شرح كتاب سيبويه - ج ٣

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٣

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

ولو أنهم إذ حذفوا جعلوه بمنزلة" إنما" كما جعلوا أن بمنزلة" لكن". لكان وجها قويا.

وأما قوله : أن باسم الله فإنما يكون على الإضمار لأنك لم تذكر مبتدأ ومبنيا عليه والدليل على أنهم إنما يخففون على إضمار" الهاء" أنك تستقبح : قد عرفت أن تقول ذلك حتى تقول" لا" أو لا تدخل" سوف" أو السين" أو قد" ولو كانت بمنزلة حروف الابتداء لذكرت الفعل مرفوعا بعدها كما تذكره بعد هذه الحروف كما تقول : " ولكن يقول".

قال أبو سعيد : أما قوله عزوجل : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ)(١) فقد ذكرناه في الباب الذي تقدم قبل هذا وقوله : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ)(٢) " فأن" بمعنى" أي" وهي تفسير" ما أمرتني". لأن في الأمر معنى القول. ولو قلت." ما قلت لهم إلا ما قلت لي أن اعبدوا الله" لم يجز لأنه قد ذكر القول ، وإذا قلت" كتبت إليه أن أفعل وأمرته أن قم" ففيه وجهان :

أحدهما : أن" أن" وفعل المصدر بعدها بمنزلة المصدر وموضعها نصب أو خفض ومعناه كتبت إليه بأن أفعل. وأمرته" بأن" قم وحذفت الباء.

والوجه الآخر : أن تكون" أن" بمعنى" أي" فلا تدخل فيه الباء ؛ لأن الباء إذا دخلت صارت" أن" داخلة في الفعل الذي قبلها وهي جملة واحدة وإذا كانت بمعنى" أي" فهي جملة تفسر الجملة التي قبلها.

وشبه سيبويه وصل" أن" بالأمر والنهي كوصل" الذي" بفعل المخاطب حين تقول : أنت الذي تفعل وأنت الذي تقول : فإن قال قائل : " الذي" لا توصل بفعل الأمر لا يجوز : الذي قم إليه زيد. فلما جاز وصل" أن" بفعل الأمر؟ قيل له الذي يحتاج إلى صلة هي إيضاح ولا يجوز وصلها بما ليس بخبر من الفعل والجملة ولو وصلتها بالاستفهام أو بغيره مما ليس بخبر لم يجز. ولا يجوز : الذي هل هو في الدار زيد ولا مررت بالذي اللهم

__________________

(١) سورة ص ، الآية : ٦.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ١١٧.

٤٠١

أغفر له. وأما" أنّ" فإنّها توصل بما يصير معها مصدرا وهو الفعل المحض. سواء كان أمرا أو خبرا لأن المعنى الذي يراد به يحصل فيه. ألا ترى أنك إذا قلت : " أمرت بأن قم" فمعناه : أمرت بالقيام.

وأعلم أن" أن" إذا كانت بمعنى" أي" للعبارة فهي محتاجة إلى ثلاثة شرائط.

أولها : أن يكون الفعل الذي تفسره أو تعبر عنه فيه معنى القول. وليس بقول. وقد مضى هذا.

والثاني : ألا يتصل به شيء من صلة الفعل الذي تفسره لأنه إذا اتصل به شيء منه صار في جملته ولم يكن تفسيرا له. كالذي قدره سيبويه : أوعزت إليه بأن أفعل.

والثالث : أن يكون ما قبلها كلام تام وما بعدها جملة تفسر جملة قبلها ومن أجل ذلك كان قوله عزوجل : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١) ، وأخر قولهم : أن لا إله إلا الله بمعنى : " أنه". ولم يصلح أن يكون بمعنى" أي". لأن قوله وآخر دعواهم مبتدأ لا خبر معه. فهو غير تام فلا يكون بعده ، " أن" بمعنى" أي) وقوله عزوجل : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا)(٢) كأنه قال : ناديناه أنك قد صدقت الرؤيا. ومعناه بأنك قد صدقت يا إبراهيم.

وأجاز الخليل أيضا على" أن"" لأن" ناديناه كلام تام معناه : قلنا له يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ومثله : (أرسل إليه أن ما أنت وذا) فهي على" أي" وعلى : " أنه" لأنه يحسن فيه الباب وقوله : (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها)(٣) تكون" أن" بمعنى : المشددة ولا تكون بمعنى" أي" لأن قوله : (والخامسة) ليس كلام تام. وإذا كانت" أن" بمعنى المشددة ففيها إضمار اسم. وإذا لم يكن ذلك الاسم المضمر مما عرف وجرى ذكره فهو ضمير الأمر والشأن وهذا معنى قوله : " لا تخففها في الكلام أبدا وبعد الأسماء إلا وأنت تريد الثقيلة مضمرا فيها الاسم. وإن لم تضمر فيها نصب" بكأن" في قوله :

.. كأن وريديه رشاء خلب ..

__________________

(١) سورة يونس ، الآية : ١٠.

(٢) سورة الصافات ، الآيتان : ١٠٤ ، ١٠٥.

(٣) سورة النور ، الآية : ٩.

٤٠٢

وإنما اختاروا في" أن" الإضمار لأنها إذا كانت مفتوحة لم تقع أولا في موضع المبتدأ فتجعل ما يليها مبتدأ. وتجعل هي ملغاة (كإنّ) إذا كسرتها وخففت لأن المكسورة تدخل على المبتدأ وتؤكده. فإذا ألغيت ولم تعمل فما بعدها مبتدأ واقع موقعه من الكلام.

ومعنى قوله" لنصبوا كما ينصبون إذا اضطروا في الشعر"" بكأن" إذا خففوا يريدون : معنى (كأن) ولم يريدوا الإضمار فإن قال قائل : أي ضرورة إلى النصب تقع والوزن فيه وفي الرفع واحد؟ قيل له : إنما أراد إذا اضطروا إلى التخفيف ولم يريدوا إضمارا. وسبيل ذلك سبيل ما خفف من الفعل في اللفظ ولم يتغير عمله كقولك : " لم يك زيد قائما. ولم يبل زيد عمرا" بمعنى : لم يبال زيد عمرا وقد أجاز" كأن وريداه" ... على الإضمار والنصب" بكأنّ" إذا خففت.

وترك الإضمار أقوى من النصب" بأن" إذا خففت لما فيها من معنى التشبيه.

فأما النصب" بأن" إذا خفضت فهو قوله عزوجل على بعض القراءات : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ)(١). وأما" بأن" فقول الشاعر :

فلو أنك في يوم اللقاء سألتني

فراقك لم أبخل وأنت صديق (٢)

الكاف في : " أنك" موضعها النصب ، وقوله : (كأن ظبية تعطوا). قد حذف منها الاسم وهو ضمير امرأة بعينها قد جرى ذكرها. وأوله :

ويوما توافينا بوجه مقسم

كأن ظبية تعطوا إلى وارق السلم

وقوله : ولو أنهم إذ حذفوه جعلوه بمنزلة" أنما" كما جعلوا" إن" بمنزلة" لكن" لكأن وجها قويا يعني : لو حذفوا" أن" وأبطلوا عملها في المضمر والمظهر" كأن" إذا خففت لكان وجها قويا وهذا كما قال. ويصير قوله : علمت أن زيد قائم كقولك : علمت أنما زيد قائم. و" أنما" غير عاملة في شيء وزيد قائم مبتدأ وخبر وتصير" أن" بتخفيفها وإبطال عملها بمنزلة : " أنما" وقوله : أول ما أقول أن أحمد الله وأن باسم الله حمله سيبويه على المشددة وإضمار الأمر والشأن لأنه ليس قبله اسم يضمر كما

__________________

(١) سورة هود ، الآية : ١١١.

(٢) لم نستدل على قائله ، انظر الخزانة : ٢ / ٤٦٥ ، وابن يعيش : ٨ / ٧٣ ، والإنصاف : ١٢٧ ، وشرح شواهد ابن عقيل : ٧٧.

٤٠٣

أضمر في : " كأن ظبية" حين ذكر في الكلام الذي قبله ويكون ذلك الاسم الذي يضمر مبتدأ ومبنيا عليه بعد" أنّ" كما تكون بعد" أنما" ومما أستدل به على الإضمار في" أن" المخففة استقباحهم : قد عرفت أن تقول ذاك واستحسانهم : قد عرفت أن لا تقول ذاك. وعرفت أن ستقول فيما لم يكن عوني ولو كانت" أن" من حروف الابتداء" كأنما" و" إنّ" ما استقبحوا الفعل المرفوع بعدها. أ. ه.

هذا باب آخر «أنّ» فيه مخففة

وذلك قولك : قد علمت أن لا يقول ذاك وقد تيقنت أن لا يفعل. كأنه قال : أنك لا تقول وأنه لا يفعل ونظير ذلك قوله عزوجل : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى)(١). وقوله عزوجل : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً)(٢). وقال عزوجل : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ)(٣) وزعموا أنها في مصحف" أبى" أنهم لا يقدرون على شيء.

وليست" أن" التي تنصب الأفعال تقع في هذا الموضع لأن (ذا) موضع يقين وإيجاب .. وتقول : كتبت إليه أن لا يقل ذاك وكتبت إليه أن لا يقول ذاك. وكتبت إليه أن لا يقول ذاك. فأما الجزم : فعلى الأمر ، وأما النصب فعلى قولك : لئلا يقول ذاك.

وأما الرفع : فعلى قولك : لأنك لا تقول ذاك تخبره بأن ذا وقع من أمره وأما" ظننت" و" خلت"" وحسبت" و" رأيت" فإن" أن" فيها على وجهين : على أنها تكون (أن) التي تنصب الفعل وتكون (أن) الثقيلة فإذا رفعت قلت : حسبت أن لا يقول وأرى أن سيفعل ذاك. ولا تدخل هذه السين في الفعل هاهنا حتى تكون" أنه" وقال عزوجل : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ)(٤) كأنك قلت : قد حسبت أنه لا يقول ذاك وأنما حسنت" أنه" هاهنا. لأنك قد أثبت هذا في ظنك. كما أثبته في علمك وأنك أدخلته

__________________

(١) سورة المزمل ، الآية : ٢٠.

(٢) سورة طه ، الآية : ٨٩.

(٣) سورة الحديد ، الآية : ٢٩.

(٤) سورة المائدة ، الآية : ٧١.

٤٠٤

في ظنك. على أنه ثابت الآن كما كان في العلم. ولو لا ذاك لم يحسن" أنك" هاهنا ولا" أنه" فجرى الظن هاهنا مجرى اليقين لأنه نفيه. وإن شئت نصبت فجعلتهن بمنزلة" خشيت" و" خفت" فتقول ظننت أن لا تفعل. ونظير ذلك : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ)(١) ، (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ)(٢) ، " فلا" إذا دخلت هاهنا لم تغير الكلام عن حاله وأنما منع" خشيت" أن تكون بمنزلة : " ظننت" و" خلت" و" علمت" إذا أردت الرفع. أنك لا تريد أن تخبر أنك تخشى شيئا قد ثبت عندك ولكنه كقولك : " أرجو" و" أطمع" و" عسى" فأنت لا توجب إذا ذكرت شيئا من هذه الحروف.

ولذلك ضعف" أرجو أنك تفعل" و" أطمع أنك فاعل". ولو قال رجل : " أخشى أن لا تفعل يريد أن يخبر أنه يخشى أمرا قد استقر عنده أنه كائن. جاز وليس وجه الكلام. واعلم أنه ضعيف في الكلام أن تقول : قد علمت أن تفعل ذاك ، ولا قد علمت أن فعل ذاك حتى تقول : " ستفعل"" أو قد فعل" أو تنفي فتدخل" لا". وذلك لأنهم جعلوا ذلك عوضا مما حذفوا من" أنه" فكرهوا أن يدعوا" السين" أو (قد). إذ قدروا على أن تكون عوضا ولا تنقض مما يريدون لو لم يدخلوا" قد" و" السين".

وأما قولهم : أما أن جزاك الله خيرا فإنما أجازوه ؛ لأنه دعاء. ولا يصلون إلى" قد" هاهنا ولا إلى" السين". وكذلك لو قلت : (أما أن يغفر الله) جاز لأنه دعاء ولا تصل هنا إلى السين. ومع هذا أنه قد كثر في كلامهم حتى حذفوا فيه" أنه" و" أنه" لا يحذف في غير هذا الموضع سمعناهم يقولون : (أما إن جزاك الله خيرا) شبهوه (بأن).

فلما جازت" إن" كانت هذه أجوز وتقول : " ما علمت إلا أن تقوم ولا أعلم إلا أن تقوم. وما أعلم إلا أن تأتيه إذا لم ترد أن تخبر أنك قد علمت شيئا البتة ولكن تكلمت على وجه الإشارة. كما تقول أرى من الرأي أن تقوم ، فأنت لا تخبر بأن قياما قد ثبت كائنا أو يكون فيما تستقبل البتة فلو أراد غير هذا المعنى لقال : " ما علمت إلا

__________________

(١) سورة القيامة ، الآية : ٢٥.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٣٠.

٤٠٥

أن سيقومون" وأنما جاز : " قد علمت أن عمرو ذاهب" لأنك قد جئت بعده باسم وخبر كما يكون بعده لو ثقلته وأعملته فلما جئت بالفعل بعد" أن" جئت بشيء كان سيمتنع بعده لو ثقلته فكرهوا أن يجمعوا عليه الحذف وجواز ما لم يكن يجوز بعده مثقلا فجعلوا هذه الحروف عوضا.

قال أبو سعيد : أفعال العلم واليقين والمعرفة وما جرى مجراها من أفعال التحقيق تختص به" أنّ" المشددة الناصبة للأسماء دون" أن" المخففة الناصبة للأفعال. وأنما خصت هذه الأفعال بالمشددة لأن المشددة المفتوحة بمنزلة" إنّ" المكسورة في باب التوكيد والإيجاب ، وما اختص بالإيجاب لا يدخل عليه ما ينقض دلالته على الإيجاب ، فلم يدخل على" أن" المشددة" رجوت" واشتهيت وبابه. لأن هذه الأفعال يجوز أن يوجد ما بعدها ويجوز ألا يوجد فوقعت على" أنّ" المخففة التي لا توكيد فيها ولا مضارعة لما يوجب التوكيد.

ولا ينكر أن تكون هذه الأفعال المحققة تختص ب ألا يدخل عليه باب" رجوت" و" اشتهيت" كما أن لام" التوكيد" و" السين" و" سوف" لا يجامعها جحد. ألا ترى أنك تقول : والله لزيد قائم ولا تقول : والله لما زيد قائم. تريد : " ما" الجحد وكذلك لا يجوز : ما سيقوم وليس سيقوم وكذلك أفعال التحقيق منعت من دخولها على المخففة. وخصت المخففة بالأفعال غير المخففة وهي الأفعال التي يجوز أن يكون مفعولها. ويجوز أن لا يكون كقولك : اشتهيت أن لا يخرج زيد لأن زيدا يجوز أن يخرج ويجوز أن لا يخرج ، وقولك : رجوت أن يقدم زيد يجوز أن يقدم ، ويجوز أن لا يقدم.

واعلم أن من الأفعال ما يكون فيه تأويلان أحدهما : الإيجاب والآخر : غيره فيجيز أن تكون" أنّ" بعدها بالتشديد والتخفيف بتأويل التشديد ورفع الفعل بعده ويجوز أن يكون بعدها (أن) ناصبة للفعل. وذلك" حسبت" و" ظننت" و" خلت" و" رأيت" من رؤية القلب وفيها تأويلان :

أحدهما : تأويل العلم واليقين والمعرفة لأن الظان قد أثبت في ظنه ما ظنه واعتقده عنده أنه حق كما يعتقد العالم فيما علمه أنه حق فيجري لفظ ما بعد هذه الأفعال بالتشديد في هذا التأويل. كما يجري في العلم فيقال : حسبت أن زيدا منطلق" وظننت أنك أخونا" وأن خففت وأنت تنوي الشديدة قلت : " قد حسبت أن لا تقول ذلك"

٤٠٦

بالرفع وأرى أن سيفعل لأنك تريد : " أنك لا تقول ذاك وأرى أنه سيفعل ولا تكون السين في الفعل حتى تكون بمنزلة : " أنه" لأن" أن" المخففة لا يليها إلّا الفعل الذي تنصبه والماضي." والسين وسوف" لا تدخل عليهما عوامل الفعل لأن السين وسوف أنما دخلتا على فعل مستقبل يكن فيه الحال والاستقبال فأخلصتاه للاستقبال وعوامل الأفعال لا تكون للحال إنما تكون للاستقبال فلا مدخل لها على" السين" و" سوف" ومثله : قوله عزوجل : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ)(١).

والتأويل الثاني في هذه الأفعال : أنها أفعال وقعت في القلب واعتقدها صاحبها بغير دليل ولا برهان وإذا وقف على صورتها وعلم أن ذلك الاعتقاد لما كان بغير دليل جوز أن يكون معتقده ، يصح وجوز أن لا يصح. وجوز أن يكون وأن لا يكون فصار بمنزلة" خشيت" و" خفت" وخبر عنها الذي يقف على صورتها باللفظ الذي يستعمله في" خفت" و" خشيت" و" رجوت". وذلك قولك : ظننت أن لا تفعل ونظير ذلك (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ)(٢) ، (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ)(٣) ودخول" لا" بعد" أن" لا يغير النصب في قولك : ظننت أن لا تفعل ذلك وفي القرآن (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ)(٤) ، و (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ)(٥). (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ)(٦). في قراءة من نصب وهو أكثر من أن يحصى. وقد ذكرنا فيما مضى أن لا يفصل بين العامل والمعمول فيه.

وجعل سيبويه لباب" ظننت" و" خلت" مزية على باب" خشيت" و" خفت" فأجاز تشديد" أن" في باب" ظننت" و" خلت" جوازا مستمرا مستحسنا. ولم يجز في" خشيت" و" خفت" التشديد إلا على ضعف وعلى أنه ليس وجه الكلام. وقال في الفصل بينهما أنك في باب" خشيت" لا تريد أن تخبر أنك تخشى شيئا قد ثبت عندك ولكنه كقولك :

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٧١.

(٢) سورة القيامة ، الآية : ٢٥.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٢٣٠.

(٤) سورة الحديد ، الآية : ٢٩.

(٥) سورة الأعراف ، الآية : ١٦٩.

(٦) سورة المائدة ، الآية : ٧١.

٤٠٧

(أرجو) و" أطمع" و (عسى" وأنت لا توجب إذا ذكرت شيئا من هذه الحروف والذي يجوزه أنه قد يستقر في علمه كون شيء يعلم أنه يضره ونفسه كارهة له ونافرة منه. فذلك النفور والكراهية هو الخوف والخشية.

وضعيف في الكلام أن تقول : " قد علمت أن تفعل" لأن الأصل : علمت أنك ذاك" ولو قلت علمت أن تفعل ذاك" لم يجز. لأن الفعل لا يلي" أنّ" و" إنّ" المشددتين. فكرهوا أن يجمعوا عليه حذف الاسم والتخفيف وأن يليه ما لم يكن يليه من الفعل. فإذا عوضوا سهل ذلك إذ قد وجد بعض ما يحذف. إذا كان في الكلام عوض منه جاز وإن لم يكن لم يجز نحو قولهم :

وبلد عامية أعماؤه (١)

بمعنى : ورب بلد. ولا يجوز أن تقول : بلد. بمعنى : رب بلد.

وأما قولهم : أما أن جزاك الله خيرا وتقديره : أما أنه جزاك الله خيرا ومعناه : حقا أنه جزاك الله خيرا كما تقول : أما أنك راحل بمعنى : حقا أنك راحل وقد حذف اسم" أن" المشددة ووليها الفعل فأنما : إن ذلك لأن هذا الكلام دعاء. والأشياء التي تكون عوضا من التخفيف وحذف الاسم لا يصح وقوعها فيه لأن" قد" لا تقع في الدّعاء. لا تقول : قد غفر الله لك وأنت تريد الدعاء فلا يجوز : أما أن قد جزاك الله خيرا وكذلك" السين" و" سوف" لا يصح دخولهما على فعل الدعاء لأنهما يضمران الكلام يقينا واجبا. ولا يجوز دخول" لا" لأنها تقلب معنى الدعاء له إلى الدعاء عليه. فاحتمل لذلك ترك العوض ، وأجازوا كسر" أن" في هذا الموضع فقالوا : أما إنّ جزاك الله خيرا. وتقديره : أما إنّه جزاك الله خيرا.

ومعنى" إن" إذ كسرت معنى : " ألا" التي يستفتح بها الكلام." وجزاك الله خيرا" خبر لاسم أن والدعاء والأمر يكونان خبرين للمبتدأ كقولك :

زيد جزاه الله خيرا ـ وزيد أضربه.

وإن لم تقدر" إنه وأنه" بطل معنى الكلام وأنما حسن الحذف فيه من غير عوض

__________________

(١) البيت لرؤبة بن العجاج ديوانه ص ١ وهي مطلع قصيدة في وصف المفازة والسراب.

انظر معاهد التنصيص : ٨٦ ، أمالي المرتضي : ١ / ١٥٥ ، أمالي ابن الشجري : ١ / ٣٦٦.

٤٠٨

للضرورة التي ذكرتها. وأنما استعملوا حذف الاسم في" أن" المكسورة في هذا الموضع خاصة وليس ذلك الحذف في سائر الكلام ولم يعوضوا كأنّ ذلك تقوية لحذف العوض الذي يكون في المفتوحة وأنما جاز في قولهم : ما علمت إلا أن تقوم" أنّ" الناصبة لأنها استعمل العلم فيها على معنى المشورة والرأي الذي لاح فيه فيما أشار عليه فصار بمنزلة الرأي والظن.

ولو أراد العلم الحقيقي لقال : " ما علمت إلا أن سيقومون" على معنى" أنهم سيقومون كما ذكرنا فيما تقدم.

وباقي الباب مفهوم

هذا باب «أم» و «أو»

أما" أم" فلا يكون الكلام بها إلا استفهاما.

ويقع الكلام بها في الاستفهام على وجهين :

١ ـ على معنى : أيهما وأيهم.

٢ ـ وعلى أن يكون الاستفهام الآخر متقطعا من الأول.

وأما" أو" فإنما يثبت بها بعض الأشياء وتكون في الخبر. والاستفهام يدخل عليها على ذلك الحد.

وسأبين لك وجوهه إن شاء الله تعالى.

وقال أبو سعيد : هذا الباب جملة تفصل في الأبواب بعده وفيها يقع الشرح إن شاء الله تعالى.

هذا باب «أم» إذا كان الكلام بها بمنزلة : أيهما وأيهم

وذلك قولك : أزيد عندك أم عمرو؟ وأزيدا لقيت أم بشرا؟ فأنت الآن مدع أن عنده أحدهما. لأنك إذا قلت ، أيهما عندك؟ وأيهما لقيت؟ فأنت مدع أن المسئول قد لقي أحدهما أو أن عنده أحدهما إلا أن علمك قد استوى فيهما لا تدري أيهما هو؟

والدليل على أن قولك : أزيد عندك أم عمرو؟ بمنزلة قولك : أيّهما عندك؟ أنك لو قلت : أزيد عندك أم بشر؟ فقال المسئول : لا. كان محيلا كما أنه إذا قال : أيهما عندك؟ فقال : لا. فقد أحال.

٤٠٩

واعلم أنك إذا أردت هذا المعنى فتقديم الاسم أحسن لأنك لا تسأل عن اللقاء إنما تسأل عن أحد الاسمين لا تدري أيهما هو ، فبدأت بالاسم لأنك تقصد أن يبين لك أي الاسمين في هذه الحال ، وجعلت الاسم الآخر بديلا للأول وصار الذي لا تسأل عنه بينهما.

ولو قلت : " ألقيت زيدا أم عمرا" كان جائزا حسنا.

ولو قلت : أعندك زيد أم عمرو؟ كان كذلك وإنما تقديم الاسم هاهنا أحسن. ولم يحسن للآخر إلا أن يكون مؤخرا لأنه قصد الاثنين. فبدأ بأحدهما. لأن حاجته أحدهما. فبدأ به مع القصة التي لا يسأل عنها. لأنه إنما يسأل عن أحدهما من أجلها ، وإنما يفرغ مما يقصد بقصته ثم يعد له بالثاني.

ومن هذا الباب قوله : ما أبالي أزيدا لقيت أم عمرا؟ وسواء على أزيدا كلمت أم عمرا؟ كما تقول : ما أبالي أيهما لقيت؟

وإنما جاز حرف الاستفهام هنا. لأنك سويت الأمرين كما استويا حين قلت : أزيد عندك أم عمرو؟ فجرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء قولهم : " اللهم اغفر لنا أيتها العصاية" وإنما لزمت" أم" هاهنا. لأنك تريد معنى" أيهما" ألا ترى أنك تقول : " ما أبالي أيّ ذاك كان"." وسواء على أيّ ذاك كان". فالمعنى واحد و" أي" هاهنا تحسن. وتجوز كما جازت في المسألة.

ومثل ذلك : ما أدري أزيد ثم أم عمرو؟ و" ليت شعري أزيد ثم أم عمرو؟ فأوقعت" أم" هاهنا كما أوقعته في الذي قبله ؛ لأن هذا يجري على حرف الاستفهام حيث استوى علمك فيهما كما جرى الأول.

ألا ترى أنك تقول : ليت شعري أيهما ثم فيجوز" أي" ويحسن كما جاز في قولهم : أيّهما ثمّ؟

وتقول : أضربت زيدا أم قتلته؟ فالبدء هاهنا بالفعل أحسن. لأنك إنما تسأل عن أحدهما لا تدري أيهما كان. ولم تسأل عن موضع أحدهما فالبدء بالفعل هاهنا أحسن كما كان البدء بالاسم فيما ذكرنا أحسن كأنك قلت : أي ذاك كان بزيد؟

وتقول : ما أدري أقام أم قعد؟ إذا أردت : ما أدري أيّهما كان؟

٤١٠

وتقول : ما أدري أقام أو قعد؟ إذا أردت أنه لم يكن بينهما شيء ، كأنه قال : لا أدعي أنه كان في تلك الحال قيام ولا قعود أي لم أعدد قيامه قياما يستبين لي قعوده بعد قيامه. وهو كقول القائل : تكلم ولم يتكلم.

قال أبو سعيد : اعلم أن" أم" فيها معنى حرف الاستفهام وحرف العطف وهو يشبه من حروف العطف" أو".

فأما موقعها في الاستفهام فعلى وجهين :

أحدهما : أنها تعادل ثانية ألف الاستفهام أولا. ويكونان بمعنى" أيهما". وذلك قولك : أزيد في الدار أم عمرو؟ وأزيدا لقيت أم بشرا؟ ومعناه : أيّهما عندك؟ وأيهما لقيت؟

وإنما يعادل السائل بها الألف ويجعل الكلام بمنزلة" أيّهما" و" أيهم" إذا كان قد عرف وقوع شيء من شيئين أو من أشياء فكلا يعرفه بعينه فيسأل من يقدّر أن علم ذلك عنده ليعرفه إياه معينا.

كان القائل إذا قال : أزيد عندك أم عمرو قد علم أن عند المخاطب أحد هذين ولا يدري من هو منهما فيستدعى إعلام المخاطب إياه عينا فيلتمس علم ذلك منهما ، وكذلك كل ما استفهم عنه بالألف.

و" أم" بمعنى" أي" والمستفهم قد عرف وقوع أحد الأمرين منهما وهو يلتمس تعيينه كقولك : أقام زيد أم قعد؟

وقد يعبّر عن هذا السؤال. بأن فيه تسوية ومعادلة.

فأما التسوية : فهي أن الاسمين المسئول عن تعيين أحدهما يستويان في علم السائل ما عنده في أحدهما مثل ما عنده في الآخر.

وأما المعادلة : فهي بين الاسمين جعلت الاسم الثاني بديلا للأول بوقوع" الألف" على الأول و" أم" على الثاني ومذهب السائل فيهما.

فإذا سأل السائل عن هذا ، فالجواب أن يسمى واحد من الاثنين أو الجماعة ويعين.

وإنما نسأل السائل عن هذا والمسئول عنه يعرف الذي يسأل عنه.

وقد اتسعت العرب في ذلك. فاستعملوه في غير الاستفهام في مواضع مختلفة.

من ذلك قول القائل : " قد علمت أزيد في الدار أم عمرو. وليس هذا باستفهام

٤١١

والمتكلم فيه بمنزلة المسئول والمخاطب يصير بمنزلة السائل لأن الذي يقول : قد علمت أزيد في الدار أم عمرو قد عرفه بعينه والمخاطب إذا قال له القائل : قد علمت أزيد في الدار أم عمرو يعتقد في قول المتكلم أن أحدهما في الدار لا يعرفه بعينه. فهو بمنزلة السائل في الأول.

ومنه : ما أدري أزيد في الدار أم عمرو؟ وهذه حال السائل. فإذا سأل وهذه حاله قال : أزيد في الدار أم عمرو؟

ومنه قول القائل : ليت شعري أزيّد في الدار أم عمرو؟ تمنى أن يعلم ما يسأل عنه السائل إذا قال : أزيد في الدار أم عمرو؟

ومنه : ما أبالي أزيد جاءك أم عمرو سويت بين الأمرين جميعا في منزلتهما عندك وهوانهما عليك.

ومنه : سواء عليّ أقمت أم قعدت ومعناه. قيامك وقعودك على مستويين.

وإنما جاز الاستفهام" بأم" في هذه الأشياء وأن تكون استفهاما لما فيها من التسوية والمعادلة فشبهت من الاستفهام بما فيها من التسوية والمعادلة.

لاجتماعهما في التسوية والمعادلة لا في الاستفهام. كما جرى على حرف النداء قولك :

" اللهم اغفر لنا أيتها العصابة" ولست تناديه وإنما تختصه فتجريه على حرف النداء لأن النداء فيه اختصاص فيشبه به للاختصاص لأنه منادى.

وقد مضى الكلام فيه قبل.

والاختيار في هذا الباب أن يكون الشيء الذي يسأل عنه هو الذي يلي" الألف" و" أم" وما" لا" يسأل عنه متوسط كقولك : أزيد عندك أم عمرو؟

والسؤال عن زيد وعمرو ؛ لأن السائل يلتمس واحدا منهما له. ولا سؤال عن" عندك" لأنه قد عرّفه أنّ أحدهما عنده.

فأحسن الألفاظ ما يتعادل به الاسمان اللذان هما مستويان في السؤال ، فيجعل أحدهما" بالألف" والآخر يلي" أم" وإذا لم يجعل كذلك وقيل : أعندك زيد أم عمرو؟ صار الذي يلي الألف عنده ليس بعديل" عمرو" الذي ولي" أم".

وكذلك الاختيار : أزيدا لقيت أم بشرا؟ ولو قلت : ألقيت زيدا أم بشرا؟ صار الفعل

٤١٢

يلي الألف والاسم يلي" أم" ، وهو وإن كان جائزا حسنا لاستواء معنى ألقيت زيد؟ و" أزيدا لقيت"؟ فليس كحسن : أزيدا لقيت أم بشرا؟ لأنه مع صحة المعنى أعدل لفظا. ومما يختاره العرب.

وإذا كانت المعادلة بين فعلين فالاختيار أن يلي أحد الفعلين الألف والآخر" أم". لأن المسألة عن الفعلين. ويكون الذي ليست المسألة عنه بينهما وذلك قولك : أضربت زيدا أم قتلته؟ لأن سؤالك عن فعلين مبهمين ليبين لك أحدهما ولم تسأل عن" زيد" الذي هو موضع الفعل لأن المسائل قد علم أن أحدهما واقع بزيد ولم يفرق بينهما فالبدء بالفعل هنا أحسن. كأنك قلت : أي ذاك كان بزيد؟

وقد يعادل بالفعل والفاعل. والمبتدأ والخبر لاستواء المعنى في ذلك.

كقوله عزوجل (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ)(١) والمعنى : سواء عليكم أدعوتموهم أم صمتم.

وإن شئت : سواء عليكم أنتم داعون لهم أم أنتم صامتون عنهم. وسواء عليكم أنهم مدعوون أم متروكون.

ومعناه : سواء عليكم دعاؤكم لهم وصمتكم عنهم.

قول سيبويه : " قام أو قعد" إذا أردت أنه لم يكن بينهما شيء ، كأنه يقول : لا أدعي أنه كان منه في تلك الحال قيام ولا قعود : أي : لم أعدد قيامه قياما ولم يستبن قعوده قعودا صار بمنزلة : ما لا قيام يعرف له ولا قعود ، فكأنه قال : ما أدري أكان أحد هذين؟

وإذا أيقن بكون أحد الأمرين منه وشكّ فيه عينا. قال : ما أدري أقام أم قعد؟ وهذا قد علم أن أحد الأمرين كأن منه ولا يعرفه بعينه.

وما تركته من شرح الباب فلا غناء ما شرحته عنه. وبقيت من شرح" أم" بعد ذكري جملة وجوهها ما أشرحه في الباب الذي يلي هذا إن شاء الله تعالى.

هذا باب «أم» منقطعة

وذلك قولك : أعمرو عندك أم زيد.

فهذا ليس بمنزلة : أيهما عندك؟

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ١٩٣.

٤١٣

ألا ترى أنك لو قلت : أيهما عندك؟ لم يستقم إلا على التكرير (والتوكيد) وبذلك على أن الآخر منقطع من الأول :

قول الرجل : إنها لإبل ثم يقول : (أم شاه يا قوم) فكما جاءت" أم" هاهنا بعد الخبر منقطعة فكذلك تجيء بعد الاستفهام.

وذلك أنه حين قال : أعمرو عندك؟ فقد ظن أنه عنده أدركه مثل ذلك الظن في" زيد" بعد أن استغنى كلامه.

ومثل ذلك : " أنها لإبل أم شاه" إنما أدركه الشك حين مضى كلامه على اليقين وبمنزلة" أم" هاهنا قوله عزوجل : (الم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ)(١).

فجاء هذا على كلام العرب (ليعرفوا ضلالتهم).

ومثل ذلك : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ...)(٢).

كأن فرعون قال : أفلا تبصرون أم أنتم بصراء.

فقوله : " أم أنا خير" بمنزلة قوله : أم أنتم بصراء لأنهم لو قالوا : أنت خير منه كان بمنزلة قولهم : " نحن بصراء عنده".

ومثل ذلك قوله عزوجل : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ)(٣).

فقد علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون أن الله عزوجل لم يتخذ ولدا. ولكنه جاء على حرف الاستفهام ليبصروا ضلالتهم.

ألا ترى أن الرجل يقول للرجل : " السعادة أحب إليك أم الشقاء" وقد علم أن السعادة أحب إليه وأن المسئول سيقول : السعادة. ولكنه أراد أن يبصر صاحبه ومن ذلك : أعندك زيد أم لا؟ كأنه حين قال : أعندك زيد؟ كان يظن أنه عنده ثم أدركه مثل ذلك الظن في أنه ليس عنده فقال : أم لا؟

__________________

(١) سورة السجدة ، الآيات : ١ : ٣.

(٢) سورة الزخرف ، الآيتان : ٥١ ، ٥٢.

(٣) سورة الزخرف ، الآية : ١٦.

٤١٤

وزعم (الخليل) أن قول الأخطل :

كذبتك عينك أم رأيت بواسط

غلس الظلام من الرباب خيالا (١)

كقوله : إنها لإبل أم شاه.

ومثل ذلك قول الشاعر وهو كثير عزة :

أليس أبي بالنضر أم ليس والدي

لكل نجيب من خزاعة أزهرا (٢)

ويجوز في الشعر أن يريد بكذبتك الاستفهام ويحذف الألف قال الأسود بن يعفر :

لعمرك ما أدري وإن كنت داريا

شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر (٣)

وقال عمر بن أبي ربيعة :

لعمرك ما أدّري وإن كنت داريا

بسبع رمين الجمر أم بثمان (٤)

قال أبو سعيد : والوجه الثاني من وجهي الاستفهام بأم : أن تكون" أن" منقطعة مما قبلها. ومنزلتها منزلة الألف إذا اتصلت بكلام قبلها. إلا أن" الألف" تكون ابتداء و" أم" لا تكون ابتداء لأنها للعطف.

في الوجه الأول : تعطف اسما على اسم أو فعلا على فعل وهما من جملة واحدة.

والوجه الثاني : تعطف جملة على جملة.

لأن الثاني ينقطع من الأول فلا يكون ما بعدها إلا كلاما تاما أو مقدرا جاء لتمامهما فقولهم :

__________________

(١) انظر الديوان : ٤٩ وهي مطلع قصيدة في هجاء جرير.

الخزانة : ٤ / ٤٥٢ ، شرح شواهد المغني للسيوطي : ١ / ١٤٣.

(٢) ديوانه : ٢٣٣ برواية :

أليس أبي بالصلت أم ليس أسرقي

لكل هجان من بني النضر أزهرا

(٣) الكامل ٣ / ٩٠٦ ، الخزانة : ٤ / ٤٥٠ ، العيني : ٤ / ١٣٨.

(٤) ديوانه : ٨٨ برواية

فو الله ما أدري وإني لحاسب

بسبع رميت الجمر أم بثمان

الخزانة : ٤ / ٤٤٧ ، ابن يعيش : ٨ / ١٥٤ ، مغني اللبيب : ١ / ١٤ ، الكامل : ٣ / ٩٠٦.

٤١٥

أنها لإبل أم شاه.

تقريرها : أم هي شاه لأن قوله : " أنها لإبل" إخبار وهو كلام تام ، وقوله : " أم شاه" استفهام عند شك عرض له بعد الإخبار ولا بد من إضمار" هي".

ولو ذكرت في موضع" أم" المنقطعة" ألف" الاستفهام لجاز ولم يتغير المعنى. كقولك : أنها لإبل أشاه؟ وكذلك : " أيقولون افتراه" مكان : " أم يقولون افتراه".

فإذا كانت" بأم" فهي معطوفة.

وإذا كانت" بالألف" فهي مستأنفة غير معطوفة. واختاروه" بأم" لأن فيها رجوعا عن الأول وإبطالا له كما يكون في" بل".

وإذا كانت باستفهام مستأنف لم يكن بينهما وبين الأول علقة.

وقد شبه النحويون" أم" في هذا الوجه ب" بل" ولم يريدوا أن ما بعد" أم" محقق كما يكون ما بعد" بل" محققا.

وإنما أرادوا أن" أم" استفهام بعد كلام يتقدمها كما أن" بل" تحقيق مستأنف بعد كلام يتقدمها.

والدليل على أنها ليست بمنزلة" بل" مجردة قوله عزوجل : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ)(١) لا يجوز أن يكون بمعنى : بل اتخذ مما يخلق بنات. تعالى الله عن ذلك. وتقديره في اللفظ : " أأتخّذ" بالألف للاستفهام والمعنى : الإنكار والرد لما ادعوه. لأن ألف الاستفهام قد تدخل للتقرير والرد والإنكار والتوبيخ والتوعد فتدخل على النفي فتصيره إيجابا في التقرير كقوله عزوجل : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)(٢) وقوله عزوجل : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ)(٣).

والرد نحو قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ)(٤)؟ رد على من ادعى ذلك ونبه إليه.

والإنكار : نحو قوله أمقيما ونحن راحلون؟ و" أقياما وقعد قعد الناس؟ " ونحو

__________________

(١) سورة الزخرف ، الآية : ١٦.

(٢) سورة الانشراح ، الآية : ١.

(٣) سورة التغابن ، الآية : ٥.

(٤) سورة الزخرف ، الآية : ١٦.

٤١٦

ذلك : " أم يقولون افتراه"؟ بمعنى : أيقولون افتراه على وجه الإنكار عليهم.

ولو قيل : بل يقولون صار ذلك من قولهم على وجهة الإخبار منهم بحسب وإذا كان على جهة : أيقولون افتراه؟ فهو على جهة التثبيت عليهم بالتقرير لهم بذلك ولا يجعله موجها عليهم بالإخبار عنهم فهذا الفصل بين" أم" وبين" بل".

والتوعد نحو قولك لمن يشتمك أو يجترئ عليك : أتشتمني؟ وأتجترئ علي؟ وقوله : أعمرو عندك أم عندك زيد؟ والوجه الظاهر فيه أن يكون بمعنى" أم" المنقطعة كأنه استفهم عن الأول بقوله : أعمرو عندك؟ وفي نيته الاقتصار عليه ثم أدركه في" زيد" من الشك ما أدركه من" عمرو" فسأل عنه. لأن" أم" المنقطعة تأتي بعد الخبر وبعد الاستفهام. ولو جعلت بمعنى : " أيهما" لنابت" أيهما" عن عمرو و" زيد" ومن" ألف" الاستفهام وعن" أم".

وصار التقدير : أيهما عندك عندكم لأن : " عندك" مكررة في ذكر" عمرو" و" زيد". فوجه الكلام على كلامين كل واحد منهما قائم بنفسه وألا يكون على وجه التكرير.

قال أبو سعيد : وإذا كان بعد" أم" حرف الجحد الذي هو نقيض ما قبله فمعناها ومعنى (أو) سواء وذلك قولك : أعندك زيد أم لا؟ " أم" منقطعة كأنه حيث قال : أعندك زيد؟ كان يظن أنه عنده فسأل عنه وحده ثم أدركه مثل ذلك الظن في أنه ليس عنده فقال : أم لا؟

والدليل على أنها منقطعة : أن السائل لو اقتصر على قوله : أعندك زيد. لاقتضى استفهامه عن ذلك أن يقال : نعم أو لا.

فقوله : أم لا مستغنى عنها في تتميم الاستفهام الأول وإنما يذكره الذاكر ليبين أنه عوض له الظن في نفي أنه عنده كما كان عرض له الظن في أنه عنده و" أو" تقتضي هذا المعنى وذلك أنه إذا قال : " أعندك زيد" فالسائل شاك مستفهم يلتمس أن يقال له" نعم" أو" لا" وهو يعلم أنه أما عنده وإما ليس عنده. وإذا قال : أعندك زيد أو لا؟ فقد أتى ب (أو) وهو مستغن عنها بما اقتضاه سؤاله وبما علم من حاله أنه يعتقد أحد الأمرين.

ولذلك استوى" أم" و" أو" فيه. ويدخل في هذا المعنى ما حكاه الله تعالى عن

٤١٧

فرعون : (أَفَلا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ)(١) ؛ لأن قوله : أم أنا خير من هذا الذي هو مهين بمنزلة قوله : أم تبصرون على ما بينه سيبويه.

وبالإيجاب بأحد الأمرين في المسألة الأولى وذكر" أم" بعدها كالتوكيد المستغنى عنه.

ألا ترى أن قوله : " تبصرون" يستدعي به السائل أن يقال له : لا نبصر أو نبصر. كأن فرعون ظن أولا أنهم لا يبصرون ثم أدركه ظن أنهم يبصرون على نحو ما ذكرناه فيما قبله.

وقال أبو زيد : (٢) " أم" زائدة في هذا الموضع كأنه قال : " أفلا تبصرون أنا خير من هذا الذي هو مهين". ولم يقله غيره من النحويين.

وما علمت أحدا تابعه عليه إلا رجلا من المقرئين. وكان إذا قرأ استوقف القارئ على" أم" ثم ابتدأ : " أنا خير من هذا الذي هو مهين".

فأنشد أبو زيد قول الراجز :

يا دهن أم ما كان مشيتي رقصا

بل قد تكون مشيتي توقّصا (٣)

وقد يجوز أن يكون ما أنشده أبو زيد من كلام مقدم بعضه وإن كان في أوله حرف النداء لأن حرف النداء قد يقع حشوا. كقولك : قمت يا زيد أو لم تقم.

فيمكن أن يكون قال : أكان مشيتي في شبابي رقصا. وقد يجوز أن تكون" ما" زائدة وتكون" أم" على كلام متقدم.

وأما قوله :

كذبتك عينك أم رأيت بواسط

فإنه : يكون : على أنه خبّر بكذب عينه ثم أدركه ظن وبأن ذلك كان في القوم فقال :

__________________

(١) سورة الزخرف ، الآيتان : ٥١ ، ٥٢.

(٢) هو أبو زيد سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري أخذ عنه سيبويه اللغة توفي ٢١٥ ، نزهة الألباب : ٨٧.

(٣) انظر المقتضب : ٣ / ٢٩٧ ، والخزانة : ٤ / ٤٢١ ، وأمالي ابن الشجري : ٢ / ٣٣٦.

٤١٨

كذبتك عينك أم رأيت بواسط

غلس الظلام من الرباب خيالا

وقد يخبر الشاعر بالشيء ثم يرجع عنه أما بتكذيب نفسه أو بالتشكيك فيه كقول زهير :

قف بالديار التي لم يعفها القدم

بلى وغيرها الأرواح والديّم

فقوله : " بلى" تكذيب منه لما نفاه.

ويجوز أن يكون على حذف الألف من كذبتك" كأنه قال : أكذبتك أم رأيت ... على تقدير : أيهما كان. كأنه قال : أتمثلت لك في اليقظة لفكرك فيها على غير حقيقة أم رايتها في النوم؟

ومثله :

شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر

لابد فيه من تقدير الألف لأنه يهجو هذه القبيلة فيقول :

لم تستقر على أب. لأن بعضها يعزوها إلى : منقر وبعضها يعزوها إلى سهم :

وقول كثير :

أليس أبي بالنّضر أم ليس والدي

لكل نجيب ...

يقرر بشئ بعد شئ فهو تقرير بعد تقرير فالكلام على جملتين" فأم" منقطعة.

وباقي الباب مفهوم

هذا باب «أو»

تقول : إنهم تضرب أو تقتل (تعمل أحدهما) ومن يأتيك أو يحدثك لا يكون هنا إلا" أو" من قبل أنك أنما تستفهم عن المفعول.

وإنما حاجتك إلى صاحبك أن يقول : فلان. وعلى هذا الحد يجري : " متى" و" من" و" كم" و" كيف" و" أين".

وتقول : هل عندك شعير أو بر أو تمر؟ وهل تأتينا أو تحدثنا؟ لا يكون إلا كذلك وذلك أن" هل" ليست بمنزلة" ألف" الاستفهام لأنك إذا قلت : هل تضرب زيدا؟ فلا يكون أن تدعي أن الضرب واقع.

وقد تقول : أتضرب زيدا. وأنت تدعي أن الضرب واقع.

٤١٩

ومما يدلك على أن ألف الاستفهام ليست بمنزلة" هل" أنك تقول للرجل : " اطربا! " وأنت تعلم أنه قد طرب لتوبخه أو تقرره.

ولا تقول هذا بعد" هل".

وإن شئت قلت : هل تأتيني أم تحدثني؟ وهل عندك بر أم شعير؟ على كلامين. وكذلك سائر حروف الاستفهام التي ذكرنا وعلى هذا قالوا : هل تأتينا أم هل تحدثنا؟

قال الججاف بن حكيم :

أبا مالك هل لمتني مذ حضضتني

على القتل أو هل لامني لك لائم (١)

وكذلك سمعناه من العرب.

فأما الذين قالوا : أم هل لامني لك لائم : فإنما قالوا على أنه أدركه الظن بعد ما مضى صدر حديثه.

وأما الذين قالوا : " أو" هل فإنهم جعلوه كلاما واحدا.

وتقول : ما أدري هل تأتينا أو تحدثنا؟

وليت شعري هل تأتينا أو تحدثنا؟

فهل ههنا بمنزلتها في الاستفهام إذا قلت هل تأتينا؟

وإنما دخلت" هل" هاهنا لأنك إنما تقول : أعلمني كما أردت ذلك حين قلت : هل تأتينا أو تحدثنا؟ فجرى هذا مجرى قوله عزوجل : (إِذْ تَدْعُونَ* أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟)(٢).

وقال زهير :

ألا ليت شعري هل يرى النّاس ما أرى

من الأمر أو يبدوا لهم ما بدا ليا (٣)

__________________

(١) نسب إلى زفر بن الحارث ، والصحيح أنه لجحاف بني حكيم السلمي ، وهو كان معاصرا لعبد الملك بن مروان ، وغزا تغلب وقتل منهم كثيرين ، فاستجاروا بعبد الملك بن مروان فأهدر دمه ، فهرب إلى الشام وأقام بها حتى مات عبد الملك ثم تولى ابنه الوليد.

انظر طبقات فحول الشعراء : ٤١١ ، الصناعتين : ٩٣.

(٢) سورة الشعراء ، الآيتان : ٧٢ ، ٧٣.

(٣) انظر الديوان ١٠٦ ، العقد الثمين : ٥٤.

٤٢٠