شرح كتاب سيبويه - ج ٣

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٣

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

 ـ بالكسر ـ فهو كلام قائم بنفسه ، وليس بمنزلة اسم ، وكذلك إن المكسورة ، ومثله قول الله ـ عزوجل ـ : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ)(١) و (إنّا) على الوجهين اللذين ذكرناهما ، وفي قراءة عبد الله ((آمنوا)) مكان ((تؤمنون بالله)).

واختلفوا في جزم (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [الصف : ١٢] فقال الفراء : إنها جزمت بهل في قراءتنا ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود للأمر الظاهر ، وتأويل (هَلْ أَدُلُّكُمْ)(٢) في المعنى أمر أيضا ، كقولك : هل أنت ساكت ، معناه : اسكت. والله أعلم.

فهذا كلام الفراء ، وقال أبو إسحاق الزجاج : ((يغفر لكم)) جواب (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ)(٣) ، أي إن فعلتم ذلك ، فالدليل على ذلك قراءة عبد الله بن مسعود ((آمنوا)) ورد على من قال هو جواب (هل) وغلطه ، قال : لأنه ليس إذا دلهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما على ما ينفعهم غفر الله تبارك اسمه لهم ، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا فإنما هو جواب تؤمنون بالله وتجاهدون ، إن تفعلوا ذلك يغفر لكم.

قال أبو سعيد : والأقوى عندي أنه جواب (لهل) لأن تؤمنون تفسير للتجارة ، وهي جملة ما وقعت عليه (هل) ، فالاعتماد في الجواب على هل ، وهل في معنى الأمر لأنه لم يكن القصد عن استفهامهم عن الدلالة على التجارة المنجية ، هل يدلّون عليها ، أو لا يدلّون ، وإنما المراد الأمر لهم ، والحث على ما ينجيهم ، وقد يكون بلفظ الخبر ما يراد به الأمر أو الدعاء ، ولو أتى له بجواب ما كان إلا مجزوما كقول الله ـ عزوجل ـ : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ)(٤) تثب مرضعة الحولين الجنة ، وكذلك غفر الله لزيد ينج من النار وكذلك إذا كان الأمر بلفظ الاستفهام ، فقوله أتيتنا أمس نعطك اليوم ، أي إن كنت أتيتنا أمس أعطيناك اليوم ، إذا أراد أن إعطاءنا إياك اليوم بسبب مجيئك أمس ، لأنا لو جعلناه شرطا لصح أن تقول : إن كنت جئت أمس أعطيتك اليوم ، وإنما يجوز هذا في (كنت) خاصة ، وقد ذكر في موضعه ، ولو قلت : إن جئت أمس أعطيتك اليوم لم يجز ، فاضمر بعد الاستفهام من الشرط ما يصح أن يكون الجواب له مجزوما ، ولو أراد بقوله أتيتنا أمس التقدير لم يجز الجزم لأنه لا يقدر فيه أن ، وقوله (ألا تنتهي عنا

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ٥١.

(٢) سورة القصص ، الآية : ١٢.

(٣) سورة الصف ، الآية : ١١.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ٢٣٣.

٣٠١

ملوك) وإن كان لفظه لفظ الاستفهام فإن معناه معنى الأمر ، كأنه قال :

لتنته عنا ملوك إن تنته عنّا لا يبوء الدم بالدم ، ومعنى لا يبوء الدم بالدم لا يقتل واحد بآخر يريد أن الملوك إن قتلوا منا قتلنا منهم ، ولو حمل هذا على لفظ حقيقة الاستفهام أن الألف للاستفهام ، ولا للجحد ، فيكون الشرط المقدر بلفظ الجحد ، فيصير التقدير ألا تنته عنا ملوك ، فإذا قيل ألا تنته عنا ملوك فحق الكلام. يبوء الدم بالدم ، ولم يدخل فيه لا ، وعلى هذا تأويل ألا تأتيني أحدّثك ، تأويله أتيتني أحدّثك ، ولو حمل على حقيقة الاستفهام صار تقدير الشرط ألا تأتني وجوابه لا أحدّثك ، وقوله :

متى أنام لا يؤّرقني الكرى

ليلا ولا أسمع أجراس المطيّ (١)

كأن قائل هذا الشعر مكان من يكرى الإبل ، والكرى : المكتري والمكتري منه ، و (متى) استفهام وللجزم في لا يؤرقني وجهان :

أحدهما أنه جزم جواب الشرط الاستفهام ، وتقدير الشرط فيه : إن أنم لا يؤرّقني ، كأنه لم يعد نومه نوما ، وجعل النوم هو الذي لا ينبهه منه الكرى ، والوجه الآخر أنّ يؤرقني مرفوع تركت ضمته استثقالا ، كما قال :

وقد بدا هنك من المئزر (٢)

في معنى هنك ، ومعناه متى أنام غير مؤرّق ، كأنه تمن النوم الذي لا ينتبه منه ولا يكون فيه سهر ، وفي هذا المعنى أشمّه الرفع من أشمه ؛ وقد يجوز في جواب الأمر الرفع على الاستئناف ، وعلى الحال والاستئناف نحو قولك : ائتني آتيك.

كأنه قال : أنا آتيك ، ويقع في مثله ما يحسن فيه الرفع على الاستئناف والحال ، كقول القائل : ذره يقول ذاك على معنى قائلا ذاك ، وعلى الاستئناف ، وكذلك (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(٣) على معنى عامهين ، وعلى معنى هم يعمهون مستأنفا ، وسائر ما ذكره سيبويه فيه الرفع على هذين الوجهين كذلك ، وقول الأنصاري :

 ... والحقّ عنده فقفوا

 ... (٤)

__________________

(١) الشطران من الرجز ، وقائلهما مجهول ، الكتاب ٣ / ٩٥.

(٢) البيت ورد منسوبا للأقيشر الأسدي ، في الخزانة ٢ / ٢٧٩ ؛ الكتاب ٤ / ٢٠٣.

(٣) سورة الأعراف ، الآية : ١٨٦.

(٤) جزء من بيت سبق تخريجه.

٣٠٢

الحق ينتصب بإضمار فعل تفسيره (فقفوا) كأنه قال : والحقّ فالزموا ، ودخلت الفاء لأنها تدخل زائدة في الأمر ، كقولك : يزيد فأمرن.

... وتؤتون فيه الوفاء معترفا (١)

ويروى معترفا فمن كسر صيّر الحق معترفا لهم بذلك ، ومن فتحه فهو بمعنى اعترافا.

وقوله : (نعيش) على الاستئناف فظاهر صحيح اللفظ والمعنى كأن حيّين أو جمعين خاطب أحدهما الآخر ، فقال :

كونوا كمن آسى أخاه بنفسه

ثم استأنف :

نعيش جميعا أو نموت كلانا (٢)

ولفظ كلانا لفظ رجلين لأن الحيين والجمعين كالرجلين في اللفظ وأما قول الخليل نعيش على كونوا نعيش ، وجعل نعيش خبرا لكونوا ، فظاهر الكلام يمنع من ذلك لأن الواو في كونوا اسم للمخاطبين ليس للمتكلم فيها شيء ، والمتكلم خارج عنها ، وقولك نعيش للمتكلم إذا كان معه غيره ، فكيف يجوز أن يكون ما للمتكلم خبرا عن المخاطب من غير ضمير عائد إليه ، ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول : كان الزيدون نقوم جميعا ، وظاهر الكلام كونوا نعيشون ، أو لنكن نعيش ، وقد تقبّل أصحابنا ما قاله الخليل ، وما اعترض فيه بشيء أحد علمته منهم.

قال أبو سعيد : وإذا حمل هذا على معناه احتمل ، وذلك أن يكونوا قوما اجتمعوا فتواصوا بالتآلف ، وترك الفرقة ، فيكون متكلمهم إذا أوصاهم بشيء فهو داخل معهم فيه فلا فرق بين أن يأمرهم وهو في المعنى داخل معهم ، وبين أن يكون لفظ الأمر لنفسه وهم معه فيصير قوله كونوا كقوله : لنكن ، وإذا قال : لنكن نعيش جميعا فنعيش خبر فهذا محمول على معناه ، والله أعلم بالمقاصد ، ولم يجز : لا تدن من الأسد يأكلك لأنه إذا انجزم أضمر شرطا تقديره لفظ النهي كأنه قال :

لا تدن منه يأكلك ، وهذا محال ؛ لأنه يصيّر تباعده منه سببا لأكله ؛ فإن قلت : لا تدن من الأسد فيأكلك بالفاء والنصب جاز ، وحسن لأن الجواب بالفاء والمنصوب

__________________

(١) عجز بيت سبق تخريجه.

(٢) انظر بيت معروف الدبيري السابق تخريجه.

٣٠٣

تقديره العطف كأنه قال : لا يكن دنو فأكل ، وإن لم تدخل الفاء ورفعت جاز على الاستئناف كقولك :

لا تدن من الأسد يأكلك ، أي هو مما يأكلك فاحذره ؛ ومثله مما سمعه من العرب :

لا تذهب به تغلب عليه. وقوله مره يحفرها ، وقل له يقل ذاك على وجهين :

أحدهما على الجواب كأنه قال : مره إن تأمره يحفرها ، وإن تقل له يقل ذاك ثقة بأن الثاني يقع إذا وقع الأول أو تغليبا للظن في ذلك.

والوجه الثاني : أن يكون حكاية فعل الأمر وهو مبني ، وزيدت فيه الياء لأنه غائب ، وهو مستقبل كأنه قال : مره : احفرها وقل له : قل ذاك ، ودخلت الياء لأن صاحب الفعل غائب ، كما تقول :

حلف زيد ليخرجنّ ، ولفظ يمينه لأخرجنّ ، ومثله قول الله عزوجل ـ : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ)(١).

على الوجهين أحدهما : قل لهم إن تقل يقيموا وينفقوا لأن دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمؤمنين وقوله لهم سبب إقامتهم للصلاة واتفاقهم ، وإن كان بعض من دعي لم يفعل ذلك ، والوجه الآخر إنه أمر دخل في أوله الياء لما ذكرته لك من غيبة الفاعلين ، كأنه قال : قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا ، وهذا قول لم يذكره سيبويه ، ولا من تقدم من أصحابنا ، وذكره الفراء ، ورأيت الزجاج يحكيه عن المازني ، وقوّاه الزجاج ، ولعل المازني أخذه عن الفراء ، ورأيت أبا العباس المبرد ذكر ـ في المقتضب ـ (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(٢) وفيما ذكره تخليط فكرهت ذكره ، وإذا قلت : مره يحفرها ، ونحو ذلك جاز في (يحفرها) الرفع من وجهين ـ فيما ذكره سيبويه ـ : أحدهما على الابتداء والاستئناف ، فكأنه قال : مره فإنه يحفرها ولا يخالف ، والوجه الآخر على معنى مره أن يحفرها ، وأسقط (أن) ورفع ، كما تقول : عسينا أن نفعل ، ثم تقول : عسينا نفعل ، ومثله :

ألا أيّهذا الزّاجري أحضر (٣)

والمعنى أن احضر الوغى ، وإذا رفع صار تقديره اسم فاعل ، وإذا الوغى رفع صار تقديره تقدير اسم فاعل ، وإذا ظهرت أن ونصب صار تقديره تقدير مصدر ، فإذا قلت :

__________________

(١) سورة إبراهيم ، الآية : ٣١.

(٢) سورة الإسراء ، الآية : ٥٣.

(٣) صدر بيت سبق تخريجه.

٣٠٤

مره أن يحفرها فتقديره : مره يحفرها ، وإذا قلت : مره يحفرها على معنى (أن) فتقديره حافر لها ، كأنه ظهرت فيه أمارة النية في حفرها والعزم عليه فصار كأنه حافر.

ومثله قول الله ـ تعالى ـ : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ)(١) بمعنى مقدرين الخلود. وإذا قلنا : عسينا أن نقوم فتقديره : عسينا القيام ، وإذا قلنا عسينا نقوم فتقديره : قائمين ، كما قال : عسى الغويرأ بؤسا ، ولا يستعمل فيه لفظ الاسم إنما يستعمل فيه لفظ الفعل ، كما أنا إذا قلنا ، عسى زيد أن يقوم ، لم يستعمل لفظ المصدر فيه ، ولم يقل : عسى زيد القيام ، وإذا قلت :

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

فتقديره حاضر الوغى ، ويجوز على هذا أن تقول :

ألا أيهذا الزاجري الحرب أحضر ، فتنصب الحرب بأحضر ، ولو جئت به على الأصل فقلت :

ألا أيّهذا الزاجري أن أحضر الوغى

لم يجز تقديم الوغى على أحضر ، وتقديره الزاجري عن أن أحضر الوغى.

وقول الله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ)(٢) أجود ما يقال فيه ما ذكره سيبويه عن الخليل نصب (غير) بأعبد وتأمروني غير عامل ، كما يقول : هو يفعل ذاك فيما بلغني ، وزيد قائم ، فيما ظننت كأنك قلت هو يفعل ذلك فيما بلغني ، وزيد قائم فيما ظننت.

قال سيبويه : وإن شئت كان بمنزلة :

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

وهو ضعيف لأنه يؤدي إلى أن يقدر أعبد بمعنى عابدا غير الله وفيه فساد ، والذي عليه الناس هو الوجه الأول الذي ذكرناه.

هذا باب الحروف التي تنزل بمنزلة الأمر والنهي

فمن تلك الحروف حسبك وكفيك ، وشرعك وأشباهها.

نقول : حسبك ينم الناس ، ومثل ذلك : (اتقّي الله أمرؤ وفعل خيرا يثب

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٧٣.

(٢) سورة الزمر ، الآية : ٦٤.

٣٠٥

عليه) (١) ، لأن فيه معنى ليتق الله امرؤ ، وليفعل خيرا ، وكذلك ما أشبه هذا.

وسألت الخليل عن قول الله ـ عزوجل ـ (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ، وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ)(٢).

فقال هذا كقول زهير :

بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا (٣)

فإنما جروا هذا لأن الأول قد تدخله الياء ، فجاءوا بالثاني وكأنهم قد أثبتوا في الأول (الباء) ، وكذلك هذا لما كان الذي قبله يكون جزما ، ولا (فاء) فيه. تكلموا بالثاني وكأنهم قد جزموا قبله فعلا توهموا ذلك. وأما قول عمرو بن عمار الطائي :

فقلت له صوّب ولا تجهدنّه

فيدنك من أخرى القطاة فتزلق (٤)

فهذا على النهي ـ كما قال : لا يمددها فتشققها ، كأنه قال : لا يدنينّك من أخرى القطاة ، ولا تزلقن ومثله من النهي : لا يرينّك هاهنا ، ولا أرينّك هاهنا.

وسألته عن : آتي الأمير لا يقطع الّلصّ ، فقال : الجزاء هاهنا خطأ ، لا يكون الجزاء أبدا حتى يكون الكلام غير واجب ، إلا أن يضطرّ شاعر ، ولا نعلم هذا جاء في شعر البتّة ، وسألته عن قوله : أمّا أنت منطلقا أنطلق معك ، فرفع وهو قول أبي عمرو وحدثنا به يونس ، وذلك لأنه لا يجازى بأن كأنه قال : لأن صرت منطلقا أنطلق معك وسألته عن قوله : ما تدوم لي أدوم لك ، فقال : ليس في هذا جزاء من قبل أن الفعل صلة لما ، فصار بمنزلة الذي ، وهو بصلته كالمصدر يقع على الخبر ، كأنه قال :

أدوم لك دوامك لي ، وما دمت بمنزلة الدّوام ويدلك على أن الجزاء لا يكون هاهنا ، أنك لا تستطيع أن تستفهم بما يدوم على هذا الحد.

ومثل ذلك : كلما تأتيني آتيك ، والإتيان صلة ل (ما) ، كأنه قال :

كلّ إتيانك آتيك ، وكلما تأتيني ، يقع أيضا على الحين كما كان (ما تأتيني) يقع على الحين ، ولا يستفهم بكلما ، كما لا يستفهم بما تدوم.

وسألته عن قوله : الذي يأتيني فله درهمان ، لم جاز دخول الفاء هاهنا والذي

__________________

(١) قول لبعض العرب. انظر التصريح ٢ / ٢٤٣ ؛ الأشموني ٣ / ٣١١.

(٢) سورة المنافقون ، الآية : ١٠.

(٣) البيت في ديوانه ٢٨٧ ، الخزانة ٣ / ٦٦٥ ؛ الكتاب ٣ / ١٠١.

(٤) البيت في ديوانه ١٧٤ ، الكتاب ٣ / ١٠١.

٣٠٦

يأتيني بمنزلة عبد الله ـ وأنت لا يجوز لك أن تقول : عبد الله فله درهمان؟ فقال : إنما يحسن في الذي لأنه جعل الآخر جوابا للأول ، وجعل الأول به يجب له الدرهمان ، فدخلت الفاء هاهنا ، كما دخلت في الجزاء ، إذا قلت : إن يأتني فله درهمان ، وإن شاء قال : الذي يأتيني له درهمان ، كما تقول : عبد الله له درهمان ، غير أنه إنما أدخل الفاء لتكون العطية مع وقوع الإتيان ، فإذا قال : له درهمان ، فقد يكون ألا يوجب له ذلك بالإتيان ، فإذا أدخل الفاء ، فإنما يجعل الإتيان سبب ذلك ، فهذا جزاء وإن لم يجزم لأنه صلة ، ومثل ذلك قولهم :

كل رجل يأتينا فله درهمان ، ولو قال : كل رجل فله درهمان كان محالا.

لأنه لم يجئ بفعل ، ولا بعمل يكون له جواب.

ومثل ذلك قول الله ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)(١) وقال ـ تبارك وتعالى ـ : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ)(٢).

وسألت الخليل عن قول الله ـ تبارك اسمه ـ : (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها)(٣) أين جوابها؟ وعن قوله ـ جل ثناؤه ـ : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ)(٤) ، (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ)(٥) فقال : إن العرب قد تترك في مثل هذا الخبر في كلامها لعلم المخبر لأي شيء وضع هذا الكلام.

وزعم أنه وجد في أشعارها ((ربّ)) لا جواب لها. من ذلك قول الشماخ :

ودويّة قفر تمشيّ نعامها

كمشي النّصارى في خفاف اليرندج (٦)

فهذه القصيدة التي فيها هذا البيت لم يجئ فيها جواب (رب) لعلم المخاطب أنه يريد : قطعتها ، أو ما فيه هذا المعنى.

قال أبو سعيد : أما قوله حسبك وكفيك وشرعك : فهي أسماء مبتدأة وأخبارها

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٧٤.

(٢) سورة الجمعة ، الآية : ٨.

(٣) سورة الزمر ، الآية : ٧١.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ١٦٥.

(٥) سورة الأنعام ، الآية : ٢٧.

(٦) البيت في ديوانه ٨٣ ؛ الكتاب ٣ / ١٠٤.

٣٠٧

محذوفة لعلم المخاطب بها ، وذلك أنه لا يقال شيء من هذا إلا لمن كان في عمل قد بلغ فيه كفاية ، فيقال له هذا ليكنّ ويكتفي بما قد عمله منه ، وتقديره حسبك هذا ، وحسبك ما قد عملته ونحوه ، ومعناه كله معنى (اكتف). وقد حكى أبو عمرو (شرعك) منصوب إذا نهاه ، وفيه معنى المرفوع لأن المرفوع يراد به الكف عن الفعل وقطعه ، و (ينم الناس) جواب لأن معناه معنى الأمر ، وإن كان مبتدأ ، وقوله : اتقى الله أمرؤ ، وإن كان لفظه لفظ الخبر ، فمعناه الأمر ، لأن هذا بقوله الواعظ لمن يسمع كلامه ، وليس قصده أن يخبر عن إنسان بأنه قد اتقى الله ، ومثله : غفر الله لزيد ، ورحمه ، لفظه الخبر ومعناه الدعاء ، وأما من قرأ :

(فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ)(١) ، والأصل في الجواب أن يكون بغير فاء ، والذي يقرأ ((وأكون)) يعطفه على ما بعد الفاء ، ومثاله في الاسم : إن عندك زيدا وعمرو وعمرا ، عطفا على موضع (إن) ، وعلى المنصوب بعد (إن) وأما استشهاده ببيت زهير ، فالخفض في البيت قبيح جدا ، لأنه خافض قبله يخفضه ، ولا مخفوض يعطف عليه ، ولا شيء موضعه خفض ، فيعطف على الموضع لأن الباء إذا أتى بها فموضعها نصب ، فإذا حذفت ونصب الاسم بعدها ، فقد وقع الاسم المنصوب موقعه ولا موضع لغير النصب ، ألا ترى أنا إذا قلنا : تعلقت بزيد وعمرا ، عطفنا (عمرا) على موضع الباء ، ولا يقال تعلقت زيدا وعمرو ، ولا يحسن لأن المنصوب ليس في موضع خفض ، والخفض في البيت قبيح جدا ، والذي في كتاب الله ـ عزوجل ـ مستحسن جيد ، والذي حملت على الموضع مما لا يحتاج فيه إلى تغيير لفظ العامل ، فهو أحسن مما يحتاج فيه إلى تغيير لفظه ، فمما لا يحتاج فيه إلى تغيير لفظ العامل قولك : ليس زيد بجبان ولا بخيلا ، بخيلا معطوف على موضع الباء ، ولا يحتاج في نصب (بخيلا) إلى تغيير (ليس) ، وكذلك إذا عطفنا (أكن) على موضع الفاء ، لم تغير ((لو لا أخّرتني)) عن لفظه ؛ ومما يحتاج إلى تغيير اللفظ قوله :

جيئوا بمثل بني زيد لقومهم ...

أو مثل أسرة ... (٢)

تجعل مكان جيئوا : أو هاتوا مثل أسرة ، وكذلك قوله :

أعنّي بخوار العنان ...

 ...

__________________

(١) سورة المنافقون ، الآية : ١٠.

(٢) البيت منسوب لجرير وروايته في ديوانه

جئني بمثل بني بدر لقولهم

أو مثل أسرة منظور بن سيار

٣٠٨

وأبيض مصقول السّطام

 ... (١)

على معنى : أو هات أبيض مصقول السّطام ؛ وقوله : آتي الأمير لا يقطع اللصّ ، رفع (يقطع) لأن الذي قبله كلام موجب ، وإخبار مطلق ، وليس قبله شرط ولا أمر ولا نهي ولا استفهام ، ولو اضطر شاعر فجزم (يقطع) لجاز على معنى أن آته لا يقطع اللصّ ، وكأنه قد اعتقد أن إتيانه إياه هو سبب لا يقطع اللصّ من أجله ، فصار بمنزلة أن آته لا يقطعه. وقوله : أما أنت منطلقا أنطلق معك بالرفع ، لأن تقديره : لأن كنت منطلقا أنطلق معك ، فكأنه قال : لخروجك أخرج معك ، ولمقامك ألزمك ، وقد ذكرناه في موضعه قبل هذا الموضع بالبسط والشرح من هذا الكلام.

وقوله : ما تدوم لي أدوم لك ، (ما) والفعل بمنزلة المصدر ، فقام مقام الوقت كمقدم الحاج ، وخفوق النجم ، فكأنه قال :

وقت دوامك لي أدوم لك ، كما تقول : يوم خروجك ألزمك ، ولا يجوز أن تقول : ما تدم لي أدم لك.

كما تقول : متى تدم لي أدم لك ، وأين تكن أكن ، لأن (ما) إذا جعلت وما بعدها من الفعل مصدر أبطل فيها الاستفهام لأنها إذا كانت للاستفهام لم يحتج إلى أن يوصل بفعل ، وإنما يجازى بما إذا نقلت عن الاستفهام لاستواء الجزاء والاستفهام.

هذا معنى قول سيبويه : إنك لا تستطيع أن تستفهم بما تدوم على هذا الحد ، يعني إذا كانت موصولة بتدوم ؛ ومثله : كلما تأتيني آتيك : معناه كل وقت إتيان منك لي آتيك ، ولا يجوز الاستفهام فيه كما لا يستفهم بما تدوم. ومن أجل هذا المعنى قال الفقهاء : إذا قال الرجل لامرأته : كلما تدخلين هذه الدار فأنت طالق ، فدخلتها ثلاث مرات فإنها تطّلق ثلاث تطليقات لكل دخلة تطليقة ؛ لأن معناه كل وقت دخلة تدخلين فيه ، فوقت كل دخلة غير وقت الدخلة الأخرى ؛ وقالوا لو قال : إن دخلت هذه الدار فأنت طالق فدخلتها ثلاث مرات لم يقع إلا تطليقة واحدة ، لأنه ليس في ألفاظ هذه الأشياء تكرير أوقات تتعلق من الحكم بكل واحد منها غير ما يتعلق بالآخر ، ألا ترى أنه إذا قال : كل

__________________

(١) البيتان منسوبان لكعب بن جعيل التغلبي وتمامهما :

أعني بخوار العنان تخاله

إذا راح بردي بالمدجج أمردا

وأبيض مصقول السطام مهندا

وذا حلق من نسج داود مسردا

الكتاب ١ / ١٧٠.

٣٠٩

رجل يأتيني فله درهم ، فأتاه رجلان ، فلكل واحد منهما درهم ؛ ولو قال : إن أتاني زيد فله درهم ، فأتاه مرتين لم يستحق إلا درهما واحدا ؛ وقوله : الذي يأتيني فله درهم ، دخلت الفاء.

لتبين أن الدرهم استحقه بالإتيان ، ولو قال : الذي يأتيني له درهم جاز أن يكون الدرهم يستحقه بالإتيان ، وجاز أن يكون بغيره ، كما يقول : زيد له درهم ، ولم تذكر سبب استحقاقه للدرهم ، ويجوز أن يكون الفعل ماضيا كقولك : الذي أتاني فله درهم ، يثبت أن الدرهم استحقه ومثله قول الله ـ تبارك وتعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ)(١) وكان أبو الحسن الأخفش يضعف : إن الذي يأتيني فله درهم لدخول (إن) على الذي ، ويقول : الذي إنما تدخل الفاء في خبرها ، لأنه يذهب بها وبالفعل الذي بعدها مذهب الشرط ، فإذا أدخلت عليها (إن) أبطلت (إن) الشرط والمجازاة ، كقولك : من يأتيني آتيه ، ثم تقول : إن من يأتيني آتيه ، فتبطل المجازاة بدخول (إن) وتصير (من) بمعنى الذي ؛ وكان أبو إسحاق الزجاج لا يبطل حكم المجازاة عن الذي بدخول (إنّ) والقول ما قاله أبو إسحاق لأن (الذي) لا تعمل في الشرط والجزاء فتجزم ، وإنما يحمل على المجازاة في المعنى لجواز إبهامها ، ولأنها توصل بالفعل وما جرى مجراه ، فتشبه بالشرط والجزاء ، ولم يخرجها (إن) عن ذلك ، لأن (إن) لها تغير معنى الابتداء ، فقد قال الله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ)(٢) فأدخل الفاء مع دخول (إن) ومثله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ)(٣) ومما يدل على صحة ما قلناه أن الحروف لا تكون شروطا مع حروف المجازاة ، لا تقول : إن في الدار زيد أكرمه ، ولا متى يوم الجمعة القتال أحضره ، وقد قال الله ـ عزوجل ـ : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ)(٤) فدخلت (الفاء) لمعنى المجازاة و (ما) بمعنى الذي ، ومثل ذلك قولهم : كل رجل يأتينا فله درهم ، ولو قال : كل رجل فله درهمان كان محالا ، والفرق بينهما أن كل رجل مبهم ، ويأتينا مشبه بالشرط لأن الفعل يكون شرطا ، ويستوجب بيأتينا الدرهمين ، وإن لم يكن بعده شيء فلم يأت سبب يستوجب به شيئا.

قال أبو سعيد : لو قال كل رجل فيه شهامة أو فيه نفاذ ، أو فيه محبة لنا جاز على

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٩١.

(٢) سورة الجمعة ، الآية : ٨.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ٩١.

(٤) سورة النحل ، الآية : ٥٣.

٣١٠

قياس قوله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] وما ذكره الخليل من حذف الجواب في قول الله ـ عزوجل ـ (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها)(١) ، وقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ)(٢) وقد اجتمع النحويون ، وجاء التفسير في بعض ما في القرآن من نحو ذلك أنه محذوف الجواب ، واختلفوا في بعض. فمما أجمعوا على حذف جوابه قول الله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ) [البقرة : ١٦٥] ومنه قوله ـ تبارك وتعالى ـ : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى)(٣) فلم يأت لإن استطعت بجواب ، وجوابه فيما ذكروه : فافعل ، ومنه قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً)(٤) فلم يأت بجواب (لو) وجوابها فيما يقدر : لكان ذلك يفعل بهذا القرآن ، ومما اختلفوا فيه قوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها)(٥) أي جاءوها وقد فتحت أبوابها ، أي : وهذه حالها ، وحذفوا جاءوها الثانية لتكرير اللفظ ، وأنه غير مشكل ، وتقدير الأخرى (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)(٦) بمعنى : استسلما وتله صرعه سعد بإتباع أمر الله ، وبشره الله ـ عزوجل ـ بنبوة ولده ، ونحو ذلك مما يليق بقصته ؛ والفراء يجعل الواو زائدة ، ويقدر ((حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها)) والواو زائدة في الأخرى ((وتله للجبين ناديناه)) ، والواو فيه زائدة ، واستشهد في زيادة الواو بقوله :

حتى إذا قملت بطونكم

ورأيتم أبناءكم شبّوا

وقلبتم ظهر المجنّ لنا

إنّ اللّئيم العاجز الخبّ (٧)

أراد قلبتم والواو زائدة :

قال أبو سعيد : وليست له في هذا حجة لأنه موافق للبصريين في حذف الجواب في المواضع التي ذكرناها ، وذكروها في كتاب (المعاني) أن الحذف كثير في القرآن وكلام العرب ، وإذا كان كذلك جاز أن يكون ما فيه الواو وقد انحذف جوابه كأنه قال : وقلبتم

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٧٣.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ١٦٥.

(٣) سورة الأنعام ، الآية : ٣٥.

(٤) سورة الرعد ، الآية : ٣١.

(٥) سورة الزمر ، الآية : ٧٣.

(٦) سورة الصافات ، الآية : ١٠٣.

(٧) البيتان منسوبان للأسود بن يعفر في ديوانه ١٩ ، الخزانة ٥ / ٤٨٩ ؛ ابن يعيش ١ / ٦٨.

٣١١

ظهر المجن لنا بأن غدركم ولؤمكم ، أو نحو ذلك ؛ وقد جاء في الشعر حذف الجواب ممن غير (واو) كما في القرآن ، قال عبد مناف :

الضّرب شعشعة والطّعن هيقعة

ضرب المعوّل تحت الدّيمة العضدا

وللقسيّ أزاميل وغمغمة

حس الجنوب تسوق الماء والبردا

حتى إذا أسلكوهم في قتائدة

شلا كما تطرد الجمّالة الشردا (١)

والبيت آخر القصيدة ، ولم يأت لحتى إذا بجواب وتقديره :

شلّوا شلا.

وقال آخر :

لو قد حداهنّ أبو الجوديّ

برجز مسحنفر الرّويّ

مستويات كنوى البرنيّ (٢)

ولم يأت بجواب (لو) ، وجوابها في التقدير : لو حداهن أبو الجودي ، يعني الإبل لأسرعن بحدائه ونحو ذلك ، وقوله في بيت الشماخ :

ودويّة قفر (٣)

معناه : وربّ دوية قفر ، ولم يأت بجواب (رب) والذي في شعره بعد هذا البيت جوابه ، وهو قوله بعد البيت :

تركت بها ليلا طويلا وسامرا

لدي ملقح من عود مرخ ومنتج (٤)

يعني أنه سار ليلا طويلا بالدوية ، فقال : تركته ورائي ، وذلك أنه نزل في أول ليلته ، واقتدح ، وعمل ما عمل ، ثم ركب فبعد ، وخلف ليلته حيث استعملت الزّندة ، وهو أن يحمل الزّند على الزندة ، فيلقحها النار ، كما يلقح الفحل الناقة ملقحا ، والمنتج الموضع الذي تخرج منه النار.

هذا باب الأفعال في القسم

اعلم أن القسم توكيد لكلامك ، فإذا حلفت على فعل مستقبل غير منفي لزمته اللام ، ولزمت اللام النون الخفيفة أو الثقيلة في آخر الكلمة ، وذلك قولك :

__________________

(١) البيت في ديوانه ، شرح أشعار الهذليين ٢ / ٦٧٥.

(٢) البيت منسوب إلى أبو الجودي ، الخزانة ٣ / ١٧١ ؛ المقتضب ٢ / ٧٩.

(٣) جزء من بيت سبق تخريجه.

(٤) البيت ورد منسوبا للشماخ في ديوانه ٨٣.

٣١٢

والله لأفعلن.

وزعم الخليل أن النون تلزم اللام كلزوم اللام في قولك : إن كان لصالحا ، فإن بمنزلة اللام ، واللام بمنزلة النون في آخر الكلمة.

واعلم أن من الأفعال أشياء فيها معنى اليمين يجري الفعل بعدها مجراه بعد قولك : والله ، وذلك قولهم : أقسم لأفعلنّ ، وأقسمت عليك لتفعلنّ ، وإن كان الفعل قد وقع ، وحلفت عليه لم تزد على اللام ، وذلك قولك : والله لفعلت ؛ وسمعنا من العرب من يقول : والله لكذبتّ ، والله لكذب.

فالنون لا تدخل على فعل قد وقع ، وإنما تدخل على غير الواجب ؛ وإذا حلفت على فعل منفي لم تغيره عن حاله التي كان عليها قبل أن تحلف ، وذلك قولك : والله لا أفعل ، وقد يجوز لك وهو من كلام العرب ـ أن تحذف (لا) وأنت تريدها ، وذلك قولك :

والله أفعل ذلك أبدا ، تريد : لا أفعل ، وقال :

فحالف فلا والله تهبط تلعة

من الأرض إلا أنت للذّلّ عارف (١)

وسألت الخليل عن قولهم : أقسمت عليك إلا فعلت ولمّا فعلت ، لم جاز هذا في هذا الموضع ، وإنما أقسمت هاهنا كقولك : والله ؛ فقال : وجه الكلام : لتفعلن هاهنا ، ولكنهم أجازوا هذا لأنهم شبهوه بناشدتك الله إذ كان فيه معنى الطلب ؛ وسألته عن قوله (لتفعلن) إذا جاءت مبتدأة ، ليس قبلها ما يحلف به ، فقال : إنما جاءت على نية اليمين ، وإن لم يتكلم بالمحلوف به.

واعلم أنك إذا أخبرت عن غيرك أنه أكد على نفسه ، أو على غيره ، فالفعل يجري مجراه حيث حلفت أنت ، وذلك قولك :

أقسم ليفعلن ، واستحلفه ليفعلن ، وحلف ليفعلن ذلك ، وأخذ عليه لا يفعل ذلك أبدا ؛ وذلك أنه أعطى من نفسه في هذا الموضع مثل ما أعطيته أنت من نفسك حين حلفت ، كأنك قلت حين قلت أقسم ليفعلن ، قال والله ليفعلن وحين قلت استحلفه ليفعلن ، قال له : والله ليفعلن ومثل ذلك قول الله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي

__________________

(١) البيت ورد منسوبا للقيط بن زرارة ، في الكتاب ٣ / ١٠٥.

٣١٣

إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ)(١). وسألته لم لم يجز : والله تفعل ، يريدون بها معنى ستفعل؟ فقال : من قبل أنهم وضعوا (تفعل) هاهنا محذوفة منها (لا) فإنها تجيء في معنى (لا أفعل) فكرهوا أن تلتبس إحداهما بالأخرى ، فقلت فلم ألزمت النون آخر الكلمة ؛ فقال : لكي لا يشبه قوله : إنه ليفعل ، لأن الرجل إذا قال هذا فإنما يخبر بفعل واقع فيه الفاعل ، كما ألزموا اللام : إن كان ليقول ، مخافة أن يلتبس بما كان يقول ذاك لأن إن تكون بمنزلة ما.

وسألته عن قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ، وَلَتَنْصُرُنَّهُ)(٢). فقال :

(ما) هاهنا بمنزلة الذي ، ودخلتها اللام كما دخلت على (إن) حين قلت : والله لئن فعلت لأفعلن ، واللام التي في (ما) كهذه التي في (إن) واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا.

ومثل هذه اللام الأولى (أن) إذا قلت : والله أن فعلت لفعلت ، وقال :

فأقسم أن لو التقينا وأنتم

لكان لكم يوم من الشّر مظلم (٣)

فأن في (لو) بمنزلة اللام في (ما) فأوقعت هاهنا لامين :

لام للأول ولام للجواب ، ولام الجواب هي التي يعتمد عليها القسم ، فكذلك اللامان في قوله ـ عزوجل ـ : (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ)(٤).

لام للأول ، وأخرى للجواب ، ومثل ذلك (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَ)(٥) ، إنما دخلت اللام على نية اليمين. والله أعلم وسألته عن قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ)(٦) فقال : هي بمعنى لتفعلن ، كأنه قال : لظللن كما يقول :

والله لا فعلت ذاك أبدا ، تريد معنى لا أفعل وتقول : لئن فعلت ما فعل تريد معنى

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٨٣.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ٨١.

(٣) البيت منسوبا للمسيب بن علس ، الخزانة ٤ / ٢٢٤ ؛ ابن يعيش ٩ / ٩٤ ؛ الكتاب ٣ / ١٠٧.

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ٨١.

(٥) سورة الأعراف ، الآية : ١٨.

(٦) سورة الروم ، الآية : ٥١.

٣١٤

ما هو فاعل وما يفعل ، كما كان لظلوّا مثل لظللن ، وكما جاءت (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ)(١) على قوله : أم صمتّم ، وكذلك جاء هذا على ما هو فاعل.

قال : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ)(٢). أي ما هم تابعين. وقال ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ)(٣) أي ما يمسكها من أحد ؛ وأما قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ)(٤). فإن (إنّ) حرف توكيد ولها لام كلام اليمين لذلك أدخلوها ، كما أدخلوا في (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ)(٥) ، ودخلت اللام التي في الفعل على اليمين ، كأنه قال : إنّ زيدا لما والله ليفعلنّ ، وقد يستقيم في الكلام : إن زيدا ليضرب ، وليذهب ، ولم يقع ضرب ، والأكثر على ألسنتهم ـ كما خبرتك ـ في اليمين ، فمن ثم ألزموا النون في اليمين لئلا يلتبس بما هو واقع.

قال ـ عزوجل ـ : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٦). قال لبيد :

ولقد علمت لتأتينّ منيّتي

إنّ المنايا لا تطيش سهامها (٧)

كأنه قال : والله لتأتين ، كما قال : لقد علمت لعبد الله خير منك ،

قال : أظن لتسبقنّني وأظن لتموتنّ وهو بمنزلة : علمت ، وقال عزوجل : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ)(٨) ابتداء ، ألا ترى أنك لو قلت بدا لهم أيهم أفضل ، لحسن كحسنه في (علمت). كأنك قلت : ظهر لهم أهذا أفضل ، أم هذا.

قال أبو سعيد : النون دخلت مع اللام في جواب القسم لأن اللام وحدها تدخل

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ١٩٣.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ١٤٥.

(٣) سورة فاطر ، الآية : ٤١.

(٤) سورة هود ، الآية : ١١١.

(٥) سورة الطارق ، الآية : ٤.

(٦) سورة النحل ، الآية : ١٢٤.

(٧) البيت في ديوانه ، الخزانة ٤ / ١٣ ، ٣٣٢ ؛ الكتاب ٣ / ١١٠.

(٨) سورة يوسف ، الآية : ٣٥.

٣١٥

على الفعل المستقبل في خبر (إن) ، وليس دخول اللام في خبر إن للقسم ، وقد تدخل في خبر إن ومعها القسم ، وألزموها النون للفصل بين اللام الداخلة لجواب القسم ، والداخلة لغير القسم.

فإذا قلت إن زيدا ليضربن عمرا ، فاللام مع النون دخلت للقسم ، وتقديره : إن زيدا والله ليضربن عمرا.

وإذا قلت : إن زيدا ليضرب عمرا ، فهذه اللام تقديرها أن تكون داخلة على أن وأخرت ، وبين هذه اللام وبين التي معها النون فصل من وجهين : أحدهما أن اللام التي معها النون لا تكون إلا للمستقبل ، والتي ليس معها النون تكون للحال ، وقد يجوز أن يراد بها المستقبل ؛ والوجه الآخر من الفصل ، أن المفعول به لا يجوز تقديمه على الفعل الذي فيه النون ، ويجوز تقديمه على الذي لا نون فيه ، لأن نية اللام فيه التقديم ، لا يجوز أن تقول : إن زيدا عمرا ليضربن ، ويجوز إن زيدا عمرا ليضرب ، وقد ذكر هذا في غير موضع ، فإن قال قائل إذا أردنا القسم على فعل الحال ، فكيف السبيل إليه؟

قيل له : يقع جواب القسم كأن ويكون الفعل المستقبل خبرا له ، ويراد به الحال كقولك : والله إن زيدا ينطلق ، وإن شئت أدخلت اللام ، فقلت : لينطلق والمعنى واحد ، وإن شئت قلت : إن زيدا لمنطلق ، فيستغنى بدخول اللام على الاسم عن دخولها على الفعل المقسم عليه ، والقسم إذا كان الذي يتلقاه فعلا فهو واقع عليه ، وإن كان الذي يتلقاه حرفا بعده اسم وخبر ، فالذي وقع عليه القسم يؤكد القيام دون زيد ، وكل فعل دخلته النون فهو للاستقبال في الأمر والنهي والاستفهام ، ولا تدخل على الحال ، وحكى أبو إسحاق الزجاج عن أبي العباس المبرد قال : امتنعت النون من دخولها على فعل الحال ؛ لأن الحال لا يحلف عليها ، ثم رد عليه فقال أبو إسحاق : لو كان امتناعها لأن الحال لا يحلف عليها لكان كل من يحلف عند القاضي لا يجب أن يقبل يمينه لأنه يحلف أنه في حال ليست عليه شيء ، ولامتنع قولك : والله لأنت أفضل الناس ، وهو في حال فضل ؛ وقولك : والله لزيد يصلي بحذائي ؛ ولامتنع ، (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)(١). وقد يكتفي بذكر القسم ، وما جرى مجراه عن المقسم به ، فيقال : أقسم لأفعلن ، وأشهد لأفعلن ، وتقديره : أقسم بالذي شأني وسبيلي أن أقسم به ، ولكثرة الاستعمال ، وعلم المخاطب. قال الشاعر :

__________________

(١) سورة المنافقون ، الآية : ١.

٣١٦

فأقسم أن لو التقينا وأنتم

لكان لكم يوم من الشرّ مظلم (١)

وقال آخر :

وأقسم لو شيء أتانا رسوله

سواك ولكن لم نجد عنك مدفعا (٢)

ومن أجل هذا قال الفقهاء من العراق إذا قال الرجل أقسم أو أقسم بالله أو أحلف بالله ، أو أشهد أو أشهد بالله فحنث وجبت عليه كفارة اليمين لأنه إذا قال : أقسم بالله ، أو أحلف بالله أو أشهد صرف إلى معنى : أقسم بالله إذا كان الذي يلزم المسلمين إذا أقسموا أو حلفوا أن يحلفوا بالله دون غيره لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

((من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)) (٣). فإذا كانت اليمين على فعل ماضي لم تدخل اللام كقولك : والله لكذبت ، والله لكذب ولم تدخل النون لأن النون في غير القسم لا تدخل إلا على المستقبل دون الماضي والحال ، وإذا دخلت في فعل القسم فهي أيضا للمستقبل ، فلم يجز دخولها فيما لم يمكن دخولها عليه ، وقال فيه بعض أصحابنا : دخول النون في القسم يفصل بين الحال والاستقبال ، وليس في الماضي لبس يزيل دخول النون ؛ وإذا كان القسم بفعل منفي لم يدخلوا للقسم حرفا دون حرف النفي الذي كان فيه قبل القسم ؛ وأصل دخول حرف القسم الموجب في غير القسم لا يحتاج إلى حرف كقولك : ذهب زيد ، وينطلق عمرو ، وبكر راحل ، وما أشبه ذلك ؛ فلما أقسموا عليه أكدوه بما أدخلوا عليه من الحروف الدالة على القسم ليعلم أنه قسم ، واحتمل الحروف لتجرده منها قبل القسم ، وأما النفي ففيه حروف النفي ، وكرهوا دخول حرف آخر واكتفوا بما فيه من حروف النفي غير أنهم اقتصروا من حروف النفي على حرفين لا يتلقى اليمين بغيرهما من حروف الجحد ، وجعلوهما مقابلين لحرفي الإيجاب في جواب اليمين ، وهما (لا) و (ما) دون (لم) و (لن) فقالوا والله ما زيد منطلقا ، وو الله لا ينطلق زيد ، وكان (ما) في النفي نظيره (إن) في الإيجاب لأن أكثر دخول (ما) على الأسماء والأخبار ، كما أن (أن) تدخل على الأسماء والأخبار ، وكان (لا) نظيره (اللام) لأن دخولها على الأفعال في النفي كدخول اللام في الإيجاب ؛ ولا يجوز : والله لم يقم زيد ، ولا والله لن

__________________

(١) البيت سبق تخريجه.

(٢) البيت ورد منسوبا لامرئ القيس في ديوانه ٢٤٢ ، الخزانة ١٠ / ٨٤ ، ٨٥ ؛ ابن يعيش ٩ / ٧.

(٣) صحيح البخاري ـ كتاب الأيمان والنذور ، صحيح مسلم ـ كتاب المساقات والمزارعة ـ حديث (٤ ، ٦).

٣١٧

يقوم زيد لأنهم جعلوا (لم يقم) نقيض (قام) ، (ولن يقوم) نقيض (سيقوم) ، ولا يقع القسم عليهما في الإيجاب. لا تقول : والله قام زيد ، ولا : والله سيقوم زيد ، فإذا قلت : والله لا يقوم ، فهو نفي للمستقبل ، كما أنك إذا قلت : والله ليقومنّ ، فهو إيجاب للمستقبل ، فإن أردت اليمين على نفي فعل في الحال ، قلت : والله ما زيد يقوم ، وو الله ما زيد قائما ، كما تقول إذا أردت ذلك في الإيجاب : والله إن زيدا يقوم ، وو الله إن زيدا قائم ، وقد كثر في كلامهم حذف (لا) في القسم لكثرة القسم في كلامهم ، وزوال اللبس ، لأن الموجب في القسم تلزمه اللام والنون ، فإذا قالوا : والله أقوم ، علم بسقوط اللام والنون منه أنه نفي ، وقد قال الله ـ عزوجل ـ : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ)(١) وتقديره : لا تزال تذكر يوسف ، وأما أقسمت عليك إلّا فعلت ، ولما فعلت ، فإن المتكلم إذا قال : أقسمت عليك لتفعلنّ ، فهو مخبر عن فعل المخاطب أنه يفعل ومقسم عليه ، فإذا لم يفعل فهو كاذب ، لأنه لم يوجد خبره على ما أخبر به ، وإذا قال : أقسم عليك إلا فعلت ، وكما فعلت ، فهو طالب منه سائل ولا يلزمه فيه تصديق ولا تكذيب ، وللفرق بين المعنيين فرّق بين اللفظيين ؛ وإذا ذكرت يمينا قد حلف كان ذلك في لفظها وجهان : أحدهما حكاية لفظ اللافظ في يمينه ، والآخر : حمل إخبارك على المعنى لا على اللفظ ، ونمثل ذلك بقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ)(٢) قراءة عبد الله ((تقاسموا بالله)) من غير (قالوا) ، ففي ((تقاسموا)) وجهان : أحدهما أن يكون ماضيا ، والآخر أن يكون أمرا ، فإذا كان فعلا ماضيا جاز في (لنبيتنه) الياء والنون حسب ليبيتنه ولنبيتنه ، فأما النون فعلى حكاية لفظهم ، كأنهم قالوا : في أيمانهم ((والله لنبيتنه)) ، وأما الياء فعلى المعنى لأن المخبر عنهم غائب عنهم مخبر بيمين لهم حلفوا على فعل كان منهم والخبر عن الغائب بالياء ، ومثله من الكلام حلف زيد ليقتلن عمرا بالياء لغيبة زيد ، ويجوز حلف زيد لأقتلن عمرا على حكاية لفظه في يمينه ، وإذا كان (تقاسموا) أمرا ففي لنبيتنه ثلاثة أوجه : النون والياء والتاء والنون على حكاية لفظهم إذا حلفوا ، وقالوا : لنبيتنه ؛ والياء على حال المخبر عنهم في الغيبة ، وأما التاء فعلى حكاية لفظ المحلف لأنه إذا حلفهم قال لهم : احلفوا لنبيتنه ، ومثله قولك لصاحبك حلف القوم ليخرجنّ ولتخرجنّ ، ولنخرجنّ ، ولو حلف واحدا جاز أن يقول : أحلف لتخرجنّ ، وأحلف لأخرجنّ. التاء لإقبال المحلف على المحلف ، والألف لحكاية لفظ

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ٨٥.

(٢) سورة النمل ، الآية : ٤٩.

٣١٨

الحالف ؛ وعلى هذا قس جميع ما يرد عليه إن شاء الله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ)(١) لتؤمنن به خبر وهو بمنزلة قولك :

لزيد لتضربنه ، وجعلوا اللام الواقعة على (ما) بمنزلة (أن) في :

 ... أن لو التقينا ...

 ... (٢)

وذلك أن (أن) يتلقى بها اليمين الواقعة على (ما) ، وإذا جعلت (ما) و (لا) للمجازاة في مثل قوله ـ عزوجل ـ : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها)(٣) فلا صلة لها ، فهي في موضع نصب يأتيكم ، والاعتماد في جواب القسم على اللام في قوله : (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) [آل عمران : ٨١] ، وقد شرح ذلك قبل هذا الموضع بأتم مما هنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ)(٤) تأويله : ليظلّنّ ، لأن المجازاة مبنية على يمين ، وقد ذكرنا أنها إذا كانت كذلك فالقسم يعتمد على جواب الشرط ، وجواب الشرط إذا كان فعلا ، فهو فعل مستقبل ، فوجب الاستقبال لأنه مجازاة ، ووجبت له اللام لأنها جواب القسم ، فصار حق اللفظ ليظلّنّ ، ثم نقل إلى لفظ الماضي لأن حروف المجازاة تسوغ نقل لفظ الماضي إلى الاستقبال ، وكذلك نقل لفظ الفعل بعد (ما) التي للمضي ، وهو في معنى الاستقبال في قولك : لئن فعلت ، تريد : ما هو فاعل ، وما يفعل كيف كان كظلوّا في معنى ليظلّنّ ، وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ)(٥) اللام الأولى التي تدخل في اسم (إن) إذا قلت : إن في الدار لزيدا ، وفي خبرها إذا قلت : إن زيدا ليقوم ، ولا تدخل معها النون واللام الثانية ، وهي جواب قسم يقدر بعد اسم (إن) ، وقيل خبرها ، وذلك في نحو قولك : إن زيدا ليقومن ، كأنك قلت : إن زيدا والله ليقومن ، ولا تجتمع هاتان اللامان ، وإذا فرق بينهما جاز.

و (ما) هي زائدة للتوكيد ، وقد تقدم من كلامي أن قولهم : إن زيدا ليضرب وليذهب الأكثر في كلامهم أن يراد به الحال ، وقد يراد به المستقبل ، وذلك في قوله عز

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٨١.

(٢) جزء من بيت سبق تخريجه.

(٣) سورة فاطر ، الآية : ٢.

(٤) سورة الروم ، الآية : ٢.

(٥) سورة هود ، الآية : ٥١.

٣١٩

وجل : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(١) والحكم متأخر ، وقوله : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ)(٢) بدا لهم فعل ، والفعل لا يخلو من الفاعل أو معناه عند النحويين أجمعين بدا لهم بدوّ ، وقالوا : ليسجننه ، إنما أضمر البدو ، لأنه مصدر يدل عليه (بدا لهم) ، وأضمر (قالوا) كما قال : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ)(٣) ومعناه : يقولون سلام عليكم ، ولا يكون ليسجننه بدلا من الفاعل لأنه جملة ، والفاعل لا يكون جملة ، وباقي الباب من كلام سيبويه مفهوم.

باب الحروف التي لا تقدّم فيها الأسماء (على) الفعل

فمن تلك الحروف الحروف العوامل في الأفعال الناصبة ـ ألا ترى أنك لا تقول : جئتك كي زيد يقول ذاك ، ولا خفت أن زيد يقول ذاك ، فلا يفصل بين الفعل والعامل فيه ، كما لا يجوز أن يفصل بين الاسم وبين (إنّ) وأخواتها بفعل ، ومما لا يقدم فيه : الأسماء ، الفعل ، الحروف العوامل في الأفعال الجازمة ، وتلك (لم) و (لما) و (لا) التي تجزم الفعل في النهي و (اللام) التي تجزم الفعل في الأمر ، ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول : لم زيد يأتك ، فلا يجوز أن تفصل بينها وبين الأفعال بشيء ، كما لم يجز أن تفصل بين الحروف التي تجر وبين الأسماء بالأفعال ؛ لأن الجزم نظير الجر ، ولا يجوز أن تفصل بينهما وبين الفعل بحشو ، كما لا يجوز أن يفصل بين الجار والمجرور بحشو إلا في شعر :

ولا يجوز ذلك في التي تعمل في الأفعال فتنصب ، كراهة أن تشبّه بما يعمل في الأسماء ، ألا ترى أنه لا يجوز أن يفصل بين الفعل وما ينصبه بحشو ، كراهة أن يشبهوه بما يعمل في الاسم ، لأن الاسم ليس كالفعل ، وكذلك ما يعمل فيه ليس كما يعمل في الفعل ، ألا ترى إلى كثرة ما يعمل في الاسم ، وقلة ما يعمل في الفعل ؛ فهذه الأشياء فيما يجزم أردأ وأقبح منها في نظيرها من الأسماء ، وذلك أنك لو قلت : جئتك كي بك يؤخذ زيد ، لم يجز ، وصار الفصل في الجزم والنصب أقبح منه في الجر لقلة ما يعمل في الأفعال ، وكثرة ما يعمل في الأسماء.

واعلم أن حروف الجزاء يقبح أن تتقدم الأسماء فيها قبل الأفعال ، وذلك أنهم

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ١٢٤.

(٢) سورة يوسف ، الآية : ٣٥.

(٣) سورة الرعد ، الآيتان : ٢٣ ، ٢٤.

٣٢٠