شرح كتاب سيبويه - ج ٣

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٣

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

وترك العلامة في ضرب. وقال الله تعالى : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا)(١) ؛ حسن لمكان لا ، وقد يجوز في الشعر ؛ قال أبو الحسن : سمعته من يونس لابن أبي ربيعة :

قلت إذ اقبلت وزهر تهادى

كنعاج الملا تعسّفن رملا (٢)

واعلم أنه قبيح أن تصف المضمر في الفعل بنفسك وما أشبهه ، وذلك أنه قبيح أن تقول : فعلت نفسك ، إلا أن تقول : فعلت أنت نفسك. فإن قلت : فعلتم أجمعون حسن ؛ لأنّ هذا يعمّ به ، وإذا قلت : نفسك فإنما تؤكّد الفاعل ، ولمّا كانت نفسك يتكلم بها مبتدأة وتحمل على ما يجرّ وينصب ويرفع شبّهوها بما يشرك المضمر ، وذلك قولك : نزلت بنفس الجبل ، ونفس الجبل مقابلي ، ونحو ذلكن وأمّا أجمعون فلا تكون إلا صفة ، وكلّهم قد تكون بمنزلة أجمعين ؛ لأنّ معناه معنى أجمعين فهي تجرى مجراها.

وأمّا علامة الإضمار التي تكون منفصلة من الفعل ولا تغيّر ما عمل فيها عن حاله إذا أظهر فيه الاسم فإنه يشركه المظهر لأنّه لا يشبه المظهر ، وذلك قولك : أنت وعبد الله ذاهبان ، والكريم أنت وعبد الله.

واعلم أنه قبيح أن تقول : ذهبت وعبد الله ، أو ذهبت وأنّا ؛ لأنّ أنا بمنزلة المظهر. ألا ترى أن المظهر لا يشركه إلا أن يجئ في شعر ، قال الشّاعر (وهو الراعي):

فلمّا لحقنا والجياد عشيّة

دعوا يا لكلب واعتزينا لعامر (٣)

ومما يبح أن يشركه المظهر علامة المضمر المجرور ، وذلك قولك : مررت بك وزيد ، وهذا أبوك وعمرو ؛ فكرهوا أن يشرك المظهر مضمرا داخلا فيما قبله ؛ لأنّ هذه العلامة الداخلة فيما قبلها جمعت أنها لا يتكلّم بها إلا معتمدة على ما قبلها في اللفظ ، وأنها بدل من اللفظ بالتنوين ، فصارت عندهم بمنزلة التنوين ، فلما ضعف عندهم كرهوا أن يتبعوها الاسم ، ولم يجز أن يتبعوها إيّاه وإن وصفوا ؛ لا يحسن أن تقول : مررت بك أنت وزيد ، كما جاز فيما أضمرت في الفعل ؛ لأنّ ذاك وإن كان قد

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ١٤٨.

(٢) البيت في ديوانه ٤٩٢ ؛ شرح المفصل ٣ / ٦٧ ؛ الكتاب ٢ / ٣٧٩.

(٣) البيت في ديوانه ، الكتاب ٢ / ٣٨٠ ؛ ولسان العرب ؛ وتاج العروس (عزا) ، (عمر).

١٤١

أنزل منزلة آخر الفعل فليس من الفعل ولا من تمامه ، وهما حرفان يستغنى كلّ واحد منهما بصاحبه كالمبتدإ والمبنيّ عليه ، وهذا يكون من تمام الاسم ، وهو بدل من الزيادة التي في الاسم ، وحال الاسم إذا أضيفت إليه مثل حاله مفردا ، لا يستغنى به ، ولكنهم يقولون : مررت بكم أجمعين ؛ لأنّ أجمعين لا تكون إلا وصفا ، ومررت بهم كلّهم ؛ لأنّ أحد وجهيها مثل أجمعين.

وتقول أيضا : مررت بك نفسك ؛ لمّا أجزت فيها ما يجوز في فعلتم مما يكون معطوفا على الأسماء احتملت هذا ؛ إذ كانت لا تغيّر علامة الإضمار هاهنا ما عمل فيها ، فضارعت هاهنا ما ينتصب ، فجاز هذا فيها ، وأمّا في الإشراك فلا يجوز ؛ لأنه لا يحسن في فعلت وفعلتم إلا ب (أنت وأنتم) ، وهذا قول الخليل.

وجاز : قمت أنت وزيد ، ولم يجز : مررت بك أنت وزيد ؛ لأنّ الفعل يستغنى بالفاعل ، والمضاف لا يستغنى بالمضاف إليه ؛ لأنه بمنزلة التنوين ، وقد يجوز في الشعر. قال الشاعر :

آبك أيّه بي أو مصدّر

من حمر الجلّة جأب حشور (١)

هذان البيتان من الرّجز لم يقرأهما أبو عثمان ولا غيره من أصحابنا ، وهما في الكتاب.

وقال الآخر :

فاليوم قرّبت تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والأيّام من عجب" (٢)

قال أبو سعيد : أما شركة الظاهر للمضمر المنصوب ، وهي عطف الظاهر المنصوب على المضمر المنصوب فهي جائزة مستحسنة ليس بين النحويين في ذلك خلاف ، أكّد المضمر أو لم يؤكد ، وليس فها علّة تمنع ذلك.

وأمّا عطف الظاهر المرفوع على المضمر المرفوع المتّصل بالفعل فيستقبح عند البصريين ؛ إلا أن يؤكّد المضمر ، أو يدخل بين المضمر وبين المعطوف عليه كلام يكون عوضا من التوكيد. فالمستقبح منه نحو قولك : قمت وزيد ، وأفعل وعبد الله ، وإن الزيدين قاما وأخوك. وإنما قبح ذلك لأنّ ضمير الفاعل قد يكون في الفعل بغير علامة كقولك :

__________________

(١) البيت بلا نسبة في الكتاب ٢ / ٣٨٢ ؛ ولسان العرب وتاج العروس (أوب).

(٢) البيت لم يعرف قائله ، الخزانة ٥ / ١٢٣ ، ١٢٦ ؛ ابن يعيش ٣ / ٧٨ ؛ الكتاب ٢ / ٢٨٣.

١٤٢

قم ، واذهب ؛ فيه ضمير المخاطب ولا علامة له في اللفظ ، وفيه ماله علامة تغير بنية الفعل بتسكين آخر الفعل الماضي وذلك : قمت ، وقمنا ، وقمت ، وقمتما ، وقمتم ، فلما كان بعضه يقدّر في الفعل ويبقى لفظ الفعل مجردا ، وبعضه كأنه من حروف الفعل بتسكينه لما كان من الفعل مفتوحا واختلاطه بحروفه صار المعطوف عليه في اللفظ كأنه قد عطف على الفعل وحده ، إذ كان الموجود لفظ الفعل مجردا ، أو ما يجري ببنيته مع الفعل كالمجرّد ، والاسم لا يعطف على الفعل ، فقبح لذلك.

وأمّا المستحسن المؤكّد فقولك : قمت أنا وزيد ، وخرجنا نحن وأصحابك ، و (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)(١) ، وإنّ الزّيدين خرجا هما وأخوك ، وإنّ الهندات في الدار هنّ وأخواتك ، وهنّ توكيد للضمير الذي لهنّ في الظرف ، وتقديره : إنّ الهندات استقررن هنّ وأخواتك في الدار.

وأمّا ما يكون من الكلام بين المعطوف والمعطوف عليه عوضا من التوكيد فنحو قولك : أقمت بالبصرة وزيد ، وما خرجت ولا زيد ، وفي مواضع من كتاب الله عزوجل قد جاء ؛ فمنها : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا)(٢) فعطف آباؤنا على النون والألف في أشركنا ، و (لا) الداخلة بينهما عوض من التوكيد.

ومنها : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ)(٣) فعطف آباؤنا على النون والألف ، وترابا عوض من التوكيد ، ومنها : (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ)(٤) (من) رفع بالعطف على التاء ، وما بين التّاء و (من) عوض من التوكيد ، ومنها قوله تعالى : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)(٥) في رفع رسوله وجهان : أحدهما : أن يكون عطفا على الضّمير الذي في (بريء) ، وما بينهما كالتوكيد ، وشبّه سيبويه العوض في هذا كالعوض الذي يقع في (أنّ) المشدّدة إذا خفّفت ووليها الفعل كقولك : قد علمت أن لا تقول ذاك ، وأصله : قد علمت أنك لا تقول ، ولو قلت : علمت أن تقول ذاك ، على معنى : أنك تقول : لم يحسن ؛ لأنّ (لا) عوض من تخفيف أنّ ،

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٣٥.

(٢) سورة الأنعام ، الآية : ١٤٨.

(٣) سورة النمل ، الآية : ٦٧.

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ٢.

(٥) سورة التوبة ، الآية : ٣.

١٤٣

وستقف على شرح هذا في موضعه إذا بلغنا إليه إن شاء الله.

والكوفيّون يجيزون العطف بغير توكيد ، والأمر في ترك التوكيد عندهم أسهل منه عند البصريين ، وسيبويه يرى ترك التوكيد وما يقوم مقامه قبيحا إلا في الشّعر ، والكوفيّون لا يرونه قبيحا. ومما ينشد في ذلك غير البيتين اللذين ذكرناهما قول جرير :

ورجا الأخيطل من سفاهة رأيه

ما لم يكن وأب له لينالا (١)

عطف أب على الضمير في يكن.

وأمّا توكيد الضمير المتّصل المرفوع بالنفس فلا يحسن حتى تقدّم قبل النفس توكيدا ؛ لا يحسن : فعلت نفسك حتى تقول : فعلت أنت نفسك. وإنّما احتاجت إلى تقديم توكيد قبلها لأنها اسم يتصرف ، وتقع في جميع مواضع الأسماء ، ويؤكّد بها ، فيعرض في بعض مواضع توكيد المرفوع لبس إن لم يؤكد ، وذلك أن تقول : هند خرجت نفسها ، فتكون نفسها فاعلة خرجت ، كما تقول : هند خرجت جاريتها ، وليس في خرجت ضمير ، ويجوز أن تقول : هند خرجت نفسها ، على أنّ هندا هي الخارجة ، وفي خرجت ضميرها فلا يتبيّن أن معناها : خرجت هند ، أو خرجت نفس هند ، ومعناهما مختلف في مقاصد الناس ، فإذا أكّدوا قبل النفس فقالوا : هند خرجت هي نفسها زال اللّبس ؛ فلذلك اختاروا التوكيد.

وقول سيبويه : " ولمّا كانت نفسك يتكلّم بها مبتدأة وتحمل على ما يجرّ وينصب ويرفع ، شبّهوها بما يشرك المضمر".

قال أبو سعيد : أراد سيبويه الفصل بين أجمعين وبين نفسك ؛ فلأن أجمعين لا يكون إلا توكيدا لم يحتج إلى تقدّم ضمير ، ولمّا كانت النفس اسما يتصرف شبّهت بما يعطف من الأسماء على الضمير.

قال أبو سعيد : والذي عندي : شبهوها بما لا يشرك المضمر ؛ لأنه إنما يحتجّ لاحتياجهم إلى التوكيد قبل ذكر النفس ، فالنفس في ذلك بمنزلة المعطوف على ضمير المرفوع في باب التوكيد.

وأمّا المنصوب والمخفوض فإذا أكّدا بالنفس لم يحتج إلى تقدمة توكيد قبلها وذلك من جهتين :

__________________

(١) البيت في ديوانه ٤٥١.

١٤٤

إحداهما : أنّ اللّبس لا يقع فيهما ؛ لأنّ ضمير المنصوب والمخفوض لا يكون إلا بعلامة ملفوظ بها تتبعها النفس ، والمرفوع يكون بغير علامة فيقع من جهته اللبس.

والجهة الأخرى : أنّ المنصوب والمجرور لا ضمير لهما منفصل في الأصل ، وهما يؤكّدان بضمير المرفوع كقولك : رأيتك أنت ومررت بك أنت ، واستعمال ضمير المرفوع في غير موضعه من غير قصد إلى التوكيد به يضعف ؛ لأنه إذا قدّم من أجل النفس فليس يراد التوكيد به.

وأمّا (فعلتم أجمعون) فحسن ؛ لأنه يعمّ به ، وهو موضوع للتوكيد والعموم ، ولا يستعمل في مواضع الأسماء ، ولا يقع فيه لبس ، وقد استعمل (كلّهم) في موضعها لاشتراكهما في العموم ، وعلى أن (كلهم) ليس بمتمكن في مواضع الأسماء ؛ لأن المستحسن فيه أن يكون مبتدأ أو يعمّ به ما قبله ، فمجراه مجرى أجمعين في هذا الوجه.

وأمّا قبح عطف الظاهر المجرور على المضمر المجرور فليس بين النحويين فيه خلاف ، وقد احتج له سيبويه بما ذكرناه من كلامه ، واحتج أبو عثمان المازني لذلك بأن قال : " لما كان المضمر المجرور لا يعطف على الظاهر إلا بإعادة الخافض كقولك : مررت بزيد وبك ، ولا يجوز أن تقول : مررت بزيد وك ، كذلك تقول : مررت بك وبزيد ، فتحمل كل واحد منهما على صاحبه" ، وشايعه أبو العباس المبرد في ذلك ، وقد جاء في الشعر عطف الظاهر المجرور على المضمر في أبيات كثيرة منها ما ذكرنا في جملة الباب ومنها قوله (أنشده الفرّاء) :

تعلّق في مثل السّواري سيوفنا

فما بينها والكعب غوط نفانف (١)

أراد : وبين الكعب ، فعطف على المكنيّ المخفوض ، وأنشد أيضا :

أكرّ على الكتيبة لا أبالي

أفيها كان حتفي أم سواها (٢)

قال أبو سعيد : أمّا هذا البيت الأخير فليس فيه حجة ؛ لأن سواها ظرف ؛ ألا ترى أنه يجوز أن تقول : أفي اليوم كان حتف زيد أم يوم الجمعة؟

فإن قال قائل : فأنتم تقولون : مررت بك وزيدا ، فتنصبون زيدا بالعطف على موضع الباء أو بتأويل : لقيتك وزيدا ولا تكون فيه ضرورة ؛ فهلا نصب هؤلاء الشعراء ما خفضوه وخرجوا عن الضرورة؟

__________________

(١) البيت منسوب إلى مسكين الدارمي ٥٣ ، ابن يعيش ٣ / ٧٩ ؛ لسان العرب وتاج العروس (غوط).

(٢) البيت منسوب للعباس بن مرداس السلمي في ديوانه ١١٠ ، والخزانة ٣ / ٤٣٨.

١٤٥

فالجواب عن ذلك أن قوله :

آبك أيّة بي أو مصدّر

كان حق المصّدّر أن يكون منصوبا ؛ لأنه بمنزلة : امرر بي وزيدا ؛ لأن أيّه فعل معناه صح بي أو زيدا ، على معنى : ادعني أو زيدا. يقال : أيّهت بالإبل : صحت بها ، وإنما خفضه ضرورة لخفض القوافي ، ومعنى آبك : ويلك ، والمصدّر : العظيم ، والجأب والحشور : الغليظ. قال الشاعر في آبك ، وأنشده أبو زيد :

فآبك هلا والليالي بغرّة

صحوت وفي الأيام عنك غفول (١)

وأمّا : فاذهب فما بك والأيام ، وما بينها والكعب ، فليس قبلهما فعل يحملان عليه وينصبان ، فالضرورة حملهما على الخافض.

والتأكيد للمضمر المجرور لا يحسّن عطف الظاهر عليه كما حسّنه في المرفوع ؛ لأن المرفوع بالفعل قد يكون غير متصل بالفعل الرافع له الظاهر منه والمضمر ، وإنما استحسن توكيده ؛ لأن التوكيد خارج عن الفعل ، فيصيّره بمنزلة الفاعل الذي ليس متصلا ، فيعطف عليه كما يعطف على ما ليس بمتّصل من الفاعلين ، والمجرور لا يكون إلا متصلا بالجارّ ، فلا يخرجه التوكيد إلى شبه ما ليس بمتصل ، وباقي الباب مفهوم من كلام سيبويه.

هذا باب ما تردّه علامة الإضمار إلى أصله

وهذا الباب في كتاب أبي العباس المبرد قبل الباب الذي ذكرناه قبله.

قال سيبويه : " فمن ذلك قولك : لعبد الله مال ، ثم تقول : لك وله مال. وذلك أن اللام لو فتحوها في الإضافة لالتبست بلام الابتداء إذا قال : إن هذا لفلان ، ولهذا أفضل منك ، فأرادوا أن يميزوا بينهما ، فلما أضمروا لم يخافوا أن تلتبس بها ؛ لأنّ هذا الإضمار لا يكون للرفع ويكون للجرّ. ألا تراهم قالوا : يا لبكر ، حين نادوا ؛ لأنه قد علم أن تلك اللام لا تدخل هاهنا.

وقد شبهوا به قولهم : أعطيكموه في قول من قال : أعطيكم ذلك فيجزم ، ردّوه إلى أصله بالإضمار كما ردوه بالألف واللام حين قالوا : أعطيكم اليوم ، فشبّهوا هذا ب" لك وله" ، وإن كان ليس مثله ؛ لأنّ من كلامهم أن يشبّهوا الشيء بالشيء وإن

__________________

(١) البيت في ديوانه ، ولسان العرب وتاج العروس (أوب).

١٤٦

كان ليس مثله. وقد بيّنّا ذلك فيما مضى ، وستراه إن شاء الله فيما بقي.

وزعم يونس أنه يقول : أعطيتكمه ، وفي نسخة أبي العباس أعطيكمها كما تقول في المظهر ، والأوّل أكثر وأعرف".

قال أبو سعيد : إنما كسروا الاسم مع الظاهر وفتحوها مع المضمر ؛ لأنّ حروف الظاهر وصيغتها لا تتغيّر بتغيّر الإعراب ، ولا تدل على مواضعه من الرفع والنصب والجرّ ، وحروف المضمرات بأنفسها تدلّ على مواضعها من الإعراب ؛ فلذلك كسروا اللام مع الظهر ؛ لأنهم لو فتحوها لم يعلم أهي لام الإضافة والملك الخافضة ، أم لام التوكيد. وذلك في قولنا : إنّ هذا لزيد ، إذا كان المشار إليه هو زيد ، وإنّ هذا لزيد ، إذا كان المشار إليه ملك زيد ؛ فكسروا اللام الخافضة ليزول اللّبس ، وأصلها الفتح ؛ لأنّ الباب في الحروف المفردة أن تبنى على الفتح ، فإذا وصلتها بالمكنيّ عادت إلى أصلها من الفتح ، وذلك في قولك : إنّ هذا لك ، وإنّ هذا له ، وإنّ هؤلاء لنا ؛ لأنك تقول في مكنيّ المجرور والمرفوع ، فأغني عن كسر اللام ، فأجريت على أصلها من الفتح ، وقد ذكر هذا في غير هذا الموضع. وكذلك فتحوا لام المستغاث به حين علم أنه لا يقع في النّداء لام التوكيد ، وفي لام الاستغاثة المفتوحة وجه آخر قد ذكرناه في موضعه ، وجعل هذا سيبويه مقوّيا لما تردّه علامة الإضمار إلى أصله.

وقالوا : أعطيتكم والأصل : أعطيتكمو ؛ لأن الواو بعد الميم في الجمع بمنزلة الألف بعد الميم في التثنية إذا قلت : أعطيتكما ، وإنما حذفوا الواو وأسكنوا الميم تخفيفا لأنه لا لبس فيه لأن الواحد لا ميم فيه ، والاثنين لا تفارقهما الألف لخفتها ، ومما يزيد في ثقل الواو طرفا وقبلها ضمّة أنّ مثل لفظه لا يقع في الأسماء ، وإن عرض فيها غيّر إلى الياء كقولهم : أدل وأجر ، وأصلهما : أدلو وأجرو.

وإنما ردّه الضمير إلى أصل البنية في أعطيتكموه ، وأعطيكموه ؛ لأن الضمير لما اتصل بها صارت الواو التي بعد الميم كأنّها في الوسط لا في الطّرف ، والحذف من الأطراف أحسن وأكثر وأسهل من حذف غير الأطراف لعلل قد ذكرت في موضعها.

والذي حكاه يونس من قولهم : أعطيتكمه قد بني على الظاهر إذا قلت : أعطيتكم ثوبا ، أو على أنه لما كثر استعمالهم أعطيتكم صار كأنه بني على السكون ، ثم اتصلت به الكناية كقوله : اضربه ، وما أشبههه ، وإذا أضفته إلى ما فيه الألف واللام فأكثرهم يردّه إلى الأصل فيضمه ، ويقول : أعطيتكم اليوم ، فيضمّ الميم ؛ لمّا اضطر إلى تحريكها حركها بحركتها في الأصل ، ومنهم من يكسر الميم فيقول : أعطيتكم اليوم ، فيكسر لالتقاء

١٤٧

الساكنين على اللفظ الذي استعمل فيها ، ولم تردّ إلى أصلها.

ومثله : ما رأيته مذ اليوم ، ومذ اليوم ، على ردّها إلى ضمّة منذ ، وكسرها لالتقاء الساكنين ، والكسر في أعطيتكم اليوم ، كالسّكون في أعطيتكمه.

هذا باب ما لا يجوز فيه الإضمار من حروف الجرّ

قال سيبويه : (وذلك الكاف التي في : أنت كزيد ، وحتى ، ومذ. وذلك أنهم استغنوا بقولهم : مثلي ، وشبهي عنه فأسقطوه.

واستغنوا عن الإضمار في حتى في قولهم : دعه حتى يوم كذا وكذا بقولهم : دعه حتى ذاك ، وبالإضمار في إلى إذا قالوا : دعه إليه ؛ لأنّ المعنى واحد ، كما استغنوا ب (مثلي) و (مثله) عن (كي) و (كه). واستغنوا عن الإضمار في مذ بقولهم : مذ ذاك ؛ لأنّ ذاك اسم مبهم ، وإنما يذكر حين يظن أنّك قد عرفت ما يعني. إلا أنّ الشّعراء إذا اضطروا أضمروا في الكاف ، فيجرونها على القياس.

قال العجّاج :

وأمّ أو عال كها أو أقربا (١)

وقال العجاج أيضا :

فلا ترى بعلا ولا حلائلا

كه ولا كهنّ إلا حاظلا (٢)

شبهوه بقولهم : له ولهن.

ولو اضطر شاعر وأضاف إلى نفسه قال : كي ، بكسر الكاف ، وكي بفتح الكاف خطأ ؛ من قبل أنه ليس من حرف يفتح ما قبل ياء الإضافة).

قال أبو سعيد : منع هذه الحروف من الإضافة إلى مكنيّ فيما ذكره سيبويه سماع من العرب ؛ لأنه ذكر أنهم استغنوا بقولهم : مثلي ، وشبهي ، عن إضافة الكاف ، واستغنوا بقولهم : حتى ذاك ، ومذ ذاك ، وإنما يريد أنّ العرب استغنوا بشيء عن شيء ، وليس لأحد أن يجيز ما استغنت العرب عن الكلام به ببدل جعلوه مكانه ، فيكون خارجا عن كلامها.

وعلّل أبو إسحاق الزّجّاج ذلك فقال : لم يجز الإضمار في حتى لأنه يقع ما بعدها

__________________

(١) البيت في ديوانه ٧٤ ، الخزانة ١٠ / ١٩٥ ، ١٩٦ ؛ ابن يعيش ٨ / ١٦ ؛ الكتاب ٢ / ٣٨٤.

(٢) البيت في ديوانه ، الخزانة ١٠ / ١٩٥ ، ١٩٦ ؛ الكتاب ٢ / ٣٨٤.

١٤٨

على ضروب كثيرة ، ومذ يقع ما بعدها على غير ضرب ومنذ صارت في الأيام حسب.

قال أبو سعيد : وأنا أقول إنا رأينا أسماء تضاف إلى الظاهر ولا يجوز إضافتها إلى المكني كقولنا : ذو مال ، وذو المال ولا يجوز : ذوه.

وتقول : والله ، وتالله في القسم ولا يجوز : وه ، ولا وك ، ولا ته ، ولا تك ؛ لأنهم استغنوا بإضافة الباء إلى المكنيّ في قولهم : بك لأعبدنّك أن يقولوا : وك ، أو تك.

وكان أبو العباس المبرد يجيز إضافة ما منع سيبويه إضافته في هذا الباب ولا يمتنع منها ، ويقول : " إذا كان ما بعد حتى رفعا : حتى هو ، وإذا كان نصبا : حتى إياه ، وإذا كان جرّا : حتاه ، وحتاك ، وفي مذ إذا كان ما بعدها رفعا : مذ هو ، وإذا كان جرّا : مذه". والصحيح ما قاله سيبويه ؛ لموافقته كلام العرب.

وأمّا قول العجّاج :

وأمّ أو عال كها أو أقربا (١)

فأمّ أو عال : هضبة قد ذكر قبلها مكانا آخر مؤنثا ، وشبّه أمّ أو عال بها ، فقال : وهو يصف حمارا هرب بأتنه من صائد رماها :

أجمعن منه سننا وهربا

نحي الذبابات شمالا كثبا

وأمّ أو عال كها أو أقربا

ذات اليمين غير ما أن ينكبا (٢)

منه : من الصائد ، نحي الحمار الذبابات : وهي في موضع صار هو وأتنه منها ناحية ، وأمّ أو عال : مثل الذبابات في تصييرها إياها ناحية ، وأمّ أو عال : عطف على الذبابات تقديره : تجئ الذبابات شمالا وأم أو عال ذات اليمين كالذبابات أو أقرب منها ، كأنه قال : جعل أمّ أو عال كالذباب أو أقرب منها.

وأمّا قوله : ولا ترى بعلا ولا حلائلا كه ، ويقف الهاء ساكنة ، ولا كهن : كحمار ذكره وأتن ، والحاظل : مثل العاظل : وهو المانع من التّزويج ، والحمار يمنع حمارا آخر من قرب شيء من أتنه ، وقد ذكرنا كسر الكاف إذا أضيف إلى المتكلم لدخول الياء على حرف متحرك.

__________________

(١) البيت سبق تخريجه.

(٢) البيت منسوب لديوان العجاج ٧٤ ، الكتاب ٢ / ٣٨٤.

١٤٩

هذا باب ما يكون فيه أنت وأنا ونحن وهو وهي وأنتم

وأنتن وهما وأنتما وصفا

قال سيبويه : (اعلم أنّ هذه الحروف كلها تكون وصفا للمجرور المضمر والمرفوع والمنصوب المضمرين ، وذلك قولك : مررت بك أنت ، ورأيتني أنا ، وانطلقت أنت ، وليس وصفا بمنزلة الطويل إذا قلت : مررت بزيد الطويل ، ولكنه بمنزلة نفسه إذا قلت : مررت به نفسه ، وأتاني هو نفسه ، ورأيته نفسه ، وإنما تريد إذا قلت : مررت به هو مررت به نفسه ، ولست تريد أن تحلّيه بصفة ولا قرابة كأخيك ، ولكن النحويين صار هذا عندهم صفة ؛ لأنّ حاله كحال الموصوف ، كما أنّ حال الطويل وأخيك في الصفة بمنزلة الموصوف.

واعلم أنّ هذه الحروف لا تكون وصفا لمظهر ، كراهية أن يصفوا المظهر بالمضمر ، كما كرهوا أن يكون أجمعون ونفسه معطوفا على النكرة في قولهم : مررت برجل نفسه ، ومررت أجمعين.

فإن أردت أن تجعل مضمرا بدل من مضمر قلت : رأيتك إيّاك ، ورأيته إيّاه ، فإن أردت أن تبدل من مرفوع قلت : فعلت أنت ، وفعل هو ، فأنت وهو وأخواتهما نظائر إيّاه في النصب.

واعلم أن هذا المضمر يجوز أن يكون بدلا من المظهر ، وليس بمنزلته في أن يكون وصفا له ؛ لأنّ الوصف تابع للاسم ، وأمّا البدل فمنفرد ، كأنك قلت : زيدا رأيت ، أو رأيت زيدا ، ثم قالوا : إياه رأيت. وكذلك أنت وأخواتها في الرفع.

واعلم أنه قبيح أن تقول : مررت به وبزيد هما ، كما قبح أن تصف المضمر والمظهر بما لا يكون إلا وصفا للمظهر.

ألا ترى أنه قبيح أن تقول : مررت بزيد وبه الظريفين).

قال أبو سعيد : أصل المضمر أن يكون على صيغة واحدة في الرفع والنصب والجر ، كما كانت الأسماء الظاهرة على صيغة واحدة ، والإعراب في آخرها يبيّن مواقعها ، وكما كانت الأسماء المبهمة المبنية على صيغة واحدة والدّلالة على إعرابها أفعالها ومواضعها ، نحو : جاءني هذا ، ورأيت هذا ، ومررت بهذا ، ولكنهم فصلوا في المضمر في بعض المواضع بين صيغة المرفوع منها والمنصوب والمخفوض في نحو : ضربت زيدا ، وضربك زيد ، وضربت زيدا ، وضربني زيد ، ومرّ بي زيد ، فاسم المتكلّم والمخاطب يتغير في الرفع

١٥٠

والنصب والجر ، وهذا زيادة بيان قد أحسنوا فيه.

وقد سوّوا المرفوع والمنصوب والمجرور في بعض المواضع ، وذلك قولك : قمنا وذهبنا ، النون والألف في موضع رفع. وأكرمنا زيد وأعطانا ، النون والألف في موضع نصب. ونزل علينا زيد ، ورغب فينا ، النون والألف في موضع جرّ. وقد كنّا ذكرنا أنّ الضمير المنفصل في الأصل للمرفوع ؛ لأنّ أوّل أحواله الابتداء ، وعامل المبتدإ ليس بلفظ ، فإذا أضمر لم يكن بدّ من أن يكون ضميره منفصلا ، والمنصوب والمجرور لا بدّ لهما من لفظ يعمل فيهما ، فإذا أضمرا اتّصلا بذلك اللفظ ، فصار المرفوع مختصّا بالانفصال ، فإذا وصفنا المضمر المنصوب والمجرور ـ ووصفهما هو تأكيدهما لئلا يذهب الوهم إلى غيرهما ، كما يؤكّدان النّفس والعين إذا قلت : رأيته نفسه ، ورأيته عينه ، ورأيته بعينه ، ومررت به نفسه ، وعينه ؛ فبعينه لتحقيق الفعل للشّيء بعينه دون من يقوم مقامه ومن يشبهه ـ احتجنا إلى ضمير منفصل ، ولا منفصل إلا ضمير المرفوع ، فاستعملناه في المنصوب والمجرور والمرفوع ، كما اشتركن جميعا في (نا) ، وكما ذكرنا من إيجاب القياس اشتراكها كلّاه في لفظ واحد ، وليست هذه الصفة كصفة زيد ؛ لأن صفة زيد ونحوه تحلية له لتبينه من زيد آخر ، وهذا قد عرف بالضّمير ، وإنّما يؤكّد لئلا يتوهّم أنّ الفعل الواقع إنما وقع من بعض أسبابه ، كما يقول القائل : ضرب الأمير زيدا ، والذي تولّى الضّرب غيره ، فإذا قلت : ضرب الأمير نفسه زيدا ، فقد تولى الضّرب بنفسه ، وكذلك : مررت بك ، يجوز أن يكون : مررت بمن يخلفه ، أو من يشبهه في أمر من الأمور ، فإذا قلت : مررت بك أنت ، بيّنت أنّه الممرور به ، وسمّاه النّحويون : وصفا ، وإن خالف وصف زيد ؛ لأنه يجري على زيد في تعريفه ورفعه وجرّه وبيان الأول به على الوجه الذي قصد بيانه به.

وقول سيبويه : (واعلم أن هذه الحروف لا تكون وصفا لمظهر كراهية أن يصفوا المظهر بالمضمر) إن اعترض عليه معترض فقال : وما تكره من هذا؟ ومن كلامهم وصف المضمر بالمظهر في قولك : قمتم أجمعون ، ومررت بكم كلّكم ، ورأيته نفسه ، فما بين المظهر والمضمر تباين يوجب أن لا يؤكّد أحدهما بالآخر.

فالجواب عن ذلك أنّ المضمر لا يوصف بما يعرّفه ، وإنّما يوصف بما يؤكّد عمومه ، أو يؤكّد عينه ونفسه ، نحو : مررت بكم كلّكم ، ومررت بكم أجمعين ، ومررت بك نفسك ، والظّاهر يشارك المضمر في التوكيد بالعموم وبالنّفس كقولك : مررت بالقوم أجمعين ، ومررت بالقوم كلّهم ، ومررت بزيد نفسه ، ويختصّ الظاهر بالصفة التي هي تحلية عند التباسه بظاهر آخر مثله نحو : مررت بزيد البزّاز ، والطويل وما أشبهه.

١٥١

وقد جرى التوكيد والاختصاص بالنفس مجرى صفاتى التّحلية في اشتراك الصفة والموصوف في الإعراب والتّعريف ، وفي شرط الصفات أن لا تكون الصّفة أعرف من الموصوف ، فلما كان المضمر أعرف من الظاهر لم يجعل توكيدا للظّاهر ؛ لأن التوكيد كالصّفة.

ومما يمنع من توكيد الظاهر المضمر أنّا لو فعلنا ذلك لم يكن توكيده إلا بالمضمر الغائب ، وسقط منه ضمير المتكلّم والمخاطب ؛ لأنّا إذا قلنا : لقيت زيدا ، أو مررت بزيد ، أو جاءني زيد ، فأكّدناه ، لم يكن في شيء من ذلك إلا أن تقول هو ، فيسقط المتكلم والمخاطب ، وهما الأكثر والأصل في الضّمير ، واستعمال ما يوجب إسقاط أصله وأكثره مطّرح متروك.

وأما البدل فإنه يجوز أن تبدل المضمر من المضمر ، والمضمر من المظهر ، والظاهر من المضمر.

فأمّا المنصوب فقولك : رأيتك إياك ، تجعل إيّاك بدلا من الكاف ، كأنك قلت : إيّاك رأيت ، ولم تذكر الكاف ، وقدّرناه ، بتقديم إياك ، أو ما رأيت إلا إياك.

وأما المرفوع فإنك تقولك قمت أنت ، والمجرور : مررت بك بك ، وتعيد حرف الجرّ لأنّ الكاف لا تنفرد ، وإن أبدلت مضمرا من ظاهر قلت في المجرور : مررت بزيد به بإعادة حرف الجر.

والفرق بين جواز بدل المكنيّ من المضمر ومن الظّاهر وبطلان التوكيد والصفة بالمكنيّ من الظاهر أنّ الصّفة تطلب المشاكلة بينها وبين الموصوف في التعريف أو التنكير ، والبدل ليس يطلب ذلك إذ جاز بدل النكرة من المعرفة ، والمعرفة من النّكرة ، وقد ذكرت في غير هذا الباب أنّ النكرة لا تؤكّد بما أغنى عن إعادته ، وباقي كلامه مفهوم.

هذا باب من البدل أيضا

قال سيبويه : (وذلك قولك : رأيته إيّاه نفسه ، وضربته إياه قائما.

وليس هذا بمنزلة قولك : أظنّه هو خيرا منك ، من قبل أنّ هذا موضع فصل ، والمضمر والمظهر في الفصل سواء. ألا ترى أنّك تقول : رأيت زيدا هو خيرا منك ،

١٥٢

وقال تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ)(١). وإنما يكون الفصل في الأفعال التي الأسماء بعدها بمنزلتها في الابتداء.

فأمّا ضربت وقتلت ونحوهما فإن الأسماء بعدها بمنزلة المبنيّ على المبتدإ ، وإنّما كان يذكر قائما بعد ما يستغنى الكلام ويكتفي ، وينتصب على أنّه حال ، فصار هذا كقولك : رأيته إيّاه يوم الجمعة.

وأمّا نفسه حين قلت : رأيته إيّاه نفسه ، فوصف بمنزلة هو ، وإياه بدل ، وإنما ذكرتهما توكيدا ، كقوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)(٢) ؛ إلا أنّ إيّاه بدل والنفس وصف ، كأنك قلت : رأيت الرجل زيدا نفسه ، وزيد بدل ونفسه على الاسم. وإنّما ذكرت هذا للتمثيل. وإنما كان الفصل في أظنّ ونحوه لأنّه موضع يلزمه فيه الخبر ، وهو ألزم له من التوكيد ؛ لأنه لا يجد منه بدا. وإنما فصل لما لا بدّ له منه ، ونفسه يجزئ من إيّا ، كما تجزئ منه الصفة ؛ لأنّك جئت بها توكيدا وتوضيحا ، فصارت كالصّفة.

ويدلّك على بعده أنك لا تقول : إنك أنت إياك خير منه. فإن قلت : أظنه هو خيرا منه ، جاز أن تقول : إياه ؛ لأن هذا ليس موضع فصل ، واستغنى الكلام به ، فصار كقولك : ضربته ، وكان الخليل يقول : هي عربيّة : إنك أنت إياك خير منه : فإذا قلت : إنك فيها إياك ، فهو مثل أظنّه خيرا منه ، يجوز أن تقول : إياك.

ونظير إيّا في الرفع : أنت وأخواتها.

واعلم أنها في الفعل أقوى منها في أن تغني إيا في البدل وغيره ، ويدلك على أن الفصل كالصفة أنه لا يستقيم أن تقول : أظنّه هو إياه خيرا منك ، إذا كان أحدهما لم يكن الآخر ، ولا يجوز : أظنّه هو هو أخاك ، إذا جعلت إحداهما صفة والأخرى فصلا ؛ لأنّ كل واحدة منهما تجزئ من أختها).

قال أبو سعيد : بدأ سيبويه في هذا الباب بالفعل الذي لا يجوز فيه الفصل ، ويجوز فيه التّوكيد والبدل ، وهو كلّ فعل لم يتعلق باسمين أحدهما هو الآخر ، فإذا تعلّق الفعل بمفعول واحد أو تعلّق بمفعولين أحدهما غير الآخر لم يكن فيه فصل.

__________________

(١) سورة سبأ ، من الآية : ٦.

(٢) سورة الحجر ، الآية : ٣٠ ، وسورة ص ، الآية : ٧٣.

١٥٣

فالمتعلق بالمفعول الواحد قولك : (من رؤية العين) ، وضربته ، وأكرمته.

والمتعلق بالمفعولين وأحدهما غير الآخر : أعطيت زيدا درهما ، وألبست أخاك ثوبا.

وأما ما يقع الفصل فهو ما كان من الفعل متعلقا باسمين أحدهما هو الآخر ، والثاني منهما خبر الاسم الأوّل ، ويدخل الفصل بعد الاسم الأول ليؤذن أنّ الاسم قد تمّ وبقي الخبر حسب ، وقد ضمّن سيبويه أحكامه ومسائله الباب الذي يلي هذا.

والذي يسمّى فصلا هو ضمير الاسم الأوّل ، يفصل به بين الاسم الأول والثاني ، ولفظه كلفظ التّوكيد الذي هو ضمير الاسم الأول ، غير أنّ التوكيد لا يدخل إلا على مضمر في كلّ فعل ، والفصل يدخل بين الظاهرين وبين المضمرين.

وقوله : رأيت زيدا هو خيرا منك ، وقول الله عزوجل : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ)(١) جميعا من رؤية القلب ، و (هو) فيهما فصل ، وفصل بين دخول إيّاه بين ضربته قائما ، وبين دخول (هو) بين رأيت زيدا هو خيرا منك ، فجعل الهاء في ضربته بمنزلة خبر المبتدإ في استغناء الكلام واكتفائه به ، وجعل قائما حالا بعد أن استغنى الكلام ، فلمّا بطل الفصل في ضربته قائما ، جعل إياه بدلا من الهاء ، فقال : ضربته إيّاه ، وهو الذي للتّوكيد ، وهو الذي للفصل ، جميعه يراد به التوكيد ، ولا يجتمعن. ونفسه أيضا للتوكيد ، وفيها معنى التوكيد بالضمير ، غير أنه يجوز أن يجمع بين نفسه وبين الضمير لأنّهما مختلفان : أحدهما مضمر ، والآخر ظاهر ، فيقال رأيته إياه نفسه ، فإياه بدل ، ونفسه وصف ، وذكرهما توكيدا ، كما قال عزوجل : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)(٢) ولهذا قدّم توكيد الضّمير قبل النفس في المرفوع.

ومعنى قول سيبويه : (ونفسه تجزئ من (إيّا) كما تجزئ منه الصّفة) يريد أنّا إذا قلنا : رأيتك نفسك ، أو رأيته نفسه ، أجزأت نفسك عن إيّاك ، ويكون معنى : رأيتك نفسك ، كمعنى رأيتك إياك ، كما أنّ أنت إذا قلت : رأيتك أنت ، أجزأت أنت عن أن تقول : رأيتك إيّاك ؛ لأنّهما جميعا للتوكيد ، غير أن النّفس يجوز أن يؤتى بها مع الضمير الذي للتّوكيد فيكون توكيدان ، ولا يجوز أن يؤتى بضميرين متواليين للتّوكيد ؛ لا تقول : رأيتك أنت إياك ، وقد تقدّم ذكر ذلك. ومعنى قول سيبويه : (ويدلّك على بعده أنّك لا

__________________

(١) سورة سبأ ، الآية : ٦.

(٢) سورة الحجر ، الآية : ٣٠.

١٥٤

تقول : إنّك أنت إياك خير منه) يريد على بعد الجمع بين الصّفة والبدل الذي هو : إيّاك ؛ لأنّك لا تقوله في : إنك أنت إياك خير منه. وقد أجازه الخليل لمّا اختلف اللفظان ، أو لمّا اختلف مذهب التوكيد في الصّفة والبدل.

وقوله : (فإن قلت : أظنّه هو خيرا منه ، جاز أن تقول إياه ؛ لأنّ هذا ليس موضع فصل ، واستغنى الكلام) فإن أصحابنا قد فسّروا أن مذهب سيبويه : أظنه هو خيرا منه إياه جائز ، وأظنّه هو إيّاه خيرا منه لا يجوز ، وإنما لم يجوّزوا الضميرين المجتمعين على مذهب سيبويه ؛ لأنهما جميعا في موضع واحد ، فسبيلهما سبيل اللام وإنّ في التوكيد ؛ لا يجتمعان ، فإذا فصل بينهم جاز ، وإذا قلت : كنت أنت خيرا من زيد ، أو ظننت أنا أشدّ من زيد ، فإنّ أنت تكون بدلا من التاء ، وتكون فصلا ، وتكون صفة. وأيّ شيء عني به أغنى عن الباقي ، ولا يجوز اجتماعها جميعا ، لا اجتماع اثنين منها. فإن قلت : كنت أنت خيرا من زيد أنت ، فجعلت أنت الأوّل فصلا ، وأنت الأخير بدلا فهو عندي جائز ، ومحلّه محلّ إياه المتأخّر عن موضع الفصل ، واستواء اللّفظين لا يقدح في جوازه ، وفيما ذكره أبو بكر مبرمان في تفسيره عن نفسه أو بعض من حمل عنه أنّه لا يجوز نحو ذلك لاتّفاق اللفظين ، فالقول الصّحيح ما بدأت به. وباقي الباب مفهوم.

هذا باب ما يكون فيه هو وأنت وأنا ونحن وأخواتهن فصلا

قال سيبويه : (اعلم أنّهنّ لا يكنّ فصلا إلا في الفعل ، ولا يكنّ كذلك إلا في كل فعل الاسم بعده بمنزلته في حال الابتداء ، واحتياجه إلى ما بعده كاحتياجه إليه في الابتداء. فجاز هذا في هذه الأفعال التي الأسماء بعدها بمنزلتها في الابتداء ، إعلاما بأنه قد فصل الاسم ، وأنه فيما ينتظر المحدّث ويتوقّعه منه ، مما لا بدّ له من أن يذكره للمحدّث ؛ لأنك إذا ابتدأت اسما فإنما تبتدئه لما بعده ، فإذا ابتدأت فقد وجب عليك مذكور بعد المبتدإ لا بدّ منه ، وإلا فسد الكلام ولم يسغ لك ، فكأنه ذكر هو ليستدلّ المحدّث أنّ ما بعد الاسم يخرجه مما وجب عليه ، وأنّ ما بعد الاسم ليس منه ، هذا تفسير الخليل.

وإذا صارت هذه الحروف فصلا وهذا موضع فصلها في كلام العرب ، فأجره كما أجروه. فمن تلك الأفعال : حسبت وخلت وظننت ، ورأيت إذا لم ترد به رؤية العين ؛ ووجدت إذا لم ترد به وجدان الضالّة ، وأرى ، وجعلت إذا لم ترد أن تجعلها بمنزلة عملت ، ولكن تجعلها بمنزلة صيّرته خيرا منك ، وكان وليس وأصبح

١٥٥

وأمسى.

ويدلّك على أن أصبح وأمسى كذلك ، أنك تقول : أصبح أباك ، وأمسى أخاك ، فلو كانتا بمنزلة جاء وركب لقبح أن تقول : أصبح العاقل وأمسى الظريف ، كما يقبح ذلك في : جاء وركب ونحوهما. فإنما يدلّك على أنهما بمنزلة ظننت أنه يذكر بعد الاسم فيهما ما يذكر في الابتداء.

واعلم أن ما كان فصلا لا يغيّر ما بعده عن حاله قبل أن يذكر ، وذلك قولك : حسبت زيدا هو خيرا منك ، وكان عبد الله هو الظريف ، وقال عزوجل : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ)(١).

وقد زعم ناس أن (هو) هاهنا صفة ، وليس من عربيّ يجعلها صفة لمظهر. ولو كان كذلك لجاز : مررت بعبد الله هو نفسه ، ف (هو) هاهنا مستكرهة لا يتكلّم بها العرب ؛ لأنه ليس من مواضعها عندهم. ويدخل عليهم : إن كان زيد لهو الظريف ، وإن كنّا لنحن الصّالحين ؛ فالعرب تنصب هذا والنحويون أجمعون ، ولا تكون هو ونحن صفة وفيهما اللام.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ)(٢) ، كأنه قال : ولا يحسبنّ الذين يبخلون البخل خيرا لهم. ولم يذكر البخل اجتزاء بعلم المخاطب بأنّه البخل ، لذكره يبخلون.

ومثل ذلك قول العرب : (من كذب كان شرّا له) ، لا يقول : كان الكذب شرّا له ، استغناء بأنّ المخاطب قد علم أنّه الكذب لقوله : كذب في أوّل حديثه ؛ فصارت هو وأخواتها بمنزلة (ما) إذا كانت لغوا ، في أنها لا تغيّر ما بعدها عن حاله قبل أن تذكر.

واعلم أنها تكون في إنّ وأخواتها فصلا وفي الابتداء ، ولكنّ ما بعدها مرفوع ؛ لأنه مرفوع قبل أن تذكر الفصل.

واعلم أنّ هو لا يحسن أن تكون فصلا حتى يكون ما بعدها معرفة أو ما أشبه المعرفة ، مما طال ولم تدخله الألف واللام ، فضارع زيدا وعمرا ، نحو : خير منك ،

__________________

(١) سورة سبأ ، الآية : ٦.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٠.

١٥٦

وأفضل منك ، وشرّ منك ، كما أنها لا تكون في الفصل إلا وقبلها معرفة ، كذلك لا يكون ما بعدها إلا معرفة أو ما ضارعها. فلو قلت : كان زيد هو منطلقا ، كان قبيحا حتى تذكر الأسماء التي ذكرت لك من المعروفة أو ما ضارعها من النكرة ولم تدخله الألف واللام.

وأما قوله : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) [الكهف : ٣٩] فقد تكون أنا فصلا وصفة ، وكذلك : (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) [المزمل : ٢٠].

وقد جعل ناس كثير من العرب هو وأخواتها في هذا الباب بمنزلة اسم مبتدأ وما بعده مبنيّا عليه ، كأنّك قلت : ظننت زيدا أبوه خير منه ، فمن ذلك أنه بلغنا أنّ رؤبة كان يقول : أظنّ زيدا هو خير منك ، وحدّثنا عيسى أنّ ناسا كثيرا من العرب يقولون : وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظّالمون.

وقال قيس بن ذريح :

تبكّي على لبنى وأنت تركتها

وكنت عليها بالملا أنت أقدر (١)

وكان أبو عمرو يقول : إن كان هذا لهو العاقل.

وأمّا قولهم : (كلّ مولود يولد على الفطرة ، حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه) ، ففيه ثلاثة أوجه : فالرفع وجهان والنصب وجه واحد.

فأحد وجهي الرفع : أن يكون المولود مضمرا في يكون ، والأبوان مبتدآن ، وما بعدهما مبني عليهما ، كأنه قال : حتى يكون المولود أبواه اللذان يهوّدانه. ومثل ذلك قول رجل من بني عبس :

إذا ما المرء كان أبوه عبس

فحسبك ما تريد إلى الكلام (٢)

والوجه الآخر : أن تعمل يكون في الأبوين ، ويكون هما مبتدأ. والنصب على أن تجعل هما فصلا.

وإذا قلت : كان زيد أنت خير منه ، أو كنت يومئذ أنا خير منك ، فليس إلا الرفع ؛ لأنك إنّما تفصل بالذي تعني به الأول إذا كان ما بعد الفصل هو الأول وكان

__________________

(١) البيت في ديوانه ٤٦ ، ابن يعيش ٣ / ١١٢ ؛ الكتاب ٢ / ٣٩٣ ؛ لسان العرب وتاج العروس (ملو) ؛ المقتضب ٤ / ١٠٥.

(٢) البيت بلا نسبة في الكتاب ٢ / ٣٩٤ ؛ اللسان (نصر).

١٥٧

خبره ، ولا يكون الفصل بما تعني به غير الأول. ألا ترى أنك لو أخرجت أنت لاستحال الكلام وتغيّر المعنى ، ولو أخرجت هو من قولك : كان زيد هو خيرا منك لم يفسد المعنى.

وأما هذا عبد الله هو خير منك ، وما شأن عبد الله هو خير منك. فلا يكون هو وأخواته فصلا فيهما ؛ لأن ما بعد الاسم هاهنا ليس بمنزلة ما يبنى على المبتدإ ، وإنما ينصب على أنه حال كما انتصب قائم في قولك : انظر إليه قائما. ألا ترى أنك لا تقول هذا زيد القائم ، وما شأنك الظريف. أفلا ترى أن هذا بمنزلة راكب في قولك : مرّ راكبا.

فليس هذا بالموضع الذي يحسن فيه أن يكون هو وأخواتها فصلا ؛ لأن ما بعد الأسماء هنا لا يفسد تركه الكلام ، فيكون دليلا على أنه فيما تكلّمه به ، وإنما يكون فصلا في هذه الحال".

قال أبو سعيد : أصل دخول الفصل إيذان للمخاطب المحدّث بأنّ الاسم قديم ولم يبق منه نعت ولا بدل ولا شيء من تمامه ، وأن الذي بقي من الكلام هو ما يلزم المتكلم أن يأتي به وهو الخير ، وهو الذي نحاه سيبويه ، ومما زاد فيه بعض أصحابه أنّ الفصل إنّما أتي به ليؤذن أنّ الخبر معرفة أو ما يقوم مقامها ، وأجمع من هذين في التعليل أن يقال : أتي بالفصل ليتبيّن أنّ ما بعده ليس بنعت للاسم ، فجميع هذا سبب المجيء بالفصل ، وأن الذي بعده كان مما يصحّ أن ينعت به الأوّل ، وإذا كان الأول معرفة فلا يصحّ أن ينعت إلا بمعرفة ، فلزم التعريف فيما بعد الفصل ، وأجروا مجرى المعرفة مما بعد الفصل باب أفعل منك كله ، وذلك أن أفضل منك وخيرا منك لمّا لم تكن فيه إضافة ، ومع عدم الإضافة فيه لا تدخل عليه الألف واللام ، أشبه زيدا وعمرا وسائر الأسماء الأعلام التي ليست فيها إضافة ، ولا تدخل عليه ألف ولام.

وأهل الكوفة يسمّون الفصل : العماد. والفصل حكمه أن يفارق حكم ما كان صفة للأول أو بدلا منه ، ويفارق أيضا حكم ما كان مبتدأ وخبرا في موضع خبر الأول.

فأمّا مفارقة الصفة : فإنّ الصفة إذا كانت ضميرا لم يجز أن يوصف به غير الضمير ؛ تقول : قمت أنت ، ورأيتك أنت ، ومررت بك أنت ، ولا تكون صفة للظّاهر ، لا تقول : قام زيد هو ، ولا قام الزيدان هما ، وليس الفصل كذلك لأنه يدخل بعد الظاهر.

ومفارقة البدل له : إذا أردت البدل قلت ظننتك إيّاك خيرا من زيد ، وظننته إيّاه

١٥٨

خيرا منه ، وإذا أردت الفصل قلت : ظننتك أنت خيرا من زيد ، وظننته هو خيرا منه ، ومما يفصل بين الفصل وبين الصّفة والبدل أنّ الفصل تدخل عليه اللام ولا تدخل على الصّفة والبدل ، تقول في الفصل : إن كان زيد لهو الظريف ، وإن كنّا لنحن الصّالحين ، ونصب الظريف والصالحين حكاه سيبويه عن بعض العرب وعن النحويين أجمعين ، ولا يجوز أن تقول إن كنّا لنحن الصّالحين في الصفة والبدل ؛ لأنّ اللام تفصل بين الصفة والموصوف والبدل والمبدل منه.

وأمّا مفارقته لما كان مبتدأ وخبرا أنّ الفصل لا يغيّر الإعراب عمّا كان قبل دخوله ، والمبتدأ يغيره. تقول إذا أردت الفصل : كان زيد هو خيرا منك ، وليس للفصل موضع من الإعراب : رفع ولا نصب ولا جرّ. ونظيره من الأسماء التي لا موضع لها كاف ذلك وذانك وأولئك ورويدك ونحو ذلك ، والذي يجعل موضعه معربا فلا بدّ من أن يكون رفعا أو نصبا بالصّفة لما قبلها أو بالبدل منه ، وقد بيّنا فساد ذلك.

وقول سيبويه : " واعلم أنهنّ لا يكنّ فصلا إلا في الفعل" ومن مذهبه أنهنّ يكنّ فصلا في إنّ وفي الابتداء ، إنّما ابتدأ بالفعل وخصّه لأنّه لا يتبيّن الفصل إلا فيه ، وإنّ والابتداء لا يتبيّن الفصل فيهما في اللفظ ؛ لأنّك إذا قلت : زيد هو خير منك ، وإنّ زيدا هو خير مّنك ؛ فخير منك مرفوع على كل حال إن جعلت هو فصلا أو جعلته مبتدأ. وإنما يتبيّن في كان وأخواتها ، وظننت وأخواتها ، الفصل من الابتداء ؛ لأنّ أخبارها منصوبة. تقول : كان زيد هو أخوك إذا جعلت هو ابتداء وأخوك خبره ، والجملة خبر زيد. وكذلك : ظننت زيدا هو أخوك ، وإذا كان فصلا قلت : كان زيد هو أخاك ، وظننت زيدا هو أخاك.

وقوله : وإذا صارت هذه الحروف فصلا ، يريد أنا وأخواتها نحو : أنا وأنت ، وتثنية ذلك وجمعه. كقولك : ظننتني أنا خيرا منك ، وعلمتك أنت خيرا مني ، وعلمتكما أنتما خيرا منّا ، وما أشبه ذلك.

وقوله : عزوجل : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ)(١) يقرأ بالتاء والياء. فمن قرأ بالتاء فتقديره : ولا تحسبنّ بخل الذين يبخلون بما آتاهم الله ، فحذف البخل ، وأقام المضاف إليه مقامه ، وهو الذين ، كما قال : واسأل القرية ومعناه : أهل القوية. ومن قرأ بالياء فتقديره : ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٨٠.

١٥٩

فضله البخل هو خيرا لهم. وفي هذه القراءة استشهاد سيبويه ، وهي أجود القراءتين في تقدير النحو ، وذلك أنّ الذي يقرأ بالتّاء يضمر البخل من قبل أن يجرى لفظ يدل عليه ، والذي يقرأ بالياء يضمر البخل بعد ما ذكر يبخلون ، كما قال : من كذب كان شرّا له ، فجعل في كان ضمير الكذب ؛ لأن كذب قد دلّ عليه.

وأما قوله عزوجل : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً)(١) فإنما جاز في أنا الصّفة والفصل ؛ لأن النون والياء في ترني ضمير ، وقد يوصف الضمير بالضمير ويؤكّد ، ولو قلت : إن تر زيدا هو أقلّ منك مالا لم يجز فيه غير الفصل.

وأمّا (كلّ مولود يولد على الفطرة) فإنه يمكن أن يجعل الرّفع من ثلاثة أوجه : الوجهان اللذان ذكرهما سيبويه ، والثالث أن تجعل في تكون ضمير الأمر والشأن ، فإذا أثنّي على قول من أضمر المولود في يكون : كل مولودين يولدان على الفطرة حتى يكونا أبواهما ، وفي الجميع : حتى يكونوا آباؤهم ، ويفرد ؛ يكون على قول من رفع به أبواه ، أو جعل فيه ضمير الأمر والشأن ؛ لأن ضمير الأمر والشأن لا يثنى ولا يجمع.

وأما قوله : هذا عبد الله هو خير منك ، فإن سيبويه وأصحابه لا يجيزون فيه النّصب إذا أدخلت هو ؛ لأن نصبه على الحال لتمام الكلام قبله ، من أجل أن (هذا) مبتدأ ، وعبد الله خبره ، و (خيرا منك) حال ، كما تقول : هذا زيد قائما ، فإذا أدخلت هو جعلت هو مبتدأ ، وما بعده خبره ، والجملة في موضع الحال ، ولهذا أنكروا قراءة من قرأ : هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ، ولا يجيزون فيه اسما معرفة لأنه ليس بخبر ؛ لا يقولون : هذا زيد الراكب والقائم ، والذي يجيزه يجري هذا مجرى كان ، وعبد الله مرتفع بهذا ، والاعتماد في الإخبار على الاسم المنصوب ، والذي يجيزه الكسائي. والفرّاء لا يجيز النصب ، وكذلك أبو العباس ثعلب ، وكرهت إطالة الكتاب باحتجاج بعضهم على بعض ، وباقي الباب مفهوم.

هذا باب لا تكون فيه هو وأخواتها فصلا ولكن يكنّ

بمنزلة اسم مبتدإ

قال سيبويه : " وذلك : ما أظنّ أحدا هو خير منك ، وما أجعل أحدا هو أفضل منك ؛ لم يجعلوه فصلا وقبله نكرة ، كما أنه لا يكون وصفا لنكرة ، وكما أنّ كلّهم

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية ٣٩.

١٦٠