شرح كتاب سيبويه - ج ٣

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٣

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

وأما قول العبدي :

فنيّتنا ونيّتهم فريق (١)

ولم يثن فلأن" الفريق" قد يستعمل بلفظ واحد في الواحد والاثنين والجمع كما تقول : هذا صديق وهما صديق وهم صديق.

وقال الله عزوجل في مثله : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ)(٢) وأما قولهم : (لا محالة أنك ذاهب) (ولا بد أنك ذاهب) فالذي يظهر من كلام سيبويه أن : " أنك" في موضع خفض" بمن" المحذوفة. وهو على القلب الذي تراه من خفض" أنّ" بعد حذف الخافض منها في الباب الذي ذكر فيه ذلك.

قال أبو العباس : إذا قلت : لا محالة أنك ذاهب" فأنك" في موضع رفع بخبر المبتدأ كما تقول : لا رجل أفضل منك. وكذلك : لابدّ أنك ذاهب. فإن قال قائل : " لا" الثانية الناصبة هي جواب هل من؟ فما المسألة التي جوابها لا محالة ولا بد وما معنى ذلك؟ ومن أي شيء أخذ؟

قيل له لا محالة والحيلة فمعناها واحد هل من محالة في كذا؟ وهل من حيلة من كذا؟ ومعناه : هل من محالة من تركه أو من المخلص منه؟ فيقول المجيب : لا محالة منه. أي في الخلاص منه. وأما : " بد" فأصلها من مفارقة الشيء ومنه قيل : تبّدد الشيء : تفرق.

وبددته : فرقته. ومنه قوله : (٣)

 ...

والخيل تعدوا في الصّعيد بداد

أي متفرقة وقولهم : رجل أبد. وامرأة بداء إذا تفرق. ما بين فخذيه. كما قال :

فبدّت الرّجل فما تضمّها (٤)

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) سورة ق ، الآية : ١٧.

(٣) عجز بيت للنابغة الجعدي صدره :

وذكرت من لبن المحلق شربة

انظر المقتضب : ٣ / ٣٧١ ، الخزانة : ٤ / ٤٧١ ، المخصص : ١٧ / ٦٤.

(٤) في اللسان (بدد) وكل من فرج رجليه فقد بدهما قال الراجز :

جارية أعظمها أجمعها

٣٦١

ومنه قولهم : أبددت القوم عطية أي فرقتها بينهم

قال أبو ذؤيب :

فأبدهن حتوفهنّ فطالع

بدمائه أو ساقط متجعجع (١)

فإذا قال : لابد منه. فكأنه قال : لا مفارقة ولا تباعد منه ، وقد فسره أصحابنا بالسعة لأن تفرق ما بين الشيئين سعة ما بينهما ، فكأنهم جعلوا أصله السعة وحقيقته عندي ما ذكرته.

قال أبو العباس محمد بن يزيد" بد" موسع فإذا قلت : لابد أنك ذاهب. غير موسع عليك أنك ذاهب ، وحقيقته : غير موسع عليك تركك الذهاب وقولهم : أما حقا أنك ذاهب فيكسر" إن" فهو جيد وكذلك : أما جهد رأيى فأنك ذاهب وكذلك جميع الظروف المتقدمة التي بعدها : " أن" إذا دخلت قبلها" أما" فكسر" إن" حسن وإن لم تكن" أما" فالفتح لا غير. وإنما كسر مع دخول" أما" لأنها تسوغ تقديم ما بعد الفاء على" الفاء" و" أما" عوضا مما حذف منه. وجوز فيه تقديم ما لم يكن يجوز تقديمه قبل دخولها وقد ذكرت ذلك مستقصى قبل هذا الموضع.

ومعنى قول سيبويه" أما جهد رأيى فإنك ذاهب) لأنك لم تضطر إلى أن تجعله ظرفا كما اضطررت في الأول يعني : أنك مضطر قبل دخول" أما" أن تفتح" أن" إذا قلت : جهد رأيى أنك ذاهب. فتجعل" أن" مبتدأ وما قبله ظرفا. كقولك (خلفك زيد) لأنك لو لم تفتح وكسرت انقطع الظرف من" أن" وخبرها فلم يتصل. لأن ما بعد" أن" لا يعمل فيما قبلها قبل دخول" أما" وقد ذكرناه فصرت مضطرا إلى فتحها. فإذا دخلت" أما" جاز فيها الكسر فلم تضطر إلى فتحها وجعلتها مبتدأ. وقولهم : " أما بعد" فإن الله عزوجل قال في كتابه" فأن بعد" بمنزلة" اليوم" ولا يكون" بعد" ولا" قبل" خبرين إذا لم يكونا مضافين. هذا كلام سيبويه ومذهبه ولم أر غيره ذكره ولا تكلم عليه إلا أصحابه الذين

__________________

قد سمنتها بالسويف أمها

فبدت الرجل فما تضمها

انظر نوادر أبي زيد : ٣٤١.

(١) ديوان الهذليين : ١ / ٩ ، شرح المفضليات : ٨٧٠.

٣٦٢

يتكلمون على تفسير كتابه وإذا كانا مضافين فإنهما يكونان خبرين كقولك : زيد قبلك وعمرو بعدك. وإذا لم يخبر بهما لنقصانهما عن حالهما مضافين. وهما في حال الإضافة غير متمكنين فإذا منعتا الأصالة ازدادتا بعدا عن التمكن ، فمنعتا بذلك أن يكونا خبرين. وقد مثل سيبويه : (أما يوم الجمعة فأنك ذاهب) بتمثيل نفسه في اللفظ إذا حمل على ظاهره فقال : لأن فيها معنى يوم الجمعة مهما يكن من شيء" فأنك ذاهب" وتقديم" يوم الجمعة" لا يجوز في" مهما" ومعناه : أنه مثّل" أما"" بمهما" ثم قدم في" مهما" ما تقدمه في" أما" من الظرف الذي يصبح له خبر" أن" على وجه يبين المعنى فيه لا على تصحيح اللفظ ، وأما (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ)(١) فإن الخليل وسيبويه ومن تبعهما من البصريين يجعلون" جرم" فعلا ماضيا. ويجعلون" لا" داخله عليه فمنهم من يجعلها جوابا لما قبلها ومثله : " يقول الرجل كذا وكذا ، وفعلوا كذا وكذا فتقول : لا جرم أنهم سيندمون.

ويبين عند الخليل : أنه رد على أهل الكفر فيما قدروه من اندفاع مضرة الكفر وعقوبته عنهم يوم القيامة. واختلفوا في معنى" جرم" إذا كان فعلا.

قال سيبويه : معناه حق أن لهم النار. واستدل على ذلك بقول المفسرين معناه" حقا أن لهم النار" ويقول الشاعر :

جرمت فزازة بعدها أنّ يغضبوا

أي حقهم للغضب. وتبعه على ذلك من تبعه.

وقال غيره : " جرم" بمعنى" كسب" واستدل على ذلك بقول الله عزوجل : (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ)(٢) يقول عزوجل : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا)(٣) أي : لا يكسبكم ذلك. ويقول الشاعر : (٤)

جريمة ناهض في رأس نيق

ترى لعظام ما جمعت صليبا

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ٦٢.

(٢) سورة هود ، الآية : ٨٩.

(٣) سورة المائدة ، الآية : ٢.

(٤) هو أبو خراش الهذلي واسمه خويلد بن مرة.

والبيت في ديوان الهذليين : / ١٣٣ ، الاقتضاب : ٣١٧ ، شرح المفضليات ٧٧٧. والبيت من الوافر.

٣٦٣

جريمة كاسبة يعني عقابا. وناهض : فرع. فالعقاب تكسب لفرخها ما يأكله وعلى هذا تأول : جرمت فزارة : أي كسبت فزارة الغضب.

واختلفوا في فاعل" جرم" إذا كان فعلا ماضيا :

فقال أبو العباس المبرد : " أنهم" في موضع رفع" بجرم" كقولك : حق كون النار لهم. ووجت كون النار لهم. ونحو ذلك. وقال غيره : " أن لهم النار" في موضع نصب وفي" جرم" ضمير فاعل. كأن كفرهم كسب كون النار لهم.

وأما الفراء وأصحابه. فذهبوا إلى أن" جرم" اسم منصوب و" لا" على التبرئة وقال الفراء : " لا جرم أنهم" كلمة كانت في الأصل ـ والله أعلم ، بمنزلة : لابد أنك قائم ولا محالة أنك ذاهب فجرت على ذلك وكثر استعمالهم إياها حتى صارت بمنزلة : حقا و" حقا" عندهم بمنزلة قسم. واستدل على ذلك بما ذكر عن العرب من قولهم." لا جرم لآتينك"." لا جرم لقد أحسنت" قال : كذلك فسرها المفسرون بمعنى : الحق. قال وأصله جرمت أي كسبت الذنب وجرمته ، ورأيت بعض الكوفيين : يجعل" أن" في موضع نصب في لا بد ولا محالة ولا جرم. وقال بعض الكوفيين : " أجرم" أصله الفعل الماضي فحول عن طريق الفعل ومنع التصرف. فلم يكن له مستقبل ولا دائم ولا مصدر. وجعل معه" لا" قسما وتركت الميم على فتحها الذي كان لها في الماضى كما نقلوا" حاشى" وهو فعل ماض مستقبله" يحاشى" ودائمه" محاش" ومصدره" محاشاه" من باب الأفعال إلى باب الأدوات لما أزالوه عن التصرف فقالوا : قام القوم حاشى عبد الله. فخفضوا به ولو كان فعلا ما عمل خفضا. وابقوا عليه لفظ الفعل الماضي. وكما نقلوا" ليس" وأصلها الفعل الماضي. عن أصلها إلى سبيل الأدوات فمنعوها التصرف وخروج المصدر منها وأفردوا آخرها على أمرها الأول قبل النقل. وحكى الكوفيون في" لا جرم" وجوها من تغيير اللفظ فيها عن العرب. منها" لا جرم" بضم الجيم و : " لا جر" بإسقاط الميم. و : " لا ذا جرم" و" لا ذا جر" بغير الميم" ولا إنّ ذا جرم" و : " لا عزّ ذا جرم". ومعنى اللغات كلها عندهم واحد. وأنشد الفراء :

 ...

إنّ كلابا والدي لاذا جرم

لأهدرن هدرا صادقا

هدر المعنى الشقاشيق اللهم (١)

__________________

(١) البيتان في معاني القرآن للفراء ٢ / ٩ ، أمالي القالي : ٣ / ٢١٨ ، وهما من الرجز.

٣٦٤

لم يعرف الفراء النصف الأول من البيت الأول.

وأما" شد ما أنك ذاهب" و" عز ما أنك ذاهب" فقد جعله سيبويه على وجهين :

أحدهما : أن يكون بمعنى : حقا أنك ذاهب فيكون" شد ما" في تأويل ظرف. وأنك ذاهب مبتدأ كما أن" حقا" مبتدأ في تأويل ظرف و" شد" و" عز" فعلان في الأصل دخلت عليهما" ما" فأبطل عملها. وجعلا في مذهب" حقا". كما دخلت" ما" على" قل" و" رب" فبطل عملها. وخرجا عن مذهب الفعل وحرف الجر.

و" شد ما" و" عز ما" وإن جعلا في موضع" حقا" فلا تدخل عليهما" في" كدخولها على" حقا" لأنهما في الأصل فعلان. كما أن" أن" إذا وقعت بعد" لو" تشبيها" بلولا" لم يجز وقوع الاسم بعدها لوقوعه بعد" لو لا".

والوجه الآخر : أن يكون" شد ما" و" عز ما" فعلين ماضيين. كنعم و" بئس" ووقوع" ما" بعدهما كوقوع" ما" بعد" نعم" و" بئس" كقولك : نعما صنيعك و" بئسما عملك" وتقديره : نعم الصنيع صنيعك و" بئس العمل عملك". وقوله : كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه. دخلت الفاء على" تجاوز" لأنه دعاء. وهو بمنزلة دخول القلب في فعل الأمر إذا تقدم المفعول كقولك : زيدا فاضرب. وإن شئت : زيد اضرب. فإذا قلت : اضرب زيدا لم تكن" فاء" وكذلك تقول : تجاوز الله عنه. و" ما" عند سيبويه لغو. واستدل على أنها لغو بقوله تعالى : (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(١) لأنها لو لم تعمل لغوا لبنيت مع ما بعدها وفتحت. ولم يجز إسقاطها وإن كانت لغوا في عملها. وزيادة فائدة بدخولها : لأنهم أرادوا الفرق بين شبيهين : فإذا ادخلوا ما على حرف التشبيه أرادوا : أن أحد الشيئين وجوده حق كما أن وجود الآخر حق. وأن الشيئين في أنفسهما. كقولك" زيد فاسق كما أن عمر صالح" أردت أن هذا موجود وصحيح كما أن هذا موجود صحيح. وكذلك تقول : البساط تحتنا كما أن السماء فوقنا. أي : هذا حق كما أن هذا حق. وكذلك : الظلال فوقنا كما أن السماء فوقنا. إذا أردت أنهما حقان. وإن أردت تشبيه أحدهما بالأخر قلت : " الظلال فوقنا كما أن

__________________

(١) سورة الذاريات ، الآية : ٢٣.

٣٦٥

السماء فوقنا" أي هما متشابهان في كونهما. ولم يرد أن هذا حق كما أن هذا حق.

وكان أبو العباس المبرد يجيز أن يكون" ما" مع كاف التشبيه لغوا وأن تكون مبنية معها. وقد ذكرت لك استدلال سيبويه على أنها لغو. ولم يقم دليل على غيره والفرق في : مثل ما أنك ذاهب" ومثل" أنك ذاهب بدخول" ما" كالفرق في الكاف ومعناهما : أعني : الكاف ومثل ، ومذهبهما في دخول" ما" وخروجهما واحد. وسيبويه يذهب في قول النابغة الجعدي :

كأن يؤخذ المرء الكريم فيقتلا

إلى أن" ما" منه محذوفة وتقديره : كما أنه يؤخذ وخففت" أن" وحذفت" ما".

قال أبو سعيد : هذا سهو من سيبويه صير تشبيه جملة بجملة ودفاعه اسم واحد وليس بجملة وقوله : " كأن يؤخذ المرء" ليس من الأشياء الواضحة الوجود فيشبه به تحقيق وجود شيء آخر. وإنما يصف النابغة خصومة جرت بين رجل من عشيرته مناظر عنها. وبين خصوم له من قبائل أخرى يحضره ملك. وأن ذلك الملك كان ميله على عشيرته. وأن المناظر عنهم ثبت لهم في المناظرة مع ميل الملك عليه وعلى ذلك قوله : ـ

لدى ملك غضبان أقبل مخفرا

إليهم شديدا قسره متبسلا (١)

واخضرهم خصما شديدا ضريره

بني دارم أهل البسول ونهشلا

وذو التاج من نسان ينصر جاهدا

ليجعل فيها خدنا هو أسفلا

قروما تسامى عند باب دفاعه

كأن يؤخذ المرء الكريم فيقتلا

يريد : دفاع الباب. وهو رده وحجبه لمن يريد الدخول. وطرده وهو مثل القتل في شدته. لأنه إذلال للمطرود المحجوب. ومعنى قوله" فما" لا يحذف في الكلام. يعني : من" كما" إذا أردت الضرب الذي ذكرناه من التشبيه كما لا تحذف من" أن" في" إما" التي بمعنى" أو" وقد ذكرنا حذف" ما" من" إما" في :

.. وإنّ من خريف فلن يعدما ..

قال أبو عثمان المازني : أنا لا أنشده إلا :

__________________

(١) ديوان النابغة الجعدي : ١٣١.

٣٦٦

 .. كأن يؤخذ المرء الكريم فيقتلا ..

لأنها" أن" التي تنصب الأفعال دخلت عليها كاف التشبيه.

هذا باب من أبواب «إنّ»

تقول : قال عمرو : أن زيدا خبر منك وذلك لأنك أردت أن تحكي قوله. ولا يجوز أن تعمل (قال) في" أن". كما لا يجوز لك أن تعملها في زيد وأشباهه إذا قلت : قال زيد عمرو خير منك" فإن" لا تعمل فيها قال : كما لا تعمل" قال" فيما تعمل فيه" أن". لأن" أن" تجعل الكلام شأنا. وأنت لا تقول : قال الشأن متفاقما كما تقول : زعم الشأن متفاقما. فهذه الأشياء بعد" قال" حكاية ومثل ذلك : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ)(١) وقال أيضا : قال الله : (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ)(٢) وكذلك جميع ما جاء من ذا في القرآن.

وسألت يونس عن قوله : " متى تقول أنه منطلق" فقال : إذا لم ترد الحكاية. وجعلت تقول مثل" تظن" قلت : متى تقول أنك ذاهب. كما أنه يجوز لك أن تحكي فتقول : متى تقول زيد منطلق. وتقول : " قال عمرو أنه منطلق" جعلت" الهاء" عمرا أو غيره فلا تعمل" قال". كما لا تعمل إذا قلت : قال عمر وهو منطلق." فقال" لم تعمل هاهنا شيئا. وإن كانت الهاء هي القائل. كما لا تعمل شيئا إذا قلت (قال) وأظهرت" هو" فقال لا تغير الكلام عن حاله قبل أن تكون فيه" قال" فيما ذكرنا. وكان" عيسى" يقرأ هذا الحرف (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)(٣).

أراد أن يحكي. كما قال عزوجل : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ)(٤) كأنه قال والله أعلم : قالوا ما نعبدهم. ومثل ذلك كثير في القرآن.

وتقول : أول ما أقول أني أحمد الله كأنك قلت : أول قولي الحمد لله. وإن أردت أن تحكي قلت : أول ما أقول أني أحمد الله.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٦٧.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ١١٥.

(٣) سورة القمر ، الآية : ١٠.

(٤) سورة الزمر ، الآية : ٣.

٣٦٧

قال أبو سعيد : قد ذكرنا أن ما بعد : " قال" بمنزلة كلام مبتدأ والاعتمال به حكاية لفظ اللافظ المحكى عنه. ومعنى قوله : " فأن" لا تعمل فيها" قال" فينقلها من الكسر إلى الفتح كما لا تعمل في المبتدأ أو الخبر الذي تعمل فيه" أن" إذا قلت : " قال زيد عمرو خير الناس". وقوله : لأن" أن تجعل الكلام شأنا وأنت لا تقول : قال الشأن : يعني أنك إذا قلت : " قال زيد أن عمرا خير الناس" تخرج عن حكاية كلامه. فصار بمنزلة عرف زيد شأن عمرو وفهمه. وقد مضى.

وزعم زيد الشأن متفاقما. وليس ذلك بحكاية أنما هو اعتقاد لأمر وليس بحكاية. وقد مضى الكلام في نحوه.

وقوله : وتقول : قال عمرو أنه منطلق. فحق الحكاية أن تقول : قال عمرو أني منطلق وكذلك إذا قلت : قال عمرو هو منطلق فحق الحكاية أن تقول : قال عمرو أنا منطلق لأن هذا لفظه الذي لفظ به. ولهم قد يغيرون لفظ الغيبة إلى الخطاب ولفظ الخطاب إلى الغيبة ؛ لأن ذلك أقرب إلى الأفهام. ولا يعد ذلك تغييرا. لأن الذي يقول : أن زيدا منطلق. ولو واجهة لقال : أنك منطلق ولم يكن ذلك مغيرا للكلام عن منهاجه.

ولو أن زيدا قال : " أن عمرا خير الناس" ثم واجهت أنت عمرا لجاز أن تقول : قال زيد أنك خير الناس يا عمرو.

وإذا قال : (أول ما أقول أني أحمد الله) ما أقول" مبتدأ" وأني أحمد الله (خبر) وتقديره : حمد الله. وليس بحكاية لفظ وإنما هو معنى ما في نفسه. واسميته والعبارة عنه : حمد الله. وهو كقولك : أول أمري حمد الله والثناء عليه. ولو لم يقل : " أول" لقلت على ذلك. قولي أني أحمد الله. وقولي حمد الله وأمري أني أحمد الله. وأمري حمد الله. وإذا قال : أول ما أقول : أني أحمد الله." فأول ما أقول" مبتدأ" وأني أحمد الله" جعله في موضع الخبر.

ولوضعت في موضع الفعل فقلت أول ما أقول : (أحمد الله) لجاز لأنك إذا كسرت فقد جعلته اللفظ الذي يلفظ به ومعناه. وقد تقول : " أني أحمد الله" و" أحمد الله" بغير" إني" على طريق الحكاية.

وباقي الباب مفهوم

هذا باب من أبواب «إن»

وذلك قولك : قد قاله القوم حتى أن زيدا يقوله" وانطلق القوم حتى أن زيدا

٣٦٨

لمنطلق" فحتى هاهنا معلقة. لا تعمل في" إن" كما لا تعمل إذا قلت : حتى زيد ذاهب فهذا موضع ابتداء و" حتى" بمنزلة" إذا" ولو أردت أن تقول : " حتى أن" في هذا الموضع كنت محيلا. لأن" أن" وصلتها هاهنا بمنزلة" الانطلاق" ولو قلت : " انطلق القوم حتى الانطلاق"" وحتى الخير" كان محالا. لأن" أنّ" تصير الكلام خبرا فلما لم يجز ذا حمل على الابتداء. وكذلك إذا قلت : مررت فإذا إنّه يقول وسمعت رجلا من العرب ينشد هذا البيت كما أخبرك به :

وكنت أرى زيدا كما قيل سيّدا

إذا إنه عبد القفا واللهازم (١)

فحال" إذا" هاهنا كحالها إذا قلت : " إذا هو عبد القفا واللهازم" وإنما جاءت" إن" هاهنا لأنك بهذا المعنى أردت كما أردت في" حتى" معنى حتى هو منطلق وإذا قلت : مررت فإذا أنّه عبد. تريد : مررت به فإذا العبودية واللؤم ، كأنك قلت : مررت فإذا أمره العبودية واللؤم ثم وضعت" أن" في هذا الموضع جاز.

وتقول : قد عرفت أمورك حتى أنك أحمق كأنك قلت : عرفت أمورك حتى حمقك ثم وضعت" أن" في هذا الموضع. هذا قول الخليل وسألته عن قوله : (هذا حق كما أنك هاهنا) هل يجوز على ذا الحد كما أنك هاهنا؟

فقال : لا. لأن لا يبتدأ بها في كل موضع ألا ترى أنك تقول : يوم الجمعة أنك ذاهب ولا : كيف أنك صانع. و" كما" بتلك المنزلة.

قال أبو سعيد : قوله : وانطلق القوم حتى أن زيدا لمنطلق معناه. وانطلق القوم وزيد منطلق. وهي : " حتى" التي بمعنى : الواو. وتقع بعدها الجمل. ولذلك لم يجز أن تقع بعدها." أن" مفتوحة. لأنها وما بعدها بمعنى المصدر. ولو قلت : انطلق القوم حتى انطلاق زيد لم يجز لأن ما بعد" حتى" إذا جعلت بمعنى الواو أو جعلت غاية من جنس ما قبلها. ألا ترى أنك لا تقول : جاءني إخوتك حتى الحمار. وكذلك إذا أردت." إذا" التي للمفاجأة. لأنها يقع بعدها الابتداء والخبر إلا أنه يجوز بعد." إذا" الفتح والكسر جميعا.

فالكسر قولك : مررت به فإذا أنه يقول أن زيد خير منك. وكذلك قوله :

__________________

(١) البيت في الخصائص : ٢ / ٣٩٩ ، ابن يعيش : ٤ / ٩٧ ، الخزانة : ٤ / ٣٠٣.

٣٦٩

 ...

إذا إنّه عبد القفا واللهازم

وكسرها : لأن الابتداء والخبر يقع بعدها.

وفتحها : قولك : خرجت فإذا أنه عبد. على معنى : فإذا أمر العبودية.

فإن قال قائل : لم جاز في" إذا" الفتح والكسر ولم يجز في" حتى" إلا الفتح؟

قيل له : إنما جاز في" إذا" الوجهان لأن ما بعدها يجوز ألا يكون ما قبلها ولا بعضه. ويجوز أن يكون مصدرا وغير مصدر كقولك : " خرجت فإذا زيد قائم" ، " وخرجت فإذا صباح زيد". والذي يقول : " خرجت فإذا زيد قائم". ويقول : خرجت فإذا أن زيدا قائم والذي يقول : (خرجت فإذا صياح زيد) يقول : (خرجت فإذا زيد صائح) وحتى إذا لم تكن غاية لا يكون ما بعدها إلا عطفا على قبلها داخلا في معناه ولفظه. فإن قال قائل فإذا كسرتم" إن" بعد" إذا" فما موضع" إذا"؟ وما العامل فيها؟ وقد علمتم أنه لا يعمل خبر" إن" فيما قبل" إن"؟ قيل له : " إذا" حرف دخل لمعنى المفاجأة ولا عمل لها وهي في مذهب حروف العطف فمن حيث دخلت" إن" المكسورة بعد حروف العطف جعل دخولها بعد" إذا" ومن أجل ذلك جاز دخول" الفاء" عليها وخروجها منها.

أما دخولها : فلان" الفاء" للعطف وما بعدها معطوف على ما قبلها كعطف جملة على جملة." وإذا" للمفاجأة واختصت بالدخول عليها الفاء من بين حروف العطف لأن ترتيب الثاني أن يكون بعد الأول في المعنى.

وأما إسقاط" الفاء" فأن حروف المفاجأة لما وردت بعد الفعل الأول دل على أنه عقيبه. ونظيره : دخول" الواو" على" لكن" في العطف وسقوطها كقولك : ما جاء في زيد لكن عمرو." وما مررت بزيد لكن عمرو" ويجوز : ولكن عمرو. لأن" لكن" لما دلت على الاستدراك ولم يبتدأ بها أغنت عن حروف العطف.

وأما منعه أن يقال" كما أنك هاهنا" فلأن" أنت" مبتدأ" وهاهنا" خبره وهما جميعا بمنزلة المصدر. وكما يكون الفعل والفاعل مع" ما" بمنزلة المصدر. و" ما" في ذلك حرف وليست باسم وهي كان والفعل بعدها. غير أن" ما" يليها الاسم والخبر والفعل والفاعل" وإن" لا يليها إلا الفعل والفاعل.

وإنما يلي" ما"" إن" إذا كانت بمعنى" الذي" كقوله عزوجل : (وَآتَيْناهُ مِنَ

٣٧٠

 الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)(١) وإذا كانت بمعنى المصدر لم يدخلها" إن" لأن أصلها أن يكون بعدها فعل وفاعل. والمبتدأ والخبر مجردين من الدواخل عليهما بمنزلة الفعل والفاعل. فلم يدخلوا" إن" من أجل ذلك.

ومن الدليل على أنه يقع المبتدأ والخبر في الموضع الذي لا يقع فيه" إن" قولهم : " يوم الجمعة أنت ذاهب : وكيف أنت صانع؟ " وإنما جاز" يوم الجمعة أنت ذاهب" لأن الناصب (ليوم) هو" ذاهب" يعمل فيما قبل" أنت" كقولك : يوم الجمعة زيدا ضارب.؟ ولا يجوز زيدا أنك ضارب. وكذلك : " كيف" في موضع نصب على الحال والعامل فيه : (صانع) فإذا قلت : (أنك صانع بطل) عمل" صانع" فيما قبل" أن".

وباقي الباب مفهوم

هذا باب آخر من أبواب «إن»

تقول : ما قدم علينا أمير إلا إنّه مكرم لي. لأنه ليس هاهنا شيء يعمل في" إن" ولا يجوز أن تكون" أنّ" ، وإنما تريد أن تقول : ما قدم علينا أمير إلا هو مكرم لي. فكما لا تعمل في ذا لا تعمل في" أن" شئ ودخول اللام هاهنا يدلك على (ذلك) أنه موضع ابتداء قال الله عزوجل : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ)(٢) ومثل ذلك قول كثير :

ما أعطياني ولا سألتهما

إلا وإنّي لحاجزي كرمي (٣)

وكذلك لو قال : إلا وأني حاجزي كرمي ، وتقول : ما غضبت عليك إلا أنك فاسق كأنك قلت إلا لأنك فاسق ، وأما قوله عزوجل : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ)(٤) فإنما حمله على" ما منعهم" ، وتقول : إذا أردت معنى اليمين : " أعطيته ما إنّ شره خير من جيد ما معك"" وهؤلاء إن أجبتهم لأشجع من شجعانكم" قال الله عزوجل : (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٧٦.

(٢) سورة الفرقان ، الآية : ٢٠.

(٣) ديوان كثير ٢ / ٦٦ ، المقتضب : ٢ / ٣٤٥.

(٤) سورة التوبة ، الآية : ٥٤.

٣٧١

بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)(١) " فإن" صلة لما كأنك قلت : ما والله أن شره خير من جيد ما معك.

قال أبو سعيد : الحال إذا كانت بمبتدأ وخبر جاز بالواو وبغير الواو كقولك : جاء زيد وهو راكب وجاء زيد هو راكب ويجوز دخول" أن" على المبتدأ والخبر كقولك : جاءني زيد وأنه ليفرق وجاءني زيد وأن أباه ينظر إليه وجاز أيضا إخراج" الواو" من" أن" كقولك : جاءني زيد أن أباه ينظر إليه. وتقع الحال بعد إلا مما قبلها بجملة وغير جملة.

فأما غير الجملة فقولك : ما جاء في زيد إلا راكبا. وما قدم علينا عمرو إلا أميرا.

وأما الجملة فقولك : " ما قدم علينا عمرو إلا هو أمير وإن شئت قلت : " إلا وهو أمير".

وإن شئت قلت : إلا أنه أمير وإن شئت قلت : إلا وإنه أمير وإدخال اللام في خبر" إن" وإخراجها سواء. وقوله عزوجل : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ)(٢). تقديره : وما أرسلنا أحد من المرسلين. والمعنى : ما أرسلنا المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام.

والبيت الذي أنشده سيبويه. كان أبو العباس المبرد يرده على سيبويه ويقول : تقدير سيبويه في العربية صحيح ولكنه غلط في معنى الشعر ويرويه :

ألا فإني حاجز كرمي

" إلا التي للتنبيه في أول الكلام" كأن أبا العباس ذهب إلى أنهما ما أعطياه وأنه ما سألهما ثم ابتدأ يصف نفسه بأنه يحجزه عن سؤالهما كرمه. ولو كانت إلا مكسورة وما بعدها كأنا قد أعطياه وسألهما في حال. كما حجزه كرمه.

وهذا لا يجوز عندي : لأن الحاجز من الكرم إنما يحجز عن السؤال وقبول العطية.

قال أبو سعيد : والذي عندي أن" إلا" أجود لأنها توجب أنهما أعطياه وأنه سألهما وما حجزه كرمه عنده أنه ما عاب أعطاه هما ولا ألح عليهما في مسألته وشعره يدل على ذلك.

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٧٦.

(٢) سورة الفرقان ، الآية : ٢٠.

٣٧٢

قال كثير :

دع عنك سلمى إذا فات مطلبهما

واذكر خليليك من بني الحكم (١)

ما أعطياني ولا سألتهما

إلا وأني لحاجزي كرمي

مبدي الرضا عنهما ومنصرف

عن بعض ما لو سألت : لم ألم

لا أنزر المائل الخليل إذا

ما اعتل نزر الظؤون لم ترم

إنّي متى لا تكن عطيته

عندي بما قد فعلت احتشم

خليلاه من بني الحكم : عبد الملك وعبد العزيز ابنا مروان بن الحكم وكانا يعطيانه ويسألهما مشهور ذلك من فعله وفعلهما فقد تبين في هذه الأفعال ما قلناه. لأن قوله لا أنزر الخليل : لا ألح عليه في المسألة. فينفي عن مسألته ما يفتح من الإلحاح. وقوله :

أني متى لا تكون عطيته

عندي بما قد فعلت احتشم

أي : ما لم استوجب عطيته يعني : يمدح له أو غير ذلك من وجود الاستجاب. واحتشم واستحي من العطية. فقد دل على الإعطاء والسؤال. ولو كان ما قاله أبو العباس لم يكن عطاؤهما ومسألته لهما واقعا البته. ولم تكن الصورة على ذلك.

وإنما فتحت" أنّ" في : ما غضبت عليك إلا أنك فاسق" لأنها" في موضع اسم مخفوض أو منصوب كأنه قال : لفسقك. وقوله عزوجل : (" إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا") في موضع رفع لأنه فاعل" منعهم" كأنه : ما منعهم عن قبول نفقاتهم إلا كفرهم.

وقد مضى من تفسير هذا الباب ما أغني عن إعادته

هذا باب آخر من أبواب «إن»

تقول : أشهد إنك لمنطلق" فأشهد" بمنزلة قوله : والله إنك لذاهب و" إن" غير عاملة فيها" أشهد". لأن هذه اللام لا تلحق أبدا إلا في الابتداء.

ألا ترى أنك تقول : أشهد لعبد الله خير منك كأنه قال : والله لعبد الله خير منك. فصارت" إنّ" مبتدأة حين ذكرت" اللام" هاهنا ولم تكن إلا مكسورة كما أن

__________________

(١) ديوانه : ٢ / ٦٦ ، الموشح للمرزباني : ٢٩٧.

٣٧٣

" عبد الله" لا يكون هاهنا إلا مبتدأ. ولو جاز : أشهد أنك لذاهب لقلت أشهد بذلك. فهذه اللام لا تكون إلا في الابتداء وتكون" أشهد" بمنزلة" الله" ونظير ذلك قول الله عزوجل : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)(١) ، وقال عزوجل : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)(٢) ؛ لأن هذه توكيد. كأنه قال : يحلف بالله أنه لمن الصادقين.

وقال الخليل : أشهد بأنك لذاهب غير واجب ؛ لأن حرف الجر لا يعلق وقال : أقول : (أشهد إنه لذاهب وإنه منطلق" اتبع آخره أوله. وإذا قلت : أشهد أنه ذاهب وأنه منطلق لم يجز إلا الكسر في الثاني لأن اللام لا تدخل أبدا على (أنّ) و (أن) محمولة على ما قبلها ولا تكون إلا مبتدأة باللام ، ومن ذلك أيضا قد علمت أنك لخير منه" فأن" هاهنا مبتدأة." وقد علمت" هاهنا بمنزلتها في قولك : " لقد علمت أيّهم أفضل" فعلقه في الموضعين جميعا. وهذه اللام تصرف" أن" للابتداء كما تصرف" عبد الله" للابتداء. في قولك : " لعبد الله خير ومنك" ف (عبد الله) هاهنا بمنزلة" أن" في أنه يصرف إلى الابتداء ولو قلت : قد علمت أنه لخير منك. لقلت : قد علمت لزيدا خيرا منك ورأيت لعبد الله هو الكريم فهذه" اللام" لا تكون مع" إنّ" ولا مع عبد الله. ألا وهما مبتدآن. نظير ذلك قول الله عزوجل : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)(٣) فهو هاهنا مبتدأ. ونظير" أن" مكسورة إذا لحقتها اللام قوله عزوجل : (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ)(٤) ، وقال عزوجل : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)(٥) ، فإنكم هاهنا بمنزلة" أيّهم" إذا قلت : ينبئهم أيهم أفضل.

وقال الخليل مثله : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)(٦) ، " فما"

__________________

(١) سورة المنافقون ، الآية : ١.

(٢) سورة النور ، الآية : ٦.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ١٠٢.

(٤) سورة الصافات ، الآية : ١٥٨.

(٥) سورة سبأ ، الآية : ٧.

(٦) سورة العنكبوت ، الآية : ٤٢.

٣٧٤

هاهنا بمنزلة : " أيهم" و" يعلم" معلقة.

قال الشاعر :

ألم تر أنّي وابن أسود ليلة

لنسري إلى فارين يعلو سناهما (١)

سمعناه ممن ينشده من العرب.

وسألت الخليل عن قوله : أحقا أنه لذاهب فقال : لا يجوز (كما لا يجوز) يوم الجمعة أنه لذاهب. وزعم يونس والخليل : أنه لا تلحق هذه اللام مع كل فعل. ألا ترى أنك لا تقول : وعدتك إنك لخارج إنما يجوز هذا في العلم والظن ونحوه. كما يبتدأ بعدهن" أيهم" فإذا لم تذكر اللام قلت : قد علمت أنه منطلق. لا تبتدئه وتحمله على الفعل ولم يجئ ما يضطرك إلى الابتداء. وإنما ابتدأت حين كان غير جائز أن تحمله على الفعل (فإذا حسن أن تحمله على الفعل) لم تتخط الفعل إلى غيره. نظير ذلك قوله : " إن خيرا فخير وإن شرا فشر" حملته على الفعل حين لم يجز أن تبتدئ بعد" إن" وكما قال : " أما أنت منطلقا انطلقت معك" لما لم يجز أن تبتدئ الكلام بعد" أما".

وهذه كلمة تتكلم بها العرب في حال اليمين. وليس كل العرب تتكلم بها. وتقول : " لهنك لرجل صدق" فهي" إنّ" ولكنهم أبدلوا" الهاء" مكان" الألف" كقولهم : هرقت ، ولحقت هذه اللام" أن" كما لحقت" ما" حين قلت : " أن زيد لما لينطلقن" فلحقت" أن" اللام في اليمين كما لحقت" ما" واللام الأولى في لهنك" لام اليمين) واللام الثانية لام" أن" وفي" لما لينطلقن" اللام الأولى : " لإن" والثانية" لليمين" والدليل على ذلك : النون التي معها.

وقد يجوز في الشعر : " أشهد أن زيدا ذاهب" لشبهها بقوله : والله أنه ذاهب (لأن) معناه معنى اليمين كما أنه لو قال : " أشهد أنت ذاهب" ولم يذكر اللام لم يكن إلا ابتداء. وهو قبيح وضعيف : إلا باللام.

ومثل ذلك في الضعف : علمت أن زيدا ذاهب كما أنه ضعيف : قد علمت

__________________

(١) البيت في اللسان : (سنا) والعيني : ٢ / ٢٢٢ ، الأشموني ١ / ٢٧٥.

٣٧٥

عمرو خير منك. ولكنه على إرادة اللام. كما قال عزوجل : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها)(١) ، على اليمين. وكأن في هذا حسنا حين طال الكلام.

وسألته عن" كأن" فزعم أنها" أن" لحقتها الكاف للتشبيه ولكنها صارت مع" أن" بمنزلة كلمة واحدة وهي نحو : كأي رجلا ونحو له كذا درهما.

وأما قول العرب في الجواب" أنه" فهو بمنزلة" أجل" وإذا وصلت قلت : " إنّ يا فتى" وهي التي بمنزلة أجل. قال الشاعر :

بكر العواذل في الصبو

ح يلمننى والومهنه (٢)

ويقلن شيب قد علا

ك وقد كبرت فقلت إنّه

قال أبو سعيد : أصل" أشهد" أن يتعدى بالباء" أن" تقع على مصدر كأنك قلت : أشهد على زيد بالفسق" وأشهد أن لا إله إلا الله. وأشهد بأن زيدا. وأشهد بأنه لا إله إلا الله. فيجوز مع إدخال الباء وطرحها ولا يجوز طرح الباء مع المصدر. لا تقل : " أشهد على زيد الفسق". ثم أجروا" أشهد" مجرى" أعلم" لأن الشهادة بالشيء عن علم به تقدم. غير أنهم لم يتجاوزوا في إقامته مقام" أعلم" وقوعها على" أن" فقال : أشهد أن زيدا منطلق. كما قالوا : أعلم أن زيدا لمنطلق.

وقد يقال" شهدته" وليس في معنى : حضرته. وليس في معنى" علمته". ويقال : علمت زيدا أخاك على أن" أخاك" مفعول ثان ولا يقال على ذلك : شهدت زيدا أخاك.

واعلم أن اللام في قولك : (أشهد أن زيدا لمنطلق) و" أعلم أن زيدا لمنطلق حقا" وموضعها أن يكون قبل" أن" وذلك أن اللام تمنع ما قبلها من العمل فيما بعدها. فلو كان موضعها بعد" أن" لوجب فتح" أن" ولبطل عمل" أن" فيما بعد" أن" فكأن يلزم من ذلك أن يقال : علمت أن في الدار لزيد ففتح" أن" لوقوع عليه. ولا مانع من فتحها كما فتح إذا قلت : علمت أن زيدا منطلق. ويبطل نصب زيد بأن اللام إذا منعت من عمل اللام

__________________

(١) سورة الشمس ، الآية : ٩.

(٢) البيتان لعبد الله بن قيس الرقيات وهما في ديوانه : ٦٦ ، وابن يعيش : ٣ / ١٣٠ ، أمالي ابن الشجري : ١ / ٣٢٢.

٣٧٦

فيما بعدها في قولك : علمت لزيد منطلق ، فعمل" أن" فيما بعدها منع لأن" أن" أضعف عملا من الفعل. فوجب أن تكون" اللام" موضعها قبل" أن" لتمنع" أن" من عمل" علمت" فيها. ونقلها إياها من الكسر إلى الفتح. كما تمنع من عمل" علمت" في الابتداء والخبر إذا قلت قد علمت لزيد منطلق. وإذا تأخرت" اللام" وهي في نيته التقديم لم يبطل عمل" أن" فوجب أن يقال : علمت أن زيدا لمنطلق. وعلمت أن في الدار زيد.

فسبيل إن في كسرها بدخول اللام عليها كسبيل الاسم في رفعه بالابتداء بدخول اللام عليه. لأن كسر" إن" يوجبه الابتداء بها. كما أن رفع الاسم يوجبه الابتداء به والذي أصارهما إلى ذلك : اللام ، ولا يجوز ، أشهد أنك لذاهب ، لأن اللام إذا قدرناها قبل" أن" بمنزلة المبتدأ بها في اللفظ و" أن" لا يبتدأ بها.

ومما يبطل ذلك : أن أشهد أصلها أن تتعدى بالتاء فلو جاز أن تقول : أشهد أنك قائم لجاز : أشهد بأنك لقائم فيكون تقديره : أشهد بكذا. لأن اللام مقدرة قبل" أن" والباء داخله عليها. و" أن" وما بعدها من المبتدأ والخبر بمنزلة : كذا فكأنه قال : أشهد بكذا وهذا باطل. لأن الباء لا يبطل عملها الخفي. واللام تمنع من عمل ما قبلها فيما بعدها. فتصير الباء عاملة ممنوعة العمل وهذا تناقض.

ولهذا قال الخليل : " أشهد بأنك ذاهب" غير جائز لأن الحروف لا تعلق. معناه : لا تبطل عملها. وإذا لم يبطل عملها وقدرناها وكسرنا" أن" فقد أبطلنا عملها. وهذا غير جائز.

والفرق بين الباء وبين هذه الأفعال التي بطل عملها وتعلق عما بعدها. أن" الباء" ليس لها حال يبطل عملها. وهذه الأفعال. يبطل عملها في : الاستفهام كقولك : علمت زيد في الدار أم عمرو؟ وفي التأخير والتوسط : كقولك : زيد قائم علمت وزيد علمت قائم. ودخول اللام مثل الاستفهام وفيما ذكر سيبويه من شواهد : لك من القرآن مقنع.

والبيت :

ألم تر أنّي وابن أسود ليلة

بكسر" أني" من أجل اللام في" لنسرى" ولو لم تكن اللام لقيل : ألم تر أني وابن أسود ترى بفتح : أني. وقوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ

٣٧٧

شَيْءٍ)(١) ما يدعون فيه وجهان :

أحدهما : أن تكون استفهاما والعامل فيها" يدعون" كأنه قال : أيهم يدعون؟ وينصب" أيهم" ب" يدعون" ويجوز أن يكون منصوبا ب" يعلم".

ويكون بمعنى" الذي" و" يدعون" صلتها. كأنه قال : الذين يدعون من دونه من شيء. ولا يجوز : " أحقا أنه لذاهب" ولا : يوم الجمعة أنه لذاهب. لأن : " حقا"" ويوم الجمعة" في مذهب الظرف ، ولا يجوز نصبها بما بعد" أن" لأنه لا يعمل فيما قبل" أن" وإنما تنصبها كما تنصب : " خلفك زيد". ولا يجوز : خلفك أن زيدا ذاهب. وإنما يقال : " خلفك أن زيدا ذاهب" كما يقال : خلفك ذهاب زيد. فإذا لم يجز : خلفك أن زيدا قائم فقولك : " خلفك أن زيدا لقائم" أبعد في الجواز لمنع اللام اتصال ما قبلها بما بعدها. ولا يجوز : أحقا أنه لذاهب بفتح" أن" مع اللام لأن اللام ما بعدها جملة مستأنفة.

ولا يجوز : وعدتك أنك لخارج. لأن مفعولي" وعدت" أحدهما غير الآخر. ولا تلغى كإلغاء" حسبت" وأخواتها. لأنك إذا قلت : زيدا حسبت منطلقا. جاز أن تلغى" حسبت" فتقول : حسبت منطلق. ولو لم يذكر : " حسبت" لجاز أن تقول : زيد منطلق. والمفعول الثاني من باب : حسبت وأخواتها خبر عن المفعول الأول يجوز أن تقع في موضعه الأفعال والظروف والجمل. كقولك : حسبت زيدا أنه قائم وحسبت أبوه لخارج ، وحسبت لزيد خير منك ، ولا يجوز شيء من هذا في : وعدت. لأن أصل" وعدت" أن يتعدى لمفعولين أحدهما غير الآخر وليس بخير. وأصل المفعول الثاني منه أن يكون بالباء استخفافا فتقول : وعدت زيدا دينارا وثوبا. ووعدته الخروج والمعونة ولا يجوز : وعدته لزيد قائم. ولا : وعدت أيهم في الدار. كما جاز في" حسبت" ولا وعدت لزيد قائم" ولا : وعدتك أنك لقائم". و" لا : وعدتك أنت قائم" كما يجوز : حسبتك لا أبوك قائم وحسبتك أنك قائم وحسبتك أنت قائم.

وإنما يجوز في موضع المفعول الثاني من" وعدت"" أن" المفتوحة بالباء وغيرها كقولك وعدتك أنك تعان ووعدتك أن الغلام لك. كما قال الله عزوجل : (وَإِذْ

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآية : ٤٢.

٣٧٨

يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ)(١) فإنها بدل من إحدى الطائفتين. كأنه قال : وإذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم وإن أدخلت الباء قلت : وعدتك بأنك تعان وبأن الغلام لك.

وإنما جاز دخول الباء وخروجها كما جاز تعلقت بزيد وتعلقت زيدا. ومعنى قوله : " قد علمت أنه منطلق" لا تبتدئه وتحمله على الفعل" يريد أنك تحمل أنه منطلق" فتفتحه وتعمل فيه" علمت" ولا تبتدئه فتكسر لأنه ليس في الكلام ما يضطرك إلى ابتدائها وكسرها وهو اللام إذا كانت بعدها.

ونظير ذلك قولهم : " إن خيرا فخير وإن شرا فشر". نصبت" خيرا" و" شرا" بإضمار فعل تقديره : إن كان خيرا وإن كان شرا. وإنما اضمرت الفعل وحملته عليه إذ لم يجز أن تبتدئ الكلام بعد" إن" كما ابتدأت في الأول حين قلت لم يجز أن يحمل الكلام على الفعل إذا قلت : علمت إنّ زيدا لقائم" وعلمت لزيد قائم". وكذلك : علمت أيّهم في الدّار وكذلك حملت ما بعد" أما" على الفعل إذا لم يجز الابتداء بعدها. لأنها في تأويل" إن كنت منطلقا" وهي المخففة التي الفعل الماضي والمستقبل بعدها معها كالمصدر وقد ذكر" إما" في موضعها.

قال أبو سعيد : في" لهنك" ثلاثة أقوال :

أحدها : قول سيبويه : أن أصلها" أن" أبدلوا همزتها هاء كما أبدلوا" الهاء" من هرقت مكان" ألف" أرقت ولحقت اللام التي قبل الهاء لليمين. كما لحقت" ما" حين قلت : " أن زيدا لمّا لينطلقّن" فلحقت" أن" اللام في اليمين كما لحقت بعد" ما" فاللام الأولى في" لهنك" لام اليمين. واللام الثانية" لام إن". وفي : لمّا لينطلقن" اللام" الأولى" لأن" والثانية لليمين. والدليل على ذلك : النون التي معها. وذكر سيبويه أن هذه الكلمة يقولها بعض العرب. وشبه دخول اللام على" أن" لليمين. وإن كان بعدها" أن" وهي للتوكيد بدخول لام اليمين في آخرها وإن كان قبلها" لمّ" وهي للتوكيد.

وقد يجتمع الحرفان في معنى واحد فيؤكد أحدهما الآخر كقولهم : ما إنّ زيد قائم وهما حرفا جحد.

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية : ٧.

٣٧٩

والثاني : قول الفراء : هذه من كلمتين كانتا يجتمعان كانوا يقولون : والله أنك لعاقل فخلطتا فصار فيهما اللام والهاء من" الله" والنون من" أن" المشددة وحذفوا ألف" أن" كما حذفوا الواو من أول" والله". وأنشد في" لهنك" قول الشاعر :

لهنك من عينيه لوسيمة

على هنوات كاذب من يقولها (١)

وقال :

لهن خباء لا قعيدة تحته

سوى لمسترخى الحبال خفوق (٢)

تطيف به شدّ النّهار ظعينة

طويلة أنقاء اليدين سحوق

يقول : ليس لي أقل يعينني عليه فليس يكون شده محكما وخفوق : مضطرب. شد النهار : ارتفاعه والأنقاء جمع نقى وهو كل عظم فيه مخ والنقى أيضا هو" المخ" و" سحوق" طويلة.

الثالث : حكاه المفضل بن سلمة (٣) لغير الفراء معناه : أنك لمحبس.

قال : وهذا أسهل في اللفظ وأبعد في المعنى. والذي قاله الفراء أصح في المعنى لأن قول القائل : (والله أنك لقائم) أصح من : " لله أنك لقائم" واللام في الجواب دليل على القسم وقولهم : تعجب. والتعجب لا يدخل معه" إنّ" وذلك أن التعجب وضع لما هو قائم ولما قد مضى كقولك : ما أحسن زيدا. فيما هو قائم وما أجمل ما فعل فيما قد مضى.

قال : وإن للاستقبال لا غير وضعت ثم كثرت حتى صارت للواجب على معنى الواجب.

قال أبو سعيد : هذا حكاية كلام المفضل بن سلمة.

__________________

(١) البيت في خزانة الأدب : ٤ / ٣٣٦ ، الهمع : ١ / ١٤١.

(٢) البيت في اللسان : (سحق).

(٣) هو أبو طالب المفضل بن سلمة بن عاصم ، كان لغويّا فاضلا كوفي المذهب ، أخذ عن أبي عبد الله بن الأعرابي وله كتب كثيرة منها (معاني القرآن. البارع في علم اللغة ، وكتاب الاشتقاق ، كتاب المقصور والممدود). توفي ٢٩٠ ه‍ تقريبا.

معجم الأدباء : ١٩ / ١٦٣ ، بغية الوعاة ٢٩٦ ، وفيات الأعيان : ١ / ٤٦٠.

٣٨٠