شرح كتاب سيبويه - ج ٣

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٣

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

وإنّي من القوم الذين هم هم

إذا مات منهم سيّد قام صاحبه

نجوم سماء كلّما غاب كوكب

بدا كوكب تأوي إليه كواكبه (١)

وقال أبو خراش :

ولم أنس أيّاما لنا ولياليا

بحلية إذ نعطى بها ما نحاول

إذ الناس ناس والزّمان بغرّة

وإذ نحن لا تروى علينا المداخل (٢)

ويروي (تزوى) ، فمن قال : (تروى) بالراء أي : لا تذكر مداخلنا بسوء.

ومن قال : (تزوى) بالزاي أي : لا تمنع من مداخلنا.

وإنما يريد : إذ الناس على العهد الذي عهدتهم به ، والحال التي عرفتهم بها.

وإذا قلت : فكنت أنت إياك ف (أنت) على معنيين : أحدهما أن يكون توكيدا للتاء ، ويجوز أن يكون فضلا ، وإياك خبر كنت بمنزلة الظريف ، وكنت إياك أصله : أنت أنت ، فلما أدخلت عليها كان ارتفع أنت الأول باسم كان فصارت تاء ، وانتصب الثاني بخبر كان فصار إيّاك.

وإذا قال : فوجدتك أنت إياك ، فإياك مفعول ثان ، وجدتك بمعنى علمتك ومعناه : أنت أنت على الشرح الذي شرحناه ، ثم دخل عليه وجدت ، وقد يقول : أنت ، ثم يعيدها للتوكيد ، ولا يريد به الابتداء والخبر ، كما تقول : كنت كنت إذا كررتها توكيدا.

وقول سيبويه في آخر الباب : وإن شئت جعلت أنت صفة دلالة على أنّ المستقيم أن تكون : فجرّبت كنت أنت ، وتكون أنت على وجهين.

أحدهما : أن تكون أنت مبتدأ محذوف الخبر بمنزلة زيد إذا قلت : قال الناس : زيد. وعلى هذا ساقه سيبويه كأنه : أنت الفاضل ، أو أنت المعروف. بالفضل ، وتكون الجملة في موضع خبر للتاء في كنت.

والوجه الآخر أن تكون أنت صفة للتاء في كنت وتوكيدا.

هذا باب الإضمار فيما أجري مجرى الفعل

قال سيبويه : " وذلك : أنّ ، وليت ، ولعل وأخواتها ، ورويد ، ورويدك ، وعليك ، وهلمّ ، وما أشبه ذلك. فعلامات الإضمار حالهن هاهنا كحالهنّ في الفعل ؛ لا تقوى أن تقول : عليك إياه ، ولا رويد إياه ؛ لأنك قد تقدر على الهاء ؛ تقول : عليكه ، ورويده ،

__________________

(١) البيت منسوب لأبي الطمحان القيني ، الخزانة ٨ / ٩٦.

(٢) البيت في ديوانه ق ٢ / ١٥٠.

١٢١

ولا تقول : عليك إياي ؛ لأنك قد تقدر على (ني).

وحدثنا يونس أنه سمع من يقول : عليكني ، من غير تلقين ، ومنهم من لا يستعمل ني ، ولا نا في هذه المواضع استغناء ب عليك بي ، وعليك بنا عن ني ، ونا ، وإيانا.

ولو قلت : عليك إياه كان هاهنا جائزا ؛ لأنه ليس بفعل وإن شبّه به. ولم تقو العلامات هاهنا كما قويت في الفعل ، فهي مضارعة في ذلك الأسماء.

واعلم أنه قبيح أن تقول : رأيت فيها إياك ، ورأيت اليوم إيّاه ؛ من قبل أنك قد تجد الإضمار الذي سوى إيا ، وهو الكاف الذي في : رأيتك فيها ، والهاء التي في : رأيته اليوم ، فلما قدروا على هذا الإضمار بعد الفعل ولم ينقض معنى ما أرادوا ، لم يتكلموا ب (إياك) ، واستغنوا بهذا عن إياك ، وإياه.

وفي نسخة أبي بكر مبرمان : لم ينقض معنى ما أرادوا لو تكلموا ب (إياك) ، واستغنوا بهذا عن إياك ، وإياه. ولو جاز هذا لجاز : ضرب زيد إياك ، وإنّ فيها إياك ، ولكنهم لمّا وجدوا : إنك فيها ، وضربك زيد ، ولم ينقض ما أرادوا لو قالوا : إنّ فيها إيّاك ، وضرب زيد إياك ، استغنوا به عن إيّا.

وأما : ما أتاني إلا أنت ، وما رأيت إلا إيّاك ، فلا يدخل على هذا ؛ من قبل أنه لو أخّر إلّا كان الكلام محالا. ولو أسقط إلّا كان الكلام منقلب المعنى ، وصار على معنى آخر".

قال أبو سعيد : ما في هذا الباب على ثلاثة أضرب في الاتصال والانفصال : فأقوى الثلاثة في الاتصال إنّ وأخواتها ؛ وذلك أنهن أجرين مجرى الفعل الماضي في فتح أواخرها ، وفي لزومها الاسم المنصوب المشبّه بالمفعول ، والخبر المرفوع المشبّه بالفاعل ، ومنصوبها يليها ، ولا يدخل عليها حرف يمنع من التصاق المنصوب بها. فوجب فيها ما وجب في المفعولات بالأفعال من الضّمير المتّصل.

وبعدها رويد تقول : رويد زيدا ، ورويدك زيدا ، وإذا كنّيته قلت : رويده ، ورويدكه ، ولم يذكر سيبويه : رويد إيّاه ، وذلك أنّ رويد وضع لترود ، ولم يؤت بمصدره المحض كما قالوا : تراكها ، ومناعها ؛ لأنهما وضعا موضع اتركها وامنعها ، وهما أقوى من تركا ومنعا ، وكذلك رويد في قيامه مقام الفعل أقوى من إرواد ، ورأيت في تفاسير جواز الضمير المنفصل في رويد ، وما ذكره سيبويه.

وبعدهما عليك ، وهي أقوى في الفصل ، يجوز : عليكه ، وعليكني وعليك به ، وعليك

١٢٢

بي ، وعليك إيّاي ، وعليك إيّاه. وإنما جاز إيّاي لأنه بالإضافة إلى الكاف قد أشبه المصدر المضاف الذي قد جاز فيه الفصل والوصل نحو : ضربك إيّاي ، وضربكني ، وباقي الباب مستغنى عن تفسيره.

هذا باب ما يجوز في الشّعر من إيّا ولا يجوز في الكلام

(فمن ذلك قول حميد الأرقط :

إليك حتّى بلغت إيّاكا (١)

وقال الآخر (بعض اللصوص):

كأنّا يوم قرّى إنّما نقتل إيّانا) (٢)

قال أبو سعيد : قوله : بلغت إيّاك ضرورة على ما قاله سيبويه ، وكان الزّجّاج يقول : " أراد بلغتك إياك" ، وهذا لا يخرجه من الضّرورة ، لأنّه إن أراد الكاف وحذفها فهو ضرورة ، ولو أخرجه تقدير هذا عن الضرورة لجاز : ضربت إيّاك على هذا التقدير ، وليس هذا بشيء.

وقد يضطرّ الشاعر ، فيضع الضّمير المتصل في موضع المنفصل. أنشد أحمد بن يحيى ثعلب :

وما نبالي إذا ما كنت جارتنا

ألا يجاورنا إلاك ديّار (٣)

وأما قوله : " نقتل إيّانا" فهو أقلّ ضرورة ؛ وذلك أنه لا يمكنه أن يأتي بالضمير المتصل فيقول : نقتلنا ؛ لأنه لا يتعدى فعله إلى ضميره ، وكان حقّه أن يقول : نقتل أنفسنا ؛ فجاء بالمنفصل فجعله مكان أنفسنا ؛ لأنهما يشتركان في الانفصال ، ويقعان بمعنى في نحو قولك : ما أكرمت إلا نفسك ، وما أكرمت إلا إيّاك.

وكان أبو إسحاق الزجاج يقول : " إنّما نقتل إيّانا محمول على ما نقتل إلا إيّانا ؛ لأن في إنّما معنى تقليل ونفي" ، ولا يخرجه ذلك عن الضرورة ؛ لأنّك لو قلت : إنما نخدمك لتحسن إلينا لم يجز : إنّما نخدم إيّاك ، إلا في الضرورة ، فاعرفه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) البيت في ديوانه ، الخزانة ٥ / ٢٨٠ ، ٢٨١ ؛ والكتاب ٢ / ٣٦٢.

(٢) البيت منسوب لذي الإصبع العدواني في ديوانه ٧٨ ؛ الخزانة ٥ / ٢٨٠ ؛ ابن يعيش ٣ / ١٠١ ؛ الكتاب ٢ / ١١١.

(٣) البيت في ديوانه ، الخزانة ٥ / ٢٧٨ ، ٢٧٩ ؛ وابن يعيش ٣ / ١٠١.

١٢٣

هذا باب إضمار المجرور

قال سيبويه : " اعلم أنّ أنت وأخواتها لا يكنّ علامات لمجرور ؛ من قبل أنّ أنت اسم مرفوع ، فلا يكون المرفوع مجرورا. ألا ترى أنك لو قلت : مررت بأنت لم يجز. ولو قلت : ما مررت بأحد إلا أنت لم يجز. لا يجز إيّا أن تكون علامة لمجرور مضمر ؛ لأنّ إيّا علامة المنصوب ، فلا يكون إضمار المنصوب في موضع المجرور ، ولكن إضمار المجرور علاماته كعلامات المنصوب التي لا تقع موقعهن إيّا ، إلا أن تضيف إلى نفسك نحو : بي ولي وعندي.

وتقول : مررت بزيد وبك ؛ وما مررت بأحد إلا بك ، أعدت مع الضمير الباء من قبل أنهم لا يتكلمون بالكاف وأخواتها منفردة ، فلذلك أعادوا الجارّ مع المضمر. ولم يقع إيّا ، ولا أنت وأخواتها هنا ، من قبل أنّ المنصوب والمرفوع لا يقعان في موضع المجرور".

قال أبو سعيد : المجرور لا يتقدم على عامله ، ولا يفصل بينه وبين عامله بشيء ؛ لأنّ الجرّ إنّما يكون بإضافة اسم إلى اسم أو دخول حرف على اسم ، ولا يجوز تقديم المضاف إليه على المضاف ، ولا الفصل بين المضاف والمضاف إليه ؛ ومن أجل ذلك لم يكن ضميره إلا متصلا بعامله ، فإن عرض أن يعطف على المجرور أو يبدل منه في الاستثناء اقتضى حرف العطف وحرف الاستثناء الضمير المنفصل على ما تقدم من شرحنا لذلك ، وليس للجرّ ضمير منفصل ، ولا يكون ضميره إلا مع عامله ، فأعادوا الضّمير مع العامل كقولك : مررت بزيد وبك ، وما نظرت إلى أحد إلا إليك.

هذا باب إضمار المفعولين اللّذين تعدّى إليهما فعل الفاعل

قال سيبويه : " اعلم أنّ المفعول الثاني قد تكون علامته إذا أضمر في هذا الباب العلامة التي لا تقع إيّا موقعها ، وقد تكون علامته إذا أضمر إيّا.

فأما علامة الثاني التي لا تقع إيّا موقعها فقوله : أعطانيه وأعطانيك ، فهذا هكذا إذا بدأ المتكلم بنفسه. فإن بدأ بالمخاطب قبل نفسه فقال : أعطاكني ، أو بدأ بالغائب فقال : أعطاهوني ، فهذا قبيح لا تكلّم به العرب ، ولكنّ النحويين قاسوه.

وإنّما قبح عند العرب كراهة أن يبدأ المتكلم في هذا الموضع بالأبعد قبل الأقرب ، ولكن يقول : أعطاك إيّاي ، وأعطاه إيّاي ، فهذا كلام العرب ، وجعلوه إيّا تقع هذا الموقع إذ قبح هذا عندهم ، كما قالوا : إيّاك رأيت ، وإيّاي رأيت ، إذ لم يجز (ني)

١٢٤

رأيت ، وك رأيت.

فإذا كان المفعولان اللّذان تعدّى إليهما فعل الفاعل مخاطبا وغائبا ، فبدأت بالمخاطب قبل الغائب ، فإنّ علامة الغائب العلامة التي لا يقع موقعها إيّا ، وذلك قولك : أعطيتكه وأعطاكه ، وقال عزوجل : (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ)(١) ؛ فهذا كذا إذا بدأت بالمخاطب قبل الغائب.

وإنّما كان المخاطب أولى بأن يبدأ به من قبل أنّ المخاطب أقرب إلى المتكلّم من الغائب ، فكما كان المتكلم أولى بأن يبدأ بنفسه كان المخاطب الذي هو أقرب من الغائب أولى بأن يبدأ به.

فإن بدأت بالغائب فقلت : أعطاهوك فهو في القبح ، وأنه لا يجوز ، بمنزلة الغائب والمخاطب إذا بدئ بهما قبل المتكلّم ، ولكنك إذا بدأت بالغائب قلت : أعطاه إيّاك.

وأمّا قول النّحويين : أعطاهوك وأعطاهوني ، فإنما هو شيء قاسوه لم يتكلم به العرب ، فوضعوا الحروف غير مواضعها ، وكان قياس هذا لو تكلّم به هيّنا.

ويدخل على من قال هذا أن يقول إذا منحته نفسه : منحتنيني. ألا ترى أنّ القياس قد قبح إذا وضعت (ني) في غير موضعها ، فإذا ذكرت مفعولين كلاهما غائب قلت : أعطاهوها وأعطاهاه جاز ، وهو عربيّ. ولا عليك بأيّهما بدأت ، من قبل أنهما كلاهما غائب.

وهذا أيضا ليس بالكثير في كلامهم ؛ والأكثر في كلامهم : أعطاه إيّاه. على أنّ الشاعر قد قال :

وقد جعلت نفسي تطيب لضغمة

لضغمهما ها يقرع العظم نابها (٢)

ولم تستحكم علامات الإضمار هاهنا ، كما لم تستحكم في : عجبت من ضربي إيّاك ، ولا في : كان إيّاه ، وليس إيّاه.

وتقول : حسبتك إيّاه ، وحسبتني إيّاه ؛ لأنّ حسبتنيه وحسبتكه قليل في كلامهم ؛

__________________

(١) سورة هود ، من الآية ٢٨.

(٢) البيت منسوب لمغلس بن لقيط ، الخزانة ٥ / ٣٠١ ، ٣٠٣ ؛ ابن يعيش ٣ / ١٠٥ ؛ والكتاب ٢ / ٣٦٥ ؛ واللسان (ضغم ـ جعل).

١٢٥

وذلك لأن حسبت بمنزلة كان ، إنما يدخلان على المبتدإ والمبنيّ عليه ، فيكونان في الاحتياج على حال.

ألا ترى أنك لا تقتصر على الاسم الذي يقع بعدهما كما لا تقتصر عليه مبتدأ؟ فالمنصوبان بعد حسبت بمنزلة المرفوع والمنصوب بعد ليس وكان. وكذلك الحروف التي بمنزلة حسبت وكان ؛ لأنهما إنما تجعلان المبتدأ والمبنيّ عليه فيما مضى يقينا أو شكّا ، وليسا بفعل أحدثته منك إلى غيرك ك" ضربت" ، وأعطيت ، إنما تجعل الأمر في علمك أو فيما مضى".

قال أبو سعيد : المفعول الأول يلزم اتصال ضميره بالفعل ؛ لأنه يلاصق الفعل ويليه ، وإن كان ضمير الفاعل في الفعل لا يتغير لزوم اتصال ضمير المفعول الأول به ؛ لأن الفعل مع ضمير الفاعل كالفعل المجرد ، لأن ضمير الفاعل قد يكون بغير علامة ، وقد يغيّر بنية الفعل ضمير الفاعل فتصير كحرف من حروفه وذلك قولك : ضربتني وضربتك ، وإن زيدا ضربني. فإذا جئت بعد اتصال ضمير المفعول الأول بضمير مفعول ثان جاز اتصاله ـ على ما شرط سيبويه ـ وجاز انفصاله ، فأما اتصاله فلقوة الفعل وأنه الأصل في اتصال ضمائر المنصوبات به ، ولمّا كان الفعل عاملا في المفعولين النصب ظاهرين ، وفي موضعهما مضمرين ، وعمله فيهما لا يغير لفظ كل واحد منهما مفردا ولا معناه ولا ترتيبه ، وكان المتّصل أخصر لفظا وأقلّ حروفا اختاروه ، وذلك قولك : أعطانيه وأعطانيك.

وشرط سيبويه فيه أن يكون المفعول الأول المبدوء بلفظه هو أقرب من الثاني ، وترتيب ذلك أنّ المتكلم هو الأقرب ، ثم المخاطب ، والغائب هو الأبعد.

والذي ظهر في كلام سيبويه أنّه ما خيّر المتكلم بين اتصال المفعول الثاني وبين انفصاله ، ولكنه قسّم ضميري المفعولين إذا اجتمعا قسمين :

أحدهما : يجب في الاتصال بغير تخيير ، والآخر : يجب فيه الانفصال من غير تخيير.

فأما الذي يجب فيه الاتصال فهو أن يكون المفعول الأول أقرب من الثاني مثل : أعطانيك زيد ، وأعطانيه ، وأعطاكه.

وأمّا الذي يجب فيه الانفصال فهو أن يكون المفعول الأول أبعد في الترتيب من الثاني كقولك : أعطاهوك وأعطاهاك وأعطاهوني وأعطاهاني وأعطاكني ، لا يجوز شيء من هذا عند سيبويه إلا بالانفصال نحو : أعطاه إيّاك وأعطاها إيّاك وأعطاه إيّاي وأعطاها إيّاي

١٢٦

وأعطاك إيّاي ، وهذا ترتيب سيبويه وحكايته عن العرب ، وحكى عن النحويين قياسا لم يرتضه.

وأبو العباس المبرّد يذهب إلى قول النحويين وقياسهم ، ويجعل إضمار الغائب والمتكلم والمخاطب في التقديم والتأخير سواء ، ويجيز : أعطاهوك وأعطاهوني وأعطاكني ، ويستجيده ، ويراد صحيحا ، ويستحسن منحتنيني ويستجيده ، وقد تقدم في شرحنا ذكر ترتيب المتكلم ، ثم المخاطب ، ثم الغائب بما أغنى عن ذكره هاهنا.

وقد رأيت غير سيبويه يخيّر بين المتصل والمنفصل ، ويجيزهما في : أعطيتكه وأعطيتك إيّاه ؛ لأن المفعول الثاني ليس يلاقي الفعل ولا يلتزق به ، والأول إمّا أن يلقى ذات الفعل أو يلقى ضمير الفاعل المجعول معه كشيء واحد ، وإيجاب سيبويه أعطاه إيّاك ، وتصحيحه له يقوّى ذلك ؛ لأن تعلق المفعولين بالفعل من باب واحد ، واختلاف المفعولين في ترتيبهما ليس يغيّر حكم تعلقهما بالفعل ، وعمل الفعل فيهما.

ولقائل أن تقول : ما الذي أنكر سيبويه من (منحتنيني) ، وليس فيه تقديم بعيد على قريب؟ وهل سبيل (منحتنيني) إلا سبيل (أعطاهوها) وهو مستحسن عنده؟

قيل له : المنكر من (منحتنيني) عند سيبويه أن : (ني) الثانية مؤخرّة وترتيبه التقديم على كل ضمير ، وليس كذلك أعطاهوها.

واعلم أنّ : حسبت مع الفاعل منزلته منزلة كان بغير فاعل ؛ لأن كان وحدها تدخل على المبتدإ والخبر فيرتفع بها المبتدأ وينتصب بها الخبر ، وحسبت مع فاعل المحسبة تدخل على المبتدإ والخبر فتنصبهما ؛ لأنه دخل عليهما فعل وفاعل ، فانتصبا على أنهما مفعولا حسبت ، ولما كان المفعول الثاني من حسبت زيدا منطلقا بمنزلة خبر كان في قولك : كان زيد منطلقا ، وكان الاختيار في إضمار خبر كان أن يكون منفصلا على ما تقدم من ذكره ، وجب أن يكون المفعول الثاني من حسبت كذلك ؛ ولأن ذلك خبره يقع موقعه الفعل والجملة والظرف غير المتمكن ، كما أن خبر كان كذلك ، تقول : حسبتك إيّاه وحسبتني إيّاه ، كما تقول : كنت إيّاه ، وحسبتنيه وتحسبنيه قليل ، كما أن كنته وكنتني وعمرو كانه زيد قليل ، وباقي الباب مفهوم بإذن الله.

هذا باب لا يجوز فيه علامة المضمر المخاطب

ولا علامة المضمر المتكلم ، ولا علامة المضمر المحدّث عنه الغائب

قال سيبويه : " وذلك أنه لا يجوز لك أن تقول للمخاطب : اضربك ، ولا اقتلك ،

١٢٧

ولا ضربتك ، لمّا كان المخاطب فاعلا ، وجعلت مفعوله نفسه ، قبح ؛ لأنهم استغنوا بقولهم : اقتل نفسك ، وأهلكت نفسك ، عن (الكاف) هاهنا ، وعن (إيّاك).

وكذلك المتكلم لا يقول : أهلكتني ، ولا أهلكني ؛ لأنه جعل نفسه مفعوله ، فقبح ؛ ذلك لأنّهم استغنوا بقولهم : أنفع نفسي عن (نى) ، وعن (إياي).

وكذلك الغائب لا يجوز لك أن تقول : ضربه إذا كان فاعلا ، وكان مفعوله نفسه ، واستغنوا عن (الهاء) ، وعن (إياه) بقولهم : ظلم نفسه ، وأهلك نفسه.

ولكنه قد يجوز ما قبح هاهنا في : (حسبت ، وظننت ، وخلت ، وأرى ، وزعمت ، ورأيت) إذا لم ترد رؤية العين ، ووجدت إذا لم ترد وجدان الضالة ، وذلك قولك : حسبتني ، ورأيتني ، ووجدتني فعلت كذا وكذا ، ورأيتني لا يستقيم لي هذا ، وكذلك ما أشبه هذه الأفعال تكون علامة المضمرين فيها إذا جعلت فاعليهم أنفسهم كحالها إذا كان الفاعل غير المنصوب.

ومما يثبت علامة المضمرين المنصوبين هاهنا أنه لا يحسن إدخال النفس هاهنا ، لو قلت : يظنّ نفسه فاعله ، أو أظنّ نفسي تفعل كذا ، على حدّ يظنّه وأظنّني ليجزئ هذا من هذا ، لم يجزئ كما أجزأ أهلكت نفسك عن أهلكتك ، فاستغني به عنه.

وإنما افترقت حسبت ، وأخواتها من الأفعال الأخر ؛ لأن حسبت وأخواتها إنما دخولها على مبتدإ ومبنيّ على مبتدإ ؛ لتجعل الحديث شكّا أو علما. ألا ترى أنك لا تقتصر عليه مبتدأ ، والأفعال الأخر إنما هي بمنزلة اسم مبتدإ ؛ والأسماء مبنية عليه. ألا ترى أنك لا تقتصر على الاسم كما تقتصر على المبنيّ على المبتدإ ، فلما صارت حسبت وأخواتها بتلك المنزلة جعلت بمنزلة إنّ وأخواتها إذا قلت : إنّني ولعلّني ؛ لأنّ وأخواتها لا تقتصر على الاسم الذي يقع بعدها ؛ لأنها إنما أدخلت على مبتدإ ، ومبنيّ على مبتدإ.

وإذا أردت ب (رأيت) رؤية العين لم يجز رأيتني ؛ لأنها حينئذ بمنزلة : ضربت ، وإذا أردت التي بمنزلة : علمت ، صارت بمنزلة إنّ وأخواتها ؛ لأنهنّ لسن بأفعال ، وإنما يجئن لمعنى ، وكذلك هذه الأفعال إنّما جئن لعلم أو شكّ ، ولم ترد فعلا سلف منك إلى إنسان".

قال أبو سعيد : اعتمد أبو العباس المبرّد وغيره من أصحابنا في إبطال : اضربك ،

١٢٨

وضربتني ، وضربتك ، ونحو ذلك ، على أنّ الفاعل بكلّيته لا يكون مفعولا بكليته ، فأبطلوا من أجله ضربتني ، وضربتك ، واضربك ، وما أشبهه ، وهذا كلام إذا فتّش وسبر لم يثبت ؛ وذلك لأنّ المفعول الصحيح ما اخترعه فاعله ، وأخرجه من العدم إلى الوجود ، كنحو خلق الله عزوجل الأشياء التي كوّنها ولم تكن كائنة من قبل ، وكنحو ما يفعله الإنسان من القعود والقيام والضرب والشّتم ، ولا يجوز أن يكون الفاعل في ذلك مفعولا ؛ لأنه لا بدّ من أن يكون الفاعل موجودا قبل وجود المفعول ؛ لأنّه لا يفعل إلا ما كان قادرا عليه قبل فعله ، ولا يكون قادرا على الشيء إلا والقادر موجود ، والمقدور عليه معدوم ؛ لأن معنى قادر عليه : قادر على أن يوجده ويكوّنه. هذا حقيقة معناه ، وقولهم : فلان قادر على فلان ، والمقدور عليه موجود ، إنما هو مجاز ، وحقيقته : أنه قادر على تصريفه فيما يريده منه ، فإذا قلنا : ضرب زيد عمرا فالذي فعله زيد إنما هو الضرب ، وكذلك : شتمه وذكره ، وهذا شيء يحيط العلم به ، وبأنّ زيدا لم يفعل عمرا ، وإنما إطلاق النحويين أنه مفعول مجاز ، والمراد أنه فعل به ضربا أو شتما ، أو نحو ذلك مما يحدثه فيه أو يقصده به.

فإذا قال القائل : ضربتني أو شتمتني ، أو قال : ضربتك ، وشتمتك ، فالمفعول الصحيح إنما هو الضرب والشتم ، والمتكلم والمخاطب كزيد في : ضربت زيدا وشتمته ، وليس زيد بمفعول صحيح على ما بيّناه ، ولم تبطل ضربتني وشتمتني لفساد معناه استحالته ، وكيف يستحيل ذلك وأنا إذا قلت : ضربت زيدا قائما أوقعت ضربا بشيء من جسمه بيدي أو بخشبة أو غيرها ، وكذل شتمته إنما هو ذكرى له بشيء من السوء ، وذلك الضرب قد أوقعه بشيء من جسمي على النحو الذي أوقعه بزيد ، وذلك الذّكر السّيئ غير مستحيل أن أذكر نفسي به كما ذكرت زيدا ، ولكنّ العرب لا تتكلم بذلك ؛ لأن فعل الإنسان يكون على ضربين :

أحدهما : فعل يفعله بنفسه لا يعتمد به غيره. فهذا الفعل لا يكون له مفعول ، وإن كان قد فعله الإنسان بنفسه ؛ كقولك : قام زيد ، وقعد ، وذهب ونحوه ، فقد فعل القيام والقعود بنفسه ، ومعنى قولنا فعل بنفسه : أنه أحلّ القيام والقعود بنفسه وأوجده في نفسه دون غيره.

والآخر : فعل يعتمد به غيره ، فلا بدّ أيضا في ذلك أن يفعله بنفسه ، ويعتمد به غيره ، أو يفعل سببه بنفسه ، ويعتمد به غيره.

فأما ما يفعله بنفسه ويعتمد به غيره فقولك : شتمت زيدا ، وذكرت زيدا ، ومدحت عمرا.

١٢٩

والذي يفعل سببه بنفسه فقولك : ضربت زيدا ، وقتلت عمرا ، فلما كان سبيل الفعل الذي لا يعتمد به الإنسان الفاعل غيره أن لا يكون له مفعول وجب أن لا يقول : ضربتني ، وشتمتني ، ولما كان الفعل الذي يعتمد به غيره في مقاصد الناس وعاداتهم قد يعرض فيه أن يعتمد الفاعل نفسه على سبيل ما كان يعتمد غيره أتوا بلفظ النفس ، وأضافوه إليه فقالوا : ضربت نفسك ، وضرب زيد نفسه ، وشبّهوه من جهة اللفظ لا المعنى ب (ضرب زيد غلامه) لأنّ المضاف في الأصل ليس بالمضاف إليه ، فجعلوا نفسه في حكم اللفظ كأنها غيره.

وبعض النحويين ذكر أنه مما يمنع تعدّي الفعل إلى فاعله : دخول اللّبس الكلام ؛ لأنه إذا قال : ضربتني وضربتك ، فأوقعت فعلك على نفسك ، وفعل من تخاطبه على نفسه ، لزمك في الغائب أن تقول : ضربه ، فتوقع فعل الغائب على نفسه بالكناية ، فلا يعلم لمن (الهاء)؟ للّذي خبّرت عنه بالفعل أو لآخر؟ فيدخل الكلام اللّبس ، فإذا قلت : ضرب نفسه بان لك ؛ لأنك لم تعن نفس غيره ، فلهذا ما أدخلت النفس ، ولم يقع موقعها المكنيّ.

وأما حسبتني ، وأظنّني ، وأجدنني ووجدتني أفعل كذا ، ورأيتني من رؤية القلب ، وما جرى مجرى ذلك مما ذكره سيبويه من الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين ، ولا يجوز الاقتصار على أحدهما ، مما أصله مبتدأ وخبر ، فإنما جاز ذلك فيهن ؛ لأنّ المقصود بهذه الأفعال : المفعول الثاني ، وليس للأول في الفعل نصيب ؛ لأنك إذا قلت : حسبت زيدا منطلقا ، فالمحسبة لم تقع على زيد ، وإنما وقعت على الانطلاق ، وكان الضمير المتصل أخفّ في اللفظ من المنفصل ومن النفس ، فاستعملوا الأخفّ فيه.

وقد جاء في فعلين سوى هذه الأفعال تعدّي فعل الفاعل إلى ضميره وهو : فقدتني ، وعدمتني ، وإنما جاز ذلك لأنه محمول على غير ظاهر الكلام وحقيقته ؛ لأن الفاعل لا بد من أن يكون موجودان وإذا عدم نفسه صار عادما معدوما ، وذلك محال.

وإنما جاز ذلك لأن الفعل له في الظاهر ، والمعنى لغيره ؛ لأنه يدعو على نفسه بأن يعدم ، فكأنه قال : عدمني غيري ، قال جران العود :

لقد كان لي عن ضرتين عدمتني

وعن ألاقي منهما متزحزح

هما الغول والسّعلاة حلقي منهما

مخدّش ما بين التّراقي مكدّح (١)

__________________

(١) البيت في ديوانه ٤ ، والخزانة ١٠ / ١٩ ؛ وابن يعيش ٧ / ٨٨.

١٣٠

وباقي ما ذكره مفهوم.

هذا باب علامة إضمار المنصوب المتكلم ، والمجرور المتكلم

قال سيبويه : " اعلم أن علامة المنصوب المتكلم (ني) ، وعلامة المجرور المتكلم الياء. ألا ترى أنك تقول إذا أضمرت نفسك وأنت منصوب : " ضربني ، وقتلني ، وإنني ، ولعلني".

وتقول إذا أضمرت نفسك مجرورا : " غلامي ، وعندي ، ومعي".

فإن قلت : ما بال العرب قد قالت : (إني ، وكأني ولعلي ، ولكني) فإنه زعم أن هذه الحروف اجتمع فيها أنّها كثيرة في كلامهم ، وأنّهم يستثقلون في كلامهم التّضعيف ، فلمّا كثر استعمالهم إياها مع تضعيف الحروف حذفوا التي تلي الياء.

فإن قلت : لعلّي ليست فيها نون ، فإنه زعم أن اللام قريب من النون ، وهو أقرب الحروف من النون. ألا ترى أنّ النّون تدغم مع اللام حتى تبدل مكانها لام ؛ وذلك لقربها منها ، فحذفوا هذه النون كما يحذفون ما يكثر استعمالهم إياه.

وسألته عن" الضّاربي" فقال : هذا اسم ، ويدخله الجر ، وإنما قالوا في الفعل : ضربني كراهية أن يدخلوا الكسر في هذه الباء ، كما يدخل الأسماء ، فمنعوه هذا أن يدخله كما منع الجرّ.

فإن قلت فقد تقول : اضرب الرجل فتكسر ، فإنّك لم تكسرها كسرا يكون للأسماء ، إنّما يكون هذا لالتقاء الساكنين ، وقد قالت الشعراء : " ليتى" إذا اضطرّوا ، كأنهم شبّهوه بالاسم حيث قالوا : " الضاربي" والمضمر منصوب.

قال زيد الخيل :

كمنية جابر إذ قال ليتي

أصادفه ويذهب بعض مالي (١)

وسألته عن قولهم : (عني ، وقطني ، ومني ، ولدني) فقلت : ما بالهم جعلوا علامة المجرور هاهنا كعلامة المنصوب؟

فقال : إنه ليس من حرف تلحقه ياء الإضافة إلا كان متحرّكا مكسورا ، ولم يريدوا أن يحرّكوا الطّاء التي في قط ، ولا النون التي في من ، فلم يكن بدّ من أن يجيئوا

__________________

(١) البيت في ديوانه ٨٧ ؛ الخزانة ٥ / ٣٧٥ ؛ ابن يعيش ٣ / ٩٠ ، ١٢٣ ؛ الكتاب ٢ / ٣٧٠ ؛ المقتضب ١ / ٢٥٠.

١٣١

بحرف لياء الإضافة متحرك ؛ إذ لم يريدوا أن يحرّكوا الطاء ، ولا النونات ؛ لأنها لا تذكر أبدا إلا وقبلها حرف متحرك مكسور ، وكانت النون أولى ؛ لأن من كلامهم أن تكون النّون والياء علامة المتكلم ، فجاءوا بالنون ؛ لأنها إذا كانت مع الياء لم تخرج هذه العلامة من علامات الإضمار ، وكرهوا أن يجيئوا بحرف غيره فيخرجه من علامات الإضمار.

وإنما حملهم على أن لم يحركوا الطاء والنونات كراهية أن تشبه الأسماء نحو : يد ، وهن.

وأما ما يتحرّك آخره فنحو مع ، ولد كتحريك أواخر هذه الأسماء ؛ لأنه إذا تحرك آخره فقد صار كأواخر هذه الأسماء. فمن ثمّ لم يجعلوها بمنزلتها ، فمن ذلك : معي ، ولدي في مع ولد.

وقد جاء في الشعر : قدي.

قال الشاعر :

قدني من نصر الخبيبين قدي (١)

لما اضطر شبّهه بحسبي وهني ؛ لأن ما بعد حسب وهن مجرور ، كما أنّ ما بعد قط مجرور ، فجعلوا علامة الإضمار فيهما سواء ، كما قالوا : ليتي حيث اضطروا.

وسألناه عن : إلي ، ولدي ، فقلنا : هذه الحروف ساكنة ولا نرى النون دخلت عليها؟

فقال : من قبل أنّ الألف التي قبلها حرف مفتوح ، والياء التي قبلها حرف مكسور لا تحرّك في كلامهم واحدة منهما لياء الإضافة ، ويكون التحريك لازما لياء الإضافة.

فلما علموا أن هذا الموضع ليس لياء الإضافة عليه سبيل بتحريك ، كما كان لها السبيل على سائر حروف المعجم لم يجيئوا بالنون ؛ إذ علموا أن الياء في هذا الموضع والألف ليست من الحروف التي تتحرك لياء الإضافة.

ولو أضفت إلى الياء الكاف التي تجرّ بها لقلت : ما أنت كي ؛ لأنها متحركة ، كما أن أواخر الأسماء متحركة ، وهي تجر كما أنّ الأسماء تجر.

__________________

(١) البيت منسوب لأبي نخيلة ، في الخزانة ٥ / ٣٨٢ ، ٣٨٣ ؛ ابن يعيش ٣ / ١٢٤ ؛ الكتاب ٢ / ٣٧١.

١٣٢

وأمّا قط ، ولدن ، وعن فإنهن تباعدن من الأسماء ، ولزمهنّ ما لا يدخل الأسماء المتمكنة ، وهو : السكون فإنّما يدخل ذلك الفعل نحو : خذ وزن ، فضارعت الفعل وما لا يجرّ ، وهو ما أشبه الفعل ، فأجريت مجراه ولم يحرّكوه".

قال أبو سعيد : اعلم أن (ني) في ضمير المنصوب النون فيه زائدة ، والضمير الياء ، والنون مجتلبة لعلّة ؛ وهي أنهم حرسوا أواخر الأفعال من دخول كسرة عليها ؛ لتباعد الأفعال من الجر ، والكسرة لفظها لفظ الجر ، وذلك أن ياء المتكلم يكسر ما قبلها إذا كان مما يحرك ، فلما كرهوا كسر الفعل وآثروا سلامة لفظه أدخلوا قبل الياء نونا تقع عليها الكسرة التي تحدثها الياء ، وذلك قولك : ضربني ويضربني وأكرمني ويكرمني ، وأدخلوا النون أيضا فيما كان من الفعل المعتل الذي لا يتحرك آخره كقولك : أعطاني يعطيني ويدعوني ويخشاني ، ونحو ذلك ؛ لأن النون لمّا لزمت في جميع الأفعال الصحيحة لما ذكرناه صار لفظ النون مع الياء كأنه الضمير.

وأيضا فإن من المعتل ما في آخره واو ساكنة ك (يدعو ويعدو) ، وإذا دخلت الياء وجب قلب الواو ياء ، كما يجب في الأسماء إذا قلت : هذه عشري ، وهؤلاء ضاربي ، والأصل : عشروي وضاربوي. وقد بين سيبويه أن دخول النون في الفعل إنما هو لكراهية الكسر في الفعل ، ومنعهم إياه الكسر ، كما منعوه الجر بقوله : وإنما قالوا في الفعل : ضربني ويضربني ؛ كراهية أن يدخلوا الكسر في هذه الباء كما يدخل الأسماء ، فمنعوه أن يدخله كما منع ...

وأجاب من عارضه بكسرة : اضرب الرّجل ، بأنها كسرة تحدث لالتقاء الساكنين ولا يعتدّ بها.

ولما أجريت إنّ وأخواتها مجرى الفعل لزمها من علامة الضمير ما يلزم الفعل ، إلا أنّ العرب قد تكلمت فيها بإسقاط النون منها ، وأكثر ذلك في : إنّ ، وأنّ ، وكأن ، ولعل ، فقالوا : إنّني ، وإنّي ، وكأنني ، وكأني ، ولعلني ، ولعلي ، وفي علة حذفها أقاويل للنحويين.

فأما سيبويه فاعتلّ لحذفها أنها كثرت في كلامهم ، ولاجتماع النونات ، وهم مستثقلون التضعيف ، ولعل وإن لم يكن آخرها نونا فإن اللام قريب من النون ، ولقربها من النون تدغم النون فيها ، ولا تدغم في النون غير اللام من بين الحروف.

وأما ليت فلم يكن في آخرها نون ولا حرف يشبه النون ويقرب منها ، فلزمتها النون فقالوا : ليتني ، وقلّ في كلامهم ليتي ، إلا عند الضرورة.

وجواز الحذف مع ذلك في هذه الحروف ؛ لأنها وإن كانت مشبّهة ليست بأفعال ،

١٣٣

وهي حروف ، والحروف تأتي بالنون والياء ، وبالياء وحدها ، فالنون والياء نحو : مني وعني ، والياء وحدها نحو : لي وبي.

والأسماء المبنية على السكون كذلك تجيء على الوجهين ، وقد عرّفتك أن سبب دخول النون في الفعل التماس سلامة بنائه ، لا لاختصاص النون بالنصب. وستقف على أكثر من ذلك في الباب إن شاء الله تعالى ..

وأما الفراء فإنه اعتل لسقوط النون في : إنّ ، وكأن ، ولعل بأنها لم تخرج على لفظ الفعل ، يعني : بنية الفعل ، وأنّ ليت لما خرج على وزن الفعل قوي فيها إثبات النون. ووزن الفعل الذي عناه في ليت أنّ أوله مفتوح ، وثانيه ساكن ، وثالثه مفتوح ، وهو يشبه الفعل الماضي المعتل العين نحو : باع ، وكال.

قال أبو سعيد : يلزمه على هذا الاعتدال أن يلزم في أنّ المفتوحة النون أكثر من لزومها في ليت ؛ لأن ما يوجد من أمثلة أنّ في الفعل أكثر مما يوجد من أمثلة ليت ؛ لأن أنّ لفظها فعل : أنّ يئنّ ومثله من المضاعف من نحو : ردّ ، وعضّ ما لا يحصى كثرة ، وقد اعتلّوا لحذف ذلك بأشياء لم يكن في ذكرها طائل.

وجملة الأمر أنّ الأسماء المتحركة الأواخر متى اتّصل بها ضمير المتكلم المنصوب أو المخفوض كان : ياء لا نون معها ، وكسرت الياء ما قبلها.

فأمّا المنصوب فنحو : الضّاربي والمكرمي ؛ الياء فيهما في موضع نصب ، كما تقول : الضارب زيدا ، وأما المخفوض فنحو : معي ، ولدي ، وأنت كي إذا أردت : أنت مثلي ، وحسبي ، ونحو ذلك.

وأما ما كان من الأسماء آخره ساكن فهو على ضربين :

أحدهما : أن يكون ذلك الساكن ياء أو ألفا.

والآخر : أن يكون الساكن غير الياء والألف.

فأمّا الياء والألف فلا تدخل عليهما النون. فالياء. نحو قولنا : قاضي ، وعشري ، ورأيت غلامي. وأما الألف فنحو : هواي ، وعصاي ، وكلّ مقصور من الأسماء كذلك.

وإن كانت الألف في آخر حرف أو اسم غير متمكّن فكذلك ، إلّا أنّ الألف تقلب ياء نحو : إلي ، ولدي ، وعلي. تقول : إلي ، ولدي ، وعلي ؛ لعلّة ذكرت في موضعها من الشرح.

وإنما لم تدخل النون في ذلك لأنّ الألف والياء لا يكسران لياء الإضافة ، ولا يزولان عن السكون معها ، فاستغنوا عن النون التي تكون وقاية للكسر.

وأما ما كان ساكنا في أواخر الأسماء من غير الألف والياء فبعض قد جاء بالنون

١٣٤

والياء ، وبعض قد جاء بالياء وحدها على ما بيّن سيبويه من ذلك وشرحه.

وقد ذكر الكوفيّون في فعل التعجب إسقاط النون : ما أقربي منك ، وما أحسني ، وما أجملي ، وهم يعنون : ما أحسنني ، وأجملني. وما ذكر البصريّون من هذا شيئا ، ولست أدري أعن العرب حكوا هذا؟ أم قايسوه على مذهبهم في : ما أفعل زيدا ؛ لأنه اسم عندهم في الأصل.

وقد احتج سيبويه لقطني ، ولدني ، وعنّي ، ومنّي ، أنهم لم يحركوا الطاء والنونات كراهية أن تشبه الأسماء نحو : يد ، وهن ، وقد بيّنا أنّ الاسم الذي آخره متحرك بإعراب أو بناء أنه إذا اتصل به ياء المتكلم كسر آخره ، ويد ، وهن من الأسماء المعربة المتحركة الأواخر. وهن عبارة عن كل اسم منكور ، كما أن قولنا : فلان عبارة عن كل اسم علم ممّا يعقل. وكلام سيبويه في باقي الباب مفهوم.

هذا باب ما يكون مضمرا فيه الاسم متحولا عن حاله إذا

أظهر بعده الاسم

قال سيبويه : " وذلك لولاك ولولاي ، إذا أضمر فيه الاسم جرّ ، وإن أظهر رفع. ولو جاء الإضمار على القياس لقلت : لو لا أنت ، كما قال تعالى : (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) [سبأ : ٣١] ؛ ولكنهم جعلوه مضمرا مجرورا.

والدليل على ذلك أنّ الياء والكاف لا يكونان علامة مضمر مرفوع.

قال يزيد بن الحكم بن أبي العاص :

وكم موطن لولاي طحت كما هوى

بأجرامه من قلّة النّيق منهوي (١)

وهذا قول الخليل ويونس.

وأما قولهم : عساك فالكاف منصوبة. قال الراجز ، وهو رؤبة :

يا أبتا علّك أو عساكا (٢)

والدليل على أنها منصوبة أنك إذا عنيت نفسك كانت علامتك ني. قال عمران بن حطّان :

__________________

(١) البيت في ديوانه ، الخزانة ٥ / ٣٦ ، ٣٣٧ ؛ ابن يعيش ٣ / ٧٨ ؛ الكتاب ٢ / ٣٧٤ ؛ تاج العروس (جرم) ؛ المقتضب ٣ / ٧٣.

(٢) البيت في ديوانه ١٨١ ، الخزانة ٥ / ٣٦٢ ، ٣٦٧ ، ٣٦٨ ؛ وابن يعيش ٢ / ١٢ ، ٣ / ١٢٠ ؛ الكتاب ٢ / ٣٧٥.

١٣٥

ولي نفس أقول لها إذا ما

تنازعني لعلّى أو عساني (١)

فلو كانت الكاف مجرورة لقال : عساي ، ولكنهم جعلوها بمنزلة لعل في هذا الموضع.

فهذان الحرفان لهما في الإضمار هذه الحال ، كما كانت للدن حال مع غدوة ليست مع غيرها ، وكما أنّ لات إذا لم تعملها في الأحيان لم تعملها فيما سواها ، فهي معها بمنزلة ليس ، فإذا جاوزتها فليس لها عمل.

ولا يستقيم أن تقول : وافق الرفع الجرّ في لولاي ، كما وافقه النصب إذا قلت : معك ، وضربك ؛ لأنك إذا أضفته إلى نفسك فالجرّ مفارق للنصب في غير هذه الأسماء. تقول : معي ، وضربني ، ولا تقول : وافق الرفع النصب في : عساني كما وافق النصب الجرّ في ضربك ، معك ؛ لأنهما إذا أضفت إلى نفسك اختلفا.

وزعم ناس أنّ موضع الياء في لولاي وفي عساني في موضع رفع ؛ جعلوا لولاي موافقة للجرّ ، وني موافقة للنصب ، كما اتّفق النصب والجرّ في الهاء والكاف. وهذا وجه رديء لما ذكرت لك ؛ ولأنك لا ينبغي أن تكسر الباب وهو مطّرد ، وأنت نجد له نظائر. وقد يوجّه الشيء على الشيء البعيد إذا لم يوجد غيره. وربما وقع ذلك في كلامهم ، وقد بيّن بعض ذلك ، وستراه فيما يستقبل إن شاء الله تعالى".

قال أبو سعيد : قد تقدّم فيما سلف من الكتاب أنّ الاسم الظاهر بعد لو لا مرفوع بالابتداء على مذهب سيبويه وغيره من البصريين ؛ فينبغي إذا كنّي عنه أن يكون مضمرا منفصلا ، فيقال فيه : لو لا أنت ، ولو لا أنتما ، ولو لا أنتم ، ولو لا أنا ، ولو لا نحن ، ولو لا هو ، ولو لا هما ، ولو لا هم ، ولو لا هن ، ونحو ذلك ؛ لأن سبيل المضمر سبيل الظاهر في موضعه من الإعراب ، وهذا هو الشائع الكثير في كلام العرب. قال الله عزوجل : (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) [سبأ : ٣١] ، وقال عامر بن سيّار بن الأكوع وهو يحدو برسول الله :

لا همّ لو لا أنت ما اهتدينا

ولا تصدّقنا ولا صلّينا

فألقين سكينة علينا

وثبّت الأقدام إن لاقينا (٢)

وقال الكسائي : يرتفع الاسم بعد لو لا بشيء مضمر معناه : لو لم يكن ، وفرّع على

__________________

(١) البيت في ديوانه ، الخزانة ٥ / ٣٣٧ ، ٣٤٩ ؛ ابن يعيش ٣ / ١٠ ، ١٢ ؛ الكتاب ٢ / ٣٧٥ ؛ المقتضب ٣ / ٧٢.

(٢) البيت في ديوانه ، ابن يعيش ٣ / ١١٥ ؛ الكتاب ٣ / ٥١١ ؛ المقتضب ٣ / ١٣.

١٣٦

هذا النحو. حتى قال : لو لا رأسك مدهونا لغسلته. والقياس والاختيار إذا أضمرته عندهم أن تقول : لو لا أنا ، ولو لا نحن ، ولو لا أنت ؛ لأنه لم يظهر فعل متصل به كناية المرفوع.

ثمّ أجمع النحويون المتقدمون من البصريين والكوفيين على الرواية عن العرب : لولاك ، ولولاي.

فأما سيبويه : فأنشد بيت يزيد بن الحكم الثقفي الذي ذكرناه ، واستشهد به أيضا الكسائي ، وذكر معه بيتين آخرين من القصيدة وهما :

فليت كفافا كان خيرك كلّه

وشرّك عنّي ما ارتوى الماء مرتوي

تكاشرنى كرها كأنّك ناصح

وعينك تبدي أنّ قلبك لي دوى (١)

واستشهد الفراء أيضا بهذا البيت وبيت آخر :

أتطمع فينا من أراق دماءنا

ولولاك لم يعرض لأحسابنا حسن (٢)

وأنشد فيه أيضا :

 ...

لولاك هذا العام لم أحجج (٣)

وكان أبو العباس المبرّد ينكر لولاي ولولاك ، ويزعم أنّه خطأ لم يأت عن ثقة ، وأنّ الذي استغوا هم بيت الثقفي ، وأنّ قصيدته فيها خطأ كثير.

قال أبو سعيد : وما كان لأبي العباس أن يسقط الاستشهاد بشعر رجل من العرب قد روى قصيدته النحويون وغيرهم ، واستشهدوا بهذا البيت وغيره من القصيدة ، ولا أن ينكر ما أجمع الجماعة على روايته عن العرب.

ثم اختلف النحويون بعد في موضع الياء والكاف من : لولاي ولولاك ، بعد إجماعهم على روايته.

فقال سيبويه : موضعه جر ، وحكاه عن الخليل ويونس.

وقال الأخفش ، وهو قول الفرّاء أيضا : الكاف والياء في لولاك ولولاي في موضع رفع.

واستدل سيبويه على قوله أن الياء والكاف لا يكونان علامة مضمر مرفوع ، وأن

__________________

(١) البيت في ديوانه ، الخزانة ١ / ٤٩٦ ، ٤ / ٣٩٠ ، ١٠ / ٤٧٢ ؛ ابن يعيش ٣ / ١١٩.

(٢) البيت في ديوانه ، الخزانة ٥ / ٣٤٢ ؛ ابن يعيش ١٢٠.

(٣) البيت منسوب لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ٤٨٧ ؛ والخزانة ٥ / ٣٣٣ ، ٣٣٩ ؛ ابن يعيش ٣ / ١١٩ ، ١٢٠.

١٣٧

لو لا في عملها الخفض في المكني وإن كانت لا تعمل في الظاهر الخفض بمنزلة عمل عسى في المكني النصب ، وإن كانت لا تعمل في الظاهر إلا الرفع ؛ فعملها النصب في المكني قوله :

... علّك أو عساكا

الكاف في عساك مثلها في علّك ، وأنت لا تقول في المظهر : عسى زيدا كما تقول : لعل زيدا ، واستدل على أن الكاف في عساك في موضع نصب بقول عمران :

... لعلّى أو عساني

ولا تدخل النون والياء بعد الألف إلا على منصوب ، وقول سيبويه : فهذان الحرفان لهما في الإضمار هذه الحال يعني : لولاك وعساك لهما اختصاص ؛ فالضمير يخالف الظاهر.

وقوله : كما أنّ لدن حالا مع غدوة ليست مع غيرها ، وكما أن لات إذا لم تعملها في الأحيان لم تعملها فيما سواها ؛ فهي معها بمنزلة ليس ، فإذا جاوزتها فليس لها عمل.

يعني أن هذين الحرفين : لولاك وعساك ، في اختصاصهما مع المضمر بهذين الضّربين من تقدير الخفض والنصب دون المظهر ، بمنزلة لدن في حالها مع غدوة وعملها فيها النصب دون أن تعمل النصب مع غيره غدوة ، وبمنزلة عمل لات في الأحيان النصب والرفع دون أن تعمل ذلك في غير الأحيان.

وردّ سيبويه على من زعم أنّ موضع الياء والكاف في لولاي ولولاك رفع ، وأنّ الرفع وافق الجر في لولاي كما وافقه النصب إذا قلت : معك ، وضربك ؛ لأنك إذا أضفت إلى نفسك فالجرّ مفارق للنصب في غير هذه الأسماء. تقول : معي ، وضربني. أراد سيبويه بهذا الاحتجاج أنه لو كان الرفع محمولا على الجر في لولاك لفصل بين اللّفظين في المتكلم فقيل : لولاني ، كما فعل في النصب حين وافقه الجرّ في معك ، وضربك ، ثم خالفه في معي ، وضربني.

وأما الحجة في جعل الياء والكاف في لولاي ، لولاك في موضع رفع ؛ فلأن الظاهر الذي وقعت الياء والواو موقعه رفع.

واحتج الأخفش في ذلك بأنّ علامة الجرّ دخلت على الرفع في لولاي ، كما دخلت علامة الرفع على الجر في قولهم : ما أنا كأنت ؛ فأنت من علامات المرفوع ، وهو هاهنا في موضع مجرور ، وكذلك الياء والكاف من علامات المجرور ، وهما في لولاي ، ولولاك من علامات المرفوع.

وأما الفرّاء فإنه احتج في ذلك بأنّا لم نجد حرفا ظاهرا خفض ، فلو كانت لو لا مما

١٣٨

يخفض لأوشك أن ترى ذلك في الشعر ؛ لأنّ الشعر الذي يأتي بالمستجاز. قال : وإنما دعاهم إلى أن يقولوا : لولاك في موضع الرفع ؛ لأنهم يجدون المكني يستوي لفظه في الخفض والنصب فيقال : ضربتك ، ومررت بك ، ويجدونه يستوي أيضا في الرفع والخفض والنصب ، فيقال : ضربنا ، ومرّ بنا ، فيكون النصب والخفض بنون ، ثم يقال : قمنا ، وفعلنا ، فيكون الرفع بالنون. فلما كان ذلك استجازوا أن تكون الكاف في موضع (أنت) رفعا ، وكان إعراب المكني بالدّلالات لا بالحركات.

فإن قال قائل : حروف الخفض هي صلات للأفعال ، فإذا جعلتم لو لا خافضة للياء والكاف ففي صلة أي شيء تجعلونها؟

قيل له : قد تكون حروف الجر في موضع مبتدإ ، ولا تكون في صلة شيء كقولك : بحسبك زيد ، ومعناه : حسبك زيد ، وقولك : هل من أحد عندك؟ وإنما هو : هل أحد عندك ؛ فموضعها رفع بالابتداء ، وإن كانت قد عملت الجرّ. وكذلك لو لا إذا عملت الجرّ صارت بمنزلة الباء في : بحسبك ، ومن في : هل من أحد ، وتكون لولاك ولولاي بأسرها بمنزلة بحسبك ، ومن أحد. ونظير هذا ما روي من خفض (لعل) لما بعدها ؛ فإذا خفضت ما بعدها كانت هي وما بعدها بمنزلة اسم مبتدأ وما بعدها خبر ، وفيما قرأنا على أبي بكر بن دريد ، أو أنشدناه :

وداع دعايا من يجيب إلى النّدى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

فقلت ادع أخرى وارفع الصوت دعوة

لعل أبي المغوار منك قريب (١)

وأما عساك ، وعساني ففيه ثلاثة أقاويل :

أحدها : قول سيبويه وهو أنّ عسى حرف بمنزلة لعلّ ينصب ما بعدها الاسم ، والخبر مرفوع في التقدير وإن كان محذوفا. كما أنّ علّك في قولك : علّك أو عساك خبره محذوف مرفوع ، والكاف اسمها ، وهي منصوبة. واستدلّ على نصب الكاف في عساك بقول عمران : عساني ، والنون والياء فيما آخره ألف لا تكون إلا للنّصب.

والقول الثاني : قول الأخفش أنّ الكاف والنّون والياء في موضع رفع ، وحجّته : أنّ لفظ النّصب استعير للرفع في هذا الموضع كما استعير له لفظ الجرّ في : لولاي ، ولولاك.

والقول الثالث : قول أبي العبّاس المبرّد : أنّ الكاف والنّون والياء في عساك ، وعساني

__________________

(١) البيت في ديوانه ، الخزانة ١٠ / ٤٢٦ ، ٤٢٨ ؛ لسان العرب وتاج العروس (جوب).

١٣٩

في موضع نصب ب (عسى) وأنّ اسمها مضمر فيها مرفوع ، وجعله كقولهم : (عسى الغوير أبؤسا).

وحكي عنه أيضا أنه قدّم فيها الخبر لأنها فعل ، وحذف الفاعل لعلم المخاطب ، كما قالوا : ليس إلا ، وليس فعل صحيح لا يدخله الاختلاف بوجه من الوجوه ، وباقي الباب مفهوم.

هذا باب ما يحسن أن يشرك المظهر المضمر فيما عمل فيه ،

وما يقبح أن يشرك المضمر

فيما عمل فيه

قال سيبويه : " أمّا ما يحسن أن يشركه المظهر فهو المضمر المنصوب ، وذلك : رأيتك وزيدا ، وإنّك وزيدا منطلقان.

وأما ما يبح أن يشاركه المظهر فهو المضمر المرفوع ، وذلك : فعلت وعبد الله ، وأفعل وعبد الله.

وزعم الخليل أن هذا إنما قبح من قبل أنّ هذا الإضمار يبنى عليه الفعل ، فاستقبحوا أن يشرك المظهر مضمرا يغيّر الفعل فيه عن حاله إذ بعد شبهه منه.

وإنما حسنت شركته المنصوب لأنه لا يغيّر فيه الفعل عن حاله التي كان عليها قبل أن يضمر ، فأشبه المظهر وكان منفصلا عندهم بمنزلة المظهر ، إذ كان الفعل لا يتغّير عن حاله قبل أن يضمر فيه.

وأما فعلت فإنهم قد غيّروه عن حاله في الإظهار ؛ أسكنت فيه اللام ، فكرهوا أن يشرك المظهر مضمرا يبنى له الفعل على غير بنائه في الإظهار حتى صار كأنه شيء في كلمة لا يفارقها كألف أعطيت.

فإن نعتّه حسن أن يشركه المظهر ، وذلك قولك : ذهبت أنت وزيد ، وقال تعالى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا)(١) ، (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)(٢). وذلك أنك لمّا وصفته قوي الكلام حيث طوّله وأكّده ، كما تقول : قد علمت أن لا تقول ذاك ، فإن أخرجت (لا) قبح الرفع. ف (أنت) تقوّي ، وتصير عوضا من السّكون والتغيير

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٢٤.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٣٥.

١٤٠