شرح كتاب سيبويه - ج ٣

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٣

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

المنّي ؛ لأنه جار على كلام المتكلم ، والمنّي مشتمل على كلّ ما ينسب إلى أب ، ولا يحتاج في المنّي إلى ألف الاستفهام كما لو يحتج في من إلى ألف الاستفهام ، وإذا جعلت مكانها اسما منسوبا مبيّنا أدخلت ألف الاستفهام فقلت : آلقرشي أم الثقفي؟ ونحو ذلك ، وإذا أجاب المسؤول جاء بالجواب على لفظ إعراب المنّي ، وإن شاء رفع على إضمار هو. ولو قال : رأيت زيدا فأردت أن تقول : آلبصري أم الكوفي؟ لم يكن فيه لفظ مبهم كالمنّي ، ولا يجوز أن تقول المنّي ، فيقول في جوابه : المكي أو البصري وما أشبه ذلك من المنسوب إلى أسماء المدن ، ولم يأت ذلك إلا في المنّي ، لأنّ أكثر الأعراض للعرب في المسألة عن الأنساب ، والتناصر والتعادي عليها.

وذكر أبو بكر مبرمان قال : سألت أبا العباس يعني المبرّد : إذا قال لك رجل : رأيت زيدا وأردت أن تسأله عن صفته. قال أقول : المني ، كأني قلت : الظريفي أم العالمي؟ أم الصائغي؟ أم البزّازي؟ فإذا قال : رأيت الجمل ، فأردت أن تسأله عن صفته كيف تقول؟ قال : أقول : المائي والماوي ولا يحسن بأي لأنّ أيّا اختصاص وأنت إنما تسأله عن عموم.

قال أبو سعيد : وهذا تفريع من أبي العباس وقياس ، وعندي أنّ قائلا لو قال : رأيت الجمل ، وكان الجملّ ينسب إلى جماعة مختلفين من الناس مثل التميمي والمهدي والكلبي فأراد السؤال عن هذا النحو قال : المني ؛ لأنك إنّما تريد واحدا من الناس الذين ينسب الجمل إليهم ، وإن أراد النّسب إلى فحل أو إلى موضع لم يجز المني ، وعلى قياس قول أبي العباس يقال : المائي والماوي.

هذا باب إجرائهم صلة من وخبره إذا عنيت اثنين كصلة اللّذين

وإذا عنيت جميعا كصلة الذين

قال سيبويه : " فمن ذلك قوله عزوجل : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ)(١). ومثله فيما حدّثنا يونس قولهم : من كانت أمّك ، وأيّهنّ كانت أمّك ، ألحق تاء التأنيث لمّا عني المؤنث كما قال : يستمعون حين عني جميعا.

وزعم الخليل أنّ بعضهم قرأ : ومن تقنت منكن لله ورسوله [الأحزاب : ٣١] بالتاء ، فجعلها كصلة التي حين عنيت مؤنثا. فإذا ألحقت التاء في المؤنث ألحقت الواو والنون في الجميع.

__________________

(١) سورة يونس ، من الآية : ٤٢.

١٨١

قال الفرزدق :

تعال فإن عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان" (١)

قال أبو سعيد : ل (من) لفظ ومعنى ، فأمّا لفظها فواحد مذكّر ، فإذا رددت إليها الضمير العائد من صلتها أو خبرها أو غير ذلك كان واحدا مذكّرا أردت بها واحدا أو اثنين أو جماعة أو مؤنثا ، فإن أردت أن يكون العائد إليها على معناها فهو على ما يقصده المتكلّم من المعنى.

فأمّا ما أعيد إليه على معناه في الجمع فقوله عزوجل : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ)(٢) ، (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ)(٣) ، وأكثر ما في القرآن من هذا النحو فتوحيد لفظ المذكّر كنحو قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ)(٤)(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ)(٥)(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ)(٦)(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ)(٧) وغير ذلك مما يطول.

وأمّا المثنى فقول الفرزدق :

... من يا ذئب يصطحبان

يريد بمن نفسه والذئب ، وأمّا المؤنث فقوله : ومن تقنت منكن لله ورسوله [الأحزاب : ٣١] لأنّ المعنى واحدة من النساء أو أكثر ، وربما أتي على اللفظ والمعنى كقوله عزوجل : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً) [الأحزاب : ٣١] يقنت بالياء على اللفظ ، وتعمل بالتاء على المعنى ، وقوله تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٨) أسلم وجهه على لفظ من ولا خوف عليهم (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على معنى الجماعة.

وذكر بعض الكوفيين : أنه إذا حمل من على المعنى لم يجز أن يردّ إلى اللفظ ، وإذا حمل على اللفظ جاز أن يردّ إلى المعنى ، ولا فرق بينهما عندي ، والذي يبطل ما قال قوله عزوجل في آخر سورة الطلاق : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي

__________________

(١) البيت في ديوانه ٨٧٠ ، ابن يعيش ٢ / ١٣٢ ؛ الكتاب ٢ / ٤١٦ ؛ المقتضب ٢ / ٩٥.

(٢) سورة يونس ، من الآية : ٤٢.

(٣) سورة الأنبياء ، من الآية : ٨٢.

(٤) سورة الأنعام ، من الآية : ٢٥.

(٥) سورة يونس ، من الآية : ٤٣.

(٦) سورة الطلاق ، من الآية : ٢ ، ٤ ، ٥.

(٧) سورة التغابن ، من الآيتين : ٩ ، ١١.

(٨) سورة البقرة ، من الآية : ١١٢.

١٨٢

مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً)(١) جمع خالدين على المعنى ، ثم قال : (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً)(٢) فردّه إلى اللفظ.

هذا باب إجرائهم ذا بمنزلة الّذي وليس يكون كالّذي إلا مع ما

ومن في الاستفهام وحده

فيكون ذا بمنزلة الذي ، ويكون ما حرف الاستفهام وإجرائهم إيّاه مع ما بمنزلة اسم واحد.

قال سيبويه : " أمّا إجراؤهم ذا بمنزلة الّذي فهو قولهم : ماذا رأيت؟ فتقول : متاع حسن ، قال لبيد :

ألا تسألان المرء ما ذا يحاول

أنحب فيقضى أم ضلال وباطل (٣)

وأمّا إجراؤهم إيّاه مع ما بمنزلة اسم واحد فهو قولك : ماذا رأيت؟ فتقول : خيرا ؛ كأنك قلت : ما رأيت؟ فقال : خيرا.

ومثل ذلك قولهم : ماذا ترى؟ فتقول : خيرا. وقال تعالى : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً)(٤). فلو كان ذا لغوا لما قالت العرب : عمّا ذا تسأل؟ ولقالوا : عمّ ذا تسأل؟ ولكنّهم جعلوا ما وذا اسما واحدا ، كما جعلوا ما وإنّ حرفا واحدا حين قالوا : إنّما ، ومثل ذلك كأنّما ، وحيثما في الجزاء.

ولو كان ذا بمنزلة الّذي في هذا الموضع البتّة لكان الوجه في : ماذا رأيت إذا أراد الجواب أن يقول : خير.

وقال الشاعر ، وسمعنا بعض العرب يقوله :

دعي ما ذا علمت سأتّقيه

ولكن بالمغيّب نبّئيني (٥)

ف (الّذي) لا يجوز في هذا الموضع ؛ لأنّ ما لا يحسن أن تلغيها.

وقد يجوز أن يقول الرجل : ماذا رأيت؟ فيقول : خير ، إذا جعل ما وذا اسما واحدا كأنه قال : ما رأيت؟ فقال : خير ، ولم يجبه على : رأيت خيرا.

__________________

(١) سورة الطلاق ، من الآية : ١١.

(٢) سورة الطلاق ، من الآية : ١١.

(٣) البيت في ديوانه ٢٥٤ ، الخزانة ٢ / ٢٥٢ ، ٢٥٣ ، ٦ / ١٤٥ ، ١٤٧ ؛ ابن يعيش ٣ / ١٤٩ ، ١٥٠ ، ٤ / ٢٣ ؛ والكتاب ٢ / ٤١٧.

(٤) سورة النحل ، من الآية : ٣٠.

(٥) البيت منسوب لأبي حيّة النميريّ ، الخزانة ٦ / ١٤٢ ؛ الكتاب ٢ / ٤١٨ ؛ اللسان (أبى).

١٨٣

ومثل ذلك قولهم في جواب كيف أصبحت؟ صالح ، وفي من رأيت : زيد ، كأنه قال : أنا صالح ، ومن رأيت زيد.

والنصب في هذا الوجه ؛ لأنّه الجواب على كلام المخاطب ، وهو أقرب أن تأخذ به. وقال : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [النحل : ٢٤]. وقد يجوز أن تقول إذا قلت : من ذا الذي رأيت؟ : زيدا ؛ لأنّ هاهنا معنى فعل ، ويجوز النصب هاهنا كما جاز الرفع في الأول.

قال أبو سعيد : قد اشتمل هذا الباب على الكلام في ما ذا ، وقد فسّره سيبويه وغيره على الوجهين اللّذين ذكرهما.

فإن قال قائل : هلا جعلتم ذا زائدة وجعلتم ما للاستفهام وبمعنى الذي كما كانت قبل دخول ذا؟ ويكون : «ماذا أنزل ربّكم» بتقدير : ما أنزل ربكم؟ وقوله :

دعي ما ذا علمت سأتقيه

بتقدير : دعي ما علمت ، كما يقال دعي الذي علمت ، فإنّ سيبويه استدلّ على بطلان هذا بشيئين.

أحدهما : أنّ ذا لو كانت زائدة لوجب أن يقال : عمّ ذا تسأل؟ كما يقال : عمّ تسأل؟ فيسقط ألف ما حين دخل عليه حرف الجرّ.

والوجه الآخر : أنّ ذا إذا كانت زائدة ثم قلنا ما ذا تصنع؟ كانت ما في موضع نصب ، وتكون حقيقة جوابه منصوبا ، فلمّا قال :

أنحب فيقضى أم ضلال وباطل

وهو بدل من ما ، علم أنّ ما في موضع رفع ، وإذا كانت في موضع رفع فهي مبتدأة وخبرها ذا ، ويحاول صلة ذا ، والعائد إليها هاء محذوفة كأنه قال : ماذا يحاوله ، فإذا قال قائل : ماذا صنعت؟ أو «ماذا أنزل ربّكم» فهو على الوجهين اللذين ذكرهما ؛ إن شئت جعلت ما للاستفهام وهي اسم تامّ مرفوع بالابتداء ، وخبره ذا وهي بمعنى الذي ، وما بعده صلته ، وإن شئت جعلت ما وذا جميعا بمنزلة ما وحدها ، ويكونان كحرفين ركّبا لمعنى واحد نحو : كأنما ، وحيثما في الجزاء ، وما جرى مجراهما من الحروف المركبة ، ويكون الجواب بالرفع والنصب على ما تقدّر من جعل ما مبتدأ أو منصوبا بالفعل.

فإن قال قائل : كيف يعلم السامع إذا قيل له : «ماذا أنزل ربّكم» ما قدّره المتكلّم من رفع ما أو نصبه حتى يجعل جوابه خيرا أو خير ، فإنّ هذا لا يلزم السائل ، ولكنه

١٨٤

يسأله عمّا يحتمله كلامه ، وقد يجوز أن يكون حرف الاستفهام في كلام السائل نصبا ، وفي كلام المجيب رفعا على الاستئناف والابتداء والخبر كقولك : ما رأيت؟ فيقول : خير ، وما في موضع نصب ، وكيف أصبحت؟ فيقول : صالح ، كأنه قال : أنا صالح ، والوجه حمل الجواب على ما يوجبه إعراب السؤال. ويجوز أيضا أن يكون لفظ الاستفهام في موضع رفع ، ويكون الجواب نصبا محمولا على الفعل الذي في الكلام ؛ لأنّ المعنى لا يتغيّر ؛ كقولك : زيدا إذا قيل لك من الذي رأيت؟ كأنك قلت : رأيت زيدا.

وأمّا قوله عزوجل : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [النحل : ٢٤] فالذي عند ذوي التحصيل أنّ أساطير الأولين ليس بجواب لأنّ الّذين قالوا : أساطير الأولين لم يكونوا معترفين بأنّ الله أنزل شيئا ، وإنّما تقديره : هذا الذي جاء به محمد أساطير الأولين ، وكأنّهم عدلوا عمّا سئلوا عنه. وأمّا قوله :

دعي ما ذا علمت سأتقيه

فالحرفان جميعا بمعنى الذي ، وعلمت صلة ، والعائد هاء محذوفة من علمته ، وسبيل ماذا في كونها بمعنى الذي كسبيل ما وحدها إذا كانت بمعنى الذي. فإن قال قائل : هلا جعلتم ما زائدة وجعلتم ذا وحدها بمعنى الذي كما قال الله عزوجل : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) [طه : ١٧]. تلك : بمعنى التي وبيمينك صلة ، وكما قال يزيد بن مفرّغ :

عدس ما لعبّاد عليك إمارة

نجوت وهذا تحملين طليق (١)

هذا بمعنى الذي وتحملين صلته كأنه قال : والذي تحملين طليق ، فالجواب أنّ تلك وهذا وما جرى مجراهما من أسماء الإشارة لا يكنّ عند أصحابنا بمعنى الذي وأخواتها ، إلا ذا وحدها إذا كان قبلها ما ، فلمّا كانت ذا لا تكون بمنزلة الذي حتى يكون قبلها ما لم يجز أن تكون زائدة كان إخراجها من الكلام يبطل المعنى المقصود بذا.

«وما تلك بيمينك» بيمينك عند أصحابنا في موضع الحال ، كما تكون في موضع الصّفة إذا قلت : مررت بعصا بيمينك ، كأنه قال : مستقرة بيمينك ، وكذلك تحملين في موضع الحال ، كأنه قال : وهذا حاملته أنت طليق ، وتقديره : حاملة له أنت طليق ، وأسهل من هذا في التقدير : وهذا محمولا طليق. ومما يشبه ما ذكرناه قول أبي ذؤيب :

لعمري لأنت البيت أكرم أهله

وأقعد في أفيائه بالأصائل (٢)

__________________

(١) البيت سبق تخريجه.

(٢) البيت من ديوانه ، الخزانة ٥ / ٤٨٤ ، ٦ / ١٦٦ ؛ وتاج العروس (أصل ، فيأ).

١٨٥

على قول الكوفيين : البيت يوصل كما يوصل الذي ، وأكرم أهله صلته ، ومذهبهم صلة ما فيه الألف واللام من الأسماء نحو الرجل والغلام كصلة الذي. قال أصحابنا في بيت أبي ذؤيب قولين :

أحدهما : أنه يكون خبرا بعد خبر ، البيت مبهما على غير معهود ، وأكرم نعتا له كما يقال : إنّي لأمرّ بالرجل غيرك خير منك.

هذا باب ما تلحقه الزّيادة في الاستفهام إذا أنكرت أن تثبت

رأيه على ما ذكر

أو أنكرت أن يكون رأيه خلاف ما ذكر

قال سيبويه : فالزيادة تتبع الحرف الذي هو قبلها ، الذي ليس بينه وبينها شيء. فإن كان مضموما فهي واو ، وإن كان مكسورا فهي ياء ، وإن كان مفتوحا فهي ألف ، وإن كان ساكنا تحرّك ، لئلا يسكن حرفان ، فيتحرّك كما يتحرّك في الألف واللام الساكن مكسورا ، ثم تكون الزيادة تابعة له.

فمما تحرّك من السّواكن كما وصفت لك وتتبعه الزيادة قول الرجل : ضربت زيدا ، فتقول منكرا لقوله : أزيد نيه؟ وصارت هذه الزيادة علما لهذا المعنى ، كعلم النّدبة ، وتحرّكت النون لأنها كانت ساكنة ، ولا يسكن حرفان.

فإن ذكر الاسم مجرورا جررته ، أو منصوبا نصبته ؛ لأنّك إنّما تسأله عمّا وضع عليه كلامه.

وقد يقول لك الرجل : أتعرف زيدا؟ فتقول : أزيد نيه؟ إمّا منكرا لرأيه أن يكون على ذلك ، وإمّا على خلاف المعرفة.

وسمعنا رجلا من أهل البادية قيل له : أتخرج إن أخصبت البادية؟ فقال : أنا إنيه؟ منكرا لرأيه أن يكون على خلاف أن يخرج.

ويقول : قد قدم زيد ، فتقول : أزيد نيه؟ غير رادّ عليه متعجبا أو منكرا عليه أن يكون رأيه على غير أن يقدم ؛ أو أنكرت أن يكون قدم فقلت : أزيد نيه؟

فإن قلت مجيبا لرجل قال : لقيت زيدا وعمرا قلت : أزيدا وعمر نيه؟ تجعل العلامة في منتهى الكلام. ألا ترى أنّك تقول إذا قال : ضربت عمرا : أضربت عمرنيه؟ وإن قال : ضربت زيدا الطويل قلت : أزيدا الطويلاه؟ وتجعلها في منتهى الكلام.

وإن قلت : أزيدا يا فتى ، تركت العلامة كما تركت علامة التأنيث والجمع

١٨٦

وحروف اللّين في قولك : منا ومني ومنو ، حين قلت : يا فتى ، وجعلت يا فتى بمنزلة ما هو في مسألتك يمنع هذا كلّه ، وهو قولك : من ومنه إذا قال : رأيت رجلا وامرأة. فمنه قد منعت من من حرف اللين ، فكذلك هو هاهنا يمنع كما منع ما كان في كلام المسؤول العلامة في الأوّل ، ولا يدخل يا فتى لأنّه ليس من حديث المسؤول ، فصار هذا هاهنا بمنزلة الطّويل حين منع العلامة زيدا كما منع من ما ذكرت لك ؛ وهو قول العرب.

ومما تتبعه هذه الزيادة من المتحرّكات كما وصفت لك قوله : رأيت عثمان ، فتقول : أعثماناه ، ومررت بعثمان ، فتقول : أعثماناه ، ومررت بحذام ، فتقول أحذاميه ، وهذا عمر فتقول : أعمروه ، فصارت تابعة كما كانت الزيادة في وا غلامهوه تابعة.

واعلم أنّ من العرب من يجعل بين هذه الزيادة وبين الاسم إن فتقول : أعمرو إنيه ، وأزيد إنيه ، فكأنهم أرادوا أن يزيدوا العلم بيانا وإيضاحا ، كما قالوا : ما إن ، فأكّدوا بإن. وكذا أوضحوا بها هاهنا ؛ لأنّ في العلم الهاء ، والهاء خفيّة ، والياء كذلك ، فإذا جاءت الهمزة والنون جاء بعدهما حرفان لو لم يكن بعدهما الهاء وحرف اللين كانوا مستغنين بهما.

وممّا زادوا به الهاء بيانا قولهم : اضربه.

وقالوا في الياء في الوقف : سعدجّ يريدون سعدي.

فإنّما ذكرت لك هذا لتعلم أنهم قد يطلبون إيضاحا بنحو من هذا الذي ذكرت لك.

وإن شئت تركت العلامة في هذا المعنى كما تركت علامة النّدبة.

ويقول الرجل : إنّي قد ذهبت ، فتقول : أذهبتوه؟ ويقول : أنا خارج ، فتقول : أأنا إنيه ، تلحق الزيادة ما لفظ به ، وتحكيه مبادرة له ، وتبينا أنه ينكر عليه ما تكلّم به ، كما فعل ذلك في : من عبد الله؟ وإن شاء لم يتكلّم بما لفظ به ، وألحق العلامة ما يصحّح المعنى ، كما قال حين قلت : أتخرج إلى البادية : أأنا إنيه.

وإن كنت متبيّنا مسترشدا إذا قال : ضربت زيدا ، فإنك لا تلحق الزيادة. وإذا قال : ضربته فقلت : أقلت ضربته؟ لم تلحق الزيادة أيضا ؛ لأنّك إنّما أوقعت حرف الاستفهام على قلت ، ولم يكن من كلام المسؤول ، وإنّما جاء على الاسترشاد لا على الإنكار ، فإن قال : ضربته فقلت : على وجه الإنكار قلت : أضربتهوه ، وإن شئت قلت :

١٨٧

أضربتهوه على المعنى ، والمعنى الأول أجود أن تحكي لفظ المسؤول.

واعلم أنّ هذه الزيادة لا تلحق بعد شيء من حروف الاستفهام ما خلا الألف وحدها ؛ لا تقول : من زيداه ، ولا أي زيدوه ، ولا شيئا من هذا النحو إذا لم يكن قبل كلامهم ألف الاستفهام. وتقول في المضاف نحو عبد الله : أعبد اللهيه ، وأعبد الله إنيه ، وكلّ موضع جاز فيه أحد هذين العلمين فالآخر جائز فيه ، وقد يجوز إذا قال الرّجل : ذهبت أن تقول : أذهبتاه ؛ تلحق الزيادة الفعل الذي هو له في المعنى لا في الحكاية ، ولا يحكي لفظه كما قال حين قال أتخرج إلى البادية : أأنا إنيه؟ وإن شئت حكيت لفظه فقلت : أذهبتوه.

قال أبو سعيد : الباب كلّه في إثبات العلامة للإنكار ، وجعل الإنكار على وجهين :

أحدهما : أن ينكر كون ما ذكر كونه ، ويكذّب به أو يبطله ؛ كرجل قال لك : أتاك زيد ، وزيد ممتنع إتيانه عندك ، فينكره بطلانه عندك ، فهذا معنى قوله : أنكرت أن تثبت رأيه على ما ذكره.

والوجه الآخر : أن يقول : أتاك زيد ، وزيد من عادته إتيانك ، فتنكر أن يكون ذلك إلا كما قال ؛ كما يقول القائل فيما يردّ عليه من الكلام إذا لم يشكّ فيه ، ومن شكّ في هذا ومن أنكره على وجه التعجب والإنكار لذكر مثله مما لا يشك في كونه ، وهذا معنى قوله : أو تنكر أن يكون رأيه على خلاف ما ذكر ، فإذا قلت لمن قال لك : أتعرف زيدا؟ أزيدنيه ، وقول سيبويه : إمّا منكرا لرأيه أن يكون على ذلك : أي منكرا لرأي الذي قال له : أتعرف زيدا ، وأن يعتقد أنّ المسؤول يرتفع عن معرفته ، أو لا تبلغ رتبته إلى أن يعرف زيدا.

وقوله : أو على خلاف المعرفة يعني : أو منكرا أن يكون رأيه على أن لا يعرف زيدا ؛ لأنّ مثله لا يجهل مثل زيد. والعلامة التي للإنكار على لفظين :

أحدهما : بلحاق حرف آخر اللفظ فيتبع حركته ، وإن كان آخر اللفظ ساكنا فيحرّك لاجتماع السّاكنين بحرف ساكن يلقاه ، فإنك تحرّكه وتتبعه الحرف الذي منه حركته ؛ تقول : أزيدنيه وأزيدنيه وأزيدنيه ؛ لأنّ التنوين حرف ساكن يحرّك بالكسر لاجتماع السّاكنين كقولك : جاءني زيد البزّاز ، ومررت بزيد البزّاز ، ورأيت زيدا البزّاز ، فلمّا كسرت النون أتبعته الياء ، وإذا كان آخر اللفظ في الكلام الذي ينكر حرفا ساكنا يسقط ولا يحرّك لاجتماع الساكنين فإنك تدخل عليه مثله في التقدير ثم تحذف الأوّل

١٨٨

لاجتماع الساكنين ، وذلك قولك إذا قال : رأيت المثنّى : ألمثنّاه ، وكذلك إذا قال : مررت بالقاضي تقول : ألقاضيه ، وإذا قال زيد يغزو تقول : أزيد يغزوه ، وقد عمل في النّدبة نحو هذا في قولهم : وانقطاع ظهرهاه للمؤنث الواحدة ، وو انقطاع ظهرهيه؟ للمذكّر ، وو انقطاع ظهركموه ؛ فألف ظهرهاه للندبة ، وقد أسقطت الألف التي كانت في ظهرها ، ولا فرق في علامة الإنكار بين الاسم والفعل ، ولا بين الاسم والنعت ، ولا بين الاسم الظاهر والمكني ، وليس ذلك كباب الحكاية في : من زيدا ، ومن زيد الطويل ؛ لأنّ باب الحكاية إنّما يحكى فيه الاسم العلم عند التباس الأسماء الأعلام ، وإذا قرن بما يزيل الالتباس عاد إلى قياسه لزوال اللّبس ، وعلامة الإنكار لازمة ؛ لأنّ الإنكار ثابت على حاله.

والعلامة الأخرى : أن يترك لفظ المتكلم على حاله ويؤتى بالعلامة منفصلة ، وهي أن يؤتى بها بعد حكاية اللفظ الأوّل ؛ فيقول : أعمر وإنيه ، وأزيد إنيه ، وقد ذكر سيبويه علّته.

والحرف المزيد إن تم زيد على إن ما يزاد على التنوين من حرف ساكن في التقدير فيكسر لاجتماع الساكنين ، وتلحقه الهاء في الوقف لبيان العلامة ، فإذا وصلت الكلام بشيء من كلامك أو كلام المسؤول حذفت العلامة كما فعلت ذلك في : منو ومنا ومني.

فأمّا كلامك فقولك : لمن قال : رأيت زيدا : أزيدا يا فتى؟ ولا يجوز أن تقول : أزيدنيه يا فتى ، ولا أزيدا إنيه يا فتى ، كما لا يجوز أن تقول : منو يا فتى ، فقولك إذا قال : لقيت زيدا وعمرا : أزيدا وعمرنيه تبطل العلامة في زيد لمّا وصلته بعمرو ، وهو من كلام المسؤول في ابتداء كلامه ، وقد يجوز لحاق العلامة لفظ المسؤول ، وقد يجوز أن تلحق لفظا يأتي به السائل في معنى لفظ المسؤول ، فأمّا لفظ السّائل فقولك لمن قال : إنّي قد ذهبت : أذهبتوه ، وإن حملته على المعنى قلت : أذهبتاه ؛ لأنّ التّاء المضمومة للمتكلم هي التّاء المفتوحة إذا صار مكلّما ، وكذلك قول العربي : أنا إنيه للذي قال له : أتخرج إلى البادية ، جاء به على المعنى ؛ لأنّ الضمير المفاعل الذي في أتخرج للمخاطب هو أنا إذا صار المخاطب هو المتكلم. وباقي الباب مفهوم من كلام سيبويه.

هذا باب إعراب الأفعال المضارعة للأسماء

قال سيبويه : " اعلم أنّ هذه الأفعال لها حروف تعمل فيها فتنصبها لا تعمل في الأسماء ، كما أن حروف الأسماء التي تنصبها لا تعمل في الأفعال ، وهي : أن ، وذلك قولك : أريد أن تفعل كذا ، وكي ، وذلك قولك : أجيئك لكي تفعل ، ولن.

١٨٩

فأمّا قول الخليل فزعم أنّها : لا أن ولكنّهم حذفوا لكثرته في كلامهم ، كما قالوا : ويلمّه ، وكما قالوا : يومئذ ، وجعلت بمنزلة حرف واحد ، كما جعلوا هلا بمنزلة حرف واحد ، وإنّما هي هل ولا.

وأما غيره فزعم أنه ليس في لن زيادة ، وليست من كلمتين ، ولكنّها بمنزلة شيء على حرفين ليست فيه زيادة ، وأنّها في حروف النصب بمنزلة لم في حروف الجزم ، في أنه ليس واحد من الحرفين زائدا. ولو كانت على ما يقول الخليل لما قلت : أمّا زيدا فلن أضرب ؛ لأنّ هذا اسم والفعل صلة ، فكأنه قال : أمّا زيدا فلا الضّرب له".

قال أبو سعيد : قد تقدّم في أوّل الكتاب ذكر المضارعة التي استحقّ بها الفعل الذي في أوّله الزوائد الأربع الإعراب ، وهي المشابهة بين هذا الفعل وبين الاسم ، وقد ذكرت هناك بما أغنى عن إعادته هنا.

وذكر أهل الكوفة في استحقاق الفعل الإعراب قولين ضعيفين منتقضين لا نظام لهما.

أحدهما : أنّ الأفعال أعربت لما دخلت عليها المعاني المختلفة ، ووقعت على الأوقات الطويلة ، وهذا فاسد ؛ لأنّ الحروف قد تدخل عليها المعاني المختلفة ولا يوجب ذلك لها إعرابا ، كقولنا : ألا فهي تصلح للاستفهام والعرض والتّمني ، ولمّا تصلح للزّمان كقولك : لمّا جاء زيد أكرمته ، وتكون في نحو معنى لم جازمة ، ومن : تصلح للتبعيض ، ولابتداء الغاية وغير ذلك مما يطول ذكره.

وأمّا طول الزمان فإنّ الفعل المعرب أقصر زمانا من المبني ؛ لأنّ الفعل المعرب ما كان في أوله الزوائد الأربع ، وهي تصلح للحال والاستقبال ، فأمّا فعل الحال فلا امتداد له ؛ لأنه لزمان واحد ، والزمان الذي يليه يصيّره ماضيا ، والفعل الماضي أطول منه ومن المستقبل ؛ لأنّ الفعل الماضي أبدا ماض ، ولا يصير مستقبلا ، والمستقبل يصير ماضيا ، ويبطل عنه الاستقبال ، فإذا كان الفعل الأطول زمانا مبنيا كيف يكون طول الزمان سببا لإعرابه؟

والقول الآخر : إنّ الفعل وقع بين الأداة والاسم فأشبه من الأداة أنه لا يلزم المعنى في كلّ الحالات ، وأشبه ليت التي تقع للتمني فإذا زال التمني زالت ، وكذلك ما يشبه ليت من الأدوات.

قال : وأشبه من الاسم وقوعه على دائم الفعل الذي قدّمنا ذكره ، وأعطي بحصّة

١٩٠

شبه الاسم الرفع والنّصب ، ومنع الخفض لتقصيره عن كل منازل الأسماء ، وخصّ بالجزم ، وترك التنوين منه في حال رفعه ونصبه بحصّة الأداة إذ الأداة حقّها الوقف والسّكون ، وأن لا تعرب ولا تنون لعدمها تمكّن الأسماء.

قال أبو سعيد : وهذا قول يبطله أدنى التأمّل له ، وذاك أنه ذكر ابتداء الكلام الدلالة على وجوب الإعراب للأفعال ، ثم ذكر أنّ الفعل بشبه الاسم يعطى الرفع والنصب ، وبشبه الأداة يعطى الجزم ، وإنّما يذكر اختصاص مواضع الإعراب واختلافه بعد الدلالة على وجوب جملته ، وهذا لم يقم دليلا على وجوب الإعراب جملة فيقيم بعده دليلا على مواضعه ، وذكر حال الأداة بما يشاركه فيه الاسم ؛ لأنه قال : فأشبه ليت التي تقع للتمني ، فإذا زال التمني زالت ، وهذه صفة الاسم ؛ لأنّ الصّبي يسمّى بهذا الاسم لما فيه من الصّبا ، والشّابّ لما فيه من الشباب ؛ فإذا زال الصّبا والشباب لم تقل صبي ولا شابّ ، والخمر تسمّى بهذا الاسم لما فيها من الشّدّة ، فإذا حمضت وصارت خلا لم تسمّ خمرا ، وليس في التشاغل به والاستقصاء عليه طائل.

ولم أر أصحابنا علّلوا الحروف الناصبة والجازمة للأفعال لم اختصّت الناصبة منها بالنصب والجازمة منها بالجزم؟ وقد ذكرت شيئا من ذلك في أول الكتاب ، وأنا أذكره الآن على ما يصحّ قياسه ، وأذكر بعض ما ذكر الناس فيه ، وما يحضرني من الحجج على ذلك إن شاء الله تعالى.

وأمّا المرفوع من الأفعال فعلى قول سيبويه وسائر البصريين : يرتفع لوقوعه موقع الاسم لا لمضارعته الاسم ، وقد توهّم أبو العباس ثعلب على سيبويه أنه يرفع الفعل لمضارعته الاسم ، وتبعه على هذا التوهّم أصحابه ، ولم يفهموا مذهب البصريين ، والذي يقوله البصريّون : أنّ المضارعة أوجبت للفعل استحقاق الإعراب الذي فيه الرفع والنصب والجزم ، ثم كان للرفع شيء يختصّ بإيجابه ، وللنصب شيء يختص بإيجابه ، والجزم كذلك ، وستقف من كلام سيبويه فيما يأتي على هذا إن شاء الله تعالى.

واحتذى الفرّاء قول البصريين في ذلك فغيّر لفظهم ، وقال : يرتفع الفعل بسلامته من النواصب والجوازم ، وذلك أنّ النواصب والجوازم ألفاظ وحروف ، ووقوعه موقع الاسم ليس بلفظ ، فجعل خلوّه من الحروف الناصبة والجازمة هو الرافع.

والفرّاء وأصحابه قد عابوا البصريين برفعهم الاسم بالابتداء الذي هو خلوّ الاسم من العوامل اللفظيّة فدخلوا في مثل ما عابوه.

وقول البصريين في رفع الفعل قول صحيح وترتيب غير مدخول ؛ لأنّهم بدءوا

١٩١

بالرفع الذي هو أول الإعراب فجعلوا له سببا لا يتعلق بغيره ، ولا يخرج الرفع عن ترتيبه. وقول الفرّاء في ذلك قول مدخول ولفظه غير صحيح ؛ وذلك أنّ الرفع أول أحوال الفعل ؛ فإذا رفعناه من قبل وجود المنصوب والمجزوم فلا بدّ من حال مقترنة به توجب له الرفع غير منسوبة إلى شيء لم يكن بعد ، وإنما يقال : سلم فلان من كذا إذا كان قد دخل فيه ولابسه.

وقال الكسائيّ وأتباعه من الكوفيين : الفعل المستقبل يرتفع بالزوائد الأربع : الألف والنون والتّاء والياء.

قال أبو سعيد : وهذا قول يفسد من وجهين :

أحدهما : أنّ هذه الزوائد موجودة في حال النصب والجزم ، والعامل إذا حضر ووقع على المعمول فيه عمل عمله.

والوجه الآخر : أنّ هذه الزوائد من نفس الفعل وتمام معناه ، ولا تنفصل منه في لفظ ولا في معنى ينفرد به. فكيف تعمل فيه ولا تنفرد منه ولا تفارقه؟ وليس بمنزلة أن يذهب ؛ لأنّ أن منفصلة اللفظ من يذهب ، ويذهب منفرد بنفسه ولفظه.

قال أبو سعيد : وأمّا نصب الفعل فالأصل فيه أن ، وذاك أنّ أن الناصبة هي وما بعدها بمعنى المصدر ، وأنّ المشدّدة المفتوحة الناصبة هي وما بعدها من الاسم والخبر بمنزلة المصدر ، كقولك : أريد أن تخرج ، ومعناه : أريد خروجك ، وبلغني أنّك تخرج ، بمعنى : بلغني خروجك ، وبعد فهما يشتركان فيما كان من أفعال الظّنّ والخوف ، كقولك : حسبت أنّك لا تقوم ، وحسبت أن لا تقوم ، ويتعاقبان على الأفعال التي للإيجاب ، وغير الإيجاب ؛ كان للإيجاب انفرد به المشدّد كقولك : عرفت أنّك تخرج ، وما كان لغير الإيجاب انفرد به المخفّف كقولك : اشتهيت أن تخرج ، وأردت أن تخرج ، فحمل نصب الفعل بأن على نصب الاسم ب" أنّ" لما ذكرناه.

ولن وكي وإذا محمولة على أن في النصب لمشاركتها لها في الاستقبال ؛ والدليل على ذلك أنّ إذا قد تدخل على الحال فيبطل النصب بها ، وستقف على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

وقد ذكر سيبويه عن الخليل : في لن أنّ أصلها لا أن ، وحكى الكوفيّون عن الكسائي مثل قول الخليل.

قال أبو سعيد : والمختار قول غير الخليل ، والحجّة فيه سوى ما ذكره سيبويه ، أنّا إذا قلنا : لن أضرب زيدا ، كان كلاما كاملا تاما لا يحتاج إلى إضمار شيء ، وإذا قلنا : لا

١٩٢

أن أضرب زيدا ، لم يتمّ الكلام ؛ لأنّ أن وما بعده من الفعل والمفعول بمنزلة اسم واحد ، والاسم الواحد إذا وقع بعد لا احتاج معه إلى خبر ، فليس لفظ لن وفقا للفظ لا أن ، ولا معناها وفقا لمعناها ، فما الذي أوجب أنّها هي؟

وجملة الأمر أنه ليس لنا أن ندّعي في (لن) غير ظاهرها إلا ببرهان ، وقد رأينا في الحروف الناصبة كي وإذا وليسا بمأخوذين من لفظ أن.

فإن قال قائل : إذا زعمتم أنّ لن وكي وإذا حملن. على أن في نصبهنّ ؛ لاشتراكهنّ في الاستقبال ، فما القول في حروف الجزم؟ فهلا نصبتم فعل الأمر والنّهي والمجازاة وهنّ مستقبلات؟

قيل له : أمّا لام الأمر فإنّ ما بعدها جزم ؛ لأنه بمعنى الأمر المبني على السّكون ؛ لمضارعته له ودخوله في معناه حمل على إعراب لفظه كلفظ البناء.

وأمّا النهي فإنه جزم ؛ لأنه نقيض للأمر ، والأمر مبني ، كما جزم الفعل بلم ؛ لأنّه نقيض الماضي والماضي مبني.

وأمّا المجازاة فجزمت لأنها شرط وجواب فطالت ، فاختاروا لها أخفّ الإعراب وهو الجزم لطولها.

وقال الكوفيّون : لام الأمر خصّت بالجزم فرقا بينها وبين لام كي في قولهم : أقصدك لأكرمك ، يعني به لكي أكرمك ، وكانت لام الأمر أولى بأن تجزم المستقبل لأنّها على المستقبل أغلب ، وتمكّنها فيه أوضح من تمكّن لام كي ؛ من أجل أنّ لام الأمر تبتدأ مع المستقبل وتنفرد به حين قال : ليفعل وليصنع ، ولام كي لا تنفرد حتى يتقدّمها ما يحدثها ، وتجري مجرى الصلة له نحو : أزورك كي أكرمك.

قال أبو سعيد : وهذا تطويل لا يحتاج إليه ؛ لأنه يحتاج أولا إلى إقامة الحجّة بأنّ الاستقبال موجب للنصب ، ولا سبيل له إلى ذلك ، وإنما هي دعوى لا حجة عليها.

وأمّا قوله : ويلمّه ، ويومئذ فقد ذكرا في مواضعهما بما أغنى عن ذكره ، والله أعلم.

هذا باب الحروف التي تضمر فيها أن

قال سيبويه : " وذلك اللام ، في قولك : جئتك لتفعل. وحتى ، وذلك قولك : تكلّم حتى أجيبك ، فإنّما انتصب هذا بأن ، وأن هاهنا مضمرة ؛ ولو لم تضمرها لكان الكلام محالا ؛ لأنّ اللام وحتى إنّما يعملان في الأسماء فيجرّان ، وليسا من الحروف التي تضاف إلى الأفعال ، فإذا أضمرت أن حسن الكلام ؛ لأنّ أن وتفعل بمنزلة اسم

١٩٣

واحد ، كما أنّ الذي وصلته بمنزلة اسم واحد ؛ فإذا قلت : هو الذي فعل ، فكأنك قلت : هو الفاعل ، وإذا قلت : أخشى أن تفعل ، فكأنك قلت : أخشى فعلك. أفلا ترى أنّ أن تفعل بمنزلة الفعل ، فلمّا أضمرت أن كنت قد وضعت هذين الحرفين مواضعهما ؛ لأنهما لا يعملان إلا في الأسماء ولا يضافان إلا إليها ، وأن تفعل بمنزلة الفعل.

وبعض العرب يجعل كي بمنزلة حتّى ، وذلك أنهم يقولون : كيمه؟ في الاستفهام ، فيعملونها في الأسماء كما قالوا : حتّامه؟ وحتّى متي؟ ولمه؟

فمن قال : كيمه فإنّه يضمر أن بعدها ، وأمّا من أدخل عليها اللام ولم يكن من كلامه كيمه فلأنّها عنده بمنزلة أن ، ويدخل عليها اللام كما يدخل على أن. ومن قال : كيمه جعلها بمنزلة اللام.

واعلم أنّ أن لا تظهر بعد حتى وكي ، كما لا يظهر الفعل بعد أمّا في قولك : أمّا أنت منطلقا ، وقد ذكر حالها فيما مضى. واكتفوا عن إظهار أن بعدهما بعلم المخاطب أنّ هذين الحرفين لا يضافان إلى فعل ، وأنّهما ليسا ممّا يعمل في الفعل ، وأن الفعل لا يحسن بعدهما إلا أن يحمل على (أن) ، ف (أن) هاهنا بمنزلة الفعل في أمّا ، وما كان بمنزلة أمّا ممّا لا يظهر بعده الفعل ، فصار عندهم بدلا من اللفظ ب (أن).

وأمّا اللام في قولك : جئتك لتفعل فبمنزلة إن في قولك : إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ ؛ وإن شئت أظهرت الفعل هنا ، وإن شئت خزلته وأضمرته ، وكذلك أن بعد اللام إن شئت أظهرته وإن شئت أضمرته.

واعلم أنّ اللام قد تجيء في موضع لا يجوز فيها الإظهار ، وذلك : ما كان ليفعل ، فصارت أن هاهنا بمنزلة الفعل في قولك : إيّاك وزيدا ، وكأنك إذا مثّلت قلت : ما كان زيد لأن يفعل ، أي ما كان زيد لهذا الفعل. فهذا بمنزلته ، ودخل فيه معنى نفي كان سيفعل ، فإذا قال هذا قلت : ما كان ليفعل ، كما كان لن يفعل نفيا لسيفعل ، وصارت بدلا من اللفظ بأن كما كانت ألف الاستفهام بدلا من واو القسم في قولك : الله لتفعلنّ ، فلم يذكروا إلا أحد الحرفين إذ كان نفيا لما معه حرف لم يعمل فيه شيئا فكأنه قد ذكر أن. كما أنه إذا قال : سقيا له ، فكأنه قال : سقاه الله".

قال أبو سعيد : قال الكوفيّون في جئت لأكرمك : اللام هي الناصبة لأكرمك ، وهي بمنزلة أن ، وليست هي لام الخفض التي تعمل في الأسماء ، ولكنّها لام تفيد الشّرط

١٩٤

وتشتمل على معنى كي ، فإذا أتت كي مع اللام فالنصب للام ، وكي مؤكّدة لها ، وإذا انفردت كي فالعمل لها ، وإن جاءت أن مظهرة بعد كي فهو جائز عند الكوفيين ، وصحيح عندهم أن يقال : جئت لكي أن أكرمك ، ولا موضع ل" أن" لأنّها تؤكد اللام كما أكّدتها كي ، واحتجّوا بقول الشاعر :

أردت لكي ما أن تطير بقربتي

فتتركها شنّا ببيداء بلقع (١)

وأجازوا ظهورها بعد حتى كظهورها بعد كي ، والنصب عندهم ب (حتى) كالنصب بأن وكي ولا ضمير بعدها.

وقالوا : إن قيل لأسيرنّ حتى أن أصبح بالقادسيّة ؛ فهو جائز ، والنصب ب (حتّى) ، وأن توكيد ل" حتى" كما كانت توكيدا لكي.

وقال أحمد بن يحيى ثعلب قولا خالف فيه أصحابه ولم يوافق البصريين ، قال : في جئت لأكرمك ، وسرت حتى أصبح بالقادسية ، وقصدتك كي أكرمك. إنّ المستقبل منصوب بكي ولام كي وحتّى لقيامهنّ مقام أن.

ومما احتجّ به الكوفيون أنّهم قالوا : لو كانت اللام الداخلة على الفعل هي اللام الخافضة لجاز أن تقول : أمرت بتكرم ، على معنى أمرت بأن تكرم ؛ فالجواب عن هذا أنّ حروف الجرّ لا تتساوى في ذلك ، واللام تدخل على المصادر التي هي أعراض الفاعلين في أفعالهم ، وهي شاملة يحسن أن تسأل عن كل فعل ، فيقال : لم فعلت ؛ لأن لكلّ فاعل غرضا في فعله ، وباللام يخبر عنه ويسأل عنه ، وحتّى وكي في ذلك المعنى. ألا ترى أنك تقول : مدحت الأمير ليعطيني ، وكي يعطيني ، وحتى يعطيني ، ومعناها كلّها واحد ، وقد يخفّف ما يكثر في كلامهم ويحذف منه أكثر الخبر ، وممّا يحذف ما لم يكثر ، وهم يحتجّون في الحذف والتّخفيف بالكثرة ، كحذف لام الأمر وتاء المخاطب في أمر المواجه عندهم نحو : قم واذهب ، والأصل لتقم ولتذهب ، وأيش عندك ، والأصل أي شيء عندك ، ولم يكثر غير اللام في ذلك فيخفّف ، وعلى أنّ هشام بن معاوية حكى عن الكسائي عن العرب : لا بدّ من يتبعها ، بمعنى لا بدّ من أن يتبعها.

وأما ما ذكره الشاعر من ظهور أن بعد كي فضرورة يجوز أن يكون الشاعر ذهب بها مذهب بدل أن من كيما ؛ لأنّهما بمعنى واحد ، كما يبدل الفعل من الفعل إذا كان في معناه ، وعلى أنّ البيت غير معروف ولا معروف قائله.

__________________

(١) البيت في الخزانة ١ / ١٦ ، ٨ / ٤٨١ ، ٤٨٤ ؛ ابن يعيش ٧ / ١٩ ، ٩ / ١٦.

١٩٥

وزعم الكوفيون أنّ (مه) في (كيمه) و (حتّامه) ليست مخفوضة ولكنها منصوبة على مذهب المصدر ، كقول القائل : أقوم كي تقوم ، سمعه المخاطب ولم يفهم يقوم فقال : كيمه ، يريد كي ما ذا ، والتقدير : كي يفعل ما ذا ، فموضع مه نصب على جهة المصدر والتشبيه به ، وليس لكي في مه عمل جرّ.

قال أبو سعيد : والصحيح ما قاله سيبويه ؛ لأنّ سقوط الألف من ما في الاستفهام إنما يكون إذا كانت ما في موضع خفض واتصل بها الخافض ، وإذا كانت ما استفهاما وقعت صدر الكلام ولم تسقط منها الألف كقولك : وما تصنع ، ولا يجوز وم تصنع؟ ولو كان على ما قاله الكوفيون لجاز أن تقول أن مه ، ولن مه ، وإذن مه ، إذا لم يفهم المستفهم ما بعد هذه الحروف من الفعل ؛ لأنه إنما يسأله عن مصدر ، والمصدر في الأفعال بعد أن وإذن ولن ، وبعد كي وحتّى واحد ، ولام الجحد عند سيبويه بمنزلة لام كي في إضمار أن بعدها ، وبينهما فصل في إظهار أن بعدهما ، فاستحسن ظهورها بعد لام كي ولم يجز ظهورها بعد لام الجحد ؛ وإنما قبح ظهورها بعد لام الحجد لأنها نقيض فعل ليس تقديره تقدير اسم ، ولا لفظه لفظ اسم ، وهو السين وسوف ، فإذا قلنا : ما كان زيد ليخرج فهو قبل الحجد : كان زيد سوف يخرج ، أو سيخرج ، فإذا قلنا ما كان زيد لأن يخرج بإظهار أن فكأنّا جعلنا مقابل سوف يخرج وسيخرج اسما ، فكرهوا إظهار أن لذلك.

ووجه آخر : وهو أنّ تقديره عندهم : ما كان زيد مقدّرا الآن يخرج ، أو مستعدّا ، أو هامّا ، أو عازما ، أو نحو ذلك من التقديرات التي توجب المستقبل من الفعل ، وأن توجب الاستقبال ، فاستغني بما تضمّن الكلام من تقدير الاستقبال من ذكر أن ، وأمثّل هذا بما يكشفه ؛ يقول القائل : عبد الله عمّي ، فيقال له : ما كان عبد الله عمّك ، ويقول القائل : عبد الله يصوم ويصلّي ، فيقال : ما كان عبد الله يصوم ويصلّي ، بغير لام ، ويقول القائل : عبد الله يهمّ أن يقوم ، ويريد أن يقوم ، فيقال له : ما كان عبد الله ليقوم ، ومنه قوله عزوجل : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣]. (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) [التوبة : ١١٥]. كأنّ قائلا قال : هل الله يريد أن يعذّبهم؟ وهل الله يريد أن يضلّ قوما بعد إذ هداهم؟ فجعلت اللام علما لهذا المعنى.

وقد فرّع أصحابنا على هذا مسائل ؛ يقال : لم تركت زيدا وكان سيعطيك ، ولو لم تلزمه كان أن يسعفك ، ونحوه : كان عبد الله على أن يأتيك ، وكان يقدّر أن يكرمك مكان لن يكرمك ، كلّ هذا جيد بالغ مقيس ، وبنيت هذه المسائل على تقدير ما كان

١٩٦

يقال لزيد ويخبر به عنه في تلك الحال.

وقال الكوفيون : لام الجحد هي العاملة بنفسها ، وأجازوا تقديم المفعول كقولك : ما كنت زيدا لأضرب ، وأنشدوا :

لقد عذلتني أمّ ولم أكن

مقالتها ما كنت حيّا لأسمعا (١)

وهذا يحمل على إضمار فعل كأنه قال : ولم أكن لأسمع مقالتها ، وبيّن ما أضمر بقوله لأسمعا ، كما قال :

وإنّى امرؤ من عصبة خندفيّة

أبت للأعادي أن تديخ رقابها (٢)

فاللام في الأعادي لا تكون في صلة تديخ ، فيقدّر فعل قبله تقديره : أبت أن تديخ رقابها للأعادي. وباقي الباب مفهوم ، أو ممّا ذكر تفسيره في غير هذا الباب.

هذا باب ما يعمل في الأفعال فيجزمها

قال سيبويه : " وذلك لم ، ولمّا ، واللام التي في الأمر ، وذلك قولك : ليفعل ، ولا التي للنّهي ، وذلك قولك : لا تفعل ؛ وإنما هو بمنزلة لم.

واعلم أنّ اللام ولا في الدعاء بمنزلتهما في الأمر والنهي ، وذلك قولك : لا يقطع الله يمينك ، وليجزك الله خيرا.

واعلم أنّ هذه اللام قد يجوز حذفها في الشعر وتعمل مضمرة ، كأنهم شبّهوها بأن إذا عملت مضمرة. قال الشاعر :

محمد تفد نفسك كلّ نفس

إذا ما خفت من أمر تبالا

وإنما يريد : لتفد نفسك ، وقال متمّم بن نويرة :

على مثل أصحاب البعوضة فاخمشى

لك الويل حرّ الوجه أو يبك من بكى (٣)

أراد : ليبك.

واعلم أنّ حروف الجزم لا تجزم إلا الأفعال ، ولا يكون الجزم إلا في هذه الأفعال المضارعة للأسماء ، كما أنّ الجرّ لا يكون إلا في الأسماء.

فالجزم في الأفعال نظير الجرّ في الأسماء ، فليس للأسماء في الجزم نصيب ، وليس للفعل في الجرّ نصيب ، فمن ثمّ لم يضمروا الجازم. وقد أضمره الشاعر ، شبّهه

__________________

(١) البيت في الخزانة ٨ / ٥٧٨ ؛ ابن يعيش ٧ / ٢٩.

(٢) البيت منسوب لعمارة بن عقيل بن بلال بن جرير ، اللسان (ديخ) ؛ والمقتضب ٤ / ١٩٩.

(٣) البيت من ديوانه ، ابن يعيش ٧ ، ٦٠ ، ٦٢ ؛ الكتاب ٣ / ٩ ؛ تاج العروس (بعض). (يعض).

١٩٧

بإضمارهم ربّ وواو القسم في كلام بعضهم.

وفي نسخة أبي بكر مبرمان وأبي محمد بن درستويه : (وأمّا يرحمك الله فإنّه رفع وإن كان دعاء ، كما قالوا : غفر الله لك فجاءوا به على لفظ الخبر ، وإنّما يريدون به الدعاء".

قال أبو سعيد : أمّا حذف اللام من لتفد نفسك فإنّ أبا العباس المبرّد ينكر البيت ويزعم أنه باطل ، وأجاز البيت الثاني ، وعطف (أو يبك من بكى) على معنى فاخمشي ، وقدّره مجزوما باللام ، فكأنّه قال : فلتخمشي أو يبك من بكى ، ومثله قول الآخر ، الحطيئة :

فقلت ادعى وأدع فإنّ أندى

لصوت أن ينادي داعيان (١)

كأنه قال : فقلت لتدعي وأدع ، وقد روي : وأدعو إنّ أندى على الجواب بالواو ، وليس فيه شاهد.

وقد ذكر أبو بكر مبرمان عن أبي علي عسل بن ذكوان عن أبي عثمان المازني أنّ الشاعر يجوز أن يكون أراد تفدي نفسك على الخبر ، ولكنّه حذف الياء كما حذفوا من : دوامي الأيد ، يريدون الأيدي.

قال أبو سعيد : وأجود من هذا الاستشهاد خطّ المصحف ، وقراءة من قرأ : (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا) [الكهف : ٦٤].

ولمّا معناها معنى لم ، وجزمها كجزمها ، وهي تزيد على لم بتطويل زمان ، كما يقول القائل : ندم زيد ولم تنفعه الندامة ، أي : وما نفعته الندامة عقيب ندمه وإذا قال : ولمّا تنفهه النّدامة ، أي إلى وقته ، وقوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١٤] دلّت لمّا على طول وقت الإتيان ، ومنه قول الشاعر :

فإن كنت مأكولا فكن خير آكل

وإلا فأدركني ولمّا أمزّق (٢)

وما بين لم ولمّا كما بين فعل وقد فعل ؛ فلم نفي فعل كقولك : جاء زيد ، فيقول الرّادّ : لم يجيء زيد ، ويقول القائل : جاء زيد وقد اغتمّ ، فيقول : جاء زيد ولمّا يغتمّ ، وهما في

__________________

(١) البيت في ديوانه ، ابن يعيش ٧ / ٥٣ ؛ الكتاب ٣ / ٤٥ ؛ وتاج العروس (ندى).

(٢) البيت منسوب للشاعر الجاهلي الممزق العبدي (شأس بن نهار العبدي) ، الخزانة ٧ / ٢٨٠ ؛ تاج العروس ولسان العرب (مزق ، أكل).

١٩٨

موضع الحال من زيد ، ولو قال : جاء زيد ولم يغتمّ لم يحسن كحسن ولمّا يغتمّ. ومن أجل طول زمان قد ولمّا جاز حذف الفعل منهما كقولك : ندم فلان وقد نفعته الندامة ، وندم غيره ولمّا تنفعه النّدامة ، وتقول في قد : أزف الشّخوص وكأن قد ، قال النابغة :

أزف الترحّل غير أنّ ركابنا

لمّا تزل برحالها وكأن قد (١)

أي : كأن قد زالت.

وقوله : يرحمك الله وغفر الله لك ، على لفظ الخبر ومعنى الدعاء ؛ كما أنّ قولنا : أكرم بزيد على لفظ الأمر ومعنى الخبر. وإنما جاز لفظ الخبر في الدعاء ؛ لأنه يعلم أنّ القائل لهذا لا يعلم ما فعله الله بمن يدعو له من الرحمة وغيرها فيخبر به ، فيعلم أنّ لفظ الإخبار منه على معنى الدعاء ، ولا يجوز : قام زيد في معنى : ليقم زيد ؛ لأنّ القائل لهذا يجوز أن يعلمه فيخبر به.

هذا باب وجه دخول الرّفع في هذه الأفعال المضارعة للأسماء

قال سيبويه : " اعلم أنّها إذا كانت في موضع اسم مبتدإ أو اسم مبني على مبتدإ أو في موضع اسم مرفوع غير مبتدإ ولا مبني على مبتدإ ، أو في موضع اسم مجرور أو منصوب ، فإنّها مرتفعة ، وكينونتها في هذه المواضع ألزمتها الرفع ، وهي سبب دخول الرّفع فيها وعلّته.

فما عمل في الأسماء لم يعمل في هذه الأفعال على حدّ عمله في الأسماء ، كما أنّ ما يعمل في الأفعال فيجزمها أو ينصبها لا يعمل في الأسماء. وكينونتها في مواضع الأسماء ترفعها كما ترفع الاسم كينونته مبتدإ.

فأمّا ما كان في موضع المبتدإ ، فقولك : يقول زيد ذاك ، وأمّا ما كان في موضع المبني على المبتدإ ، فقولك : زيد يقول ذاك.

وأمّا ما كان في موضع غير المبتدإ ولا المبني عليه فقولك : مررت برجل يقول ذاك ، وهذا يوم آتيك ، وهذا زيد يقول ذاك ، وهذا رجل يقول ذاك ، وحسبته ينطلق. وهكذا هذا وما أشبهه.

ومن ذلك أيضا : هلا يقول زيد ذاك ، فيقول في موضع ابتداء ، وهلا لا تعمل في

__________________

(١) البيت منسوب للنابغة الذبياني في ديوانه ٨٩ ، الخزانة ٧ / ١٩٧ ، ٩ / ٨ ، ١٠ / ٤٠٧ ؛ ابن يعيش ٨ / ١٤٨ ، ٩ / ١٨ ، ١٠ / ١١٠ ؛ وتاج العروس (قدد).

١٩٩

اسم ولا فعل ، فكأنّك قلت : يقول زيد ذاك ، إلا أنّ من الحروف ما لا يدخل إلا على الأفعال التي في مواضع الأسماء المبتدأة ، ويكون الحرف أولا قبل الأفعال ، وسنبيّن ذلك إن شاء الله تعالى وقد بيّن فيما مضى.

ومن ذلك أيضا قولهم : ائتني بعد ما يفرغ زيد ، وما ويفرغ بمنزلة الفراغ ، ويفرغ صلة وهي مبتدإة ، وهي بمنزلتها في الذي إذا قلت بعد الذي يفرغ ، فيفرغ في موضع مبتدإ ؛ لأنّ الذي لا يعمل في شيء ، والأسماء بعده مبتدأة.

ومن زعم أنّ الأفعال ترتفع بالابتداء فإنه ينبغي له أن ينصبها إذا كانت في موضع ينتصب فيه الاسم ، ويجرّها إذا كانت في موضع ينجرّ الاسم فيه ، ولكنّها ترتفع بكينونتها في موضع الاسم.

ومن ذلك أيضا قولك : كدت أفعل ذاك ، وكدت تفرغ ، وكدت : فعلت ، وفعلت لا ينصب الأفعال ولا يجزمها ، وأفعل هاهنا بمنزلتها في كنت ، إلا أنّ الأسماء لا تستعمل في كدت وما أشبهها.

ومثل ذلك : عيسى يفعل ذلك ، فصارت كدت ونحوها بمنزلة كنت عندهم ، كأنّك قلت : كدت فاعلا ، ثم وضعت أفعل في موضع فاعل. ونظير هذا في العربية كثير ، وسترى ذلك. إن شاء الله. ألا ترى أنك تقول : بلغني أنّ زيدا جاء ، ف (أنّ) زيدا جاء كلّه اسم. ويقولون : لو أنّ زيدا جاء لكان كذا ، فمعناه : لو مجيء زيد ، ولا يقال : لو مجيء زيد.

وتقول في التعجّب : ما أحسن زيدا ، ولا يكون الاسم في موضع ذا ، فتقول : ما محسن زيدا ، ومنه : قد جعل يقول ذاك ، كأنك قلت : صار يقول ذاك ، فهذا وجه دخول الرفع في الأفعال المضارعة للأسماء. وكأنّهم إنّما منعهم أن يستعملوا في كدت وعسيت الأسماء أنّ معناها ومعنى نحوها تدخله أن ، نحو قولهم : خليق أن يقول ، وقارب أن يفعل. ويضطرّ الشاعر فيقول : كدت أن أفعل ، فلمّا كان المعني فيهنّ ذلك تركوا الأسماء ؛ لئلا يكون ما هذا معناه كغيره ، وأجروا اللفظ كما أجروه في كنت ؛ لأنه فعل مثله.

وكدت أن أفعل لا يجوز إلا في شعر ؛ لأنه مثل كان في قولك : كان فاعلا ويكون فاعلا.

وكأن معنى جعل يقول ، وأخذ يقول ، قد آثر أن يقول ونحوه ، فمن ثمّ منع

٢٠٠