شرح كتاب سيبويه - ج ٣

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٣

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

إنّ الكريم وأبيك يعتمل

إن لم يجد يوما على من يتّكل (١)

وفيه وجهان : أحدهما يعتمل على من يتكل عليه ، معناه إنه يحترف ويعمل بيديه على محتاج إليه ، أو عيال له يتكل عليه إن لم يصب مالا يعولهم به ، وينفق عليهم منه ، فكرمه يحمله على أن يعمل بيديه حتى ينفق عليهم منه ، والآخر ما ذكره الزجاج ، وذلك أنه جعل عليه معنى عنده ، وجعل الذي يعتمل على نفسه إذا لم يجد عند من يتكل عليه شيئا ينفقه على نفسه أو عياله ، اعتمل حتى ينفق ، والمعتمل في هذا غير المتكل عليه ، وفي القول الأول هو المتكل عليه ، والقول الأول أوضح وأقرب ، وغير سيبويه يذهب إلى أن الكلام قد تم عند قوله : إن لم يجد يوما.

وقوله : على من يتكل كلام مستأنف على جهة الاستفهام ، وليس في هذا الكلام محذوف يقدّر ، وقول سيبويه أولى ، لأن الظاهر كلام واحد ، ولا يفرد بعضه عن بعض إلا بدلالة ، وأصل الكلام فيه. ألا يحذف الحرف الذي يقتضيه أحد الفعلين لذكره في الآخر ، لأن لكل واحد من الفعلين حكم نفسه وباقي الباب مفهوم.

هذا باب الجزاء إذا دخلت فيه ألف الاستفهام

وذلك قولك : أإن تأتني آتك ، ولا تكتفي بمن لأنها حرف جزاء ، ومتى مثلها ؛ فمن ثمّ أدخلت عليه الألف ، تقول : أمتى تشتمني أشتمك وأ من يقل ذاك أزره ، وذلك لأنك أدخلت الألف على كلام قد عمل بعضه في بعض فلم تغيرّه ، وإنما الألف بمنزلة الواو والفاء ولا ونحو ذلك لا يغيرّ الكلام عن حاله ، وليست كإذ وهل وأشباههما ألا ترى أنها تدخل على المجرور والمنصوب والمرفوع فتدعه على حاله ولا تغيّره عن لفظه المستفهم ، ألا ترى أنه يقول : مررت بزيد ، فتقول : أزيد ، وإن شئت قلت : أزيد تأتيه ، وكذلك تقول في الرفع والنصب ، وإن شئت أدخلتها على كلام المخبر ، ولم تحذف منه شيئا ، وذلك إذا قال : مررت بزيد ، قلت : أمررت بزيد ، ولا يجوز ذلك في هل وأخواتها.

لو قلت : هل مررت بزيد ، كنت مستأنفا ، ألا ترى أن الألف لغو ، فإن قيل : فإن الألف لا بد لها من أن تكون معتمدة على شيء ، فإن هذا الكلام معتمد لها ، كما يكون صلة للذي إذا قلت : الذي إن تأته يأتك زيد ، فهذا كله وصل.

__________________

(١) البيت سبق تخريجه.

٢٨١

فإن قال : الذي إن تأته يأتيك زيد ، واجعل يأتيك صلة الذي لم يجد بدا من أن يقول : أنا إن تأتني آتيك ؛ لأن أنا لا يكون كلاما حتى يبنى عليه شيء وأما يونس ، فيقول : أإن تأتني آتيك ، وهذا قبيح يكره في الجزاء.

وإن كان في الاستفهام ، وقال الله تعالى ـ : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ)(١) ولو كان ليس موضع جزاء قبح (إن) كما تقبح أن تقول : أتذكر إن تأتني آتيك ، فلو قلت : إن أتيتني آتيك على القلب كان حسنا.

قال أبو سعيد : ألف الاستفهام تدخل على الجمل ، وتدخل بين العامل والمعمول فيه ، ولا تعمل هي شيئا ، فأشبهت واو العطف ، وفائه التي يكون بعدها المبتدأ والخبر ، والفعل والفاعل ، والشرط والجزاء ، وأشبهت أيضا (لا) التي تدخل على الجمل ، وبين العامل والمعمول فيه ، وهي لا تعمل شيئا ، كقولنا : لا زيد منطلق ولا عمرو شاخص ، ومررت برجل لا ذاهب ولا شاخص ، وهذا غلام لا شجاع ولا جواد ، وقد تقدم ذكر المجازاة بعد (لا).

وتقول : بكم رجلا مررت أثلاثة أم أربعة فلا تمنع الألف خفض ما بعدها بما قبلها ، وإذا قال القائل : مررت بزيد ، فقيل له : أزيد ، فهذا المخفوض محمول على الكلام الأول.

وفصل سيبويه بين ألف الاستفهام وبين هل بما ذكره في الألف مما ليس في هل ، وقوله : ((ألا ترى أن الألف لغو)) يريد دخولها بين العامل والمعمول فيه ، كدخول ما ، ولا في قول الله ـ تعالى ـ : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ)(٢).

وأما قول سيبويه : ((إن هذا الكلام معتمد لها)) يعني ما بعد ألف الاستفهام من الشرط والجزاء معتمد لها ، كما يعتمد على الابتداء والخبر في قولك : أزيد منطلق ، وكما يعتمد الذي في صلتها على الشرط والجزاء ، والابتداء والخبر ، إلا أن (الذي) يحتاج إلى عائد ، لأنها اسم وألف الاستفهام لا تحتاج إلى العائد ، ولا يحسن أن تقول : الذي إن تأته يأتيك زيد ، كما لا يحسن أنا إن تأتني آتيك ، لأنك إن قدرت الفاء في آتيك ، فحذفها قبيح ، وإن قدرت تقديمها فجزم تأتيني قبيح وليس بعدها جواب ، وحسن هذا وقبحه وهو في الصلة ، أو في موضع خبر مبتدإ كحسنه وقبحه لو كان مبتدأ ، إذا قلت إن تأتني آتيك

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٣٤.

(٢) سورة النساء ، الآية : ١٥٥.

٢٨٢

ولا فصل بينهما ؛ ولهذا قبّح سيبويه ما قاله يونس : أإن تأتني آتيك ، لأن يونس أجاز هذا مع ألف الاستفهام ، وهو قبيح إذا لم تكن قبله ألف الاستفهام ، فقبّحه سيبويه لأن ألف الاستفهام لا تغير المجازاة عن حكمها ، كما لا تغير (الذي) ، والابتداء حكم المجازاة بعدهما ، وقول الله ـ عزوجل ـ : (أَفَإِنْ مِتَ) [الأنبياء : ٣٤] شاهد لحسن المجازاة بمن وأخواتها بعد ألف الاستفهام ، كما أن فتح إن بعد إذ في : أتذكر إذ أن تأتني آتيك ، موجب قبح أتذكر إذ من يأتنا نأته ، ولو جعلت الفعل بعد أن ماضيا حسن لأنه يصير التقدير : أتذكر إذ آتيك إن أتيتني ، فيكون الذي يلي إذ آتيك ، وهو كلام وباقي الباب مفهوم.

هذا باب الجزاء إذا كان القسم في أوّله

وذلك قولك : والله إن أتيتني لا أفعل ، لا يكون إلا معتمدة عليه اليمين ، ألا ترى أنّك لو قلت : والله إن تأتني آتك لم يجز ولو قلت : والله من يأتني آته كان محالا ، واليمين لا تكون لغوا كلا والألف ، لأن اليمين لآخر الكلام ، وما بينهما لا يمنع الآخر أن يكون على اليمين.

وإذا قلت : أإن تأتني آتك ، فكأنك لم تذكر الألف ، واليمين.

وإذا قلت : أإن تأتني آتك ، فكأنك لم تذكر الألف ، واليمين وإذا قلت : أإن تأتني آتك فكأنك لم تذكر الألف واليمين ليست هكذا في كلامهم ، ألا ترى أنّك تقول : زيد منطلق ، فلو أدخلت اليمين غيّرت الكلام ، وتقول : أنا والله إن تأتني لا آتك ، لأن هذا الكلام مبني على (أنا) ، ألا ترى أنه حسن أن تقول : أنا والله إن تأتني آتك ، والقسم هاهنا لغو ، فإذا بدأت بالقسم لم يجز إلا أن يكون عليه ، ألا ترى أنكّ تقول : لئن أتيتني لا أفعل ذاك لأنها لام قسم ، ولا يحسن في الكلام لئن تأتني لا أفعل ، لأن الآخر لا يكون جزما.

وتقول : والله إن أتيتني آتيك ، وهو معنى لا آتيك ، فإن أردت أنّ الإتيان يكون ، فهو غير جائز ، وإن نفيت الإتيان ، وأردت أنّ المعنى لا آتيك فهو مستقيم ، وأما قول الفرزدق :

وأنتم لهذا الناس كالقبلة التي

بها أن يضلّ الناس يهدى ضلالها (١)

__________________

(١) البيت في ديوانه ٦٢٣ ، والكتاب ٣ / ٨٥.

٢٨٣

ولا يكون الآخر إلا رفعا ، لأنّ (أن) لا يجازى بها ، وإنما هي مع الفعل اسم ، فكأنه قال : لأن يضلّ الناس يهدي ضلالهم. وهكذا أنشد الفرزدق.

قال أبو سعيد : إذا أقسمت على المجازاة ، فالقسم إنما يقع على الجواب ، لأن جواب المجازاة هو إخبار ووعد يقع فيه التصديق والتكذيب والوفاء والإخلاف ، ألا ترى أنك لو قلت :

إن جاء زيد أعطاه عمرو دينارا ، لم يقع لك بمجيء زيد ولا بتأخره تصديق ولا تكذيب ، وإنما يقع لك التصديق والتكذيب بإعطاء عمرو زيدا دينارا ومنعه إياه بعد مجيئه ، والقسم إنما يؤكد الإخبار ، وما ليس بخبر لا يقع عليه القسم ، ألا ترى أنك لا تقول والله هل خرج زيد ، ولا والله قم يا زيد ، ولا والله لا يتكلّم يا عمرو ، ولأن الاستفهام والأمر والنهي بإخبار ، فلما كان القسم معتمدا به الجواب ، بطل الجزم فيه ، فصار لفظه كلفظه لو كان في غير مجازاة ، فتقول : والله إن أتيتني لا أفعل ، كأنك قلت : والله لا أفعل إن أتيتني ، وصار الشرط معلقا على جواب اليمين ، كما يعلق عليه الظرف إذا قلت : والله لا أفعل يوم الجمعة. ويقول والله إن أتيتني آتيك ، على معنى لا آتيك ، لأن جواب اليمين ، لا يجوز إسقاط لامه إذا كان جحدا قال الله ـ عزوجل ـ : (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ)(١) على معنى تالله لا تفتأ تذكر ، وو الله أؤذيك على معنى والله لا أؤذيك ، وإنما جاز إسقاط (لا) منه ، لأنه لا يشكل بالإيجاب ، لأن الإيجاب يحتاج إلى لام ونون ، كقولك : والله لا آتينّك ، وو الله لأخرجنّ.

ولا يجوز إسقاط واحدة من اللام والنون ، فإذا أسقطوا (لا) من الجحد ، علم أنه جحد بسقوط واللام والنون منه ، ويدخلون اللام أيضا على الشرط ، لأنه أول ما يلقى اليمين ، كقولك : والله لئن أتيتني لأكرمنّك ، فإدخالها في الثاني واجب لازم ، لأنه مقصود بالقسم ، وإدخالها في الأول ؛ لأنه صدر الكلام ، والشرط والجواب هما في الأصل جملتان متباينتان ربطهما حرف المجازاة فصارتا كشيء واحد ، فمن أدخل اللام في الأول فلأنهما كجملة واحدة صدرها الشرط ، ثم تعيد في جواب اليمين الحرف الذي يوجبه اليمين ، ومن لم يدخل اللام في الأول اكتفى بدخول علامة جواب اليمين في الموضع الذي هو حقه ، وإن جزمت الشرط فقلت : والله لئن تأتني لا أفعل لم يحسن ، لأن الشرط لا يجزم إذا لم يكن بعده جواب له ، وقولك : لا أفعل هو جواب القسم ، وليس بجواب له ، وقد يسقط

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ٨٥.

٢٨٤

القسم ، ويبقى جوابه له ؛ كقولك : لئن أتيتني لآتينك ، ولئن زرتني لا أترك زيارتك ؛ لأن لفظ جواب القسم قد دل على القسم المحذوف ، فإذا تقدّم القسم شيء ثم أتى بعده المجازاة ، اعتمدت المجازاة على ذلك الشيء ، وألغي القسم ، كقولك : إنا والله إن تأتني لا آتك ، اعتمد إن تأتني لا آتك على (أنا) كأنه ليس بعده القسم ، ألا ترى أنك تقول : زيد والله منطلق ، ولو قلت : والله لزيد منطلق لزمته اللام ، ومثله (إذا) إذا تقدّمت على القسم عملت ، واعتمد الفعل عليها ، كقولك : إذا والله أكرمك ، وإذا والله لأكرمك ، وإن تقدّم اليمين اعتمد الفعل عليها كقولك : والله إذا لأكرمنّك ، وو الله إذا لأكرمك ، وأما بيت الفرزدق قوله :

وأنتم لهذا الناس كالقبلة التي

بها أن يضلّ الناس يهدي ضلالها (١)

فتقديره : التي بها يهدى الضال عنها ، والهاء في ضلالها ترجع إليها ، وأن يضل الناس هو السبب الذي جعل الهدى من أجله ، وقد مضى الكلام في نحوه ، وباقي الباب مفهوم.

هذا باب ما يرتفع بين الجزمين وينجزم بينهما

فأما ما يرتفع بينهما فقولك : إن تأتني تسألني أعطك وإن تأتني تمشي أمش معك ، وذلك لأنك أردت أن تقول : إن تأتني سائلا يكن ذلك ، وإن تأتني ماشيا فعلت ، وقال زهير :

ومن لا يزل يستحمل الناس نفسه

ولا يغنها يوما من الذمّ يذمم (٢)

إنما أراد : من لا يزل مستحملا يكن من أمره كذا وكذا ، ولو رفع يغنها جاز وكان حسنا ، كأنه قال : من لا يزل لا يغني نفسه ومما جاء أيضا مرتفعا قول الحطيئة :

متى تأته تغشو إلى ضوء ناره

تجد خير نار عندها خير موقد (٣)

وسألت الخليل عن قوله :

متى تأتنا المم بنا في ديارنا

تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا (٤)

قال : تلمم بدل من الفعل الأول ، ونظيره من الأسماء :

مررت برجل عبد الله ، فأراد أن يفسّر الإتيان بالإلمام ، كما فسّر الاسم الأول

__________________

(١) البيت سبق تخريجه.

(٢) البيت في ديوانه ٣٢ ، الكتاب ٣ / ٨٥ ؛ المقتضب ٢ / ٦٥.

(٣) البيت منسوب للأعشى في ديوانه ٥١ ، ابن يعيش ٢ / ٦٦ ؛ الكتاب ٣ / ٨٦.

(٤) البيت منسوب للحطيئة ، ابن يعيش ٧ / ٥٣ ؛ الكتاب ٣ / ٨٦.

٢٨٥

بالآخر.

ومثله قوله :

إن يبخلوا أو يجبنوا

أو يغدروا لا يحفلوا

يغدوا عليك مرجّلي

ن كأنهم لم يفعلوا (١)

فقوله يغدوا عليك بدل من لا يحفلوا إن غدوّهم مرجلين.

يفسر أنهم لم يحفلوا.

وسألته هل يكون إن تأتنا تسألنا نعطك فقال : هذا يجوز على غير أن يكون مثل الأول ؛ لأن الأول الفعل الآخر تفسير له وهو هو ، والسؤال لا يكون الإتيان ، ولكنه يجوز على الغلط والنسيان ثم يتدارك كلامه.

ونظير ذلك من الأسماء مررت برجل حمار كأنه نسى ثم تدارك كلامه.

وسألته عن قول الله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ)(٢). فقال : هذا كالأول ؛ لأن مضاعفة العذاب هو لقيّ الآثام.

ومثل ذلك من الكلام إن تأتنا نحسن إليك نعطك ونحملك تفسر الإحسان بشيء هو هو ، وتجعل الآخر بدلا من الأول.

فلو قلت : إن تأتني آتك أقل ذاك كان غير جائز ، لأن القول ليس بالإتيان إلا أن تجيزه على ما جاز عليه تسألنا.

وأمّا ما ينجزم بين المجزومين فقولنا : إن تأتني ثم تسألني أعطك ، وإن تأتني فتسألني أعطك ، وإن تأتني وتسألني أعطك ، وذاك لأن هذه الحروف يشركن الآخر فيما دخل فيه الأول ، وكذلك أو وما أشبههن.

ويجوز في ذا الفعل الرفع ، وإنما كان الرفع في قوله : (متى تأته تعشو) لأنه في موضع عاش ، كأنه قال : متى تأته عاشيا ولو قلت : متى تأته وعاشيا كان محالا. وإنما أمرهن أن يشركن بين الأول والآخر.

وسألت الخليل عن قوله : إن تأتني فتحدثني أحدّثك ، وإن تأتني وتحدثني أحدثك ؛ فقال : هذا يجوز والجزم الوجه.

__________________

(١) البيت منسوب لبعض بني أسد ، ابن يعيش ١ / ٣٦.

(٢) سورة الفرقان ، الآية : ٦٨ ، ٦٩.

٢٨٦

ووجه نصبه على أنه حمل الآخر على الاسم كأنه أراد أن يقول : إن يكن إتيان فحديث أحدّثك.

فقال : إن يكن إتيان فحديث أحدّثك ، فلما قبح أن يرد الفعل على الاسم نوى (أن) لأن الفعل معها اسم.

وإنما كان الجزم الوجه ، لأنه إذا نصب كان المعنى معنى الجزم فيما أراده من الحديث ، فلما أراد ذلك كان يحمل على الذي عمل فيما يليه أولى ، وكرهوا أن يتخطوا به إلى باب آخر إذا كان يريد شيئا واحدا. وسألته عن قول زهير :

ومن لا يقدّم رجله مطمئنّة

فيثبتها في مستوى الأرض تزلق (١)

فقال النصب هذا جيد لأنه أراد هاهنا من المعنى ما أراد في قوله :

ما تأتينا إلا لم تحدّثنا فكأنه قال : من لا يقدم إلا لم يثبت زلق.

ولا يكون أبدا إذا قلت : إن تأتني فأحدثك الفعل الآخر إلا رفعا ، وإنما منعه أن يكون مثل ما انتصب من المجزومين. أن هذا منقطع من الأول ، ألا ترى أنك إذا قلت : إن يكن إتيان فحديث أحدّثك ، فالحديث متصل بالأول شريك له ، وإذا قلت :

إن يكن إتيان فحديث ثم سكتّ وجعلته جوابا لم يشرك الأول ، وكان مرتفعا بالابتداء.

وتقول : إن تأتني آتك فأحدثك. هذا الوجه وإن شئت ابتدأت ، وكذلك (الواو ، وثمّ) ، وإن شئت نصبت بالواو والفاء ، كما نصبت ما كان بين المجزومين.

واعلم أن (ثمّ) لا تنصب بها كما تنصب بالواو والفاء ، ولم يجعلوها بمنزلة ما يضمر بعده (أن) وليس يدخلها من المعاني ما يدخل في الفاء ، وليس معناها معنى الواو ، ولكنها تشرك ، ويبتدأ بها.

واعلم أن (ثم) إذا أدخلت على الفعل الذي بين المجزومين لم يكن إلا جزما ، لأنه ليس مما ينصب ولا يحسن الابتداء به لأن ما قبله لم ينقطع ، وكذلك الفاء والواو ، وإذا لم ترد بهن النصب فإذا انقضى الكلام ثم جئت (بثم) ؛ فإن شئت جزمت وإن شئت رفعت ، وكذلك الفاء والواو ، قال الله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ

__________________

(١) البيت في ديوانه ٢٥ ، الكتاب ٣ / ٨٩ ؛ المقتضب ٢ / ٢٣ ، ٦٧.

٢٨٧

يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)(١) وقال : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ)(٢) إلا أنه قد يجوز النصب بالواو والفاء وقد بلغنا أن بعضهم قرأ (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ، فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٣) ويقول : إن تأتني فهو خير لك وأكرمك ، وإن تأتني فأنا آتيك ، وأحسن إليك.

وقال الله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ)(٤). والرفع هاهنا وجه الكلام ، وهو الجيد لأن الكلام الذي بعد الفاء جرى مجراه في غير الجزاء ، فجرى الفعل هاهنا كما كان يجري في غير الجزاء.

وقد بلغنا أن بعض القراء قرأ : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ ، وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(٥) وذلك لأنه حمل الفعل على موضع الكلام ، لأن هذا الكلام في موضع يكون جوابا ، لأن أصل الجزاء الفعل ، وفيه تعمل حروف الجزاء ، ولكنهم قد يضعون في موضع الجزاء غيره.

ومثل الجزم هاهنا النصب في قوله :

فلسنا بالجبال ولا الحديدا (٦)

حمل الآخر على موضع الكلام وموضعه موضع نصب ، كما كان موضع ذلك موضع جزم.

وتقول : إن تأتني فلن أؤذيك وأستقبلك بالجميل ، فالرفع هاهنا الوجه إذ لم يكن محمولا على (أن) كما كان الرفع الوجه في قوله : ـ تعالى ـ : (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ)(٧) وفي قوله : فهو خير لك وأكرمك.

ومثل ذلك إن أتيتني لم آتك وأحسن إليك ، فالرفع الوجه إذا لم تحمله على (لم) كما كان ذلك في (لن).

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١١١.

(٢) سورة محمد ، الآية : ٣٨.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٤.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ٢٧١.

(٥) سورة الأعراف ، الآية : ١٨٦.

(٦) البيت ورد منسوبا لعقيبة الأسدي أو عبد الله بن الزبير ، في ابن يعيش ٢ / ١٠٩.

(٧) سورة البقرة ، الآية : ٢٧١.

٢٨٨

وأحسن الكلام (أن تقول : إن تأتني لا آتك ، كما أن أحسن الكلام إن أتيتني لم آتك) وذلك أن لم أفعل نفي فعل ، وهو مجزوم بلم ولا أفعل نفي أفعل ، وهو مجزوم بالجزاء ، فإذا قلت : إن تفعل ، فأحسن الكلام أن يكون الجواب أفعل لأنه نظيره من الفعل.

وإذا قلت : إن فعلت فأحسن الكلام أن تقول : فعلت لأنه مثله ، فكما ضعف فعلت مع أفعل ، وأفعل مع فعلت قبح لم أفعل مع يفعل ، لأن لم أفعل نفي فعلت ، وقبح لا فعلت مع فعل لأنها نفي أفعل.

واعلم أن النصب بالفاء والواو في قوله : إن تأتني آتك وأعطيك ضعيف ، وهو نحو من قوله :

وألحق بالحجاز فاستريحا (١)

فهذا يجوز ، وليس بحد الكلام ، ولا وجهه إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلا.

لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل ، فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعفه ، وإن كان معناه كمعنى ما قبله إذا قلت وأعطيك ، وإنما هو في المعنى كقوله : أفعل إن شاء الله ، يوجب الاستثناء ، قال الأعشى فيما جاز من النصب :

ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى

مصارع مظلوم مجرّا ومسحبا

وتدفن منه الصالحات وإن يسئ

يكن ما أساء النار في رأس كبكبا (٢)

قال أبو سعيد : ما يقع بين فعلي الشرط والجزاء المجزومين من الفعل عل قسمين :

أحدهما مخالف لمعنى فعل الشرط والآخر معناه وتأويله معنى فعل الشرط ، فإذا كان معناه وتأويله مخالفا لفعل الشرط لم يجز فيه غير الرفع ، وموقعه موقع الحال ، وكذلك ارتفع لأنه يحسن في موضعه الاسم كقولك : إن تأتني تضحك أحسن إليك ، وإن تأتنا تسألنا نعطك ، لأن تقديره إن تأتني ضاحكا ، وإن تأتنا سائلا ، وليس تضحك في معنى تأتنا ولا في تأويله ، وكذلك السؤال ليس في معنى الإتيان ، وإذا كان الفعل الواقع بين الشرط والجواب في معنى فعل الشرط وتأويله جاز فيه الرفع والجزم ، أما الرفع فعلى تقدير

__________________

(١) عجز بيت سبق تخريجه.

(٢) البيت في ديوانه ٨٨ ، الكتاب ٣ / ٩٢ ؛ المقتضب ٢ / ٢٢.

٢٨٩

الحال ، والجزم على البدل ، وذلك قولك : إن تأتني تمشي أمش معك ، وإن تأتني تسرع أحسن إليك ، وتأويله ماشيا ومسرعا. وقوله :

ومن لا يزل يستحمل الناس نفسه (١)

في معنى مستحملا ، وهو خبر لا يزال ، وليس بحال ، وموضوع الشاهد منه : أنّ (يستحمل) في موضع اسم كالحال ، وهو الذي أوجب رفعه ، ومثله مما جعل في موضع الحال :

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره (٢)

في تقدير عاشيا إلى ضوء ناره ، وأما الجزم فعل البدل من الفعل الأول.

وإنما يبدل الفعل من الفعل إذا كان في معناه وتأويله ، وليس في بدل الفعل من الفعل ما يقع في وجوه بدل الاسم من الاسم من التبعيض والاشتمال لأن الفعل لا يجمع ، فيكون له بعض فيبدل من جميعه ، ولا يقع فيه ما يقع في الاسم من الاشتمال ، وقد يقع فيه من بدل الغلط ما يقع في الاسم ، لأن ذلك إنما هو سبق اللسان إلى لفظ المراد غيره فيتلافى ، فمن البدل إن تأتنا تمشي نمش معك ، وإن تأتنا تسرع أحسن إليك لأن تقديره : إن تمش نمش معك ، وإن تسرع أحسن إليك ، ومن الشاهد لذلك قوله.

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا .. تجد ... (٣)

لأن الإلمام بالقوم إتيان لهم. وأما قوله :

تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا (٤)

ففي (تأججا) ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يجعل الألف للتثنية ، وهي للحطب والنار ، وذكّرت لتذكير الحطب ، والثاني : أن يكون للحطب ، والثالث : أن تجعل النار في تأويل الشهاب ، ومعناه معناه.

وقوله : إن تبخلوا جواب الشرط فيه لا يحفلوا ، ويغدوا بدل من لا يحفلوا ، ولا يجوز أن يكون بدلا من يحفلوا وحدها دون (لا) لفساد المعنى ، لأنك إذا جعلت يغدوا في موضع لا يحفلوا ، فالمعنى صحيح ، وتقديره إن يبخلوا أو يجبنوا ، أو يغدروا يعدوا عليك مرجّلين ، وغدوهم مرجلين هو ترك الحفل بذلك ، وقلّة المبالاة ؛ وإذا جعلته بدلا من يحفلوا وحدها ، فتقديره أن يقع بعد (لا) ، فيكون تقديره : إن يغدروا لا يغدروا مرجلين ،

__________________

(١) صدر بيت سبق تخريجه.

(٢) صدر بيت سبق تخريجه.

(٣) سبق تخريجه.

(٤) سبق تخريجه.

٢٩٠

وهذا خلاف ما يراد من معنى ذلك ، وهذان البيتان أنشدهما الأصمعي عن أبي عمرو لبعض بني أسد. وبدل الغلط في الفعل أن يقول القائل : إن تأتنا تسألنا نعطك ، كأنه أراد إن تسألنا نعطك ، فسبقه لسانه إلى تأتنا ، وألغاه ، وجعل تسألنا مكانه ، كما تقول : مررت برجل حمار.

ومما أبدل من الفعل لأنه في تأويل الذي قبله قول الله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ)(١) يضاعف بدل من يلق ، ومعنى يلق أثاما : يلق عقوبة آثامه ، وهو إثمه ، ولقيه إياها أن تصيبه وتناله ، والذي يضاعف له العذاب يناله ذلك العذاب ، وما لا يجوز بدله من الشرط يجوز عطفه عليه بحروف العطف ، لأنه قد يعطف الفعل على ما يخالف معناه ، وليس العطف كالبدل ، وذلك قولك : إن تأتني فتسألني أعطك ، وإن تأتني وتسألني أعطك ، وإن تأتني ثم تسألني أعطك ، لأن هذه الحروف للاشتراك ، فيشركن الآخر فيما دخل فيه الأوّل ، وكذلك ، أو كقولك : إن تأتني أو تسألني أعطك ، ولا يجوز فيما عطفته الرفع ، لأن حروف العطف قد أشركت بين الفعل الثاني الذي دخلت عليه وبين الأول في الجزم ، فلا سبيل للرفع فيه ، وإنما كان يرتفع قبل دخول حروف العطف على معنى الحال في قوله :

متى تأته تعشو

 ... (٢)

على معنى عاشيا ، ولو قلت : متى تأته وعاشيا كان مخلا ، لأنه ليس في (متى تأته) منصوب تعطف عليه عاشيا ، إلا الهاء في (تأته) ، ولو عطفت عليه صار عاشيا ، كأنه إنسان آخر غير الهاء يقع الإتيان بهما ، فكأنك قلت : متى تأتهما ؛ وليس الأمر كذلك ، لأن عاشيا هو الفاعل المضمر في تأته ، وإذا قلت :

إن تأتني فتحدثني أحدثك ، الوجه في تحدثني الجزم عطفا على تأتني ، وقد أجاز الخليل نصبه على وجه ليس بالمختار ، إن تأتني فتحدثني أحدثك ، والذي ضعّف النصب في هذا أنه متى نصب لم يخرج عن معنى المجزوم فاختاروا المجزوم لأن عامله عامل المجزوم الذي قبله ، فيجتمع فيه تطابق اللفظيين ، وظهور العامل فيهما ، وإذا نصب فهو على تأويل بعيد المتناول ، لا تحوج إليه إلا ضرورة التأويل في النصب ، أن يردّ (إن تأتني) إلى تقدير : إن يكن منك إتيان ، ويردّ (تحدثني) إلى حديث ، ويعطفه بالفاء ، ويقدر حديث بأن

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآيتان : ٦٨ ، ٦٩.

(٢) سبق تخريجه.

٢٩١

تحدثني ، كأنه قال : إن يكن منك أن تأتيني فتحدثني ، وقبح هذا كقبح : أنت تأتيني فتحدثني ؛ والوجه : أنت تأتيني فتحدثني على ترك المتناول البعيد من غير حاجة إليه ، وتأويل النصب أنت يكون منك إتيان فحديث كما قال :

وألحق بالحجاز فاستريحا (١)

فإذا أدخلت لا حسن النصب ، وصار فيه تأويل : ما تأتيني محدثا ، كأنه قال : ما تأتني إلا لم تحدثني ، والذي حسّن النصب فيه حرف النفي ، وذلك قوله :

ومن لا يقدّم رجله مطمئنة

 ... فيثبتها ... (٢)

نصب (فيثبتها) ، كما ينصب لا تأتينا فتحدثنا ، بمعنى لا تأتينا إلا لم تحدثنا ، ومثله : ومن لا يقدم إلا لم يثبت زلق ، وإذا قلت : إن تأتني فأحدّثك ، فلا يجوز بعد الفاء إلا الرفع ، لأن الشرط في الأصل جملة مبناها على فعل وفاعل ، والجواب جملة أخرى ثانية مبناها على مبتدإ وخبر ، وفعل وفاعل ، وإنما ربط إحداهما بالأخرى.

(إن) ولا حاجة إلى الفاء إذا كانت جملة الجواب فعلا وفاعلا ، ثم أدخلت الفاء ليليها الاسم لما احتيج إلى الجواب بالابتداء والخبر ، ثم جعل مكان الاسم الفعل ، فارتفع لوقوعه موقع الاسم ، وليس الجواب بالفاء المرفوع مثل ما انتصب بين المجزومين ، الذي تقديره تقدير مصدر معطوف على مصدر فعل الشرط ، كما قدّر بقولنا إن يكن إتيان فحديث أحدثك ، فالحديث متصل بالأول شريك له معطوف عليه ؛ ولو قلت : إن يكن إتيان فحديث ، وسكت واكتفيت صار قولك. فحديث هو الجواب ، وليس بمعطوف على شيء ، بل يقدّر بعد الفاء مبتدأ وخبر مبتدأ ، كأنك قلت : إن يكن إتيان فعندي حديث ، أو فأمري حديث ، كما تقول : إن تأتني فمكرم مخبوّ ، أي فأنت ، وكما قيل : " المرء مقتول بما قتل به إن خنجرا فخنجرا" (٣) ، وقد مضى نحوه.

وإذا عطفت فعلا على الجواب المجزوم ، فلك فيه ثلاثة أوجه :

الجزم والرفع والنصب ، فالجزم والرفع جيدان مختاران ، والنصب دونهما ، تقول : إن

__________________

(١) عجز بيت سبق تخريجه.

(٢) البيت ورد منسوبا لكعب بن زهير ، في الكتاب ٣ / ٨٩ ؛ المقتضب ٢ / ٢٣ ؛ ٦٧.

(٣) هذا جزء من حديث نبوي تمامه : " المرء مقتول بما قتل به ، إن سيفا فسيف ، وإن خنجرا فخنجر" وقيل إنه أثر من آثار العرب. انظر شرح التسهيل لابن مالك ١ / ٣٦٤ ، وشواهد التصحيح والتوضيح ٧١ ، شرح قطرالندى وبل الصدى لابن هشام ١٩٢.

٢٩٢

تأتني آآتك فأحدثك تجزمه بالعطف على آآتك ، ومثله قول الله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ)(١) ويجوز آتك فأحدثك ، ومثله قرأه من قرأ بالرفع (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ،) ورفعه بالقطع من الأول ، والاستئناف لما بعده.

وذكر سيبويه أن النصب ضعيف ، وحكى أنه بلغه أن بعضهم قرأ : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) وسبب ضعفه أن جواب الشرط خبر موجب ، وسبيله أن يعطف عليه ، أو يستأنف ، كما يعمل بالخبر المبتدأ إذا قلت آتيك فأحدثك ، والنصب في الخبر المبتدإ الذي ليس بجواب أقبح منه في جواب الشرط ، إذا قلت : آتيك فأحدثك ، فهو قبيح ، ومثله :

ألحق بالحجاز فاستريحا (٢)

وإذا قلت إن تأتني أأتك فأحدثك ، فالنصب ضعيف وهو على ضعفه أحسن منه في قوله : آتيك فأحدّثك لأن الخبر المبتدأ واجب أن يفعله على كل حال ، وجواب الشرط ليس بواجب أن يفعله ، إلا أن يوجد الشرط ، والشرط قد يوجد وقد لا يوجد.

فأشبه الاستفهام ، ونحوه وشبهه سيبويه.

بقولك : أفعل إن شاء الله ، لأن أفعل في موضوعه ، وأصله إخبار حقه الوفاء به ، إذا كان مطلقا ، فإذا قرنه ب ـ إن شاء الله ـ الذي هو شرط سقط عن قائله الوفاء به ، وقوى بذلك النصب بعد جواب الشرط إذا كان تعليقه بالشرط يخرجه عن الإخبار المجرد ، وجعل سيبويه إن شاء الله استثناء ، وإن كان لفظه لفظ الشروط على تسمية الفقهاء ، ذلك لأنهم يسمّون إن شاء الله ـ بعد الإيمان ـ استثناء ، وإنما سموه استثناء لأنه يسقط لزوم ما يعتقده الحالف ، فصار بمنزلة الاستثناء الذي يسقط ما يوجبه اللفظ الذي قبله.

ومعنى قوله :

 ... لا يزل يرى

مصارع مظلوم ... (٣)

يعني : مصارع

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٤.

(٢) عجز بيت سبق تخريجه.

(٣) البيت منسوب للأعشى سبق تخريجه.

٢٩٣

وتدفن منه الصالحات

 ... (١)

يعني إذا أحسن لم يشهد إحسانه ، ولم يذكر لأنه لا يعرف.

قال أبو سعيد : فصّل سيبويه بين حكم ثم في نصب الفعل ، وحكم الفاء والواو ، وأجاز بعد الفاء والواو النصب على إضمار (أن) على التفسير الذي فسرناه ، ولم يجز النصب في ثم ، والذي يجوز في (ثم) العطف على لفظ الفعل الذي قبلها ، واستئناف ما بعدها على مذهب عطف جملة في الموضوع الذي تقع فيه الجمل ، ويجوز في الفاء والواو هذان الوجهان ، ووجه ثالث ، وهو تقدير (أن) في الفعل الذي بعدهما ، وتقدير ما قبلهما مصدرا معطوفا عليه ، فمن ذلك أنك تقول : إن تأتني فتحدثني آتك ، وإن تأتني وتحدثني آتك ، ولا يجوز إن تأتني ، ثم تحدثني أأتك. وتقول : إن تأتني أأتك ثم أحدثك بالجزم عطفا على أأتك ، ويجوز ثم أحدثك بالرفع على الاستئناف فعطف جملة على جملة كأنه قال : ثم أنا أحدثك ، ولا يجوز أن تقول : ثم أحدثك على معنى إن يكن إتيان ثم حديث ، كما جاز آآتك فأحدثك ، وآآتيك أحدثك ، ومما يكون بعد (ثم) فيه مستأنفا قول الله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ، ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)(٢) فاستأنف لا ينصرون بعد ثم ، ثم قال ـ جل ثناؤه ـ : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ)(٣) فجزم يكونوا بالعطف على يستبدل ، وإنما جاز في الفاء والواو ما لم يجز في ثم لأنهما جعلتا جوابا بالمعنى يختص به كل واحدة منهما ليس في ثم ، فالفاء تكون جوابا ، لأن فيها معنى اتصال ما بعدها بما قبلها ، والواو فيها معنى الاجتماع ، وليس في ثم معنى الاتصال ، ولا معنى اجتماع ، وقد ذكرنا حال الفاء والواو ، ومعناهما في مواضعهما ، فإذا اكتفيت بالفاء في جواب الشرط ، أوليتها اسما وخبرا ، ثم عطفت عليه فعلا ، فالوجه فيه الرفع ، كقولك : إن تأتني فهو خير لك وأكرمك ، لأن أكرمك لما عطفته على ما بعد الفاء صار كأنه واقع بعد الفاء ، فارتفع ومثله في القرآن : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ)(٤) وهذا وجه الكلام والمختار فيه ، ولذلك اختار من

__________________

(١) البيت منسوب للأعشى سبق تخريجه.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١١١.

(٣) سورة محمد ، الآية : ٣٨.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ٢٧١.

٢٩٤

اختار في القراءة : (فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١) ، فيجوز الجزم فيه عطفا على موضع الفاء ، وهو أيضا جيد قوي والأول أقوى منه ومن هذا الوجه قراءة من قرأ : (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) وحمل الكلام على موضع الفاء ، لأن موضع الفاء موضع الجواب ، والأصل فعل الشرط ، الفعل والفاء داخلة عليه ، ويجوز أيضا فيه النصب ، وهو ضعيف وقد ذكرناه ، وقوله إن تأتني فلن أوذيك ، واستقبلك بالجميل استقبلك رفع عطف على موضع لن كأنه قال إن تأتني فاستقبلك بالجميل ، ولا يجوز نصبه بالعطف على أوذيك لفساد المعنى ، لأنه يصير في التقدير ، فلن أوذيك ، ولن أستقبلك بالجميل ، وهو تقضي لن أوذيك ، ويجوز فيه الجزم على موضع الفاء ، كما جاز (ويذرهم).

وقوله : إن أتيتني لم آتك وأحسن إليك إن أردت ولم أحسن إليك فالجزم في أحسن لا غير ، وإن جعلت أحسن جواب الشرط لم تنف الإحسان ، فإن أجود ذلك أن تجعله ماضيا فتقول : لم آتك وأحسنت إليك ، لأن موضع (لم) موضع فعل ماض ، فتعطفه عليه كأنه قال : إن أتيتني قعدت عنك وأحسنت إليك ، وإن كان مستقبلا ، فإن سيبويه قال : الرفع الوجه ، وإنما اختار الرفع لأنا إن جزمناه على موضع لم لم يحسن أن يكون الشرط فعلا ماضيا والجواب مجزوما ، لأنه لا يحسن أن تقول :

إن أتيتني أحسن إليك ، وإذا قال :

إن أتيتني أحسن إليك كان حسنا فقوله :

أحسن إليك إن سببه كان رفعا على أن تقدر في موضع (لم) فعلا مستقبلا لك على تقدير أحسن إليك إن أتيتني ، وقوله : لم آتك وأحسن إليك يجوز ، وأحسن إليك إن شئت كان رفعا على أن تقدر في موضع (لم) فعلا مستقبلا مرفوعا ، وأحسن عطف عليه ، وإن شئت كان قطعا واستئنافا ، وقد ذكرنا أن أحسن الكلام في الشرط والجواب أن يتشاكلا في المعنى أو في الجزم.

قال أبو سعيد : ومنزلة (لم) والفعل المجزوم بعدها منزلة فعل ماض ، وحكمه كحكمه فإذا قلت : إن أتيتني فالجواب المختار لم آتك ، لأنه بمنزلة : إن أتيتني فعدت عنك ، وهما فعلان ماضيان ، وإن قال : إن تأتني فالجواب لا آتك لأن لا آتك للمستقبل ، ولا يحسن أن يقول :

إن تأتني لم آتك ، كما لا يحسن أن تقول : إن تأتني فلم آتك ، ولا إن أتيتني فلم آتك ، كما

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ١٨٦.

٢٩٥

لا يحسن إن تأتني قعدت عنك لأن الأول مجزوم والثاني ماض ، ولا يجوز أن تقول : إن تأتني فلم آتك ، ولا إن أتيتني فلم آتك ، لأن (لم) تصير الفعل بمعنى المضيّ ، والفاء تمنع أن يكون الجواب بفعل ماض ، سواء كان الشرط ماضيا أو مستقبلا ، ألا ترى أنك تقول : إن تأتني فقعدت عنك ، ويجوز أن يكون بعد الفاء من الفعل ما كان دعاء ، كقولك : إن أحسنت إليّ فجزاك الله خيرا ، وإن أسأت فلعنك الله ، لأن معنى الدعاء في غير الشرط والجواب الاستقبال ، فإن كان لفظه ماضيا ، لا يحسن إن تأتني لن آتيك بإسقاط الفاء لأن (لن) وما بعدها جملة كما لا يحسن إن يأتني زيد يشكرك حتى تدخل الفاء ، وإنما جاز إسقاط الفاء لأنها لا تمنع عمل ما قبلها فيما بعدها وباقي الباب من كلامه مفهوم.

هذا باب من الجزاء ينجزم فيه الفعل إذا كان جوابا

لأمر أو نهي أو استفهام

أو تمنّ أو عرض

فأما ما انجزم بالأمر فقولك : إيتني آتك ، وما انجزم بالاستفهام فقوله ألا تأتيني أحدّثك ، وأين تكون أزرك ، وأما ما انجزم بالتمني ، فقولك : ألا ماء أشربه ، وليته عندنا يحدّثنا ، وأما ما انجزم بالعرض فقولك : ألا تنزل تصب خيرا ، وإنما انجزم هذا الجواب ، كما انجزم جواب إن تأتني بإن تأتني ، لأنهم جعلوه معلقا بالأول غير مستغن عنه الأول إذا أرادوا الجزاء ، كما أن (إن تأتني) غير مستغنية عن آتك.

زعم الخليل أن هذه الأوائل كلها فيها معنى إن ، فلذلك انجزم الجواب ، لأنه إذا قال : ائتني آتك ، فإن معنى كلامه إن يكن منك إتيان آتك ، وإذا قال : أين بيتك أزرك ، فكأنه قال : إن أعلم مكان بيتك أزرك ، لأن قوله : أين بيتك؟

يريد : أعلمني ، وإذا قال : ليته عندنا يحدّثنا ، فإن معنى هذا الكلام إن يكن عندنا يحدّثنا ، وهو يريدها هنا إذا تمنى ما أراد في الأمر ، وإذا قال : لو نزلت ، فكأنه قال :

انزل.

ومما جاء من هذا الباب في القرآن وغيره ، منه قول الله ـ عزوجل ـ : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)(١). فلما انقضت الآية قال : (يَغْفِرْ لَكُمْ) [الصف : ١٢]

__________________

(١) سورة الصف ، الآيتان : ١٠ ، ١١.

٢٩٦

ومن غيره أيضا : إن أتيتنا أمس نعطك اليوم ، أي إن كنت آتيتنا أمس أعطيناك اليوم ، هذا معناه ، فإن كنت تريد أن تقدره بأنه قد فعل فإن الجزاء لا يكون ، لأن الجزاء إنما يكون في غير الواجب ومما جاء منجزما بالاستفهام قول رجل من بني تغلب.

ألا تنتهي عنّا ملوك وتتقي

محارمنا لا يبؤ الدم بالدم (١)

وقال الراجز :

متى أنام لا يؤرّقني الكرى (٢)

كأنه قال : إن يكن منّى نوم في غير هذه الحال لا يؤرقني الكرى ، كأنه لم يعدّ نومه في هذه الحال نوما.

وقد سمعت من العرب من يشمّه الرفع ، كأنه قال : متى أنام غير مؤرق ، وتقول : ائتني آتك ، فتجزم على ما وصفناه ، وإن شئت رفعت على أن لا تجعله معلقا بالأول ، ولكن تبتدئه ، وتجعل الأول مستغنيا عنه ، كأنه يقول : ائتني أنا آتيك ، ومثل ذلك قول الشاعر وهو الأخطل :

وقال رائدهم أرسوا نزاولها

فكلّ حتف امرئ يمضي لمقدار (٣)

وقال الأنصاري :

يا مال والحقّ عنده فقفوا

تؤتون فيه الوفاء معترفا (٤)

وفي نسخة أبي بكر مبرمان مصلح (معترفا) ، كأنه قال :

إنكم تؤتون الوفاء معترفا ، وقال معروف :

كونوا كمن آسى أخاه بنفسه

نعيش جميعا أو نموت كلانا (٥)

كأنه قال : كونوا هكذا : إنا نعيش جميعا أو نموت كلانا إن كان هذا أمرنا.

وزعم الخليل : أنه يجوز أن يكون نعيش محمولا على كونوا ، كأنه قال : كونوا نعيش جميعا أو نموت كلا وتقول : لا تدن منه يسكن خيرا لك. فإن قلت : لا تدن من الأسد يأكلك ، فهو قبيح إن جزمت ، وليس وجه كلام الناس لأنك لا تريد أن تجعل

__________________

(١) البيت ورد منسوبا لجابر بن حنيّ ، في الكتاب ٣ / ٩٥ ؛ لسان العرب (بدأ).

(٢) البيت في ديوانه ، الكتاب ٣ / ٩٥.

(٣) البيت في ديوانه ، الخزانة ٩ / ٨٧ ؛ الكتاب ٣ / ٩٦.

(٤) البيت في ديوانه ، الكتاب ٣ / ٩٦.

(٥) البيت في ديوانه ، الكتاب ٣ / ٩٧.

٢٩٧

تباعده من الأسد سببا لأكله ، فإن رفعت ، فالكلام حسن كأنه قال : لا تدن منه فإنه يأكلك ، وإن أدخلت الفاء فحسن ، وذلك قولك : لا تدن منه فيأكلك.

وليس كل موضع تدخل فيه الفاء يحسن فيه الجزاء ، ألا ترى أنه يقول : ما أتيتنا فتحدّثنا ، والجزاء هاهنا محال ، وإنما قبح الجزم في هذا ؛ لأنه لا يجيء فيه المعنى الذي يجيء إذا أدخلت الفاء.

وسمعنا عربيا موثوقا بعربيته يقول : لا تذهب به تغلب عليه ، فهذا كقوله : لا تدن من الأسد يأكلك. وتقول : ذره يقل ذاك ، وذره يقول ذاك ، فالرفع من وجهين : أحدهما الابتداء ، والآخر على قوله : ذره قائلا ذلك فتجعل (يقول) في موضع قائل.

فمثل الجزم قول الله ـ عزوجل ـ : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ)(١) ، ومثل الرفع قوله ـ جلّ ثناؤه ـ : (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(٢).

وتقول : ائتني تمشي أي ائتني ماشيا ، وإن شاء جزمه على أنه إن أتاه مشى فيما يستقبل ، وإن شاء رفعه على الابتداء ، قال الله ـ تعالى ـ : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى)(٣). فالرفع على الوجهين على الابتداء ، وعلى قوله : اضربه غير خائف ولا خاش ، وتقول : قم يدعوك لأنّك لم ترد أن تجعل دعاء بعد قيامه ، ويكون القيام سببا له ، ولكنك أردت قم إنه يدعوك ، وإن أردت ذاك المعنى جزمت.

وأما قول الأخطل :

كرّوا إلى حرّتيكم تعمرونها

كما تكرّ إلى أوطانها البقر (٤)

فعلى قوله : كروا عامرين ، وإن شئت رفعت على الابتداء.

وتقول : مره يحفرها ، وقل له يقل ذاك ، وقال الله ـ عزوجل ـ : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ ، وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ)(٥) ولو قلت مره يحفرها على الابتداء كان جيدا ، وقد جاء رفعه على شيء ، وهو قليل في الكلام على مره أن

__________________

(١) سورة الحجر ، الآية : ٣.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٨٦.

(٣) سورة طه ، الآية : ٧٧.

(٤) البيت في ديوانه ١٠٨ ؛ والكتاب ٣ / ٩٩.

(٥) سورة إبراهيم ، الآية : ٣١.

٢٩٨

يحفرها ، فإذا لم تذكر (أن) جعلوا المعنى بمنزلتها في : عسينا نفعل ، وهو في الكلام قليل لا يكادون يتكلمون به وإذا تكلموا به فالفعل كأنه في موضع اسم منصوب كأنه قال : عسى زيد قائلا ذاك ، ثم وضع (يقول) في موضعه ، وقد جاء في الشعر قال طرفة ابن العبد :

ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللّذّان هل أنت مخلدي (١)

وسألته عن قول الله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ)(٢).

فقال : تأمروني ، كقولك : هل يفعل ذاك بلغني ، فبلغني لغو ، وكذلك تأمروني كأنه قال فيما تأمروني ، كأنه قال : فيما بلغني ، وإن شئت كان بمنزلة :

ألا أيّهّذا الزّاجري أحضر الوغى

قال أبو سعيد : جزم جواب الأمر والنهي والاستفهام والتمني والعرض بإضمار شرط في ذلك كله ، والدليل على ذلك قول إن الأفعال التي تظهر بعد هذه الأشياء ، إنما هي ضمانات يضمنها ويعد بها الآمر والناهي والمستفهم والمتمني والعارض ، وليست بضمانات مطلقة ، ولا عدات واجبة على كل حال ، وإنما هي معلقة بمعنى : إن كان ووجد وجب الضمان والعدة ، وإن لم يوجد لم يجب ، ألا ترى أنه إذا قال : ائتني آتك ، لم يلزم الآمر أن يأتي المأمور إلا بعد أن يأتيه المأمور ، وإذا قال : أين بيتك أزرك لم يلزمه الزيارة إلا بعد أن يعرف بيته ، ولفظ الأمر والاستفهام لا يدل على هذا المعنى ، والذي يكشفه لفظ الشرط ، فوجب تقديره بعد هذه الأشياء ، والذي يقدّر في ذلك من الشرط ما كان موافقا للفظ الأمر والنهي ، ولما يستدعيه ويقتضيه بالاستفهام والتمني والعرض.

فقولك : ائتني آتك يقدر بعد قولك : ائتني ، إن تأتني فآتك ، وتقول في النهي : لا تدن منه يكن خيرا لك تقديره : لا تدن منه إلا تدن منه يكن خيرا لك ، وفي الاستفهام ألا تأتيني أحدّثك يقدّر بعدها :

إن تأتني أحدّثك ، وأين تكون إن أعرف مكانك أزرك ، وفي التمني ألا ماء أشربه ، وليته عندنا يحدّثنا ، كأنه قال : ألا ماء إن أجده أشربه ، وليته عندنا إن يكن عندنا يحدّثنا ، وفي العرض ألا تنزل تصب خيرا ، وهذه الأشياء التي ذكرناها من الأمر والنهي والاستفهام والتمني والعرض تغني عن ذكر الشرط ، ويكتفى بذكرها عن ذكره ، فلذلك

__________________

(١) البيت في ديوانه ، الكتاب ٣ / ٩٩ ؛ والمقتضب ٢ / ٨٥.

(٢) سورة الزمر ، الآية : ٦٤.

٢٩٩

تجوّز سيبويه في عبارته عن جزم هذه الأشياء ، فأوهم أن هذه الأشياء هي الجازمة لما بعدها ، كما أن حرف الشرط وفعله هو الجازم للجواب ، وذلك قولك : وإنما انجزم هذا الجواب ، كما انجزم جواب : إن تأتني بإن تأتني لأنهم جعلوه معلقا بالأول غير مستغن عنه الأول ، إذا أرادوا الجزاء ، كما إن تأتني غير مستغنية. عن آتك.

قال أبو سعيد : وهذا من سيبويه مسامحة في اللفظ ، واتساع كما اتسع في نصب الظرف ، فقال في نحو قولك :

زيد خلفك ، نصب بما قبله والحقيقة فيه أن الناصب هو (استقر) ، ثم حكى عن الخليل ما يدل على حقيقة الناصب ، وهو قوله وزعم الخليل أن هذه الأوائل كلها فيها معنى (إن) فلذلك انجزم الجواب ، لأنه إذا قال : ائتني آتك ، فإن معنى كلامه : إن يكن منك إتيان وما بعده جوابه.

وقول الله ـ تبارك وتعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ)(١). إلى قوله ـ عزوجل ـ : (يَغْفِرْ لَكُمْ)(٢) أما قوله ـ عزوجل ـ : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ)(٣). فهو تفسير للتجارة على معناها لا على لفظها ولو فسرها على لفظها لقال : هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم أن تؤمنوا بالله ، لأن قوله : أن تؤمنوا اسم وتجارة اسم ، والاسم يبدل من الاسم ، ويقع موقعه ، وقوله : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [الصف : ١١] كلام قائم بنفسه وفيه دلالة على المعنى المراد بالتجارة ، وهو الإيمان والجهاد لأن تؤمنون يدل على الإيمان ، وتجاهدون يدل على الجهاد لأنهما مصدرهما ؛ ومثله في الكلام على الوجهين ، هل لك في خير تقوم بنا إلى المسجد فنصلّي ، ولو قلت : أن تقوم إلى المسجد كان صوابا ، ومثله مما فسر ما قبله على الوجهين :

قوله ـ عزوجل ـ : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ)(٤) (إنا وأنا) (٥) فمن قال : أنّا هاهنا ، فهو الذي يدخل (أن) في تقوم ، لأن أن وما بعدها بمنزلة اسم يكون بدلا من الاسم الذي قبله ، ومن قال : إنّا فهو الذي يلغي (أن) من تقوم ، لأنه إذا قال : إنا

__________________

(١) سورة الصف ، الآية : ١٠.

(٢) سورة الصف ، الآية : ١٢.

(٣) سورة الصف ، الآية : ١١.

(٤) سورة عبس ، الآية : ٢٤.

(٥) من قول الله تعالى في الآية : ٢٥" إنا صببنا الماء صبا".

٣٠٠