ما أتاني إلا عمرو. وما أعانه إلا إخوانه على نحو ما تقدر في الأبيات فيكون قوله :

ما تغني الرماح مكانها ولا النبل

كأنه قال :

ما يغني إلا المشرفي المصمم

وقوله : " لأنها معارف" يريد : أن ما قبل" إلا" وما بعده معرفتان : أحدهما غير الأخرى وليست بمنزلة : " ما قام أحد إلا زيد".

هذا باب ما لا يكون إلا على معنى (ولكن)

فمن ذلك قوله تعالى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ)(١) أي : ولكن من رحم. وقوله عزوجل : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ)(٢) أي : ولكن قوم يونس ، وقوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ)(٣) أي : ولكن قليلا ممّن أنجينا منهم.

وقوله عزوجل : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ)(٤) أي لكنهم يقولون ربنا الله.

وهذا الضرب في القرآن كثير :

__________________

(١) سورة هود ، من الآية ٤٣.

(٢) سورة يونس ، من الآية ٩٨.

(٣) سورة هود ، من الآية ١١٦.

(٤) سورة الحج ، من الآية ٤٠.

٦٩

ومن ذلك من الكلام : لا تكونن من فلان في شيء إلا سلام بسلام. ومن ذلك أيضا من الكلام فيما حدثنا أبو الخطاب : ما زاد إلا ما نقص. وما نفع إلا ما ضر. (فما) مع الفعل بمنزلة اسم نحو النقصان والضر.

كما أنك إذا قلت : (ما أحسن ما كلم زيدا). فهو : ما أحسن كلامه زيدا ، ولو لا ما لم يجز الفعل بعد إلا في ذا الموضع كما لا يجوز بعد ما أحسن بغير (ما) فكأنه قال : ولكنه ضر ولكنه نقص. هذا معناه.

ومثل ذلك من الشعر قول النابغة :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب (١)

أي ولكن سيوفهم بهن فلول. وقال النابغة الجعدي :

فتى كملت خيراته غير أنّه

جواد فما يبقي من المال باقيا (٢)

كأنه قال : ولكنه مع ذلك جواد. ومثل ذلك قول الفرزدق :

وما سجنوني غير أني ابن غالب

وأنىّ من الأثرين غير الزّعانف (٣)

كأنه قال : ولكني ابن غالب. ومثل ذلك في الشعر كثير.

ومثل ذلك : قول عنز بن دجاجة :

من كان أشرك في تفرّق فالج

فلبونة جريت معا وأغدت

إلّا كناشرة الذي ضيّعتم

كالغصن في غلوائه المتنبّت (٤)

كأنه قال : ولكن هذا كناشرة.

وقال :

لو لا ابن حارثة الأمير لقد

أغضيت من شتمى على رغم

إلّا كمعّرض المحسّر بكره

عمدا يسبّبني على الظّلم (٥)

قال أبو سعيد : هذا الباب يخالف الذي قبله في لغة بني تميم ؛ لأنه لا يمكن فيه

__________________

(١) البيت في ديوانه ٣ ، والخزانة ٢ / ٩ ، ومغني اللبيب ١ / ١١٤.

(٢) البيت في ديوانه ١٧٣ ، والخزانة ٢ / ١٢ ، والشعر والشعراء ١ / ٢٩٣.

(٣) البيت في ديوانه ٢ / ٥٣٦ ، والأغاني ١٩ / ٢٣.

(٤) ورد البيتان في المقتضب ٤ / ٤١٦ ، والمفضيات ٢٠٩ ، والمخصص ٦ / ٦٨ ، وفيه ينسب إلى الأعشى.

(٥) قائله النابغة الجعدي ، ديوانه ٢٣٤ ، سر صناعة الإعراب ١ / ٣٠١ ، والمقتضب ١ / ٤١٧.

٧٠

البدل ولا حذف الاسم الأول منه في التقدير كما أمكن في قول بني تميم إذا قلت : ما فيها أحد إلا حمار. إذا قدر : ما فيها إلا حمار. على الوجهين اللذين ذكرناهما من قول بنى تميم.

فمن ذلك قوله عزوجل : (لا عاصِمَ ...) [هود : ٤٣] فمن رحم يعني : من رحمه‌الله تعالى. ومن رحمه‌الله تعالى معصوم فكأنه قال : لكن من رحم الله معصوم. وما بعد (إلا) غير الذي قبله.

ومثله من الكلام لو جاء سيل عظيم يخاف منه الغرق أن يقول قائل : لا عاصم اليوم من هذا السيل إلا من أقام في الجبل ، فالمقيم في الجبل ليس بعاصم. ومعناه : ولكن المقيم في الجبل معصوم منه ، ولا يمكن البدل فيه ؛ لأنه يقال : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ولو رد أيضا المحذوف منه من خبر عاصم لم يجز البدل لو قلت : لا عاصم لهم إلامن رحم.أو ما لهم عاصم إلا من رحم،لم يجز :ما لهم إلا من رحم،ولا معنى لذلك.

وقد قيل : لا عاصم بمعنى : معصوم ، وهذا ضعيف لا يعتد به وأجود من هذا أن يكون من رحم هو الله لأنه الراحم. فكأنه قال : لا عاصم اليوم لهم إلا الله.

كما تقول : لا إله إلا الله.

وأما قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) [يونس : ٩٨] وقوله : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) [هود : ١١٦] فلا يجوز في واحد منهما البدل ؛ لأنها للاستبطاء والتحضيض ، وفي معنى : لو فعلت ذلك لكان أصلح وهذه أشياء تجري مجرى الأمر وفعل الشرط ، ولا يجوز في شيء من ذلك البدل. لو قلت : ليقم القوم إلا زيد لم يجز كما لا يجوز : ليقم إلا زيد.

وكذلك لو قلت : (إن قام أحد إلا زيد) أو : (لو قام أحد إلا زيد). لم يجز كما لا يجوز أن قام إلا زيد ، ولا : لو قام إلا زيد. ولا يجوز فيه الاستثناء الذي هو : إخراج جزء من جملة هو منها ؛ لأن المقصد من ذلك إلى قوم من الكفار أطبقوا على الكفر به ولم يكن منهم مؤمنون فقبح فعلهم ، ثم ذكر قوما مؤمنين باينوا طريقهم فمدحهم.

ومعنى : (أولو بقية) : أولو خير وصلاح ، ويقال : فلان فيه بقية : أي خير وصلاح.

ويجوز الرفع في : (قوم يونس) ونحوه على الصفة كأنه قال :

هلا كانت قرية غير يونس : كقوله : إلا الفرقدان (١)

__________________

(١) جزء من عجز بيت سبق تخريجه.

٧١

فكان الزجاج يجيز (إلا قوم يونس) على لغة أهل الحجاز.

وعلى لغة بنى تميم : فقدر في لغة أهل الحجاز : (فهلا كان قوم بني آمنوا إلا قوم يونس) ثم قال : " ويجوز البدل وإن لم يكن الثاني من جنس الأول" يريد لغة بنى تميم ...

وقد ذكرنا بطلان البدل في نحو هذا.

ولعل الزجاج جوز البدل ؛ لأن : هلا كانت قرية ، معناه : ما آمنت قرية إلا قوم يونس.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) [الحج : ٤٠] معناه : بغير حق يجب للكفار به إخراج المؤمنين من ديارهم. وأن يقولوا ربنا الله (وليس بحق للكفار يجب به لهم إخراج المؤمنين فصار على معنى : ولكن).

وقوله (لا تكونن من فلان إلا سلاما بسلام). معنى (لا تكونن من فلان) أي لا تخالطنه ، وقوله : (سلاما بسلام) أي : متاركة. من قوله عزوجل : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)(١) أي براءة ومتاركة فكأنه قال : لا تخالطنه إلا متاركة. وليست المتاركة من المخالطة في شيء فصار المعنى : لا تخالطه ولكن : تاركه.

وقوله : (ما زاد إلا ما نقص). (وما نفع إلا ما ضر) فما مع الفعل بمنزلة المصدر وكأنه قال : ما زاد إلا النقصان ولا نفع إلا الضرر. وفي (زاد) و (نفع) ضمير فاعل جرى ذكره كأنه قال : ما زاد النهر إلا النقصان. وما نفع زيد إلا الضرر على معنى : ولكنه نقص. ولكنه ضر وتقديره : ما زاد ولكن النقصان أمره. وما نفع ولكن الضرر أمره. فالنقصان والضرر مبتدأ وخبره محذوف وهو : أمره. وهو نحو ما ذكره أبو بكر مبرمان في تفسير من فسره له.

وأما قوله :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم (٢)

فإنه بمعنى (ولكن) على ما ذكره في الباب وقد يحتمل في لغة بنى تميم رفع (غير) كما يقول القائل : (لا عيب في زيد إلا الجود). (ولا عيب فيه إلا الشجاعة والضرب بالسيوف). ويجوز فتح (غير) على غير هذا المذهب لإضافته إلى (أن) كما قبح :

__________________

(١) سورة الفرقان ، من الآية ٦٣.

(٢) صدر بيت سبق تخريجه.

٧٢

 .. على حين عاتبت المشيب على الصبا (١)

و :

.. لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت (٢)

وأما قوله :

فتى كملت أخلاقه غير أنه جواد (٣)

فيقول القائل : (لكن) فيها مخالفة ما بعدها لما قبلها. فكيف جاز أن تكون بمعنى : (لكنه جواد). (ولكنه جواد) لا يخالف (كملت خيراته)؟

فالجواب عن ذلك : أنه ذهب إلى معنى : لكن عيبه الجود كما يقول القائل : عيب زيد جوده. على معنى : ليس فيه عيب لأن الجود ليس بعيب. فإذا لم يكن فيه عيب إلا الجود فما فيه عيب. كأنه قال : (كملت خيراته لكن نقصه أو لكن عيبه جوده) فيصير عيبه ونقصه مخالفا لكملت خيراته على ما ذكرناه.

وأما قوله :

وما سجنوني غير أني ابن غالب (٤)

فالظاهر من كلام سيبويه أنه لم يقع به سجن. كأنه قال : (ما أنا بالذي يناله سجن وذل ولكني ابن غالب أي عزيز) لأن من له هذا النسب فهو عند الفرزدق عزيز.

وكان أبو العباس محمد بن يزيد يرد على سيبويه قوله في هذا البيت وينكر تأويله (لكن). لأنه يوجب أن الفرزدق ما سجن.

قال أبو سعيد : الصحيح أنه كان مسجونا محبوسا. وكان الذي سجنه : خالد بن عبد الله القسري ، عامل هشام بن عبد الملك ، وهذا البيت في قصيدة يمدح فيها هشاما ، ويذكر حبسه ويستجير ب (هشام) وأول القصيدة.

ألمّ خيال من عليه بعد ما

رجا لي أهلي البرء من داء دانف

وقبل البيت الشاهد :

__________________

(١) صدر بيت للنابغة الذبياني وعجزه : وقلت ألمّا أصح والشيب وازع.

مغني اللبيب ٢ / ٥١٧.

(٢) صدر بيت لأبي قيس بن الأسلب الأنصاري ، وتمامه : حمامة في غصون ذات أو قال مغني اللبيب ١ / ١٥٩ ، أمالي ابن الشجري ١ / ٤٦.

(٣) صدر بيت سبق تخريجه.

(٤) صدر بيت سبق تخريجه.

٧٣

وما زال فيكم آل مروان منعم

على بنعمى بادئ ثم عاطف

فإن كنت محبوسا بغير جريرة

فقد أخذوني آمنا غير خائف

وما سجنوني غير أنّي ابن غالب

وأني من الأثرين غير الزّعانف (١)

وذهب أبو العباس ومن ذهب مذهبه إلى أن معنى البيت (وما سجنوني إلا لأني ابن غالب) أي سجنوني حسدا لي على نسبي وشرفي.

قال أبو سعيد : يجوز تأول سيبويه على أنه كان مسجونا محبوسا. وذلك على أنه لم يعد سجنه سجنا ؛ لأنه لم يبطل عزه ولم يلحقه ذلا. كما يقول القائل : تكلمت ولم تتكلم أي تكلمت بما لم يقع موقعا يؤثر فيه الكلام ، فكأنه قال :

وما أذلوني بالسجن

ولكني عزيز بنسبي ومحلي

وأما قول ابن دجاجة المازني :

من كان أسرع في تفرّق فالج (٢)

فإن (فالجا) هذا فيما يذكره النسابون هو فالج بن ذكوان بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم. انتقل إلى بني سليم فانتمى إلى ذكوان ابن بهتة بن سليم. وادعى نسبه فيهم ؛ لأن قومه من آذوه فأحوجوه إلى الانتقال عنهم.

وقبل ذلك صنيع بني مازن ناشرة وآذوه حتى انتقل إلى بنى أسد. فدعا هذا الشاعر على من أسرع في تفرق فالج وآذاه ، وأخرج عنهم مثل ناشرة ؛ لأن أمثال ناشرة ما أسرعوا في تفرق فالج لأن ناشرة كان مظلوما مؤذ. فلم يدع الشاعر على أمثال ناشرة. فكأنه قال : ولكن أمثال ناشرة ما أسرعوا في تفرق فالج. فليس يكون في أمثال ناشرة بدل ولا إخراج واحد من جمع وليس فيه إلا معنى : (لكن).

وأما قوله : لو لا ابن حارثة الأمير. فإن قائل هذا الشعر : النابغة الجعدي. والذي رأيته في شعره :

لو لا ابن عفان الإمام ...

لقد أغضيت أيها المخاطب على شتمي ، أي لو لا منع ابن حارثة إياي من شتمك لقد شتمتك فأغضيت على شتمي. ولكن معرضا المحسر بكره في سبي مباح لي ، ويسببني : يكثر سبي. ويروى المجسر بكره : وهو أبلغ في ظلم معرض له. ويروى : المجشر بكره ،

__________________

(١) الأبيات في ديوانه ٢ / ٥٣٦.

(٢) صدر بيت سبق تخريجه.

٧٤

وهو الجاعل له في الجشر ، والجشر ما بعد وناء عن الحي. والمعنى في المجسر أصح وأجود.

وكان أبو العباس : يجعل الكاف في (كناشرة) وفي (كمعرض) زائدة. وليس بنا ضرورة إلى ذلك ؛ لأنا نجعلها بمعنى (مثل) فيصح معناه ويدخل فيه الذي دخلت عليه الكاف كما تقول :

(مثلك لا يفعل هذا) ويدخل فيه المخاطب.

هذا باب ما تكون فيه أنّ وأن مع صلتهما بمنزلة غيرهما من الأسماء

وذلك قولهم : ما أتاني إلا أنهم قالوا كذا وكذا. ف (أنّ) في موضع اسم مرفوع كأنه قال : ما أتاني إلا قولهم كذا وكذا.

ومثله قولهم : ما منعني إلا أن يغضب عليّ فلان.

والحجة على أنّ هذا في موضع رفع : أن أبا الخطاب حدثنا أنه سمع من العرب الموثوق بهم من ينشد هذا البيت رفعا :

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت

حمامة في غصون ذات أو قال (١)

وزعموا أن ناسا من العرب ينصبون هذا الذي في موضع الرفع فقال الخليل : هذا كنصب بعضهم (يومئذ) في كل موضع فكذلك : (غير أن نطقت) وكما قال النابغة :

على حين عاتبت المشيب على الصّبا

وقلت ألمّا أصح والشيب وازع (٢)

كأنه جعل (حين) و (عاتبت) اسما واحدا.

قال أبو سعيد : ما في هذا الباب مفهوم وقد مر نظائره في الأبواب.

هذا باب لا يكون فيه المستثنى إلا نصبا

لأنه مخرج مما أدخلت فيه غيره. فعمل فيه ما قبله كما عمل العشرون في الدرهم حين قلت : له عشرون درهما. وهذا قول الخليل.

وذلك قولك : (أتاني القوم إلا أباك). و (مررت بالقوم إلا أباك) و (القوم فيها إلا أباك). فانتصب الأب إذ لم يكن داخلا فيما دخل فيه ما قبله ولم يكن صفة وكان العامل فيه ما قبله من الكلام. كما أن (الدرهم) ليس بصفة للعشرين ولا محمول على ما حملت عليه وعمل فيها.

__________________

(١) البيت في ابن يعيش ٣ / ٨٠ ، ومغني اللبيب ٢ / ٥١٧.

(٢) البيت في ديوانه ٦٨ ، وابن يعيش ٣ / ٨١.

٧٥

وإنما منع الأب أن يكون بدلا من القوم أنك لو قلت : (أتاني إلا أبوك) كان محالا.

وإنما جاز : ما أتاني القوم إلا أبوك ؛ لأنه يحسن لك أن تقول : ما أتاني إلا أبوك. فالمبدل إنما يجيء أبدا كأنه لم يذكر قبله شيء ؛ لأنك تخلى له الفعل وتجعله مكان الأول.

فإذا قلت : (ما أتاني القوم إلا أبوك) فكأنك قلت : ما أتاني إلا أبوك.

وتقول : ما فيهم أحد إلا قد قال ذاك إلا زيدا.

كأنه قال : كلهم قد قالوا ذاك إلا زيدا.

قال أبو سعيد : قد فسرنا جميع ما في هذا الباب فيما تقدم بما أغني عن إعادته.

هذا باب ما يكون فيه (إلا) وما بعده وصفا بمنزلة (مثل) و (غير)

وذلك قولك لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا.

والدليل على أنه وصف : أنك لو قلت : لو كان معنا إلا زيد لهلكنا ، وأنت تريد الاستثناء لكنت قد أحلت.

ونظير ذلك قوله عزوجل : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢].

ونظير ذلك من الشعر قوله وهو ذو الرمة :

أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة

قليل بها الأصوات إلا بغامها (١)

كأنه قال : قليل بها الأصوات غير بغامها. إذا كانت (غير) غير استثناء.

ومثل ذلك قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ)(٢)

وقوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)(٣) ومثل ذلك من الشعر قول لبيد بن ربيعة :

وإذا أقرضت قرضا فاجزه

إنما يجزى الفتى غير الجمل (٤)

__________________

(١) البيت في ديوانه ٦٣٨ ، والخزانة ٢ / ٥١ ، واللسان (بغم).

(٢) سورة النساء ، من الآية ٩٥.

(٣) سورة الفاتحة ، من الآية ٧.

(٤) البيت في ديوانه ص ١٢ برواية : فإذا جوزيت قرضا ، والخزانة ٤ / ٦٨ ، والعيني ٤ / ١٧٦.

٧٦

وقال أيضا :

لو كان غيري سليمى اليوم غيره

وقع الحوادث إلا الصارم الذّكر (١)

كأنه قال : لو كان غيري غير الصارم الذكر لغيره وقع الحوادث إذا جعلت غيرا الآخرة صفة للأولى.

والمعنى : أنه أراد أن يخبر أن الصارم الذكر لا يغيره شيء ، وإذا قلت :

ما أتاني أحد إلا زيد فأنت بالخيار ، إن شئت جعلت (إلا زيدا) بدلا. وإن شئت جعلته صفة. ولا يجوز أن تقول : ما أتاني إلا زيد.

وأنت تريد أن تجعل الكلام بمنزلة (مثل) إنما يجوز ذلك صفة.

ونظير ذلك من كلام العرب (أجمعون) لا يجري في الكلام إلا على اسم. ولا يعمل فيه ناصب ولا جار ولا رافع.

وقال عمرو بن معديكرب :

وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمرو أبيك إلّا الفرقدان (٢)

كأنه قال : وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه. إذا وضعت به (كلا). كما قال الشماخ :

وكلّ خليل غير هاضم نفسه

لوصل خليل صارم أو معارز (٣)

ولا يجوز رفع (زيد) على (ألا أن يكون) لأنك لا تضمر الاسم الذي هذا من تمامه ؛ لأن (أن) يكون بعض اسمه.

قال أبو سعيد : لا يكون في (لو) بدل بعد (إلا) لأنها في حكم اللفظ تجري مجرى الموجب. وذلك أنها شرط بمنزلة (أن) ولو قلت : (أن أتاني رجل إلا زيد خرجت) لم يجز ؛ لأنه يصير في التقدير : أن أتاني إلا زيد خرجت. كما لا يجوز : أتاني إلا زيد. فهذا وجه من الفساد فيه.

وفيه وجه آخر من فساده : أنه إذا قال : (لو كان معنا إلا زيد لهلكنا) وهو يريد الاستثناء لكان محالا ؛ لأنه يصير في المعنى : لو كان معنا زيد فهلكنا ؛ لأن البدل بعد (إلا) في الاستثناء موجب.

__________________

(١) البيت في المغني ١ / ٧٢ ، والأشموني ٢ / ١٥٦ ، واللسان (إلا).

(٢) البيت في الخزانة ٢ / ٥٢ ، وابن يعيش ٢ / ٨٩ ، ومغني اللبيب ١ / ٧٢.

(٣) البيت في ديوانه ٤٣ ، واللسان (عرز).

٧٧

وكذلك : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(١).

لو كان على البدل لكان على التقدير : لو كان فيهما الله لفسدتا. وهذا فاسد.

وأما قوله : قليل بها الأصوات إلا بغامها.

ففيه وجهان : أحدهما : ما قاله سيبويه ، وإذا كان على ما قاله فقد أثبت بها أصواتا قليلة. وجعل (إلا بغامها) نعتا للأصوات.

والوجه الثاني : أن يكون (قليل) بمعنى النفي فيكون بمعنى : ما بها أصوات إلا بغامها ، وهو استثناء وبدل صحيح كما تقول : أهل رجل يقول ذاك إلا زيد.

وأما قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ)(٢) فلا يكون (غير) إلا نعتا ؛ لأنه لو كان بدلا على طريق الاستثناء لكان التقدير : لا يستوي أولو الضرر. وهذا غير ما يراد من هذا ؛ لأن المعنى : لا يستوي القاعدون الذين ليس بأولي ضرر والمجاهدون.

وأما قوله :

لو كان غيري سليمى غيره

فإن (سليمى) نداء لا يعتد به في الكلام. وقائل هذا الشعر كأنه نابته شدة فصبر لها وثبت عندها ولم تضعضعه. فقال :

لو كان غيري في هذه الشدة لضعضعته

وغيرته إلا أن يكون غيري الذي يقع في هذه الشدة. الصارم الذكر فإنه مثلي لا تغيره هذه الشدة ، والشدة التي مثلتها : هي وقع الحوادث الذي في البيت.

وتقديره الذي يقربه من الفهم : لو كان غيري المحالف للصارم الذكر لغيره وقع الحوادث وضره .. لو كان غيري المماثل للصارم الذكر لم يغيره وقع الحوادث كما لم يغيرني.

وقوله : ولا يجوز : ما أتاني إلا زيد وأنت تريد أن تجعل الكلام بمنزلة (مثل) إنما يجوز ذلك صفة ونظير ذلك من كلام العرب (أجمعون).

يريد : أن (إلا) وما بعدها إنما تكون صفة إذا كان ما قبلها اسم موصوف مذكور ، كما أن (أجمعين) لا يكون إلا تابعا للأسماء المذكورة قبله. ولا يقام مقام المنعوت كما

__________________

(١) سورة الأنبياء ، من الآية ٢٢.

(٢) سورة النساء ، من الآية : ٩٥.

٧٨

يقام (مثل) و (غير) مقام المنعوت في قولك :

مررت بمثل زيد. وبغير زيد. تريد : برجل مثل زيد. وبرجل غير زيد.

لأن (مثلا) و (غيرا) اسمان ينعت بهما. وهما يتصرفان تصرف الأسماء والأحرف.

وإنما ينعت بهما حملا على (غير) لأن (غير) قد حمل عليه في الاستثناء. فلما كان نفس (غير) إذا لم تكن قبلها اسم لم يكن نعتا. إذ النعت يقتضي منعوتا قبله. لم يكن المشبه به نعتا.

وليس باسم يلحقه ما يلحق الأسماء من دخول حرف الجر عليه فلم يجز : (ما مررت بإلا زيد) كما جاز : (ما مررت بمثل زيد) و (بغير زيد).

ومما يوصف به ، ولا يقوم الموصوف مقام الأسماء والأفعال والظروف غير المتمكنة والجمل.

تقول : مررت برجل يضحك. ومررت برجل عندك. ومررت برجل أبوه جمال.

ولا تقول : مررت بيضحك. ولا (مررت بعندك). ولا (مررت بأبوه جمّال).

وقوله : وكل أخ مفارقه أخوه إلا الفرقدان

فتقديره : فكل أخ إلا الفرقدان مفارقه أخوه.

و (إلا) صفة ل (كل) و (مفارقه) خبر. ولو كان صفة (لأخ) لقال : (إلا الفرقدين) لأن ما بعد (إلا) يعرب بإعراب (غير) الذي يقع في موقعه. فالمرفوع نعت (كل) والمخفوض نعت (أخ). وهذا الشاعر الجاهلي لا يقول بالبعث ولا بفناء الدنيا. ويجوز أن يكون أراد : لا يتفرقان ما دامت الدنيا.

وقد كنت ذكرت في بعض أبواب الجر ما يجوز نعته من المعارف (بغير) وحكم (غير) من التعريف والتنكير بما أغني عن إعادته.

وقوله : وإذا قلت : ما أتاني أحد إلا زيد ، فأنت بالخيار إن شئت جعلت (إلا زيدا) بدلا. وإن شئت جعلته صفة. وقد مضى الكلام على هذين الوجهين.

قال : ولا يجوز رفع زيد على (إلا أن يكون).

كأن قائلا اعتقد أن زيدا في قولنا : ما قام أحد إلا زيد (يرتفع بأن تقدر بعد (إلا) أن يكون زيد فيرتفع زيد. ب (يكون) فأنكر سيبويه ذلك وقال : (أن يكون) اسم و (زيد) من تمامه. وهو بمنزلة الموصول الذي يكون هو وصلته بمنزلة اسم واحد.

فبعض الاسم قد حذف. وهو (أن يكون) وبقية الاسم : (زيد) ولا يجوز حذف الموصول وترك بعض صلته.

٧٩

هذا باب ما يقدم فيه المستثنى

وذلك قولك : ما فيها إلا أباك أحد. وما لي إلا أباك صديق. وزعم الخليل أنهم إنما حملهم على نصب هذا : أن المستثنى إنما وجهه عندهم أن يكون بدلا. ولا يكون مبدلا منه ؛ لأن الاستثناء إنما حده : أن تتداركه بعد ما تنفي فتبدله فلما لم يكن وجه الكلام هذا حملوه على وجه قد يجوز إذا أخرت المستثنى.

كما أنهم حيث استقبحوا أن يكون الاسم صفة في قولهم : (فيها قائما رجل) حملوه على وجه قد يجوز لو أخرت الصفة وكان هذا الوجه أمثل عندهم من أن يحملوا الكلام على غير وجهه.

وقال كعب بن مالك الأنصاري :

الناس ألب علينا فيك ليس لنا

إلّا السّيوف وأطراف القنا وزر (١)

سمعناه ممن يوثق به ممن يرويه عن العرب. كراهية أن يجعلوا ما حد المستثنى أن يكون بدلا منه بدلا من المستثنى.

ومثل ذلك : ما لي إلّا أباك صديق

فإن قلت : ما أتاني أحد إلا أبوك خير من زيد. وما مررت بأحد إلا عمرو خير من زيد. كان الرفع والجر جائزا. وحسن البدل لأنك قد شغلت الرافع والجار ثم بدلته من المرفوع والمجرور ثم وصفت بعد ذلك. وكذلك : من لي إلا أبوك صديقا. لأنك أخليت (من) للأب ولم تفرده لأن يعمل كما يعمل المبتدأ.

وقد قال بعضهم : ما مررت بأحد إلا زيدا خير منك وكذلك : من لي إلا زيدا صديق ، وما لي أحد إلا زيدا صديق. وكرهوا أن يقدموه وفي أنفسهم شيء من صفته إلا نصبا.

كما كرهوا أن يقدم قبل الاسم إلا نصبا.

وحدثنا يونس أن بعض العرب الموثوق بهم يقولون : ما لي إلا أبوك أحد.

فيجعلون (أحد) بدلا كأنك قلت : (لي أبوك صديقا). كما قلت (من لي إلا أبوك صديقا) حين جعلته مثل : ما مررت بأحد إلا أبيك خيرا منه.

ومثله قول الشاعر وهو الكلحبة :

__________________

(١) البيت في ديوانه ٢٠٩ ، وابن يعيش ٢ / ٧٩ ، والمقتضب ٤ / ٣٩٧.

٨٠