شرح كتاب سيبويه - ج ٣

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٣

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

الأسماء ؛ لأنّ معناها معنى ما لا يستعمل بأن ، فتركوا الفعل حين خزلوا أن ، ولم يستعملوا الاسم لئلا ينقضوا هذا المعنى".

قال أبو سعيد : يعني لئلا ينقضوا مقاربة الحال ، ومعنى تركوا الفعل أي بقّوه ولم يحذفوه.

قال أبو سعيد : قد ذكرت من مذهب سيبويه أنّ رفع الفعل بوقوعه موقع الاسم ، وهذا سبب رفعه.

ووقوعه موقع الاسم عامل غير لفظي ، ومنزلته منزلة الابتداء في أنه عامل غير لفظي لا في أنّه يرتفع بالابتداء ، والفعل مرفوع سواء كان الاسم الذي وقع الفعل موقعه مرفوعا أو منصوبا أو مخفوضا ؛ لأن وقوعه هذا الموقع هو الرافع له. ولو كان إعراب الفعل يتبع إعراب الاسم الذي وقع موقعه صار عامل الاسم عامله ، وما يعمل في الاسم لا يعمل في الفعل ، وعامل الفعل لا يعمل في الاسم.

ورأي سيبويه أفعالا ترتفع في مواضع لا يقع فيها الاسم فبيّن أنّ تلك المواضع في الأصل تقع فيها الأسماء ، وأنه عرض فيها معان اختاروا من أجلها لزوم الفعل وترك الأصل ، فمن تلك المواضع : هلا يقول زيد ذاك ، والأصل زيد يقول ذاك ، ثم قال قائل : لا يقول زيد ذاك ، فينفي يقول ، فيحضّض السامع على القول ، فيجعل مكان لا هلا ، ولمّا كانت هلا وأخواتها للتحضيض ومعناهنّ معنى الأمر ذكر الفعل لئلا يزول معنى التحضيض والأمر ، والموضع موضع ابتداء.

ومثل ذلك : ما أحسن زيدا ، ما مبتدأة ، وأحسن فعل ماض في موضع خبر المبتدإ ، وخبر المبتدإ في تقدير اسم ؛ لأنه شيء هو المبتدأ ، ونحن لا نقول : ما محسن زيدا ؛ لأنّ أحسن فعل ماض يدلّ لفظه على استقرار الحسن فيه الذي باستقراره فيه يستحقّ التعجّب ، ومحسن لا يدلّ على ذلك ، وكذلك لو أن زيدا جاء لكان كذا ، معناه : لو مجيء زيد ، ولا يستعمل مجيء ؛ لأنّ لو تجري مجري إن في الشرط والجواب ، فاحتيج في شرطه إلى ذكر فعل يلزمه الشرط كلزومه في إن.

وقوله : ائتني بعد ما يفرغ ، ما موصولة ب (يفرغ) ويجوز وصلها بالابتداء والخبر كقولك : ائتني بعد ما زيد أمير ، وتكون ما وما بعدها من الفعل بمنزلة المصدر ، ك (أن) وما بعدها ؛ غير أنّ أن تختصّ بالفعل فلذلك نصبته ، وما يليها الاسم المبتدأ والخبر ، ويليها الفعل ، فلذلك لم تنصب الفعل. وإنما مثّلها سيبويه بالذي في أنّها لا تعمل شيئا كما لا تعمل الذي ، وأمّا كدت أفعل ونحو ذلك مما يلزم فيه الفعل فالأصل

٢٠١

فيه الاسم ، وإنّما ألزموا فيه الفعل لأنّه أريد به الدلالة بصيغة الفعل على زمانه أو مداناته وقرب الالتباس به ومواقعته ، فإذا قلت : كدت أفعل كذا ، فلست بمخبر أنّك فعلته ولا أنّك عريت منه عري من لم يرمه ، ولكنّك رمته وتعاطيت أسبابه حتى لم يبق بينك وبينه شيء إلا مواقعته ، فإذا قلت : كدت أفعله فكأنّ أفعله حدّ انتهيت إليه ولن تدخل فيه ، فكأنك قلت : كنت مقاربا لفعله وعلى حدّ فعله ، ولفظ كدت أفعل أدلّ على حقيقة المعنى وأحضر في اللفظ ، ومثله : عسي زيد أن يقوم ، ومعناه : عسي زيد القيام ؛ لأنّ القيام لا يدلّ على زمان محصّل ، فلزموا الفعل الذي يدلّ على الزمان بعينه ، وإذا قلت : عسي زيد يقوم ـ بإسقاط أن ـ جاز ، ويقوم في موضع قائم ، ولذلك قيل : (عسي الغوير أبؤسا) ، وعسي زيد يفعل ، إنّما تريد عسي زيد يفعل فيما يستقبل ، وكاد زيد يفعل إنّما يقال لمن هو على حدّ الفعل وليس فيه مهلة ، فلمّا كانت كذلك صارت للحال ، وكاد وعسي وجعل ونحو ذلك سيعود عليك ذكره في موضعه من أبواب أن أبسط من هذا وأكثر شرحا إن شاء الله.

هذا باب إذن

قال سيبويه : اعلم أنّ إذن إذا كانت جوابا وكانت مبتدأة عملت في الفعل عمل أرى في الاسم إذا كانت مبتدأة. وذلك قولك : إذن أجيئك ، وإذن آتيك.

ومن ذلك أيضا قولك : إذن والله أجيئك. والقسم هاهنا بمنزلته في أرى إذا قلت : أري والله زيدا فاعلا.

ولا تفصل بين شيء ممّا ينصب الفعل وبين الفعل سوى (إذن) ؛ لأنّ إذن أشبهت أري ، وهي في الأفعال بمنزلتها في الاسم ، وهي تلغي وتقدّم وتؤخّر ، فلمّا تصرّفت هذا التّصرف اجترءوا على أن يفصلوا بينها وبين الفعل باليمين.

ولم يفصلوا بين أن وأخواتها وبين الفعل كراهة أن يشبّهوها بما يعمل في الأسماء ، نحو : ضربت وقتلت ؛ لأنّها لا تصرّف تصرّف الأفعال ، ولا تكون إلا في أوّل الكلام لازمة لموضعها لا تفارقه ، فكرهوا الفصل لذلك ؛ لأنّه حرف جامد.

واعلم أن إذن إذا كانت بين الفاء والواو وبين الفعل فإنك فيها بالخيار : إن شئت أعملتها كإعمال أري وحسبت إذا كانت واحدة منهما بين اسمين ؛ وذلك قولك زيدا حسبت أخاك. وإن شئت ألغيت إذن كإلغائك حسبت إذا قلت : زيد حسبت أخوك.

٢٠٢

فأمّا الاستعمال فقولك : فإذن آتيك ، وإذن أكرمك.

وبلغنا أنّ هذا الحرف في بعض المصاحف وإذن لا يلبثوا خلفك إلا قليلا وسمعنا بعض العرب قرأها فقال : وإذن لا يلبثوا.

وأمّا الإلغاء فقولك : فإذن لا أجيئك. وقال تعالى : (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) [النساء : ٥٣].

واعلم أنّ إذن إذا كانت بين الفعل وبين شيء الفعل معتمد عليه فإنّها ملغاة لا تنصب البتّة ، كما لا تنصب أري إذا كانت بين الفعل والاسم في قولك : كان أري زيد ذاهبا ، وكما لا تعمل في قولك : إنّي أري ذاهب. فإذن لا تصل في هذا الموضع إلى أن تنصب ، فهذا تفسير الخليل. وذلك قولك : أنا إذن آتيك ، هي هاهنا بمنزلة أري حيث لا تكون إلا ملغاة.

ومن ذلك أيضا : إن تأتني إذن آتك ؛ لأن الفعل هاهنا معتمد على ما قبل إذن. وليس هذا كقول ابن عنمة الضبي :

اردد حمارك لا تنزع سويّته

إذن يرد وقيد العير مكروب (١)

من قبل أنّ هذا منقطع من الكلام الأوّل وليس معتمدا على ما قبله ؛ لأنّ ما قبله مستغن.

ومن ذلك أيضا : والله إذن لا أفعل ، من قبل أنّ أفعل معتمد على اليمين ، وإذن لغو.

وليس الكلام هنا بمنزلته إذا كانت إذن في أوّله ؛ لأنّ اليمين هاهنا الغالبة. ألا تري أنك تقول إذا كانت مبتدأة : إذن والله لا أفعل ؛ لأنّ الكلام على إذن وو الله لا يعمل شيئا.

ولو قلت : والله إذن أفعل ، تريد أن تخبر أنّك فاعل ، لم يجز ، كما لا يجوز : والله أذهب ، إذا أخبرت أنّك فاعل. فقبح هذا يدلّك على أنّ الكلام معتمد على اليمين ، وقال كثير عزّة :

__________________

(١) البيت في ديوانه ، ابن يعيش ٧ / ١٦ ؛ الكتاب ٣ / ١٤ ؛ تاج العروس (كرب ، أذن ، سوى) ؛ واللسان (أذن) ؛ والمقتضب ٢ / ١٠.

٢٠٣

لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها

وأمكنني منها إذن لا أقيلها (١)

وتقول : إن تأتني آتك وإذن أكرمك ، إذا جعلت الكلام على أوله ، ولم تقطعه ، وعطفته على الأول. وإن جعلته مستقبلا نصبت ، وإن شئت رفعته على قول من ألغي.

وهذا قول يونس ، وهو حسن ؛ لأنّك إذا قطعته من الأول فهو بمنزلة قولك : فإذن أفعل ، إذا كنت مجيبا رجلا.

وتقول : إذن عبد الله يقول ذاك ، لا يكون إلا هذا ؛ من قبل أنّ إذن الآن بمنزلة إنّما وهل. كأنّك قلت : إنّما عبد الله يقول ذاك. ولو جعلت إذن هاهنا بمنزلة كي وأن لم يحسن ؛ من قبل أنه لا يجوز لك أن تقول : كي زيد يقول ذاك ، ولا أن زيد يقول ذاك. فلمّا قبح ذلك جعلت بمنزلة هل وكأنّما وأشبههما.

وزعم عيسى بن عمر أنّ ناسا من العرب يقولون : إذن أفعل ذاك ، في الجواب. فأخبرت يونس بذلك فقال : لا تبعدنّ ذا ولم يكن ليروي إلا ما سمع ، جعلوها بمنزلة هل وبل.

وتقول إذا حدّثت بالحديث : إذن أظنّه فاعلا ، وإذن إخالك ؛ وذلك لأنك تخبر أنّك تلك السّاعة في حال ظنّ وخيلة ، فخرجت من باب أن وكي ؛ لأنّ الفعل بعدهما غير واقع ، وليس في حال حديثك فعل ثابت. ولمّا لم يجز ذا في أخواتها التي تشبّه بها جعلت بمنزلة إنّما.

ولو قلت : إذن أظنّك ، تريد أن تخبره أنّ ظنّك سيقع لنصبت ، وكذلك إذا يضربك ، إذا أخبرت أنّه في حال ضرب لم ينقطع.

وقد ذكر لي بعضهم أنّ الخليل قال : أن مضمرة بعد إذن. ولو كانت مما يضمر بعده أن لكانت بمنزلة اللام وحتّى ، ولأضمرتها إذا قلت : عبد الله إذن يأتيك ، فكان ينبغي أن تنصب إذن يأتيك ؛ لأن المعنى واحد ، ولم يغيرّ فيه المعنى الذي كان في قوله : إذن يأتيك عبد الله ، كما يتغيّر المعنى في حتى في الرفع والنصب فهذا ما رووا ، وأمّا ما سمعت منه فالأوّل.

قال أبو سعيد : إذن إذا وقف عليها فعامّة النّحويّين المتقدمين يرون الوقف عليها بالألف ، وليست باسم منصوب منوّن ، ولا بفعل لحقته النون الخفيفة وقبلها فتحة ، وإنّما

__________________

(١) البيت في ديوانه ٢٦٨ ، الخزانة ٨ / ٤٧٣ ، ٤٧٤ ، ١١ / ٣٤٠ ؛ ابن يعيش ٩ / ١٣ ، ٢٢.

٢٠٤

فعلوا ذلك ؛ لأنّها قد تصرّفت فأعملت وألغيت ، ووقعت لما لم يأت ، ولما هو في الحال ، وتقدمت وتوسّطت وتأخّرت ، فلما كثر تصرّفها وانفتح ما قبل نونها ضارعوا بها التنوين والنون الخفيفة في الفعل إذا انفتح ما قبلها.

وذكر أبو بكر مبرمان عن عسل بن ذكوان قال : الناس إذا وقفوا على إذن وقفوا بألف ، والمازني لا يري ذا ، ويقول : هي حرف بمنزلة أن ولن ، تقف عليها كما تقف عليهما ، ويقول هي بالأدوات أشبه منها بالأسماء لأنها تعمل عمل الأدوات.

وأبو العباس المبرّد يحكي الوقف عليها بالألف ، ويرى أن لو وقفوا عليها بالنون كان جيدا على الأصل في مثلها من الحروف.

وقد اختلف القول في نصب إذن ، فقال سيبويه : هي الناصبة العاملة ، وذكر أنّ ذلك الذي سمعه هو من الخليل ، وذكر عن غيره عن الخليل أنّ أن بعدها مضمرة ، واحتجّ عليه بما ذكره في آخر الباب.

وكان أبو إسحاق الزّجّاج يذهب إلى أنّ أن بعد إذن مضمرة ، ويستدلّ على ذلك أنّ إذن لا تعمل شيئا أنها متى كانت للحال لم تعمل.

قال أبو سعيد : وهذا لا يبطل عملها لأنّا قد رأينا ما يعمل في حال ويبطل عمله في أخرى ، كقولنا : ما زيد قائما ، في لغة أهل الحجاز ، فإذا تقدم الخبر أو دخل حرف الاستثناء بطل عملها ، وقد دخل في إذن أشدّ من ذلك ؛ لأنّها إذا وقعت على الحال فليس ذلك في شيء من نواصب الفعل ، وهي في نفسها قد تلغى ، وكان ذلك من أقوي أسباب الإلغاء ، وتقديم خبر ما ودخول الاستثناء ليس مما يعدم في ليس ، وقد أبطل عمل ما المشبّهة بليس.

قال أبو سعيد : وإنّما جاز إلغاء إذن لأنّها جواب يكفي من بعض كلام المتكلم ، كما يكفي لا ونعم من كلامه ، يقول القائل : إن تزرني أزرك ، فيجاب : إذن أزورك ، والمعنى : إن تزرني أزرك ، فنابت إذن عن الشّرط ، وكفت من ذكره ، كما يقول : أزيد في الدار؟ فيقال له : نعم أولا ، وتكفي نعم من قوله : زيد في الدار ، ولا من قوله : ما زيد في الدار ، فلمّا كانت إذن جوابا قويت في الابتداء ؛ لأن الجواب لا يتقدّمه كلام ، ولمّا وسّطت وأخرّت زايلها مذهب الجواب فبطل عملها ، وإنّما جاز في الفاء والواو الإعمال والإلغاء لأنّهما للعطف ، وقد يجوز عطف جملة على جملة ليس بينهما علقة كقولك : قام زيد ببغداد ، وخرج عمرو من البصرة إلى الصّين ، وليس بين الجملتين تعلّق ، ويجوز أن يكون عطف شيء ليس بجملة على ما قبله ، فإذا أعملت إذن وقبلها واو أو فاء فهما لعطف

٢٠٥

جملة على جملة ، أوّل الجملة الثانية إذن ، فوجب أن تكون عاملة لأنّها ابتداء ، كقولك : إن تأتني آتك وإذن أكرمك ، استأنفت إذن أكرمك فجعلته أول الجملة الثانية ، وإذا جعلت أكرمك معطوفة على آتك صارت من الجملة الأولى ؛ لأنّها داخلة في جواب إن تأتني بالعطف على آتك فجزمته ؛ لأنّ إذن صارت غير مبتدأة فلم تعمل.

ويجوز رفعه بإلغاء إذن على أنه داخل في الجملة الأولى في التقدير ، كأنّه قال : إن تأتي آتك فقال : وأكرمك إذن ، وتكون أكرمك في جملة الجواب الأول ، كأنه قال : إن تأتني آتك فقال له : وأكرمك إذن ، وتقدّم إذن على هذه النية ، وسنرى رفع الفعل المرفوع بعد المجزوم في جواب الشّرط.

وأمّا الرفع في قول كثير : (إذن لا أقيلها) ؛ فلأنّ الكلام مبني على يمين ، وهو جواب لئن ، وتقديره : والله لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها لا أقيلها ، وعبد العزيز بن مروان أخو عبد الملك ، وقد تقدّم قبل هذا بيت فيه ذكر ما يعود هذا الضّمير إليه ، وللنحويين فيه كلام وهو :

وإنّ ابن ليلى فاه لي بمقالة

ولو سرت فيها كنت ممّن ينيلها (١)

الضّمير في قوله : عاد لي بمثلها ، أراد : بمثل المقالة المذكورة في هذا البيت ، والمعنى : ممن ينيلهوها ، والعائد إلى من هو ضمير المذكّر المنصوب المحذوف ، وضمير المؤنث للمقالة ، وفي ينيلها ضمير فاعل لابن ليلى ، والمعنى : ينيله ابن ليلى إياها ، ومعنى لو سرت فيها : لو سرت في طلبها ، وما قدّر في ينيلهوها على مذهب سيبويه في اتصال ضمير الغائب بضمير غائب مثله على نحو قول الشاعر :

قد جعلت نفسي تطيب لضغمة

لضغمهما ها يقرع العظم نابها (٢)

فإن قيل : كيف ينيله المقالة؟ فإن المعنى : ينيله المقولة ، هي فيه كقولنا : الخلق في معنى المخلوق ، وباقي الباب مفهوم من كلام سيبويه ، وممّا مرّ من شرحنا.

هذا باب حتّى

قال سيبويه : " اعلم أنّ حتى تنصب على وجهين :

فأحدهما : أن تجعل الدخول غاية لمسيرك ، وذلك قولك : سرت حتى أدخلها ،

__________________

(١) البيت منسوب لكثير عزة في ديوانه ٣٠٥ ، الخزانة ٨ / ٤٧٦ ؛ ابن يعيش ٩ / ١٣ ؛ الكتاب ٣ / ١٥.

(٢) البيت سبق تخريجه.

٢٠٦

كأنك قلت : سرت إلى أن أدخلها ، فالناصب للفعل هاهنا هو الجارّ في الاسم إذا كان غاية. فالفعل إذا كان غاية منصوب ، والاسم إذا كان غاية جرّ ؛ وهذا قول الخليل.

وأمّا الوجه الآخر : فأن يكون السّير قد كان والدخول لم يكن ، وذلك إذا جاءت مثل كي التي فيها إضمار أن وفي معناها ، وذلك قولك : كلّمته حتى يأمر لي بشيء.

واعلم أنّ حتى يرفع الفعل بعدها على وجهين :

تقول : سرت حتى أدخلها ، تعني أنه كان دخول متصل بالسّير كاتّصاله بالفاء إذا قلت : سرت فأدخلها ، وأدخلها هاهنا على قولك : هو يدخل ، وهو يضرب ، إذا كنت تخبر أنه في عمله ، وأنّ عمله لم ينقطع. فإذا قال : حتى أدخلها فكأنه يقول : سرت فإذا أنا في حال دخول ؛ فالدخول متّصل بالسير كاتّصاله بالفاء. فحتّى صارت هاهنا بمنزلة إذا وما أشبهها من حروف الابتداء ؛ لأنها لم تجيء على معنى إلى أن ، ولا معنى كي ، فخرجت من حروف النصب كما خرجت إذن منها في قولك : إذن أظنّك.

وأمّا الوجه الآخر : فإنّه يكون السّير قد كان وما أشبهه ، ويكون الدخول وما أشبهه الآن ، فمن ذلك : لقد سرت حتى أدخلها ما أمنع ، أي حتى أنّي الآن أدخلها كيفما شئت. ومثل ذلك قول الرجل : لقد رأى مني عاما أوّل شيئا حتى لا أستطيع أن أكلّمه العام بشيء ، ولقد مرض حتى لا يرجونه ، والرفع هاهنا في الوجهين جميعا كالرفع في الاسم. قال الفرزدق :

فيا عجبا حتّى كليت تسبّني

كأنّ أباها نهشل أو مجاشع (١)

فحتّى هاهنا بمنزلة إذا ، وإنما هي هاهنا كحرف من حروف الابتداء.

ومثل ذلك : شربت حتى يجيء البعير يجرّ بطنه ، أي : حتى أنّ البعير ليجيء يجرّ بطنه.

ويدلّك على حتى أنّها حرف من حروف الابتداء أنّك تقول : حتى إنّه يفعل ذاك ، كما تقول : فإذا إنّه يفعل ذاك. ومثل ذلك قول حسّان بن ثابت الأنصاري :

__________________

(١) البيت في ديوانه ١ / ٥١٨ ؛ الخزانة ٩ / ٤٧٥ ، ٤٧٦ ؛ ابن يعيش ٨ / ١٨ ، ٦٢ ؛ الكتاب ٣ / ١٨ ؛ المقتضب ٢ / ٤١.

٢٠٧

يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم

لا يسألون عن السّواد المقبل (١)

ومثل ذلك : مرض حتى يمرّ به الطائر فيرحمه ، وسرت حتى يعلم الله أننّي كالّ. فالفعل هاهنا منقطع من الأوّل ، وهو في الوجه الأول الذي ارتفع فيه متّصل كاتصاله بالفاء ، كأنه قال : كان سير فدخول ، كما قال علقمة بن عبدة :

ترادى على دمن الحياض فإن تعف

فإنّ المندّى رحلة فركوب (٢)

لم يجعل ركوبه الآن ورحلته فيما مضي ، ولم يجعل الدخول الآن وسيره فيما مضي ، ولكنّ الآخر متصل بالأوّل ، ولم يقع واحد دون الآخر.

وإذا قلت : لقد ضرب أمس حتى لا يستطيع أن يتحرك اليوم ، فليس كقولك : سرت فأدخلها ، إذا لم ترد أن تجعل الدخول السّاعة ؛ لأنّ السير والدخول جميعا وقعا فيما مضى. وكذلك مرض حتى لا يرجونه ، أي حتى إنّه الآن لا يرجونه ؛ فهذا ليس متّصلا بالأول واقعا معه فيما مضى.

وليس قولنا كاتصال الفاء يعني أنّ معناه معنى الفاء ، ولكنّك أردت أن تخبر أنّه متّصل بالأول ، وأنّهما وقعا فيما مضى.

وليس بين حتى في الاتصال وبينه في الانفصال فرق في أنّه بمنزلة حرف الابتداء ، وأنّ المعنى واحد إلا أنّ أحد الموضعين الدخول فيه بالسّير متصل ، وقد مضى السير والدخول ، وإنما اتصاله في أنّه كان فيما مضى ، وإلا فإنّه ليس يفارق موضعه الآخر في شيء إذا رفعت".

قال أبو سعيد : من مذهب سيبويه : أنّ حتى من الحروف الخافضة للأسماء كاللام الخافضة للأسماء ، وأنّها إذا نصبت الفعل فإنما تنصبه بإضمار أن كاللام ، وقال الكسائي : حتى لا تخفض ، إنّما تخفض بعدها إلى مضمرة ومظهرة ، فيقال : أكلت السمكة حتى إلى رأسها ؛ فقد حصل بهذا أنّ حتى لا تعمل في الأسماء شيئا إذ كان الخفض بعدها بغيرها.

وقال الفرّاء وأصحابه : حتى من عوامل الأفعال مجراها مجري كي وأن ، وليس عملها لازما في الأفعال إذ كان يبطل في : سرت حتى صبّحت القادسيّة ، ودفعت حتى وصلت إلى الأمير ، ثم لمّا صحبت إلى خفضت الأسماء لنيابتها عن إلى ، وأنّها إذا عملت في

__________________

(١) البيت في ديوانه ١٢٣ ، الخزانة ٢ / ٤١٢ ؛ الكتاب ٣ / ١٩.

(٢) البيت في ديوانه ١٤ ، الكتاب ٣ / ١٩ ؛ والمقتضب ٢ / ٣٩.

٢٠٨

الاسم لم يكن لها معناها حين تعمل في الفعل.

وقال الكسائي في : حتى مطلع تخفضه إلى المضمرة وليس لحتّى فيه عمل.

وقال الفرّاء : حتى هي الخافضة للمطلع لمّا قام مقام إلي.

قال أبو سعيد : اعلم أنّ الحرف الواحد الذي أصل معناه واحد قد يستعمل في مواضع مختلفة ، فيغلب عليه اختلاف مواضعه ، فيصيّره كالحروف المختلفة حتى يعمل أعمالا مختلفة ، وذلك نحو لا أصلها النفي للشيء وإبطاله ، ثم استعمل في مواضع مختلفة من نهي يقابل به الأمر ، ومن نفي يقابل به حروف الاستفهام ، ومن دخول على مبتدإ وخبر وغير ذلك من مواضعه ، فعملت أعمالا مختلفة من جزم ونصب ورفع ، وأبطل عملها في بعض مواضعها ؛ لأنّ تفرّقها في هذه المواضع المختلفة كتفرّق الحروف المختلفة اللّفظ والمعنى.

ومن ذلك اللام المكسورة ؛ لفظها واحد ومواضعها مختلفة ، فجزمت الفعل وخفضت الاسم ، ولا خلاف بين النّحويين فيما ذكرناه ، وإنما يختلفون بعد ذلك في حروف تظهر لها أعمال ، فلا يحقّقون تلك الأعمال لها ، ويطلبون حروفا أخر يدّعون إضمارها لتلك الأعمال ، وإبطال عمل هذا الظاهر عنها ، وربّما جعلوا بعضها بدلا من شيء آخر ، فمن ذلك ما يمكن تصحيحه ويقرب مأخذه ، ومنه ما يبعد ، وأنا أذكر منه ما أحوجنا إليه هذا الباب واللفظ الذي شرعنا فيه منه ، وأذكر نحوه الذي يقتضيه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

فممّا يقرب تصحيحه قول سيبويه في حتى : إذا نصبت الفعل أنّها تنصبه بإضمار أن ، وذلك أنّ حتى على مذهبه من حروف الجر ؛ لأنّ ما بعدها في الاسم مخفوض إذا كانت غاية ، وذلك قولك : خرج القوم حتى زيد.

فإن قال قائل من أصحاب الكسائي : هلا أضمرتم بعد حتى إلى ، وخفضتم زيدا به ، كما حكينا عن الكسائي.

قيل : لا يجوز ذلك لبعده في التقدير ، وإبطال معنى حتى ، وذلك أنّ موضوع حتى في الأسماء أن يكون الاسم الذي بعدها من جملة ما قبلها ، وأنّ حتى اختصّت به من بين الجملة ؛ لأنه يستبعد فيه الفعل أكثر من استبعاده في سائر الجملة ، كقولنا : قاتل زيد السباع حتى الأسد ؛ لأن قتاله للأسد أبعد من قتاله لغيره ، وكذلك تقول : استجرأ على الأمير جنده حتى الضعيف الذي لا سلاح له ؛ لأنّ استجراء الضعيف الذي لا سلاح له أبعد في النفوس من استجراء غيره من الجند ؛ فلو جعلنا مكان حتى إلى فقلنا : استجرأ على الأمير

٢٠٩

جنده إلى الضعيف ، ما جاز ولا أدّى عن معنى حتى ، فإن قدّرناه بقولنا : استجرأ على الأمير جنده حتى انتهى استجراؤهم إلى الضعيف الذي لا سلاح له كان ذلك بزيادة كثيرة ، وكانت إلى في صلة انتهى لا في صلة حتى ، والذي ذكره الكسائي من إضمار ذكر إلى بعد حتى شيء منكر لا يعرف ، وإذا جعلنا الخفض بنفس حتى على مذهب سيبويه فلا يخرج ذلك عن قياس النحو ، وعن المتناولات العربية ، وذلك أنّ حتى قد يليها المخفوض في حال ، ويكون ما بعدها غير مخفوض في حال ، ولها نظائر مما تخفض في حال ويبطل خفضها في حال نحو : منذ ، ومذ ، وخلا ، وحاشى في الاستثناء ، فظهور الخفض بعدها إذا لم يقم برهان على إضمار حرف خافض يوجب أنّها هي الخافضة ، كما أنّ هذه الحروف هي الخافضة ، ويدلّ على أنّها هي الخافضة قولهم : حتّام وحتّامه ، وإلام وإلامه ، وأصلها : حتى ما ، وما للاستفهام ولا تسقط عنها الألف إلا أن يدخل عليها خافض ، فعلم بذلك أنّ حتى خافضة. فلمّا كانت خافضة في الاسم إذا كانت غاية ، ثم رأيناها تدخل على الفعل في معنى الغاية ، جعلنا السّبيل فيهما واحدا ، وبقّيناها على خفضها ، وأحوجنا ما وجب لها من عمل الخفض أن نجعل ما عملت فيه اسما ، ولا يكون الفعل اسما إلا بأن يقرب به أن ؛ لأنّها والفعل بمنزلة المصدر ، وإذا قدرناه لم يبعد تقديره ؛ لأنّا لو قلنا لرجل : أقم حتى يقدم زيد ، وقف حتى تطلع الشمس ، فحتى هي للغاية ، وإذا جئنا ب (إلى) التي هي للغاية كحتى وإن كانت تخالفها في معنى آخر قلنا : أقم إلى أن يقدم زيد ، وقف إلى أن تطلع الشّمس ؛ فموقع إلى موقع حتّى ، ولا يجتمعان ؛ لأن إحداهما تغني عن الأخرى.

ويدلّك على أنّ حتى في موضع إلى في هذا الموضع أنّك تقول : أقم إلى قدوم زيد ، وأقم حتى قدوم زيد ، كما قال عزوجل : (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ،) وهذا أحد وجهي نصب الفعل بحتّي وهو الغاية ، ولم يذكروا بعد حتى أن كما ذكروها بعد إلى ؛ لأنّ إلى لا تدخل إلا على الأسماء ولا يبطل الخفض بها ولا يقدّر إلغاؤه فيها.

وحتى يبطل عملها في أحوال ؛ فتدخل على الأسماء بمعنى حروف العطف في قولك : رأيت القوم حتى زيدا ، وجاءني القوم حتى زيد ، وتدخل على الأفعال فتنصبها على غير وجه الغاية ، وتدخل عليها العوامل ولا تعمل شيئا ، وتكون كحروف الابتداء نحو : الواو والفاء ، فلمّا كانت كذلك ألزموا إلى أن ؛ لتظهر اسمية ما دخلت عليه ، وقوّة لزومها الخفض ، ومن أجل ذلك أيضا حسن ظهور أن بعد اللام المكسورة ، ولا يحسن ظهورها بعد حتّى ، وقد ذكرنا حسن سقوط أن بعد اللام والفرق بينها وبين غيرها من

٢١٠

حروف الجرّ.

والوجه الثاني من وجهي النصب بحتى تكون فيه أيضا حرف خفض ؛ لأنّه يحسن فيه أن تقول : حتّامه ، وقد مضي الكلام في نحوه.

وأما وجها رفع الفعل بعد حتى فأصلهما وجه واحد في المعنى ، وذلك أن يكون ما قبلها موجبا لما بعدها ، ولكن ما يوجبه ما قبلها فقد يجوز أن يكون عقيبا له ومتّصلا به ، وقد يجوز أن لا يكون متصلا به ولكن يكون موطّأ مسهّلا بالفعل الأول ، متى اختاره صاحبه أوقعه ، وقد وطيء له ومكّن منه. ومن هذا قوله : لقد سرت حتى أدخلها ما أمنع ؛ لأن السّير مكّن له أن يدخلها كيف شاء في المستقبل ، وكذلك : رأى مني عاما أول شيئا حتى لا أستطيع أن أكلّمه العام بشيء ؛ لأن الذي رأى منه العام الأول هو الذي أصاره في عامه إلى الضّعف عن كلامه ، وسائره محمول على مثل ما ذكرناه ، وحتى في رفع الفعل بمنزلة الواو ، والفاء ، وإذا ، وإنما ، وسائر حروف الابتداء التي يرتفع الفعل بعدها ، وسبيلها في بطلان عملها عن الفعل كسبيلها في بطلان عملها عن الاسم إذا قيل : رأيت القوم حتى زيدا ، وجاءني القوم حتى زيد ، ومعناها في الفعل في وجهي النصب الغاية ومعنى كي ، وفي وجهي الرفع أن يكون الفعل الذي قبلها يوجب الفعل الذي بعدها ويوطئه.

وأمّا قول سيبويه في الفعل المرفوع فيما مضي إذا قلت : سرت حتى أدخلها ، كأنه قال : سرت فإذا أنا في حال دخول ، فالدخول متصل بالسير كاتصاله بالفاء ، فإنّما أراد أن يشبّه كون الفعل فيما مضى مع حتى بكونها مع الفاء فيما مضى ، ولم يرد أن يوجب أنّ عمل حتى ومعناها كعمل الفاء ومعناها ؛ لأنّ الفاء لا يوجب أنّ ما بعدها أوجبه ما قبلها ؛ لو قال : خرجت فإذا زيد قائم لم يكن قيام زيد من أجل خروجك.

وحتى هذه التي يرتفع الفعل بعدها يجوز أن يقع بعدها مبتدأ وخبر ، وتقع إنّ بعدها مكسورة كقولك : مرض حتى إنّه الآن لا يرجونه ، وأنس زيد بالأمير حتى هو يدخل عليه بغير إذن ، ووادّ زيد أخاك حتى أهلهما يتوادّون.

هذا باب الرفع فيما اتصل بالأول كاتصاله بالفاء وما

انتصب لأنه غاية

قال سيبويه : تقول : سرت حتى أدخلها ، وقد سرت حتى أدخلها سواء ، وكذلك : إني سرت حتى أدخلها ، فيما زعم الخليل.

٢١١

فإن جعلت الدخول في كل ذي غاية نصبت.

وتقول : رأيت عبد الله سار حتى يدخلها ، وأرى زيدا سار حتى يدخلها ؛ ومن زعم أن النصب يكون في ذا لأن المتكلم ليس بمتيقن ، فإنه يدخل عليه : سار زيد حتى يدخلها فيما بلغني ولا أدري ، ويدخل عليه : عبد الله سار حتى يدخلها أرى.

فإن قال : لأني لم أعمل (أرى) ، فهو يزعم أنه ينصب الفعل ب (أرى) وإن جعلت الدخول غاية ، نصبت في ذا كله.

وتقول : كنت سرت حتى أدخلها ، إذا لم تجعل الدخول غاية. وليس بين (كنت وسرت) وبين (سرت مرة في الزمان الأول) حتى أدخلها شيء ؛ وإنما ذا قول كان النحويون يقولونه ويأخذونه بوجه ضعيف ، يقولون : إذا لم يجز القلب فيه ، فيدخل عليهم (قد سرت حتى أدخلها) أن ينصبوا ، وليس في الدنيا عربي يرفع (سرت حتى أدخلها) إلا وهو يرفع إذا قال : قد سرت.

وتقول : سرت حتى أدخلها ، وحتى أدخلها ، إن جعلت الدخول غاية ؛ وكذلك ما سرت إلا قليلا حتى أدخلها ، إن شئت رفعت ، وإن شئت نصبت ، لأن معنى هذا معنى سرت قليلا حتى أدخلها ، فإن جعلت الدخول غاية نصبت.

ومما يكون فيه الرفع شيء ينصبه بعض الناس لقبح القلب ، وذلك : ربما سرت حتى أدخلها ، ونحو هذا ؛ فإن احتجوا بأنه غير سير واحد فكيف يقولون إذا قلت : سرت غير مرة حتى أدخلها.

وسألنا من يرفع في قوله : سرت حتى أدخلها ، فرفع في (ربما) ، ولكنهم اعتزموا على النصب في ذا كما اعتزموا عليه في (قد).

ويقولون : ما أحسن ما سرت حتى أدخلها ، وقلما سرت حتى أدخلها ، إذا أردت أن تخبر أنك سرت قليلا وعنيت سيرا واحدا ، وإن شئت نصبت على الغاية.

وتقول : قلما سرت حتى أدخلها ، إذا عنيت سيرا واحدا ، أو عنيت غير سير ، لأنك قد تنفي الكثير من السير الواحد ، كما تنفيه من غير سير.

وتقول : قلما سرت حتى أدخلها ، إذا عنيت غير سير ، وكذلك أقلّ ما سرت حتى أدخلها ، من قبل أنّ (أقل ما) نفي لقوله (كثر ما) كما أن (ما سرت) نفي لقوله (سرت) ؛ إلا أنه قبيح أن تقول : قلّ ما سرت فأدخلها ، كما يقبح في (ما سرت) إذا أردت معنى : فإذا أنا أدخل.

٢١٢

وتقول : قل ما سرت فأدخلها ، فتنصب بالفاء هاهنا كما تنصب في (ما) و (لا يكون) كثر ما سرت فأدخلها ، لأنه واجب ؛ ويحسن أن تقول :

كثر ما سرت فإذا أنا أدخل. وتقول : إنما سرت حتى أدخلها إذا كنت محتقرا لسيرك الذي أدى إلى الدخول ، ويقبح : إنما سرت حتى أدخلها ، لأنه ليس في هذا اللفظ دليل على انقطاع السير كما يكون في النصب ، يعني إذا احتقر السير ؛ لأنك لا تجعله سيرا يؤدي إلى الدخول وأنت تستصغره ، وهذا قول الخليل ؛ وإن لم تجعله غاية ، ولم تحتقر ، رفعت.

وتقول : كان سيري أمس حتى أدخلها ، ليس إلا النصب ، وذلك أن (حتى أدخلها) خبر لكان ، لأن (أمس) بمنزلة (اليوم) إذا قلت : جاء في اليوم عبد الله ، فاليوم صلة لهذا ، وكذلك (أمس) صلة للسير ؛ واعتمد في الخبر على (حتى أدخلها) ، فكأنه قال : كان سيري حتى أدخلها ، فحتى أدخلها غاية ، أو محمول على (كي) ، كأنك قلت : كي أدخلها ؛ ولا يجوز أن تقول : كان سيري فأدخلها إلا وأنت تريد أن تجيء ب (كان) التي تقع بلا خبر ، كقولك : قد كان الأمر ، أي : قد وقع الأمر ؛ فإن أردت (كان) هذه ، جاز أن تقول : كان سيري أمس حتى أدخلها.

وتقول : كان سيري أمس سيرا متعبا حتى أدخلها ، لأنك تقول هاهنا : فأدخلها ، وفإذا أنا أدخلها ، لأنك جئت لكان بخبر ، وذلك قولك : سيرا متعبا.

واعلم أن ما بعد (حتى) لا يشرك الفعل الذي قبل (حتى) في موضعه كشركة الفعل الآخر الأول إذا قلت : لم آتك فأقل ، ولو كان ذلك لاستحال الكلام في قولك : كان سيري أمس شديدا حتى أدخل ، ولكنها تجيء كما تجيء (ما) بعد إذا ، وبعد حروف الابتداء. وكذلك هي أيضا بعد (الفاء) إذا قلت : ما أحسن ما سرت فأدخلها ، ولأنها منفصلة ؛ فإنما عنينا بقولنا (الآخر متصل بالأول) أنهما وقعا فيما مضى ، كما أنه إذا قال :

 ...

فإنّ المندّى رحلة فركوب (١)

يعني أنهما وقعا في الماضي من الأزمنة ، وأن الآخر كان مع فراغه من الأول.

فإن قلت : كان سيري أمس حتى أدخلها ، يجعل أمس مستقرا ، جاز الرفع لأنه

__________________

(١) هذا عجز بيت سبق تخريجه.

٢١٣

استغنى ، فصار كسرت ، لو قلت : فأدخلها حسن ، ولا يحسن : كان سيري فأدخل ، إلا أن تجيء خبرا لكان. واعلم أن (أسير) بمعنى (سرت) إذا أردت بأسير معنى سرت.

واعلم أن الفعل إذا كان غير واجب ، لم يكن إلا النصب ، من قبل أنه إذا لم يكن واجبا ، رجعت (حتى) إلى أن وكي ، ولم تصر من حروف الابتداء ، كما قلت : إذن أظنك ، والظن غير واقع في حال حديثك.

وتقول : أيهم سار حتى يدخلها ، لأنك قد زعمت أنه قد كان سير ودخول ، وإنما سألت عن الفاعل. ألا ترى أنك لو قلت : أين الذي سار حتى يدخلها وقد دخلها لكان حسنا ، ولجاز هو الذي يكون لما قد وقع ، لأن الفعل ثم واقع ، وليس بمنزلة (قلما سرت) إذا كان نافيا لكثر ما سرت ؛ ألا ترى أنه لو قال : قلما سرت فأدخلها أو حتى أدخلها ، وهو يريد أن يجعلها واجبة خارجة من معنى (قلما) ، لم يستقم إلا أن تقول : قلما سرت فدخلت ، وحتى دخلت ، كما تقول : ما سرت حتى دخلت. فإنما ترفع بحتى في الواجب ، ويكون ما بعدها مبتدأ منفصلا من الأول ، كان مع الأول فيما مضى أو الآن. وتقول : أسرت حتى تدخلها ، نصبت ، لأنك لم تثبت سيرا تزعم أنه قد كان معه دخول.

قال أبو سعيد : هذا الباب معتمده ذكر ما كان بعد (حتى) متصلا بما قبله ، وذلك من المرفوع ما كان متصلا بما قبله ، وقد أوجبه ما قبله ؛ ومن المنصوب ما كان غاية ، وهما يتقاربان في اشتراكهما في اتصال ما قبلهما بما بعدهما ؛ فاتصال المرفوع بما قبله كاتصال ما بعد (الفاء) بما قبلها ، ولذلك يمثله بالفاء لإيصال ووقوع الثاني عقيب الأول. ووجه رفعه هو ما ذكرته لك.

وليست (حتى) المنصوب ما بعدها من الفعل هي المرفوع ما بعدها ، لأن المرفوع ما بعدها ليست بعاملة ، والمنصوب ما بعدها حرف خفض ؛ وكل فعل كان مبناه على الإيجاب فهو مما لم يرتفع فيه الفعل بعد (حتى) ، فإن اتصل به تشكك كقولك : سار عبد الله حتى يدخلها ، أو سار حتى يدخلها أرى ، وكذلك : سار عبد الله حتى يدخلها. ويجوز أن يكون ما قبل (حتى) المرفوع ما بعدها من الفعل من باب أرى وأفعال الظن والمحسبة لأن القلوب تنعقد على ذلك ـ وإن كان فيه بعض عوارض الشك ـ كانعقادها على العلم واليقين ، ويكون اللفظ عليه كما يكون ذلك في الخبر اليقين ، وذلك قولك : أرى عبد الله سار حتى يدخلها ، وكذلك : أظن عبد الله سار حتى يدخلها.

٢١٤

وإن كان مبنى الكلام على جحد عقيبه استثناء يرده إلى الإيجاب فهو كالإيجاب كقولك : ما سرت إلا يوما حتى أدخلها ، وما سرت إلا قليلا حتى أدخلها ، لأنه لا فرق بين قولك : ما سرت إلا يوما ، وبين سرت يوما ؛ وما سرت إلا قليلا حتى أدخلها بمنزلة : سرت قليلا حتى أدخلها ؛ والقليل قد يؤدي إلى الدخول ، كما يؤدي الكثير إليه ؛ وهذه العوارض التي تعارض المعرفة واليقين لا تغير لفظ الإيجاب كقولك : إنّ زيدا لقائم فيما أرى ، وفيما أظن ، وإن زيدا لقائم بلغني.

وأما ما حكاه سيبويه عن بعض النحويين من اعتبار القلب فهو ضعيف يخالف كلام العرب ، ولا لاعتبار ذلك أصل يرجع إليه ؛ هؤلاء القوم أجازوا : سرت حتى أدخلها ، ولم يجيزوا : كنت سرت حتى أدخلها ، لأنه لا يحسن : سرت حتى أدخلها كنت ، كما يحسن : حتى أدخلها سرت ؛ فاحتج عليهم سيبويه بقول العرب : قد سرت حتى أدخلها ، وهم لا يجيزون : سرت حتى أدخلها قد ، ويقولون : ربما سرت حتى أدخلها ، ولا يقولون : سرت حتى أدخلها ربما ؛ واحتج عليهم أيضا بأنه لا فرق بين قولنا : كنت سرت حتى أدخلها وبين : سرت مرة في الزمان الأول حتى أدخلها ، وهم يجيزون : سرت مرة في الزمان الأول حتى أدخلها ، لأنه يحسن فيه القلب ، تقول : سرت حتى أدخلها مرة في الزمان الأول.

وذكر سيبويه : إنما سرت حتى أدخلها ، فأجاز الرفع في موضع ، ولم يجزه في موضع ، وذلك أن (إنما) تكون على وجهين : أحدهما تحقير الشيء ، والآخر الاقتصار عليه ؛ فأما الاقتصار عليه فقولك في رجل ادّعي له الشجاعة والكرم واليسار ، فاعترفت بواحد منها دون الباقي ، وأثبته له فقلت : إنما هو موسر أو إنما هو شجاع ، فعلى هذا الوجه يرفع الفعل بعد (حتى) إذا قلت إنما سرت حتى أدخلها ، لأنك أثبت له المسير ، وقد أداه إلى الدخول.

وأما تحقير الشيء فقولك لمن تحقر صنيعا له : إنما تكلمت وسكت ، وإنما سرت فقعدت ، لم يعتد بكلامه ولا بسيره ؛ فعلى هذا الوجه نصب سيبويه : إنما سرت حتى أدخلها ، لأنه لم يعتد بسيره سيرا ، فصار بمنزلة المنفي.

ويقبح الرفع ؛ لأنك لم تجعل السير مؤديا إلى الدخول ، فيكون منقطعا بالدخول ، وإلا نصبت (يدخل) ، فيكون غاية السير ، وهذا معنى قوله : ليس في هذا اللفظ دليل على انقطاع السير ، يعني إذا رفعت مع التحقير.

فأما أقلّ (ما سرت) فإنه يكون على وجهين : أحدهما أن يريد سيرا قليلا مؤديا

٢١٥

كأنه قال : قل سيري ، كما تقول : سرت قليلا ؛ فهذا يرفع فيه الفعل الذي بعد (حتى) للمسير القليل الذي أدى إلى الدخول.

والوجه الآخر أن يكون في معنى الجحد ، وذلك قولك : قلما سرت حتى أدخلها ، إذا عنيت غير سير ، لأن معناه النفي لغير سير ؛ وليس النفي لغير سير فعل يوجب الدخول فيرفعه ؛ وكذلك قوله : أقل ما سرت حتى أدخلها ، من قبيل أن (قلّ) نفي ، وقد ذكرنا فيما تقدم أن (أقلّ رجل) و (أقلّ رجل) في معنى الجحد ، بما أغني عن إعادته".

قال أبو سعيد : " ولو قلت : ما كثر ما سرت حتى أدخلها ، وما طال ما سرت حتى أدخلها ، لم يجز فيه غير النصب ، لأنك لم تذكر فعلا يؤدي إلى الدخول ، وإنما نفيت فعلا ، ولم تثبت فعلا آخر ؛ ولهذا نصب سيبويه بعد : أقلّ ما سرت حتى أدخلها ، لما كان نفيا ل (كثر ما سرت) ، كما أن (ما سرت) نفي لقوله : سرت ، وقواه بأنه قبيح أن تقول : قل ما سرت حتى فأدخلها ، كقبح ما سرت فإذا أنا داخل ، لأن (الفاء) تقتضي أن ما بعدها وقع عقيب فعل اتصل به ، وأنت قد نفيت ما قبل (الفاء) ؛ ولو قلت : قلما سرت فأدخلها ، فنصبت ، كان جيدا للنفي ، كما تقول : ما أتيتنا فنكرمك ، ولا يحسن كثر ما سرت فأدخلها ، لأنه موجب ، والوجه كثر ما سرت فأدخلها بالرفع ، كقولك : أنا آتيك فأكرمك ، ولا يحسن فأكرمك بالنصب ، وقد تقدم الرد على من يعتبر القلب وهو ينصب ربما سرت حتى أدخلها ؛ وطال ما سرت حتى أدخلها ، وكثر ما سرت حتى أدخلها. لأنه لا يحسن أن تقول : سرت حتى أدخلها ربما ، ولا سرت حتى أدخلها طالما ، وكثر ما.

ثم قال عنهم : فإن احتجوا ـ يعني في نصبها ـ بأنه غير سير واحد ، فرد كلامهم بأنه يقال : سرت غير مرة حتى أدخلها ، وهذا لا يدفعونه ، لأنه يحسن فيه القلب ، ومعناه معنى : ربما سرت ، وطال ما سرت فأبطل احتجاجهم بالنصب إذا تعلقوا بغير القلب.

وقوله : ولكنهم اعتزموا على النصب في ذا ، كما اعتزموا عليه في (قد) ، يريد أن نصب العرب لما ينصبونه من : ربما سرت حتى أدخلها ، وكنت سرت حتى أدخلها ، وغير ذلك ، وإنما نصبوه لا من أجل قبح القلب ، ولكن لأن كل ما يرفع بعد (حتى) يجوز فيه النصب على الغاية ، لأن ما بينهما متقارب في المعنى ، لأن السير ينقطع عند الدخول ، رفعت أو نصبت ، فنصبهم لأنهم ذهبوا به مذهب الغاية ، ويجوز فيه الرفع كما رفع من رفع في (قد) ، ويجوز النصب عنده.

وقوله : كان سيري أمس حتى أدخلها ، في (أمس) وجهان :

أحدهما : أن يكون في موضع نصب بسيري لا بخبر (كان) ، كما تقول : كان قطعي

٢١٦

المفازة حتى أدخلها ، فتنصب المفازة بقطعي لا بخبر كان ؛ فإذا كان كذلك وجب النصب في (أدخلها) لا غير ، ويكون خبر (كان) حتى ، وهي تكون خبرا للمصدر الذي يمتد في الزمان إذا كانت غاية كقولك : سيري إلى الليل ، وسيري حتى الليل ، وسيري إلى أن أدخل ، وسيري حتى أدخل ؛ فإن جئت بخبر (كان) ، جاز الرفع والنصب فقلت : كان سيري أمس سيرا متعبا حتى أدخلها ، وأدخلها ، فإن شئت جعلت (أدخلها) من صلة سيرا متعبا ، وإن شئت جعلته من صلة كان سيري ، وقدمته فقلت : كان سيري أمس حتى أدخلها سيرا متعبا.

والوجه الآخر أن تجعل (أمس) خبر سيري ، كما تقول : كان القتال أمس ، فإذا جعلته كذلك جاز الرفع والنصب في (حتى أدخلها).

وقوله : " ما بعد (حتى) لا يشرك الفعل الذي قبل (حتى) في موضعه كشركة الفعل الآخر الأول إذا قلت : لم أجئ فأقل".

قال أبو سعيد : ((ليست (حتى) من حروف العطف في الأصل ، وإنما عطف بها في الأسماء ، الاسم الذي يصح أن يكون غاية كقولك : خرج القوم حتى زيد ، كما تقول : خرج القوم حتى زيد ، ولو قلت : خرج القوم حتى شأنك لم يجز ، ولو قلت : وشأنك ، وفشأنك جاز ؛ لأنهما حرفا عطف وضعا للاشتراك.

وإنما جاز العطف بحتى في الأسماء لأن الاسم المجرور بعد (حتى) داخل في الأسماء التي قبلها ، فصار فيه معنى العطف بدخوله فيما دخل فيه ما قبله ؛ وأما في الفعل فليس كذلك ، وإنما شبّه بالفاء فيما مضى لاتصال الآخر بالأول ، وأنهما قد وقعتا فيما مضى كقوله :

 ...

فإنّ المندّى رحلة فركوب (١)

لأن التندية والركوب قد وقعتا في الماضي من الأزمنة ، والآخر كان مع فراغه من الأول)).

وقوله : " واعلم أن (أسير) بمنزلة سرت ، إذا أردت بأسير معنى سرت".

قال أبو سعيد : ((إنما يستعمل ذلك إذا كان الفاعل قد عرف منه ذلك الفعل خلقا وطبعا ، ولا ينكر منه في المضي والاستقبال ، ولا يكون لفعل فعله مرة من الدهر ، من ذلك قول بعض بني سلول :

__________________

(١) عجز بيت لعلقمة الفحل سبق تخريجه.

٢١٧

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني

فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني (١)

يريد : ولقد مررت ، ولم يرد أن ذلك كان منه مرة وأنه لا يعود إليه ، وإنما أراد أن ذلك سجيته أبدا ، وقال جرير :

قالت جعادة ما لجسمك شاحبا

ولقد يكون على الشباب نضيرا

وسمعناه : ولقد كان ، وكونه على الشباب نضيرا ، فعل مستدام لا يقصد به إلى فعلة واحدة ، بل يكون أبدا على الشباب نضيرا ، فهذا حكمه دائما)).

وقوله : أين الذي سار حتى يدخلها. لا يمنع الاستفهام من الرفع ، لأن السير وجب ، وإنما سأل عن صاحبه ، وكذلك لو نفي فقال : ما رأيت الذي سار حتى يدخلها ، وما ضربت الذي سار حتى يدخلها ، لأن الاعتماد على نفي الرؤية والضرب.

وأما قوله : أسرت حتى تدخلها؟ فالنصب ، لأنه لم يوجب سيرا يجب به الدخول. ولو قال : قل ما سرت فأدخلها ، إذا جعل الدخول واجبا فيما مضى ، جعل اللفظ فيه ماضيا ، فقال : قلما سرت فدخلت ، لأن دخلت منقطع عن قلما سرت ، فصار بمنزلته منفردا إذا كان ماضيا ، ولم يكن ماضيا ، ولم يكن قبله (قلما سرت) ، فالإخبار عنه بلفظ المضي ؛ ونحو من هذا قولهم : جاءني زيد أمس يضحك ، ويضحك في موضع الحال ، وإن كان وقوعه في (أمس). ولو خبّرت عن زيد بالضحك لم يجز أن يكون إلا بلفظ الماضي ، ولم تقل إلا : ضحك زيد ؛ وكذلك جاءني زيد يضحك أبوه ، إذا كان متصلا بزيد ؛ فإذا لم تجعله متصلا بزيد قلت : ضحك أبو زيد أمس ، ولم يكن إلا ماضيا.

وقال أبو الحسن الأخفش : (٢) ما سرت حتى أدخلها ، معنى الرفع فيه صحيح ، إلا أن العرب لم ترفع غير الواجب في باب (حتى) ، ألا ترى أنك لو قلت : ما سرت فأدخلها ، أي ما كان سير ولا دخول ، أو قلت : ما سرت فإذا أنا داخل الآن لا أمنع ، كان حسنا.

وغلط أبو الحسن ، وذلك أن الدخول في (حتى) إذا رفع إنما يقع بالسير ، فإذا نفى السير لم يكن دخول.

__________________

(١) البيت لرجل من سلول من بحر الكامل ، الخزانة ١ / ٣٥٧ ؛ والكتاب ٣ / ٢٤ ، الدرر : ١ / ٢٧٨.

(٢) الأخفش : هو سعيد بن مسعدة المجاشعي بالولاء البلخي ثم البصري أبو الحسن المعروف بالأخفش الأوسط نحوي عالم باللغة والأدب من أهل بلخ ، سكن البصرة وأخذ العربية من سيبويه ، وله تصانيف منها : شرح أبيات المعاني ، تفسير معاني القرآن معاني الشعر ، كتاب الملوك.

زاد في العروض بحر (الخبب). توفي ٢١٥ ه‍.

٢١٨

قال أبو سعيد : والذي عندي أن أبا الحسن أراد أن ما يدخل على قولك : سرت حتى أدخلها بعد وجوب بالرفع ، فتبقى جملة الكلام ، فلذلك رآه صحيحا في القياس ، وإن كانت العرب لا تتكلم به.

هذا باب ما يكون العمل فيه من اثنين

قال سيبويه : " وذلك قولك : سرت حتى يدخلها زيد ، إذا كان دخول زيد لم يؤده سيرك ، ولم يكن سببه ، فيصير هذا كقولك : سرت حتى تطلع الشمس ، لأن سيرك لا يجوز أن يكون سببا لطلوع الشمس ، ولا يؤديه ، ولكن لو قلت : سرت حتى يدخلها ثقلي ، وسرت حتى يدخلها بدني ، لرفعت ، لأنك جعلت دخول ثقلك يؤديه سيرك ، وبدنك لم يكن دخوله إلا بسيرك.

وبلغنا أن مجاهدا قرأ الآية : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ)(١) ، وهي قراءة أهل الحجاز.

وتقول : سرت حتى يدخلها زيد وأدخلها ، وتقول : سرت حتى أدخلها ويدخلها زيد ، إذا جعلت دخول زيد من سبب سيرك ، وهو الذي أدّاه ، ولا تجد بدّا من أن تجعله هاهنا في تلك الحال ، لأن رفع الأول لا يكون إلا وسبب دخوله سيره.

وإذا كانت هذه حال الأول ، لم يكن للآخر بد من أن يتبعه ، لأنه يعطفه على دخولك في (حتى) ؛ وذلك أنه يجوز أن تقول : سرت حتى يدخلها زيد ، إذا كان سيرك يؤدي إلى دخوله ، كما تقول : سرت حتى يدخلها ثقلي ، وتقول : سرت حتى أدخلها ، وحتى يدخلها زيد ، لأنك لو قلت : سرت حتى أدخلها وحتى تطلع الشمس ، كان جيدا وصارت إعادتك (حتى) كإعادتك له في (تبّا له) و (ويل له) ، ومن عمرا؟ ومن أخو زيد؟ وقد يجوز أن تقول : سرت حتى يدخلها عمرو ، إذا كان أداه سيرك ؛ ومثل ذلك قراءة أهل الحجاز (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) [البقرة : ٢١٤].

واعلم أنه لا يجوز : سرت حتى أدخلها ، وتطلع الشمس ، هذا محال ، لأن طلوع الشمس لا يكون أن يؤديه سيرك ، فترفع (تطلع الشمس) وقد حلت بينه وبين (حتى).

ويحسن أن تقول : سرت حتى تطلع الشمس وحتى أدخلها ، كما تقول : سرت إلى يوم الجمعة وحتى أدخلها ، وقال امرؤ القيس :

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢١٤.

٢١٩

سريت بهم حتّى تكلّ مطيّهم

 .. وحتّى الجياد ما يقدن بأرسان (١)

فهذه الآخرة هي التي ترفع.

وتقول : سرت وسار حتى ندخلها ، كأنك قلت : سرنا حتى ندخلها ؛ وتقول : سرت حتى أسمع الأذان ، هذا وجهه ، وحدّه النصب ، لأن سيرك ليس يؤدي سمعك الأذان ، إنما يؤديه الصبح ؛ ولكنك تقول : سرت حتى أكلّ ، لأن الكلال يؤديه سيرك.

وتقول : سرت حتى أصبح ، لأن الإصباح لا يؤديه سيرك ، إنما هي غاية طلوع الشمس.

وفي نسخة أبي بكر مبرمان (٢) وغيرها ، قال أبو الحسن : أنا أزعم أن (حتى) هذه التي ترفع ما بعدها ليست (حتى) التي تنصب ما بعدها.

قال أبو سعيد : قد ذكرنا أن رفع الفعل بعد (حتى) بإيجاب ما قبله له وتأديته إليه ، فإذا قلت : سرت حتى أدخلها جاز أيضا أن يدخلها من يتبعك ومن يسير بسيرك من أجير وعبد وصاحب ورفقة ، كنت أنت بسيرك سببا لسيرهم المؤدي إلى الدخول ، وكذلك ما معك من ظهر وثقل ، دخوله بسيرك لأنه تابعك.

وقوله : لا يجوز سرت حتى أدخلها وتطلع الشمس ، لأن تطلع الشمس ، لا يرتفع أبدا ، لأن السير لا يؤدي إليه ، ولا يكون سببا له ، فبطل عطفه على (أدخلها) ؛ ولا يجوز نصبه وليس قبله ما ينصبها ، لأن (حتى) إذا ارتفع ما بعدها فليست هي (حتى) التي تنصب الفعل بعدها ، وقد ذكرنا هذا فيما مضى.

ولو أعاد (حتى) وجعلها ناصبة فقال : سرت حتى أدخلها وحتى تطلع الشمس جاز.

وأما قوله : وقد حلت بينه وبين (حتى) ، يعني أنك حلت ب (أدخلها) المرفوعة بين (تطلع) وبين (حتى) الناصبة كأن (أدخلها). لو لم يكن ، وكان في موضعها (تطلع

__________________

(١) البيت في ديوانه ص ٩٣ ، ابن يعيش ٥ / ٧٩ ، ٨ / ١٩ ؛ الكتاب ٣ / ٢٧ ، ٦٢٦ ؛ المقتضب ٢ / ٧٢.

(٢) مبرمان : محمد بن علي بن إسماعيل العسكري ، أبو بكر المعروف بمبرمان من كبار العلماء بالعربية من أهل بغداد ولد في طريق رامهرمز وأخذ عن المبرد والزجاج وأخذ عنه الفارسي والسيرافي من كتبه" شرح شواهد سيبويه" النحو المجموع على العلل. (العيون) ، و (التلقين) ، شرح كتاب سيبويه.

٢٢٠