شرح كتاب سيبويه - ج ٣

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٣

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

لا تجالس أهل الريب والقصد : جالس من شئت من الفقهاء والقراء وأصحاب الحديث.

و" أو" تؤدي هذا المعنى لأنها في التخيير كأنه قال :

جالس إن شئت هؤلاء ، وإن شئت فأكثر منهم وإن شئت فأجمع بينهم.

ومما تكون فيه" أم" و" أو" بمعنى واحد وإن كان أصلهما مختلفا قولهم : " اضرب زيد أولا". و" أضربت زيدا أم لا" وذلك أنك لو اقتصرت على : " أضربت زيدا؟ " لاقتضى السؤال" نعم" أو" لا". فإن زاد فيه" أو" أو زاد فيه" أم" لم يتغير معناه. وقد ذكرت قبل هذا من اختلاف" بل" و" أم" في أصلهما واتفاقهما فيما يراد من المعنى في : " أم يقولون افتراه ...؟ "

قول الشاعر :

" ...

أم كلّ إليّ حبيب؟ "

فيما فيه مقنع ، وكذلك اجتماع" بل" و" أو" في قوله :

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى

وصورتها أم أنت في العين أملح

في معنى : " بل".

وقول سيبويه وجمع البصريين أن نفي المباح" بأو" يستوعب جميع ما وقعت عليه ولا يخالف معناه معنى" الواو" كقولك : " لا تأكل خبزا أو لحما أو تمرا". إذا أردت نفي أحد هذه الأشياء كأنك قلت : لا تأكل شيئا من هذه الأشياء.

ونظيره : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً)(١) أي لا تطع أحدا من هذين. لأن كل واحد منهما كان في الأمر مباحا. فإذا دخل النهي الذي هو ضد الأمر صار كل واحد منهما محظورا.

وإذا كان التخيير على وجه الإباحة فدخل النهي. فإن أبا الحسن بن كيسان : يجوز أن يكون النهي عن واحد. وجوز أن يكون عن جميع المذكور كقولك : لا تأخذ دينارا أو ثوبا. يجوز أن يكون نهاه عن أخذ أحدهما. ويجوز أن يكون النهي عن أحدهما على مقابلة الأمر لأن الأمر كأن يأخذ أحدهما والنهي نقيضه وضده فيكون نهيا عن أخذ أحدهما. وجاز أن يكون يعني مجيئهما.

__________________

(١) سورة الإنسان ، الآية : ٢٤.

٤٤١

قال أبو سعيد : والذي عندي أنه إذا دخل نهي أو نفي على ما فيه" أو" فإن النهي والنفي عن الجميع فيما كان مباحا أو تخييرا.

وذلك أنك إذا أمرت وأنت تخيره فقلت : خذ دينارا أو ثوبا. فأنت تأمره بأخذ أحدهما والآخر محظور.

فإذا نهيته فقد حظرت عليه الذي كنت تأمره بأخذه. فصار الجميع محظورا من حيث كان تقدير الآخر : خذ أحدهما. يصير تقدير النهي : " لا تأخذ أحدهما". فأيهما أخذ فقد عصى لأنه قد أخذ أحدهما وليس يكون هذا على ما قال أبو الحسن بن كيسان إلا على وجه اللغز.

كأنه يقصد بأحدهما في اللفظ واحدا بعينه ويبهمه على السامع كقول القائل" جاءني زيد أو عمرو" وهو يعرف الذي جاء بعينه ولم يعرض للآخر بشئ.

واعلم أن" أو" تدخل بين فعلين بعد استغناء الفعل قبلها ويكون الفعلان بمعنى الحال وفيها معنى المجازاة ولا يكفي الكلام بأحد الفعلين ولا يكون إلا فعلا ماضيا. وذلك قولك : لأضربنه ذهب أو مكث ومعناه : لأضربنه إن ذهب وإن مكث. وموضعه من الإعراب نصب. كأنه قال : لأضربنه ذاهبا أو ماكثا.

ولا يجوز : " لأضربنه ذهب" على معنى : لأضربنه ذاهبا. لأن" ذهب" فعل ماض ولا يكون حالا لمستقبل.

وإنما جاز : " لأضربنه ذهب أو مكث". لأنه بالتكرير صار فيه معنى : إن ذهب وإن مكث كأنه قال : لأضربنه كائنا ما كان. و" لأضربنه على كل حال".

ولا يجوز الفعل المستقبل في هذا. لأن الفعل المستقبل يقع موقع الحال ولا يحتاج إلى تكرير ، ولا يدل على أنك تريد به المجازاة.

ألا ترى أنك تقول : لأضربن زيدا يضحك. بمعنى : ضاحكا. ولو قلت : لأضربنه يذهب أو يمكث لم يكن فيه دلالة على المجازاة كما دل الماضي بلفظ المضي الذي يقتضيه على المجازاة.

ولو جعلت في أول الفعل ألف الاستفهام جعلت مكان" أو" و" أم" ، ولم يخرج عن معنى المجازاة ولزوم الفعل الماضي كقولك : لأضربنه أذهب أم مكث؟

واستدل الخليل على جواز ذلك بقولهم : " لأضربنه أي ذلك كان".

٤٤٢

وهي بدخول ألف الاستفهام في أولها بمنزلة" أو" في المعنى. لأن الكلام في" أو" يقدر كائنا ما كان.

وفي" أم" يقدر : أي ذلك كان. ومعناهما واحد. واحتاجوا في" أم" إلى ألف الاستفهام للتعديل والتسوية.

وقوله : " لأضربنه كائنا ما كان"" كائنا" : نصب على الحال من الهاء في لأضربنه.

وما كان : في موضع رفع" بكائن" وهو فاعله. و" ما" بمعنى : الذي و" كان" صلتها وفيها معنى المجازاة ولذلك كان ماضيا. وضمير الفاعل في" كان" يعود إلى" ما" وبعد" كان" هاء محذوفة تعود إلى الهاء في : لأضربنه وقول الشاعر :

أطال فأملي أو تناهى فأقصرا (١)

إذا كان" بأو" فهو من : أطال يطيل بغير استفهام كقولك : لأضربنه قام أو قعد.

ويجوز : أطال فأملى أم تناهى ...؟

ويكون ألف أطال استفهاما دخل على طال يطول والأجود" أو" بغير استفهام. وهو الكثير في الكلام.

ولذلك قال سيبويه : " لأضربنه ذهب أو مكث أي لأضربنه كائنا ما كان.

فبعدت" أم" هاهنا حيث كان خبرا يقع موقع ما انتصب حالا أو في موقع الصفة.

قال : وأنما فارق هذا سواء و" ما أبالي" لأنك إذا قلت : سواء على أذهبت أم مكثت فهذا الكلام في موضع سواء على هذين. وإذا قلت : ما أبالي أذهبت أم مكثت فهو في موضع ما أبالي واحدا من هذين.

وأنت لا تريد أن تقول في الأول : لأضربن هذين ولا تريد أن تقول : تناهيت هذين. ولكنك أنما تريد أن تقول : إن الأمر يقع على إحدى الحالين.

قال أبو سعيد : يريد أن الذي بعد" سواء" بمنزلة خبر المبتدأ. والذي بعد" وما أبالي" في موضع المفعول لأبالي.

والذي بعد" لأضربنه ..." إنما أتى بعد تمام الكلام على وجه الشرط للكلام

__________________

(١) سبق تخريجه.

٤٤٣

فاختير فيه وكذلك قد : تم ب" تناهيت عنده" وجاء : أطال فأملي ، وليس ما بعد" لأضربنه" و" تناهيت عنده" في موضع المفعول كما كان ذلك في : " ما أبالي هذا ..." وهو على وجه الاختيار.

ولا يجوز أن تقول : لأضربنه أذهب أو مكث. لأنك إذا استفهمت في أوله. احتجت إلى المعادلة والمعادلة" بأم".

وإذا لم تدخل ألف الاستفهام في أوله فهي في موضع الحال وتحتاج إلى" أو" وقد ذكرنا أنه لا بد من ذكر الفعلين مع" أو" و" أم" في قولنا : لأضربنه ذهب أو مكث و" ذهب أو مكث" ولا يجوز : لأضربنه أذهب أو مكث؟ لأنك أبطلت المعادلة بإدخال" أو" وإذا لم تكن معادلة لم تحتج إلى الألف.

وليس هذا بمنزلة قولك : ما أدري أقام زيد أو قعد لأنه يجوز أن تقول : ما أدري أقام زيد؟ ويجوز : اعلم أقام زيد" ويكتفي بفعل واحد ولا يحتاج إلى معادلة.

قال أبو ذؤيب :

عصاني إليها القلب إني لأمره

سميع فما أدري أرشد طلابها (١)

وأدري من أخوات" اعلم" وقد يجوز أن تقول : قد علمت أزيد في الدار

وقد أتى هذا التفسير على جميع الباب

بحمد منّه

هذا باب «الواو» التي تدخل عليها ألف الاستفهام

وذلك قولك : هل وجدت فلانا عند فلان؟ فتقول : أو هو ممن يكون عنده ثم؟ أدخلت ألف الاستفهام ، وهذه" الواو" لا تدخل على ألف الاستفهام وتدخل عليها الألف.

وإنما هذا الاستفهام مستقبل بالألف ولا تدخل الواو على الألف. كما أن" هل" لا تدخل على" الواو".

فإنما أراد ألا يجروا الألف مجرى" هل" إذ لم تكن مثلها. والواو تدخل على" هل".

__________________

(١) انظر ديوان الهذليين : ١ / ٧١ ، معيار الشعر لابن طباطبا : ٩٨ ، الدرر اللوامع : ٢ / ١٧٢.

٤٤٤

وتقول : ألست صاحبنا؟ أو لست أخانا؟ ومثل ذلك : أما أنت أخانا؟ أو ما أنت صاحبنا؟ وقوله : أو لا تأتينا؟ أو لا تحدثنا؟ إذا أردت التقرير أو غيره ثم أعدت حرفا من هذه الحروف لم يحسن الكلام إلا أن تستقبل الاستفهام.

وإذا قلت : ألست أخانا؟ أو صاحبنا؟ أو جليسنا؟ فإنما تريد أن تقول : ألست في بعض هذه الأحوال؟ وأنما أردت في الأول أن تقول : ألست في هذه الأحوال كلها؟ ولا يجوز أن تريد معنى : ألست صاحبنا؟ أو جليسنا؟ أو أخانا؟ وتكون : لست مع" أو" إذا أردت أن تجعله في هذه الأحوال كلها.

ألا ترى أنك إذا أخبرت فقلت : ألست بشرا. أو ألست عمرا أو ما أنت ببشر ما أنت بعمر لم يجئ إلا على معنى : بل ما أنت بعمرو. و : لا بل لست ببشر.

وإذا أرادوا معنى : أنك لست واحدا منهما. قالوا : لست عمرا ولا بشرا أو قالوا : أو بشرا. كما قال عزوجل : ـ (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً)(١) ، ولو قلت : " أو لا تطع كفورا" انقلب المعنى.

فينبغي لهذا أن يجئ بألف الاستفهام منقطعا من الأول. لأن" أو" هذه نظيرتها في الاستفهام" أم". وذلك قولك : أما أنت بعمرو أم ما أنت ببشر؟ كأنه قال : لا بل ما أنت ببشر. وذلك أنه أدركه الظن في أنه بشر بعد ما مضى كلامه الأول فاستفهم عنه.

وهذه" الواو" التي دخلت عليها ألف الاستفهام كثيرة في القرآن. كما قال عزوجل : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ* أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ)(٢) فهذه الواو بمنزلة الفاء في قوله : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ)(٣)؟

وقال عزوجل : (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ* أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ)(٤). وقال عزوجل :

__________________

(١) سورة الإنسان ، الآية : ٢٤.

(٢) سورة الأعراف ، الآيتان : ٩٧ ، ٩٨.

(٣) سورة الأعراف ، الآية : ٩٩.

(٤) سورة الصافات ، الآية : ١٦ ، ١٧.

٤٤٥

(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(١).

قال أبو سعيد : ألف الاستفهام تقع من حروف العطف على" الواو" و" الفاء" و" ثم" وتتقدمهن.

فالفاء قول الله عزوجل : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)(٢).

والواو : قوله عزوجل : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ)(٣).

و" ثم" قوله عزوجل : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ)(٤).

ولا يتقدم شيء من حروف الاستفهام وأسمائه سوى" الألف" على حرف العطف. بل حروف العطف تدخل عليهن وتتقدمهن كقولك : " وهل زيد في الدار؟ فهل زيد في الدار؟ فهل أنتم منتهون" (٥)؟ وقال الشاعر :

ليت شعري هل ثم هل أتينهم

أو يحولن دون ذاك حمامي (٦)

وأما" أم" وهي من حروف الاستفهام فأنها لا تدخل على حروف العطف ولا تدخل عليها حروف العطف. لأنها وإن كانت للاستفهام فهي للعطف. ولا تكون مبتدأة كما لا تكون حروف العطف مبتدأة ومن ذلك تدخل" أم" على" هل" وعلى الأسماء التي يستفهم بها كما تدخل حروف العطف عليها كقوله :

أم هل كبير بكى لم تقض عبرته (٧)

وقوله :

أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به (٨)

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٠٠.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٨٥.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ١٠٠.

(٤) سورة يونس ، الآية : ٥١.

(٥) سورة المائدة ، الآية : ٩١.

(٦) البيت عند ابن يعيش : ٨ / ١٥١ منسوب إلى الكميت بن زيد الأسدي.

(٧) صدر بيت لعلقمة بن عبدة. عجزه :

 ...

أثر الأحبة يوم البن مشكوم

انظر الشعر والشعراء : ١٥٩ ، شرح المفضليات للأنباري : ٥٢٥.

(٨) صدر بيت عجزه :

٤٤٦

وقد قال الله عزوجل : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ)(١).

فإذا دخلت" أم" على الاستفهام فإنما تدخل من حيث كانت عطفا ويصير بمنزلة : " وهل كبير بكى ..." وكيف ينفع ما تعطي العلوق به". ومن يجيب المضطر إذا دعاه.

وإنما صارت الألف تدخل على هذه الحروف التي ذكرنا" الفاء" و" الواو" و" ثم" ولم تدخل" هل" عليهن.

لأن ألف الاستفهام قد تدخل على بعض الكلام ولا يكون ما بعدها كلاما تاما. كقولك لمن قال لك : ضربت زيدا. أزيدنيه؟

ولمن قال : مررت بزيد. أزيدنيه؟

ويقول الرجل : كم غلمانك. أثلاثة أم أربعة؟ فتجعله بدلا من" كم" وحدها وهي بعض الجملة.

ويقول الرجل : مررت بزيد. فيقال : أبزيد؟ وهو بعض الجملة.

وتقول للرجل : أقائما والناس قعود؟ وأمقيما وقد رحل القوم؟

ولا يجوز شيء من ذلك في" هل" ولا يكون" هل" إلا لاستقبال الاستفهام ولا يقتطع بها بعض الكلام.

فلما كان ما في أوله" الواو" و" الفاء" و" ثم" من جملة عطف عليها" بالواو" و" الفاء" و" ثم" صار ما فيه شيء من هذه الحروف بعض الجملة ، فاقتطعت بالألف من الجملة ولم يجز اقتطاعها" بهل" لما ذكرناه.

وقد احتج سيبويه في أول أبواب" أو" للفرق بين" هل" و" الألف" فقال : " وذلك أن هل ليست بمنزلة ألف الاستفهام لأنك إذا قلت : هل تضرب زيدا؟ فلا يكون أن يدعى أن الضرب واقع.

__________________

 ...

رئمان أنف إذا ما ضن باللبن

انظر الخصائص : ٢ / ١٨٤ ، الهمع : ٢ / ١٣٣ ، ابن يعيش : ٤ / ١٨ ، الأشباه والنظائر للسيوطي : ١ / ٣٢٩.

(١) سورة النمل ، الآية : ٦٢.

٤٤٧

قال أبو سعيد : وقد يجوز أن يعارض بقول الله عزوجل : (وَالْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ* هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ)(١) أي : لذي عقل ـ على وجه التنبيه أن في ذلك قسما لذي حجر. ويعارض بقوله عزوجل : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً)(٢).

لأنه أتى عليه حين من الدهر قبل أن ينفخ فيه الروح ولم يكن مذكورا إلى أن نوه الله عزوجل به فصار مذكورا.

وأكثر القول أن الإنسان : آدم. ولم يكم آدم مذكورا وذكر بعض العلماء أن الإنسان يجوز أن يكون : " الناس كلهم". وكل إنسان يأتي عليه من حال تكونه في الرحم إلى أن يولد حين لا يكون فيه مذكورا.

وقال الفراء : " هل" : يكون جحدا ويكون خبرا. فقوله : عزوجل : " هل أتى على الإنسان حين من الدهر" ومثله : فهل" وعظتك" ، فهل أعطيتك ، مقررة بأنك أعطيته ووعظته.

والجحد أن تقول : وهل يقدر أحد على مثل هذا؟

قال أبو سعيد : وللمحتج عن سيبويه أن الذي ذكر سيبويه جوازه في الألف ممتنع في" هل" لأن الذي يقول : أتضرب زيدا؟ لمن قد ضربه يوبخه ويتهدده. ولم يأت مثل ذلك في" هل" وكان الفراء يذهب إلى أن حروف النسق كان ينبغي أن تكون قبل الألف كما كانت قبل" هل" وسائر الحروف.

ولما كانت" الألف" تضارع" الألف" التي تدخل على الفعل الماضي كقولك : ذهب وأذهبه فلان فلو قلت : وأقدم زيد؟ وأنت تريد ألف الاستفهام. لأشبه قولك : " أقام زيد بمكان كذا وكذا. فلما خشوا هذا جعلوا هذه الحروف بين الألف وبين ما بعدها.

وكان يقول : " أنما خصوا الألف" بذلك لأنها لا تقوم بنفسها فأشبهت ما يتصل بالشيء وهو منه وضارعت" هل"" من" و" ما" فدخلت حروف النسق عليها.

قال أبو سعيد : إذا قال القائل : هل وجدت فلانا عند فلان؟ فقال المجيب : أو هو

__________________

(١) سورة الفجر ، الآيات : ١ : ٥.

(٢) سورة الإنسان ، الآية : ١.

٤٤٨

ممكن يكون عنده؟ فكلام المخاطب عطف على كلام المتكلم. وجاز أن يقول : " وعمرو" أو" فعمرو" أو" ثم عمرو" وإذا عطف واستفهم كان حروف العطف بعد حرف الاستفهام إذا كان الاستفهام بألف.

وإن كان بغير" ألف" فحرف العطف قبله فالألف قولك أو هو ممن يزورك؟ وأفهو لك صديق؟ و" أثم أقام عندك" أو" فما فعل عندك؟ " أو ثم ما فعل عندك؟ أو يقول : إذا جاءني زيد. فلك أن تقول : أو من ...؟ أو" فمن ...؟ أو" ثم من ...؟ ونحو ذلك.

وإذا قال : ألست صاحبنا؟ أو : ألست أخانا؟ فقد صار الأول تقريرا بدخول ألف الاستفهام وعطفت الثاني عليه. عطفت جملة على جملة وأدخلت فيه ألف الاستفهام فصارت الجملة الثانية كالجملة الأولى.

ورد العامل فيه يصيره في معنى" بل" كأنك قررته على الجملة الثانية. وتركت التقرير الأول. كما تعمل" بل" في ترك الأول وتثبيت الثاني. ومثل ذلك : أما أنت صاحبنا؟ أو ما أنت أخانا؟ أدخل حرف الاستفهام على : " ما" الجحد. وحكمها حكم" ليس".

ومثل ذلك قوله : أو لا تأتينا أو لا تحدثنا؟ إذا أردت التقرير أو غيره.

" ألا تأتينا" يكون تقريرا ، ويكون استدعاء وعرضا. كقولك : ألا ماء أشربه؟ وهو في نحو معنى" هلا".

وهذا معنى قول سيبويه : " إذا أردت التقرير أو غيره".

إعادة العامل توجب استئناف الاستفهام واستقباله.

فإن أردت أن يكون الكلام جملة واحدة جئت بحرف العطف ولم تعد العامل فقلت : ألست أخانا أو صاحبنا أو جليسنا؟ فعطفت" أو" اسما على اسم. ولم تعد حرف الاستفهام ولا العامل فصار كقولك : ألست أحد هؤلاء النفر؟ وهو كلام واحد. وجعل" أخانا" و" صاحبنا" و" جليسنا" أحوالا. وجعل كونه أحدها. لا كونا في بعض الصفات التي لهم.

وإذا قال : ألست أخانا؟ أو لست جليسنا؟ أو لست صاحبنا؟ فكل واحدة من هذه الثلاثة مثبتة مفردة له على حياله وجعله في هذه الأحوال كلها يعني : " أخاهم وصاحبهم وجليسهم" ولا يجوز أن تقول : ألست صاحبنا؟ أو لست جليسنا؟ أو لست أخانا؟ وأنت تريد بتكرير : " لست" ما تريد إذا لم تكرر" لست".

٤٤٩

لأنك إذا كررتها فقد جعلت الكلام الثاني منقطعا من الأول. وصارت" أو" بمنزلة" أم" وصار المتكلم إذا قال : ألست صاحبنا؟ أو لست جليسنا؟ معرضا عن الأول معتمدا على الثاني وكذلك لو لم يكن استفهام فأخبرت فقلت : ـ لست بشرا أو لست عمرا.

وكذلك : ما أنت ببشر وما أنت بعمرو. ولم يجئ إلا على معنى : لا بل ما أنت بعمرو ولو أراد أن يقول : ما أنت لست بواحد منهما لقال : لست عمرا ولا بشرا.

أو قال : لست بشرا أو عمرا. كما قال الله عزوجل : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) بمعنى ولا كفورا.

قال : ولو قال : " أو لا يطع كفورا" انقلب المعنى يعني : أنه إذا أعاد" أو لا تطع" يصير إضرابا كأنه ترك النهي عن اتباع الإثم وأضرب عنه ونهى عن طاعة الكفور فقط. وقوله : " فينبغي لهذا أن يجئ في الاستفهام منقطعا" يعني : أن" أم" لا تقع في النهي. لأنها استفهام. ولكنها تدخل فيما كان خبرا فيكون استفهاما. ويكون دخول" أم" فيه كدخول" أو" في النهي إذا قلت : أو لا كفورا.

وذلك قولك : أما أنت بعمرو؟ أم أنت ببشر؟ تكون" أم" في هذا نظيره" أو" في : " أو لا يطع". لأنهما يكونان للإضراب عن الأول. فيصير كأنه قال : " بل لا تطع كفورا" بل ما أنت ببشر.

وقد مضى الكلام في" أم" المنقطعة وشرحها ووجوهها قبل.

هذا باب لبيان «أم»

لم دخلت على حروف الاستفهام ولم تدخل على الألف؟

تقول : أم من يقول؟ أم هل تقول ولا تقول : أم أتقول؟

وذلك لأن" أم" بمنزلة الألف وليست أي ومن (ما) و" متى" بمنزلة الألف أنما هي أسماء بمنزلة : هذا وذاك. إلا أنهم تركوا الألف التي للاستفهام هنا إذ كان هذا النحو من الكلام لا يقع إلا في المسألة.

فلما علموا أنه لا يكون إلا كذلك استغنوا عن الألف وكذلك" هل" أنما هي بمنزلة" قد" إلا أنهم تركوا" الألف" إذا كانت" هل" لا تقع إلا في الاستفهام.

٤٥٠

قلت : فما بال" أم" تدخل عليهن وهي بمنزلة الألف؟

فقال : " أم" إنما هي تجيء بمنزلة" لا بل" للتحول من شيء إلى شيء والألف لا تجيء إلا مستقبلة فهم قد استغنوا في الاستقبال عنها. واحتاجوا إلى" أم" إذا كانت لترك شئ إلى شئ لأنهم لو تركوها (فلم يذكروها) لم يتبين المعنى.

قال أبو سعيد : في نسخة أبي بكر مبرمان متصل بهذا الباب قال ابن أحمر :

ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث

إلى ذاكم قد غيبتني غيابيا (١)

يريد : البثا شهرين ونصف ثالث : وقال الله عزوجل : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ)(٢).

قال أبو العباس : ليس هذا البيت في كتاب سيبويه وأهل الشعر يجعلونه بمنزلة" الواو" وكذلك في قول الله عزوجل : (" وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ").

قال : وليس القول عندي هكذا. وذلك أنه يصير : البثا شهرين ونصف شهر على" أو".

و" أو" بمعنى" واو" العطف أيضا غير موجود.

والقول عند أبي العباس : " البثا شهرين أو البثا شهرين نصف ثالث".

وكذلك : " مائة ألف أو مائة ألف ويزيدون".

وقال : ولا أخرجها عن معناها ، ولكن أتركها على معناها وأقدر أن الذي بعدها مثل الذي قبلها ، واحذفه اختصارا. لأن الذي قبله دل عليه هذا قول أبي العباس فافهمه فإنه حسن.

قال أبو سعيد : وهذا المتصل بالباب مع كلام أبي العباس نقلته من نسخة أبي بكر مبرمان.

وقال أبو سعيد : وقد تكلمت على البيت و" أرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون" فيما تقدم بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وقد ذكرت أن" أم" دخلت على حروف الاستفهام لأنها أسماء. و" أم" حرف عطف

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) سورة الصافات ، الآية : ١٤٧.

٤٥١

فدخلت عليها كما تدخل حروف العطف عليها في قولك : ومن؟ وكيف؟ ومتى؟ وغيرهن من الأسماء التي يستفهم بها. ولم تدخل" أم" على الألف لأن" أم" نظيرة الألف في التعديل والتسوية وأنهما حرفان ليس باسمين. والألف هي الأصل في حروف الاستفهام وهذه الأسماء التي تستفهم بها هي أسماء كان حقها أن تدخل عليها ألف الاستفهام. لأنها للدلالة على ما تحتها من المسميات ولكنها لما خصت في استعمالها في الاستفهام أو في الجزاء استغنى عن ذكر حرف الجزاء وحرف الاستفهام معها لدلالتها عليها.

و" أم" هي للاستفهام لمعادلتها الألف. وللاستفهام بها إذا كانت منقطعة وهي للعطف أيضا. لا يبتدأ بها. وهي جارية مجرى" أو" وقد ذكرنا العطف بها.

فإذا أدخلنا" أم" على أسماء الاستفهام فهي على وجهين :

أما أن يخلصها : للعطف وتبقى بضمير الاستفهام في أسماء الاستفهام فتصير بمنزلة" الواو" و" الفاء" و" ثم" التي تدخل على هذه الأسماء.

كقولنا : " ومن ..؟ ومتى؟ وكيف؟ و" فمن؟ متى؟ ...؟

و" ثم من؟ ... وما أشبهه.

وأما أن تبقي الاستفهام في" أم" وتخلص أسماء غير متضمنة للاستفهام فيكون الاستفهام تاما. ويكون دخولها عليه كدخولها على سائر الأسماء وكدخول ألف الاستفهام على الأسماء.

وأما" هل" فإنها حرف دخلت لاستقبال الاستفهام ومنع بعض ما يجوز في الألف من اقتطاعها بعض الجملة. ومن جواب التعديل والمساواة.

فكأنها دخلت مانعة لشيء من الاستفهام ومجيزة لشئ منه. فصارت داخلة لغير الاستفهام المطلق الذي أصل حروفه الألف.

ولذلك قال سيبويه : " هل" إنما هي بمنزلة" قد". إلا أنهم تركوا الألف كما كان حق الأسماء التي يستفهم بها أن تدخل عليها ألف الاستفهام فيقال : أهل قام زيد؟ وأمن قام؟ ودخلت" أم" على" هل" لأنها حرف عطف" كالواو" و" أو" في قولك : " وهل"؟

ومعنى قول سيبويه للفصل بين" أم" وبين الألف في دخول" أم" على" هل" وامتناع الألف من دخولها على" هل".

أن" أم" إنما تجيء هاهنا بمنزلة : " لا بل للتحويل من شئ إلى شيء. والألف لا

٤٥٢

تجئ إلا مستقلة. فهم قد استغنوا في الاستقبال عنها. واحتاجوا إلى" أم" إذ كانت لترك شيء لأنهم لو تركوها لم يتبين المعنى.

ومعنى قوله : أن" أم" تجئ بمنزلة : " لا بل للتحويل من شيء إلى شيء. يعني أنها إذا كانت منقطعة دلت على مثل ما دلت عليه" بل" في ترك شئ إلى شيء.

ولو جئنا بالألف في موضع" أم" لكنا قد استأنفنا الاستفهام ولم يكن فيه ترك شيء إلى شيء. ألا ترى أن رجلا لو أبصر شخصا من بعيد فقال : هو زيد. ثم شك فيه أو عن له رأى في خلاف ما قال. فقال : أم أنا لا أبصر؟ علم أنه ترك قوله الأول. أو شك فيه.

وسبيل" أم" لما كانت للعطف أن تصير بين ما قبلها وما بعدها ملابسة" ما" كسائر حروف العطف فلذلك احتاجوا إلى" أم" واستغنوا عن الألف ولو لم يذكروا" أم" لم يتبين المعنى.

وكان أبو العباس المبرد يجيز دخول ألف الاستفهام على" هل" وعلى سائر أسماء الاستفهام كدخول" أم". وأنشد :

سائل فوارس يربوع بشدتنا

أهل رأونا بسفح القف ذي الأكم

ودخول الألف عليها غير معروف.

وغيره يرويه بأم : أم هل.

والقول ما ذكرناه عن سيبويه

هذا باب ما ينصرف وما لا ينصرف

هذا باب «أفعل»

قال سيبويه : اعلم أن أفعل إذا كان صفة لم ينصرف ، نكرة ولا معرفة وذلك لأنها أشبهت الأفعال ، نحو : اذهب واعلم.

قلت : فما باله لا ينصرف ، إذا كان صفة؟

فقال ـ يعني الخليل ـ لأن الصفة أقرب إلى الأفعال ، فاستثقلوا التنوين فيه كما استثقلوا في الأفعال ، فأرادوا أن يكون في الاستثقال كالفعل ، إذ كان مثله في البناء ، والزيادة ، وضارعه ، وذلك نحو أحمر ، وأسود ، وأخضر.

٤٥٣

وإذا حقرته قلت : أحيمر وأخيضر ، فهو على حاله قبل أن تحقره ، من قبل أن الزيادة التي بها أشبه الفعل مع البناء ثابتة ، وأشبه هذا من الأفعال ما أميلح زيدا ، كما أشبه أحمر أذهب.

قال أبو سعيد : نحتاج أن نقدم مقدمات ، توطئ معرفة ما ينصرف وما لا ينصرف ، وشيئا من علل ذلك ، وذكر الأسباب المانعة من الصرف فأقول : إن الأسماء تنقسم قسمين ، أحدهما : متمكن ، والآخر غير متمكن ، فالمتمكن : المعرب وغير المتمكن المبني.

والمتمكن على ضربين أحدهما : مستوف للتمكن ، ويسمى الأمكن فأما الأمكن المستوفي للتمكين ، فهو ما يدخله الرفع والنصب ، والجر. والناقص التمكن هو ما يعرب بالرفع ، والنصب ، فقط ، ولا يدخله تنوين والمجرور منه محمول على لفظ المنصوب.

ونقصان التمكن في الاسم أن يدخل عليه ما يثقله مما هو فرع فيه غير أصل ، وذلك عشرة أشياء : وزن الفعل ، وشبهه ، والصفة ، والتأنيث ، والتعريف ، والجمع والعدل ، والعجمة ، وزيادة الألف وحدها ، والألف والنون في آخر الاسم ، وجعل الاسمين اسما واحدا.

أما وزن الفعل المانع من الصرف من الزوائد الأربعة ، التي تكون في أول الأفعال المضارعة ويكون بها الاسم على وزن" فعل" من الأفعال المضارعة ، أو فعل الأمر ، وإن شاركه في ذلك البناء الاسم.

أو يكون لفظه لفظا لا يقع في شيء من الأسماء.

فأما ما كان في أوله زيادة الفعل المضارع فنحو أحمر ، وأخضر ، وأسود وأفكل ، وأزمل ، وأيدع ، وأربع وأكلب ويرمع وثغلب ويزيد ، ويشكر ، وترتب ، وتنضب ، ونرجس.

فهذه الأسماء منها ما لا يستعمل فعلا نحو : أفكل ، وأيدع ، وأحمر ، وأخضر.

وجميع هذه الأبنية تقع في الأسماء غير الأعلام.

وأما ما يكون لفظه غير موجود في الأسماء إلا أن يسمى به فيكون علما فهو مثل : فعّل ، وفعّل وما أشبه ذلك ، وذلك قولك ضرّب وكسّر وضرّب وكسّر.

فإن سميت باسم على وزن فعل ، يشاركه الاسم في ذلك الوزن لم تعتد بوزن الفعل فيه ، وذلك قولك : جعفر ، وسلهب وجعل ، وكثف ، وعجز.

٤٥٤

فجعفر ، وسلهب ، وإن كان وزنهما كدجرج وسرهف فذلك لا يثقلهما.

لأن هذا الوزن ليس الفعل أولى به من الاسم ، وكذلك جمل ، وكثف ، وعجز وزنها كوزن فشل ، وعلم ، وظرف وذلك لا يثقله ؛ لأن الفعل غير مختص بذلك ، وكذلك لو لحقت بالفعل علة تصيره إلى لفظ الاسم لزالت العلة والثقل وذلك نحو : (فيل) ، (بيع) و (رد) لأنه قد صار على وزن (ديك) و (رد) على وزن كرّ.

وإنما صار الاسم الذي في أوله إحدى الزوائد ثقيلا ، وإن اشترك في ذلك البناء الاسم والفعل ، كاشتراك أذهب ، وأمنع وهما فعلان لأحمق ، وأسود ، وأفكل ، وأيدع ، وهي أسماء ؛ لأن هذه الهمزة يجوز دخولها على الأفعال لمعنى ، وهي أن يكون الفعل للمتكلم كقوله : أنا أذهب ، وأصنع ، وتدخل أيضا لنقل الفعل كقولك أعلم زيد عمرا خبرا وأخرج زيد عمرا ، وتدخل الياء والتاء والنون في قولك أنت تذهب وهو يذهب ونحن نذهب.

فلما صار لهذه الحروف معان في الأفعال تدخل تارة أصلا في الأفعال ، والأسماء داخلة عليها.

وإنما صار ما ذكرنا من وزن الفعل ثقلا ؛ لأن الاسم أصل ، والفعل فرع ، والاسم أخف من الفعل ، فإذا دخل على الاسم ما هو للفعل ثقله ، وكذلك الصفة أثقل من الموصوف ؛ لأن الصفة تحتاج إلى الموصوف ، والموصوف قبلها كقولك : مررت برجل أحمر ، وثوب أخضر ، والتأنيث أثقل من التذكير ؛ لأن التذكير أول ، والتأنيث داخل عليه ؛ لأن أصل الأسماء أن يقال لكل واحد منها شيء ، والشيء مذكر ، وأيضا فالتأنيث يحتاج إلى علامة والتذكير لا علامة له ؛ لأنه على الأصل ، والتعريف أثقل من التنكير ؛ لأن أصل الأسماء أن تكون منكورة ، كل واحد منها شائع في نوعه ، كرجل ، وفرس ، وإنما يتعرف بدخول الألف واللام ، أو الإضافة ، والذي يصير الاسم علما بالاختصاص له.

والجمع أثقل من الواحد ؛ لأن الواحد هو الأصل ثم يجمع ، والعدل أثقل من الاسم الذي عدّل عنه ؛ لأن ذلك الاسم هو الأصل ، والعجمة أثقل من العربة ؛ لأنها ترد بعد كلام العرب بعد التكلم بالعربة ، وزيادة الألف وحدها ، وزيادة الألف والنون أثقل ؛ لأن الاسم أولا بغير زيادة ، وجعل الاسمين اسما واحدا أثقل ؛ لأن الأصل اسم واحد ثم ضم إليه الآخر.

وجعلت هذه الزيادات في الأواخر ثقلا ؛ لأنها في لحاقها آخر الاسم تجري مجرى

٤٥٥

التأنيث وسنبين ذلك كله في موضعه بأكثر من هذا إن شاء الله تعالى.

فإذا اجتمع في الاسم من هذه العلل العشر الفرعية ثنتان فصاعدا أو واحدة تقوم مقام ثنتين منع الاسم من الصرف ، فلم يدخله تنوين ولا جر.

وإذا دخلت واحدة لم تمنع الصرف.

وإنما لم يمنع بدخول واحدة ؛ لأن في الاسم خفة بالاسمية ، فإذا دخل ثقل واحد قاومته الخفة فلم يغلبها فإذا دخل ثقلان غلباها.

وإنما منع ما لا ينصرف التنوين والجر ؛ لأن التنوين هو علامة الأمكن وحذفه علامة المثقل من الأسماء ، ولم يدخله الجر ؛ لأن الاسم الذي ثقل بما دخل عليه أنزل منزلة الفعل ، وليس في الفعل جر.

فإن قال قائل : فهلا أسكن الاسم في حال الجر إذا دخل عليه ما يمنع الصرف؟

قيل له حكم الاسم المستحق للإعراب أن لا يمنع الإعراب في شيء من أحواله فاحتيج إلى إعرابه ، فحمل على النصب كما حمل النصب عليه في التثنية والجمع السالم.

وقال الزجاج : ما لا ينصرف في حال الجر مبني ؛ لأن الجر لا يدخله كما لا يدخل الفعل ، إذا كان ما لا ينصرف مشبها بالفعل ، فلما لم يدخله الجر أبدل من الكسرة بناء الفتح ، كما أن الأفعال حين ضارعت الأسماء أعطيت الإعراب كذلك إذا ضارع الاسم الفعل منع ما لا يدخل الفعل ، فكرهوا إذا لم يخففوا الاسم ، وهو في موضع يجب له فيه حركة الإعراب أن يسكنوه فلا يكن بين الأسماء المتمكنة إذا لم تنصرف وبين الأسماء التي هي غير متمكنة وهي مبنية على الوقف فرق.

وجميع ما لا ينصرف مشبه بالفعل ، وتشبيهه بالفعل من وجهين : أحدهما بالوزن كأحمر ، ويزيد ، ويشكر ، وتغلب ، وضرب ، وكسّر ، والآخر بالثقل الذي يدخله ، وذلك الثقل فرع ، والفعل فرع ، فهما مجتمعان في الفرعية.

وحقيقة منع الصرف إذهاب التنوين ، دون منع الجر والدليل على ذلك أن المرفوع والمنصوب مما لا مدخل في الجر فيه ، إنما يذهب منه التنوين فقط ، وإذا دخل على ما لا ينصرف الألف واللام أو أضيف انصرف ، كقولك : مررت بالأحمر ، والأسود ، والمساجد ، والحمراء والصفراء وبعمركم وإبراهيمكم وما أشبه ذلك ؛ وإنما انصرف لأن الألف واللام والإضافة أخرجتاه من شبه الفعل ، إذ كان الفعل لا يكون فيه ذلك ، فانصرف لخروجه من

٤٥٦

شبه الفعل.

فإن قال قائل : فحروف الجر ، وسائر عوامل الأسماء قد يدخلن على ما لا ينصرف ، فلا يصرفنه كقولك مررت بأحمر وجاءني إبراهيم ودخلت مساجد ، فإن في ذلك أجوبة تفصل بين دخول الألف واللام والإضافة وبين دخول العوامل ، منها : أن الألف واللام والإضافة إذا دخلت على الاسم الذي لا ينصرف أخرجته عن شبه الفعل ، ثم تدخل عليه بعد ذلك العوامل فيصادف العامل شيئا غير مشبه للفعل فيعمل فيه عمله ، وإذا دخل العامل قبل دخول الألف واللام والإضافة صادف ثقيلا ، فلم يعمل فيه إلا عمله الذي ذكرناه. وجواب ثان ، وهو أن الألف واللام ، والإضافة قد قامت مقام التنوين ، فكأن الاسم منون ، والتنوين هو الصرف ، وعلامة الأمكن وليس العامل كذلك.

وجواب ثالث : وهو أن الاسم بدخول الألف واللام والإضافة تتغير ذاته وينتقل من مبهم إلى معين والعامل لا يغيره عن حاله الأولى.

جواب رابع : وهو أن الفعل قد يضاف إليه كما يضاف إلى الاسم ما ينجر به فلم تخرجه حروف الجر من شبه الفعل.

وجواب خامس : أنا لو اعتبرنا العوامل لبطل أصل ما لا ينصرف ؛ لأن العوامل الداخلة على الاسم غير داخلة على الفعل ، فلو كان يثقل بدخول العوامل لكان كل عامل يدخل عليه يوجب صرفه ، وبطل الفرق بين ما ينصرف وبين ما لا ينصرف.

قال أبو سعيد : ابتدأ سيبويه بذكر ما يجتمع فيه علتان من العلل المانعة من الصرف ، وساق الأبواب على ذلك ، وبدأ بأفعل الذي هو وصف ، وقد اجتمعت علتان وزن الفعل والصفة ، وإن صغرته لم يخرجه التصغير إلى الصرف ؛ لأن الفعل قد صغر في بعض المواضع وهو التعجب ، فقالوا ما أميلح زيدا ، قال الشاعر :

يا ما أميلح غزلانا شدنّ لنا

من هؤليّائكنّ الضّال والسّمر (١)

فلذلك لم (يبتعد) بالتصغير من شبه الفعل.

على أن الأسماء في التصغير على ثلاثة أوجه في حكم الصرف ، فمنها اسم لا ينصرف في التصغير والتكبير ، نحو هذا الباب وغيره ، واسم لا ينصرف ، فإذا صغر

__________________

(١) البيت في الخزانة : ١ / ٤٥ ، ٤ / ٩٥ ، وابن يعيش : ١ / ٦١ ، ٣ / ١٣٤ ، ٥ / ١٣٥ ، ٧ / ١٤٣.

٤٥٧

انصرف ، كالأسماء المعدولة ، نحو عمر ، وزفر ، فإذا قيل : عمير ، وزفير ، انصرف. واسم ينصرف ، فإذا صغر لا ينصرف ، وذلك كرجل يسمى ضارب ، أو ما كان من بنائه فإذا صغر صار ضيرب فلم ينصرف ، وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

هذا باب أفعل إذا كان اسما وما أشبه الأفعال من الأسماء التي في

أوائلها الزوائد

فما كان من الأسماء أفعل فنحو" أفكل" و" أزمل" و" أيدع" وأربع لا ينصرف في المعرفة ؛ لأن المعارف أثقل وينصرف في النكرة ؛ لأنه يجتمع فيها في المعرفة وزن الفعل والتعريف ، فإذا نكر ففيه وزن الفعل فقط.

وقولنا : " المعرفة" في هذا الموضع وما يأتي في غيره أن يسمى به شيء بعينه من رجل ، أو امرأة ، أو بلد أو موضع ، أو غير ذلك من الحيوان ، كما يسمى الواحد بذلك لتعريف شخصه.

فأما ما أشبه الأفعال سوى أفعل فمثل" اليرمع" و" اليعمل" وهو جماع اليعملة واليعملة الناقة السريعة ، ويقال لها أيضا : " اليعملات" وليس بصفة حقيقية ومثل" أكلب".

وذلك أن" اليرمع" مثل" يذهب" و" أكلب" مثل" أدخل" ألا ترى أن العرب لا تصرف" أعصر" ، ولغة بعض العرب يعصر لا يصرفونه أيضا ، وتصرف ذلك في النكرة ؛ لأنه ليس بصفة.

وإنما انصرف في النكرة ؛ لأن الذي يبقى فيه علة واحدة وهي وزن الفعل ، فإن قال قائل فأكلب جمع فلم لا يكون علة ثانية؟

قيل له : إذا سمينا بأكلب وبغيره من الجمع شيئا فقد زال الجمع وصار اسما لذلك الشيء ، على أن ألفاظ الجمع لا يعتد بالجمع فيها إذا كان يمكن أن تكسر كقولنا : أنعام ، وأناعيم ، وأرهط ، وأراهيط ، وسنقف على ذلك.

قال : " واعلم أن هذه الياء والألف لا تقع واحدة منهما في أول الحرف رابعة إلا وهي زائدة ، ألا ترى أنه ليس من اسم مثل" أفكل" يصرف ، وإن لم يكن له فعل ينصرف ، ومما يدلك على أنها زائدة كثرة دخولها في بنات الثلاثة ، وكذلك الياء أيضا ،

٤٥٨

وإن لم تقل هذا دخل عليك أن تصرف أفكل ، وأن تجعل الشيء إذا جاء بمنزلة الرجازة والربابة ، وليس له فعل ، بمنزلة القمطرة ، والهدملة".

قال أبو سعيد : اعلم أن ما لا ينصرف يحتاج معه إلى معرفة التصريف ؛ لأنه قد يرد في أول الحرف الذي جاء زائدا منع الصرف وإن كان أصليّا لم يمنع ، ولذلك ذكر" أفكل" وهو الرعدة وجعل الهمزة فيه زائدة ، فصار على أفعل ، فكأن قائلا قال : ولم لا تكون الهمزة أصلية فيصير على" فعلل" مثل درهم فينصرف في المعرفة ، وإذا كان أفعل لم ينصرف.

فقال سيبويه : الدليل على أن الهمزة زائدة أنه ليس من اسم مثل" أفكل" يصرف. يعني اسما في أوله همزة وبعدها ثلاثة أحرف أصلية لم يوجد ذلك في كلام العرب.

ثم قال : ويدلك على أنها زائدة كثرة دخولها في بنات الثلاثة.

يعني أن الهمزة يكثر دخولها في بنات الثلاثة ، فما عرف اشتقاقه وعلم أنها فيه زائدة كقولنا : " أحمر" وأشهب ، وأصفر ، وأقهب وما لا يحصى كثرة ، وأصله من صفرة ، وحمرة ، وشهبة ، وقهبة فتحمل ما لا يعرف اشتقاقه على ما عرف اشتقاقه ، لاتفاقهما في الهمزة أولا.

ثم قال : وإن لم تقل هذا ـ يعني إن لم تقل في أفكل إن الهمزة زائدة وفرقت بينه وبين أحمر بأن أحمر وقد عرف اشتقاقه وأفكل لا يعرف له اشتقاق تسقط فيه الهمزة دخل عليه حرفا زائدا كالألف في الرّجازة وهي شيء يعدل به البعير ، والرّبابة التي تجمع فيها القداح وأن تجعلها بمنزلة القمطرة والهدملة وهذا فاسد.

وإذا جاء على" فعلل" وكانت اللامان من جنس واحد لم يدغم أحدهما في الآخر كقولنا : قردد ، ومهدد ، وجلبب ، وما أشبه ذلك فلذلك حمل" أكلل" وأيقق" على فعلل.

ولو جاء وسمي به رجل صرف وحمل على فعلل.

وأما (أول) فهو أفعل يدلك على ذلك هو أول منك ومررت بأول منك ، والأولى.

قال أبو سعيد : استدل على أن أول أفعل بما لا يكون إلا في أفعل وذلك منك.

٤٥٩

تقول : هو أفضل منك ، وأنبل منك ، وأقل منك ، وأقدم منك ، فأول منك بمنزلة أقدم منك ، والأولى ، والأول بمنزلة الفضلى والأفضل والأجل ، والجلى. وأما خير منك وشر منك فإنما كثرا ، والأصل فيهما أخير منك وأشر منك ، وإنما حذفت الهمزة منهما لكثرتهما في الكلام.

وإذا سميت رجلا" بألبب" فهو غير مصروف والمعنى عليه ، لأنه من اللّب وهو أفعل ولو لم يكن المعنى على هذا لكان" فعلل" ، والعرب تقول" قد علمت ذاك بناقة ألببه".

يعنون لبّه" يعني أن الاشتقاق قد بين أن الهمزة زائدة وترك الإدغام شاذ.

ومن الناس من يقول : ألبه يجعله جمع لب ، كذا حكاه الفراء وأصحابنا حكوا بنات ألببه بمعنى أعقله.

قال : " ومما يترك صرفه ؛ لأنه يشبه الفعل ولا يجعل الحرف الأول منه زائدا إلا بثبت نحو تنضب ، وإنما جعلت التاء زائدة ؛ لأنه ليس في الكلام شيء على أربعة أحرف ، ليس أوله زائدة ، يكون على هذا المثال لأنه ليس في الكلام فعلل".

قال أبو سعيد : مما يعرف به الزائد الخروج عن الأمثلة المعروفة التي ليس فيها زائد ، وليس في الكلام فعلل (مثل جعفر) وكذلك التاء في ترتب وترتب ، وكذلك التّدرأ والتّدرأ بالفتح والضم ، والتّنفّل كل ذلك إذا سميت به رجلا أو غيره ، وصار معرفة ، لم ينصرف لاجتماع وزن الفعل ، والتعريف. وقد عرف بعض ذلك بالاشتقاق ، يقال : هذا أمر ترتب وترتب وهو الرتب ، ويقال فلان ذو تدرأ أي ذو دفع لخصمه أو قرنه وهو مأخوذ من درأته أي دفعته.

قال : " وكذلك رجل يسمّى تألب لأنه تفعل ويدلك على ذلك أنه يقال للحمار ألب يألب وهو طرده طريدته وهو نفعل وإنما قيل دألب من ذلك".

قال أبو سعيد : النّألب المعروف هو شجر تتخذ منه القسي ، الواحدة نألبة ، فيجوز أن تكون مشتقة من" ألب" ؛ لأن القوس تطرد السهام ، وتسوقها إلى المرمى ، قال الشاعر :

ألم تعلمي أنّ الأحاديث في غد

وبعد غد يألبن ألب الطّرائد (١)

ورأيت فيما علّقه أبو بكر مبرمان ، مفسر كتاب سيبويه أن التألب : الشجر ، وولد

__________________

(١) البيت في اللسان : (ألب).

٤٦٠