شرح كتاب سيبويه - ج ٣

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٣

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

وأجمعين لا يكرّران على نكرة ، فاستثقلوا أن يجعلوها فصلا في النكرة كما جعلوها في المعرفة ؛ لأنّها معرفة ، فلم تصر فصلا إلا لمعرفة ، كما لم تكن وصفا إلا لمعرفة.

وأمّا أهل المدينة فينزلون هو هاهنا منزلتها في المعرفة في كان ونحوه. فزعم يونس أنّ أبا عمرو رآه لحنا وقال : (احتبى ابن مروان في ذه في اللحن).

وكان الخليل يقول : (والله إنه لعظيم جعلهم هو فصلا في المعرفة وتصيرهم إيّاها بمنزلة ما إذا كانت لغوا ؛ لأن هو بمنزلة أبوه ، ولكنّهم جعلوها في ذلك الموضع لغوا كما جعلوا ما في بعض المواضع بمنزلة ليس ، وإنّما قياسها أن تكون بمنزلة كأنّما وإنّما. ومما يقوّي ترك ذلك في النكرة أنّه لا يستقيم : رجل خير منك ، ولا تقول : أظنّ رجلا خيرا منك ، حتى تنفي وتجعله بمنزلة أحد ، فلمّا خالف المعرفة في الواجب الذي هو بمنزلة الابتداء ، وفي الابتداء ، لم يجر في النّفي مجرى المعرفة ؛ لأنه قبح في الابتداء وفيما أجري مجراه من الواجب ؛ فهذا ممّا يقوّي ترك الفصل.

قال أبو سعيد : لم يجز الفصل إذا كان الاسم قبله نكرة ؛ لأنّ الفصل يجري مجرى صفة المضمر ، وهو وأخواتها معارف ، فلا يجوز أن يكنّ فصلا للنّكرة ، كما لا يجوز أن تكون المعارف صفات للنّكرة.

وأمّا ما ذكر من إنزال أهل المدينة هو هاهنا منزلتها في المعرفة في كان ونحوه فإنّ هذا الكلام إذا حمل على ظاهره فهو غلط وسهو ؛ لأنّ أهل المدينة لم يحك عنهم إنزال هو في النكرة منزلتها في المعرفة ، والذي حكي عنهم : هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم ، وهؤلاء بناتي جميعا معرفتان ، وأطهر لكم منزلته المعرفة في باب الفصل ؛ لأنّه من باب : هو خير منك ، والّذي أنكر سيبويه أن يجعل : ما أظنّ أحدا هو خيرا منك بمنزلة : ما أظنّ زيدا هو خيرا منك ، فليس هذا مما حكي عن أهل المدينة في شيء ، وقد شهد بما ذكرته ما ذكره يونس أنّ أبا عمرو رآه لحنا ، فدلّ أنّ ذلك في الآية الّتي قرأها من قرأ بنصب (أطهر لكم) ، وليس في القرآن شيء الاسم فيه نكرة ، وفيه قراءتان مختلفتان مما يشبه الفصل.

والذي يصحّح به كلام سيبويه أن يقال : هذا الباب والباب الذي قبله بمنزلة باب واحد ؛ لأنّ الباب الذي قبله باب ما تكون فيه هو وأخواتها فصلا وهذا الباب ما لا يكنّ فيه ، وباب واحد يضمّن ما يجوز وما لا يجوز في معنى واحد ، وترجمته الباب الثاني كالفصل ، وقد يجري في كلام سيبويه أن يترجم بابا يتضمّن أشياء ، ثم يعيد ترجمة الباب في بعض تلك الأشياء.

١٦١

وأمّا قراءة أهل المدينة التي ذكرها فإنما حكي عن محمّد بن مروان ـ وهو بعض قراء أهل المدينة ـ أنّه قرأ : هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم بنصب أطهر لكم ، وقد روي عن عيسى بن عمر بأسانيد جياد مختلفة أنّه قرأ هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم بالنصب ، وذكر الأصمعي أنه قال : قلت لأبي عمرو بن العلاء إنّ عيسى بن عمر حدثنا أنّ ابن مروان قرأ (هنّ أطهر) بالنّصب ، فقال : (احتبي ابن مروان في لحنه) ، وقد روي عن سعيد بن جبير أنه قرأ (هنّ أطهر لكم) بالنصب ، ومعنى قول أبي عمرو : (احتبي في لحنه ، كقولك : اشتمل بالخطأ ، وتجلّل بالخطأ ، وتمكّن في الخطأ ، ونحو ذلك ، مما يوجب تثبيت الخطأ عليه وإحاطته به.

ومعنى قوله : ولا تقول : أظنّ رجلا خيرا منك حتى تنفي أي حتى تقول : ما أظنّ رجلا خيرا منك ، كما تقول : ما أظنّ أحدا خيرا منك ؛ لأنه إذا نفيت النكرة صارت بمعنى العموم ، وحلّت محلّ أحد ، وباقي الباب مفهوم.

هذا باب أي

قال سيبويه : " اعلم أنّ أيّا مضافا وغير مضاف بمنزلة من. ألا ترى أنّك تقول : أي أفضل ، وأي القوم أفضل. فصار المضاف وغير المضاف يجريان مجرى من ، كما أنّ زيدا وزيد مناة يجريان مجرى عمرو ، فحال المضاف في الإعراب والحسن والقبح كحال المفرد. قال الله عزوجل : (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)(١) ؛ فحسن كحسنه مضافا.

وتقول : أيّها تشاء لك ؛ فتشاء صلة لأيّها حتى كمل اسما ؛ ثم بنيت عليه لك ، كأنّك قلت : الّذي تشاء لك ، وإن أضمرت الفاء جاز ، وجزمت تشأ ، ونصبت أيّها ، وإن أدخلت الفاء قلت : أيّها تشأ فلك ؛ لأنّك إذا جازيت لم يكن الفعل وصلا ، ولكن بمنزلته في الاستفهام إذا قلت : أيّها تشاء؟

وكذلك من تجري مجرى أي في الّذي ذكرنا ، وتقع موقعه.

وسألت الخليل عن قولهم : اضرب أيّهم أفضل؟ فقال : القياس النّصب ، كما تقول : اضرب الذي أفضل ؛ لأن أي في غير الاستفهام والجزاء بمنزلة الذي ، كما أنّ من في غير الاستفهام والجزاء بمنزلة الذي.

وحدّثنا هارون أن ناسا ، وهم الكوفيّون ، يقرأونها : (لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ

__________________

(١) سورة الإسراء ، من الآية : ١١٠.

١٦٢

أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا)(١) وهي لغة جيدة ، نصبوها كما جرّوها حين قالوا : امرر على أيّهم أفضل ، فأجراها هؤلاء مجرى الذي إذا قلت : اضرب الّذي أفضل ؛ لأنّك تنزل أي ومن منزلة الذي في غير الجزاء والاستفهام.

وزعم الخليل أنّ أيّهم إنّما وقع في قولهم : اضرب أيّهم أفضل على أنه حكاية ، كأنه قال : اضرب الذي يقال له أيّهم أفضل ، وشبّهه بقول الأخطل :

ولقد أبيت من الفتاة بمنزل

فأبيت لا حرج ولا محروم (٢)

وأما يونس فزعم أنه بمنزلة قولك : أشهد إنّك لعبد الله ، واضرب معلّقة. وأرى قولهم : اضرب أيّهم أفضل ، على أنّهم جعلوا هذه الضمّة بمنزلة الفتحة في خمسة عشر ، وبمنزلة الفتحة في الآن ، ففعلوا ذلك بأيّهم حين جاء مجيئا لم تجيء أخواته عليه ، واستعمل استعمالا لم تستعمله أخواته إلا ضعيفا. وذلك أنه لا يكاد عربي يقول : الذي أفضل فاضرب ، واضرب من أفضل ، حتى يدخل هو ، ولا يقول : هات ما أحسن ، حتى يقول : هو أحسن. فلما كانت أخواته مفارقة له لا تستعمل كما استعمل خالفوا بإعرابها إذا استعملوه على غير ما استعملت عليه أخواته إلا قليلا. كما أنّ يا ألله لما خالفت سائر ما فيه الألف واللام لم يحذفوا ألفه ، وكما أنّ ليس لما خالفت ولم تصرّف تصرّف الفعل تركت على هذه الحال.

وجاز إسقاط هو في أيّهم كما كان : لا عليك ، تخفيفا ، ولم يجز في أخواته إلا قليلا ضعيفا.

وأمّا الذين نصبوا فقاسوه ، وقالوا : هو بمنزلة قولنا : اضرب الذي أفضل ، إذا آثرنا أن نتكلّم به ، وهذا لا يرفعه أحد.

ومن قال : امرر على أيّهم أفضل قال : امرر بأيّهم أفضل ؛ هما سواء : فإذا جاء أيّهم أفضل قال : امرر بأيّهم أفضل ؛ هما سواء : فإذا جاء أيّهم مجيئا يحسن على ذلك المجيء أخواته ويكثر ، رجع إلى الأصل وإلى القياس ، كما ردّوا : ما زيد إلا منطلق إلى الأصل.

وتفسير الخليل ذلك الأول بعيد ، إنما يجوز في شعر أو في اضطرار. ولو أسيغ

__________________

(١) سورة مريم ، من الآية : ٦٩.

(٢) البيت في ديوانه ٦١٦ ، ابن يعيش ٣ / ١٤٦ ؛ والكتاب ٢ / ٨٤ ، ١٩٩.

١٦٣

هذا في الأسماء لجاز أن تقول : اضرب الفاسق الخبيث ، أي : اضرب الذي يقال له هو الفاسق الخبيث.

وأما قول يونس : فلا يشبه أشهد إنّك لمتطلق وسترى ذلك في باب (إنّ وأنّ) إن شاء الله.

ومن قولهما : اضرب أي أفضل. وأمّا غيرهما فيقول : اضرب أيّا أفضل. يقيس على الذي وما أشبهه من كلام العرب ، ويسلّم ذلك في المضاف إلى قول العرب ، يعني : أيّهم ، ولو قالت العرب : اضرب أي أفضل لقلته ، ولم يكن بدّ من متابعتهم. ولا ينبغي على أمس أمسك ، ولا على أتقول أيقول ، ولا سائر أمثلة القول ، ولا على الآن آنك. وأشباه هذا كثيرة.

ولو جعلوا أيّا في الانفراد بمنزلته مضافا لكانوا خلفاء إذ كان بمنزلة الذي معرفة ألا ينوّن ، وسترى بيان ذلك فيما لا ينصرف وينصرف إن شاء الله.

وسألته عن أيي وأيّك كان شرّا فأخزاه الله ، فقال : هذا كقولك : أخزى الله الكاذب منّي ومنك ، إنما يريد : منّا. وكقولك : هو بيني وبينك ، يريد : هو بيننا ، فإنّما أراد : أيّنا كان شرّا ، إلا أنّهما لم يشتركا في أي ، ولكنّهما أخلصاه لكلّ واحد منهما. وقال العباس بن مرداس :

فأيّي ما وأيّك كان شرّا

فقيد إلى المقامة لا يراها (١)

وقال خداش بن زهير :

ولقد علمت إذا الرّجال تناهزوا

أيّى وأيّكم أعزّ وأمنع) (٢)

قال أبو سعيد : اعلم أن أيّا لتبعيض ما أضيفت إليه ، وهي تأتي للاستفهام والمجازاة ، وتكون بمعنى الّذي ، فإذا كانت للاستفهام والمجازاة لم تحتج إلى صلة ، وإذا كانت بمعنى الّذي احتاجت إلى صلة كصلة الذي وصلة ما ومن إذا كانتا في الخبر ، وهي موضوعة على الإضافة ؛ لأنّ المراد بها في أحوالها الثلاث بعض ما أضيفت إليه ، وقد تفرد ومعناها الإضافة ؛ لأنّ قوله : (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)(٣) معناه : أيّ الاسمين دعوت

__________________

(١) البيت في ديوانه ١٤٨ ، الخزانة ٤ / ٣٦٧ ؛ ابن يعيش ٢ / ١٣١ ؛ الكتاب ١ / ٣٩٩ ، ٢ / ٤٠٢ ؛ ولسان العرب (أبا) ؛ وتاج العروس (قوم).

(٢) البيت في ديوانه ، ابن يعيش ٢ / ١٣٣ ؛ الكتاب ٢ / ٤٠٣ ؛ لسان العرب وتاج العروس (تهز).

(٣) سورة الإسراء ، من الآية : ١١٠.

١٦٤

الله به فلله الأسماء الحسنى ، وأيّا أحد الاسمين المذكورين في : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ)(١).

وأول شيء ردّ على سيبويه من هذا الباب قوله : (وإن أضمرت الفاء جازيت وجزمت" تشأ" ونصبت" أيّها").

فقال الرادّ : إضمار الفاء إنّما يجوز في الشّعر وقد ذكره سيبويه في كلامه.

قال أبو سعيد : وليس كذلك ، إنما أرادا إذا أضمرت في الموضع الذي يجوز إضماره على ما ستقف عليه في باب المجازاة ، وكان حكمه أن تنصب أيّها بفعل الشّرط ، وتجزم فعل الشّرط.

واعلم أنّ الكوفيّين يجرون أيّهم مجرى ما ومن في الاستفهام والمجازاة والخبر ، وإذا أوقعوا عليها الفعل ـ وهي في معنى الذي ـ نصبوها ، وسواء حذفوا العائد من الصّلة أو لم يحذفوا ، ولا فرق عندهم بين قولك : لأضربنّ الذي أفضل ، ولأضربنّ أيّهم أفضل ، ولا يضمّون أيّهم إلا في موضع رفع ، فخرّجوا الآية على ثلاثة أوجه كلّها يوجب رفع" أيّهم" بالابتداء ، وأشدّ على الرّحمن خبره.

الوجه الأول منها : أن النزع عمل في" من" وما بعدها واكتفي بها ، كما تقول : قد قتلت من كلّ قبيل ، وأكلت من كلّ طعام ، فيكتفي الفعل بما ذكر معه ، ثم تبتدأ" أيّ" فترفع ب" أشدّ" ، وهذا جواب الكسائي والفراء.

والوجه الثاني : أن الشّيعة معناها : الأعوان ، وتقديرها من كلّ قوم تشايعوا لينظروا أيّهم أشدّ على الرحمن عتيّا ، فالنظر من دلائل الاستفهام ، وهو مقدّر معه ، وأنت إذا قلت : لأنظرنّ أيّهم أشدّ على الرحمن عتيّا ، فالنظر معلّق ، وأيّهم مرفوع بالابتداء ، والنّظر والمعرفة والعلم ونحوهنّ من أفعال القلوب يسقط عملهن إذا كان بعدهنّ استفهام.

ويقوّى حكاية الكوفيين وذهبهم ما روي عن الجرميّ أنّه قال : خرجت من الخندق ـ يعني : خندق البصرة ـ حتى صرت إلى مكة ، لم أسمع أحدا يقول : اضرب أيّهم أفضل ، أي كلّهم ينصب ، ولم يذكر الكوفيّون لأضربنّ أيّهم أفضل ، وقد حكاه البصريون ؛ لأن سيبويه قال : (سألت الخليل عن قولهم : اضرب أيّهم أفضل) ، إنما يعني سألته عن قول العرب ، وقول العرب أيّهم ، وقع في قولهم : أيّهم على أنه حكاية عن العرب أيضا ، وقوّى ما حكاه سيبويه والخليل عن العرب ما حكاه أبو عمرو الشيباني في حرف العين من" كتاب

__________________

(١) سورة الإسراء ، من الآية : ١١٠.

١٦٥

الحروف" عن غسّان أحد من يأخذ عنه اللّغة من العرب أنه أنشد :

إذا ما أتيت بني مالك

فسلّم على أيّهم أفضل (١)

ومذهب الخليل أن (أيّهم) مرفوع بالابتداء ، و (أفضل) خبره ، ويجعله استفهاما ؛ لأنه يحمله على الحكاية بعد قول مقدّر ، كما قال عزوجل : (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ)(٢) على معنى : يقولون أخرجوا أنفسكم ، ولعل الذي أحوج الخليل إلى تأويل الحكاية أن العرب لمّا تكلّمت : اضرب أيّهم أفضل ، وهو شاذّ ، والقياس عنده : اضرب أيّهم أفضل بالنصب ، كان حمله على الحكاية أقوى عندّه من حمله على البناء الذي اختاره سيبويه ، ويقوى مذهب سيبويه في البناء أن نظيري (أيّهم) من وما ، وهما مبنيان ، وكان حقّ (أيّهم) أن يكون مبنيّا لوقوعه موقع حرف الاستفهام والجزاء وموقع الذي ، وكلّ ذلك مبنيّ ، فلمّا دخل (أيّهم) نقص في العائد ضعف فردّ إلى أصله ، كما أنّ (ما) في لغة أهل الحجاز إذا تقدّم خبرها ، أو دخل الاستثناء بين الاسم والخبر ، ردّ إلى ما يوجبه القياس فيه من بطلان عملها.

وأمّا يونس فقوله في تعليق (اضرب) ضعيف ، وإنما تعلّق أفعال القلوب عن الاستفهام كقولك : انظر أيّهم في الدار ، واعرف أزيد في الدار أم عمرو ، وتعليقه : أن يبطل عمله عمّا بعده ، ولو كان التعليق الذي ذكره يونس في الآية لكان موافقا لقول الكوفيين في الوجوه الثلاثة التي حكيناها عنهم في الآية ، ولم يكن بالمنكر.

ومعنى قول سيبويه : (كما أن ليس لمّا خالفت ولم تصرّف تصرّف الفعل تركت على هذه الحال) يريد أنّ أصل ليس : ليس ، مثله في : صيد البعير ، ويجوز في صيد التخفيف فيقال : صيد ، وألزموا ليس التخفيف ، ولم يجئ على الأصل مثل صيد ؛ لأنه خالف باب الفعل فلم يستعمل منه الماضي ولا الأمر.

وأمّا احتجاج الخليل بالبيت :

فأبيت لا حرج ولا محروم

فقد ذكرته في غير هذا الموضع وأعيد جملته : قول الخليل على الحكاية ، وقول سيبويه : فأبيت لا حرج ولا محروم بالمكان الذي أنا فيه ؛ لا حرج : مبتدأ ، وخبره : بالمكان الذي أنا فيه ، ولو قال : لا حرج ولا محروم بمكاني لكان أخصر ، وإنما أراد البيان ،

__________________

(١) البيت منسوب لغسان بن وعلة ، الخزانة ٦ / ٦١ ؛ ابن يعيش ٣ / ١٤٧ ، ٧ / ٨٧.

(٢) سورة الأنعام ، من الآية : ٩٣.

١٦٦

والجملة في موضع خبر الاسم المضمر في أبيت ، والعائد إلى الاسم الياء بمكاني ، أو أنا إذا قدّر بالمكان الذي أنا فيه ، وحذف الخبر بعد حسن كقولك : لا حول ولا قوة إلا بالله ، والتقدير : لا حول لنا ولا قوة لنا ، ونحو ذلك.

وقال الكوفيون عن الفرّاء في البيت شيئا كأنه مأخوذ من قول سيبويه : (مغيّر إلى ما هو دونه في الجودة) ، فقال : (لا) بمعنى ليس ، ثم خلط الحاكي عنه في تقدير ذلك وأفسد ، وذلك أنه أنشد البيت :

فأبيت لا زان ولا محروم

فقال : رفع زانيا ومحروما لمّا بني (لا) على ليس ، وأضمر بعدها لزان أنا ، والتقدير : فأبيت لا أنا زان ، وهذا تخليط. والذي حكى هذا أبو بكر بن الأنباري في كتابه المسمى بالواضح ، والتّخليط فيه أن (لا) إذا عملت عمل ليس لم تعمل إلا في النّكرات ، ولا يكون اسمها ولا خبرها إلا نكرتين ، لا يجوز : لا زيد قائما ، ولا قائم زيدا ، وإنما يقال لا رجل في الدار ، ولا خير ولا شر بدائم ، ولا خير ولا شرّ دائما ، وهذا قليل لا يكاد يأتي إلا نادرا ، وتقديره فاسد ؛ لأنه إذا قال : ليس زان أنا فهما مرفوعان ، وفي ليس ضمير الأمر والشأن ، ولا يقع ذلك الضمير في (لا) ، وتقديره الآخر : فأبيت لا أنّا زان ولا محروم ، خارج عن تأويل ليس ؛ لأن أنا مبتدأ وزان خبره.

وأما ما ذكره هارون أنّ ناسا وهم الكوفيون يقرؤونها : (أيّهم) بالنصب فالذي قرأه منهم بالنصب معاذ بن مسلم الهرّاء ، هو من رؤسائهم في النحو ، وروي أيضا عن هارون القارئ النصب.

وقوله : (ومن قال : امرر على أيّهم أفضل قال : امرر بأيّهم أفضل) ، كأنه قد سمع على أيّهم أفضل أكثر من بأيّهم ، أو المسموع هو على أيّهم ، ويكون بأيّهم قياسا عليه ؛ لأنه لا فرق بينهما. وإذا أفردت أيّا في موضع المضاف فمن قول يونس والخليل أنه يرفع كما يرفع المضاف. فمن قولهما : اضرب أيّ أفضل ، وكذلك ينبغي أن يكون على مذهبهما ؛ لأنه ليس بمبنيّ عندهما ، وإنما هو مرفوع بالابتداء على التقدير الذي ذكرناه عنهما ، وسيبويه يردّه إلى الأصل فيقول : (اضرب أيّا أفضل) ، ومن حجته أنهم لو بنوه في الإفراد لكان حقّه أن لا ينوّن ؛ لأنه معرفة بمعنى الذي ؛ لأن المعرب الذي يبنى في حال إذا كان مفردا معرفة لم ينوّن كقولك : يا زيد ، ومن قبل ومن بعد ، وإذا نكّر ينوّن كقولك : يا رجلا صالحا ، ومن قبل ومن بعد ، ولو كانت العرب بنته في الإفراد لزمتنا متابعتهم ، ولا

١٦٧

يلزم القياس على الشاذّ في كلّ شيء ، وقد ذكر سيبويه منه أشياء لا يقاس عليها.

وأما أيّي وأيّك وما جرى مجراه فكلامه فيه واضح ، والشواهد فيه كثيرة ؛ منهما ما أنشده ، ومنها قول عنترة :

فلئن لقيتك خاليين لتعلمن

أيّي وأيّك فارس الأجراف

وقال الجميح بن الطّمّاح (جاهلي) :

وقد علم الأقوام أبي وأيّكم

بني عامر أوفى وفاء وأكرم (١)

وقال قرط اليربوعيّ (جاهليّ) :

أبني سليط لا أبا لأبيكم

أيّي وأيّ بني صبير أكرم (٢)

وقال آخر :

أبني سليط كيف أظلم وسطكم

ولي البراءة والعواقب تعقب

هلا تبيّن في القضاء زعمتم

أيّي وأيّ خصوم حقّي أكذب (٣)

وقال آخر :

فأيّي وأيّ ابن الحصين وعثعث

غداة التقينا كان بالحلف أعذرا (٤)

وقوله : (إلا أنّهما لم يشتركا في أيّ) يعني الاسمين لم يضف إليهما واحدة من لفظتي أيّ ، واشتراكهما أن تقول : أيّنا وأيّكما وأيّهما ، ولكنهما ، يعني الرجلين : المخاطب والمتكلم ، أخلصا كلّ واحد من أيّ لكلّ واحد منهما ، وما في ذكر هذا كثير طائل ، ولكن ذكرناه على ما يقتضيه التفسير.

هذا باب مجرى أيّ مضافا على القياس

قال سيبويه : (وذلك قولك : اضرب أيّهم هو أفضل ، واضرب أيّهم كان أفضل ، واضرب أيّهم أبوه زيد ، جرى هذا على القياس لأنّ (الذي) يحسن هاهنا ، فإن قلت : اضرب أيّهم عاقل ، رفعت ؛ لأن (الذي عاقل) قبيح. فإن أدخلت (هو) نصبت ؛ لأنك لو قلت : هذا الذي هو عاقل ، كان حسنا.

وزعم الخليل أنه سمع عربيّا يقول : ما أنا بالذي قائل لك شيئا. ومن تكلّم بهذا

__________________

(١) البيت في ديوانه ، ابن يعيش ٢ / ١٣٣ ؛ ولسان العرب (أبا).

(٢) البيت في ديوانه ، الخزانة ٤ / ١٠٣.

(٣) البيتان بلا نسبة في تاج العروس (سلط).

(٤) البيت منسوب للشاعر الجاهلي خداش بن زهير بن ربيعة الكتاب ٢ / ٤٠٣.

١٦٨

فقياسه : اضرب أيّهم قائل لك شيئا.

قلت : أفيقال : ما أنا بالذي منطلق؟ فقال : إذا طال الكلام فهو قليلا أمثل ، كأنّ طوله عوض من ترك هو ، وقلّ من يتكلّم بذلك).

قال أبو سعيد : قد ذكرنا من مذهب سيبويه في بناء (أيّهم) إذا كان في معنى (الذي) أنه إذا استعمل فيها حذف العائد الذي لا يحسن في (الذي) بني ، وإذا استعمل في صلتها ما يحسن في صلة (الذي) لم يبن ، وذكرنا أنّ السّبب في بنائها أن نظيريها وهما : (ما ومن) مبنيّان ، فإذا حذف منها العائد فقد دخلها نقص وأزاله عن ترتيبها ، فأجري مجرى نظيريها ، كما أنّ (ما) إذا قدّم خبرها أو دخلها حرف الاستثناء الناقض لمعنى الجحد بها ردّت إلى قياس نظائرها في الابتداء نحو هل ، وألف الاستفهام ، وإنما ، وأشباه ذلك مما يكون ما بعدها مبتدأ وخبرا.

هذا باب أيّ مضافا إلى ما لا يكمل اسما إلا بصلة

قال سيبويه : (فمن ذلك قولك : أيّ من رأيت أفضل).

قال أبو سعيد : إذا أضيف (أيّ) إلى (من) فلا تكون (من) إلا بمعنى (الذي) ، وأيّ على وجوهها الثلاثة ، فأيّ مبتدأ وهي مضافة إلى من ، ومن بمعنى الذي ، ورأيت صلة من ، وفي رأيت هاء مقدّرة تعود إلى من ، وأفضل خبر أيّ ، تقديره : أيّ من رأيته أفضل ، ومن في معنى جماعة. وتقول : أيّ الذين رأيت في الدّار أفضل ، تقديره : رأيتهم ، والهاء والميم عائد إلى الذين ، وفي الدار من صلة رأيت ، وهي موضع للرّؤية ، وتقديره : أيّ القوم أفضل ، وفي الدار لم يغيّر الكلام عن حاله ، كما أنّك إذا قلت : أيّ من رأيت قومه أفضل كان بمنزلة أيّ من رأيت أفضل ، فالصلة معملة وغير معملة في القوم سواء.

وتقول : أيّ من في الدار رأيت أفضل ، صلة (من) قولك : في الدار وحدها ، فتمّ المضاف إليه أيّ اسما ، ثم ذكرت رأيت بعد تمام المضاف إليه ، فكأنك قلت : أيّ القوم رأيت أفضل ، ولم تجعل في الدار هنا موضعا للرؤية.

ولو قلت : أيّ من في الدار رأيت زيد لجاز ، إذا أردت أن تجعل في الدار موضعا للرؤية ، وتقديره : أيّ من رأيته في الدّار زيد ، أيّ مبتدأ ، وهو مضاف إلى من ، ورأيته صلته ، والهاء عائدة إليه ، وفي الدار ظرف له ، وزيد خبره ، وتقول في شيء منه آخر : أيّ من إن يأتنا نعطه نكرمه ؛ فأيّ استفهام ولا يصحّ غيره ، ومن بمعنى الذي ؛ لأنّ أيّا مضاف إليه ، والشرط وجوابه في صلة من ، فتمّ أيّ اسما بالمضاف إليه وصلته ، فكأنك قلت : أيّ

١٦٩

القوم نكرمه ، ونكرمه خبر أيّ ، ولو حذفت الهاء من نكرمه نصبت أيّا فقلت : أيّ من إن يأتنا نعطه نكرم ، كأنك قلت : أيّهم نكرم؟ ولو جعلت أيّا خبرا بمعنى الذي لم يجز حتى تزيد فيه ، وذلك أنك تحتاج بعد المضاف إليه إلى صلة ، فيصير بعد المضاف إليه وبعد الصلة بمنزلة اسم واحد ، فتزيد ما يكون به كلاما ، وذلك قولك : أيّ من إن يأتنا نعطه نكرم تهين ، فنكرم صلة لأيّ ، فإن شئت أثبتّ الهاء فقلت : نكرمه ، وإن شئت نزعتها ولا يتغير لفظ أيّ بنزع الهاء من نكرمه ؛ لأن نكرمه في الصلة ، وتصب أيّا ب (تهين) فكأنك قلت : زيدا تهين ، ولو قلت : تهينه لرفعت (أيّ من) ، ولو جعلت أيّ للمجازاة جزمت نكرم ، فيصير فعل الشرط ، ويحتاج إلى جواب ، فتأتي بما يكون جوابا ، وذلك قولك : أيّ من إن يأتنا نعطه نكرم تهن ، بنصب أيّا ب (نكرم) لا ب (تهن) ، ولو كان نكرمه لرفعت أيّا ؛ لأنّ نكرم شرط لأيّ ، والشرّط يعمل في الاسم وينصبه ، وأمّا تهن فتقديره : تهنه ، وإنّما تحذف الهاء لما قد جرى من ذكره.

وتقول : أيّ من يأتينا يريد صلتنا فنحدّثه ، فيستحيل في وجه ويجوز في وجه ؛ أمّا الوجه الذي يستحيل فيه فهو أن يكون (يريد) في موضع مريد إذا كان حالا وقع فيه الإتيان ؛ لأنّه معلّق بيأتينا ، كما كان فيها معلّقا برأيت في : أيّ من رأيت في الدار أفضل ، وتقديره : أيّ من يأتينا مريدا صلتنا ، ومريدا حال من ضمير الفاعل في يأتينا ، وهو ضمير (من) فصار المضاف إليه إلى قولك صلتنا ، فكأنّك قلت : أيّهم فنحدّثه فلا يجوز ، كما لا يجوز : زيد فنحدّثه ، ولو حذفت الفاء جاز فقلت : أيّ من يأتينا مريدا صلتنا نحدّثه ، ونحدّثه خبر (أيّ من).

فأمّا الوجه الذي تجوز فيه المسألة فأن تجعل يريد خبر أيّ ، وصلة (من) يأتينا حسب ؛ فكأنك قلت : أيّهم يريد صلتنا في معنى : مريد صلتنا فنحدّثه ، نصب جواب الاستفهام ، وإن شئت رفعته عطفا على يريد.

وتقول أيّ من إن يأته من إن يأتنا نعطه يعطه تأت يكرمك ؛ أيّ للمجازاة ، ومن الأولى في موضع خفض بإضافة أيّ إليه ، ومعناه معنى الذي ، وصلته الشرط ، والجواب من قولك : إن يأته إلى يعطه ؛ لأنّ من الثانية فاعل يأته ، وهو في موضع رفع ، ومعناه : الذي ، وصلته : إن يأتنا نعطه ، فتصير من الثانية مع صلته اسما بمنزلة زيد ، فكأنك قلت : أيّ من إن يأته زيد يعطه ، ومن بمنزلة الذي وصلته الشرط والجزاء فتصير الأولى وما بعدها من الشرط والجزاء بمنزلة اسم فكأنّك قلت : أيّ القوم تأت ، فتنصب أيّا ب (تأت) ، ويكرمك الجواب ، وأيّ للمجازاة ، والناصب لأيّ : تأت.

١٧٠

قال أبو سعيد : ذكرت مسائل سيبويه في الباب بألفاظ فيها بسط وتقريب ، وأقمتها مقام الشّرح لها.

قال : (وجميع ما جاز حسن في أيهم هاهنا جاز في : أيّ من إن يأته من إن يأتنا نعطه يعطه ؛ لأنّه بمنزلة : أيهم؟).

قال : (وسألت الخليل عن أيّتهنّ فلانة ؛ وأيّهنّ فلانة ، فقال : إذا قلت : أيّ فهو بمنزلة (كلّ) لأنّ (كلّ) مذكّر يقع للمؤنّث والمذكّر ، وبمنزلة (بعض) ، وإذا قلت : أيتهنّ فإنّك أردت أن تؤنّث الاسم ، كما أنّ بعض العرب ـ فيما زعم الخليل ـ تقول : كلّتهنّ).

قال أبو سعيد : الاسم المذكر الذي يقع على المذكر والمؤنث بلفظ واحد وربّما أدخلوا عليه علامة التأنيث إذا أوقعوه على المؤنث توكيدا لتأنيثها ، فمن ذلك ما ذكره الخليل من قولهم : كلّتهن وأيتهنّ ، والباب فيه : كلّهنّ وأيّهنّ. ومن ذلك قولهم : زيد خير الرجال ، وعمرو شرّ الرجال ، وهند خير النساء ، ودعد شرّ النساء ، وربما قالوا خيرة الناس وشرّة الناس ، والباب في ذلك التذكير.

قال حسان بن ثابت :

لعن الله شرّة الدور كوثى

ورماها بالفقر والإمعار

لست أعني كوثى العراق ولكن

شرّة الدور دار عبد الدار (١)

وقال منقذ بن الطّمّاح :

وأمّهم خيرة النساء على

ما كان منها الدّحاق والإثم (٢)

ومما يشبه هذا ضمير الأمر والشأن في المذكّر والمؤنث ، كقولك : إنّه زيد قائم ، وإنّه هند قائمة ، وإنّه خرج زيد ، وإنّه خرجت هند ، ثم يؤنّثون في المؤنث ؛ فيقولون : إنها هند قائمة ، وإنّها خرجت هند ، قال الله عزوجل : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ)(٣) ، ولا يقال إنّها زيد قائم ، ولا إنّها خرج زيد ، على معنى إضمار القصة.

هذا باب أيّ إذا كنت مستفهما عن نكرة

قال سيبويه : (وذلك أنّ رجلا لو قال : رأيت رجلا ، قلت : أيّا؟ فإن قال : رأيت

__________________

(١) البيت في ديوانه ٢٤٧ ، تاج العروس (كوث).

(٢) البيت في ديوانه ، تاج العروس (خير).

(٣) سورة الحج ، الآية : ٤٦.

١٧١

رجلين قلت : أيّين؟ فإن قال : رأيت رجالا ، قلت : أيّين؟ فإن ألحقت يا فتى فهي على حالها قبل أن تلحق يا فتى.

وإذا قلت : رأيت امرأة قلت : أيّة يا فتى؟ فإن قال : رأيت امرأتين قلت : أيّتين يا فتى؟ فإن قال : رأيت نسوة قلت : أيّات يا فتى.

فإن تكلّم بجميع ما ذكرنا مجرورا جررت أيّا ، وإن تكلم به مرفوعا رفعت أيّا ؛ لأنك إنّما تستفهم على ما وضع المتكلم عليه كلامه.

قلت : فإذا قال : رأيت عبد الله ، أو مررت بعبد الله ، قال : فإنّ الكلام أن تقول من عبد الله؟ وأيّ عبد الله؟ كما أنّه لا يجوز إذا قال : رأيت عبد الله أن تقول : منا).

قال أبو سعيد : كان الأصل إذا قال القائل : رأيت رجلا أن يقول السائل : أيّ الرجل ؛ لأنّ النكرة إذا أعيدت عرّفت بالألف واللام أو أضمرت ؛ يقول لك الرجل : سألت رجلا في دارك عن كذا وكذا ، فتقول له : فما أجابك الرجل؟ ولا تقول : فما أجابك رجل ، فعدل عن هذا تخفيفا إلى أن يؤتى بأيّ مفردا ، وأعرب بإعراب الاسم المذكور ليعلم أنّ القصد إليه دون غيره ، ولو قيل أيّ الرجل جاز أن يتوهّم المسؤول أنه يسأل عن رجل بينك وبينه عهد سوى ما ذكره في الوقت ، وأيّا هذا المنصوب في موضع خبر ابتداء ، والابتداء بعده محذوف ، أو في موضع ابتداء وخبره بعده محذوف ، وتقديره : أيّا ما ذكرت ، وأيّا الرجل ، ونحو ذلك ، ويجيزون الرفع على هذا فيقولون : أيّ في الوقف والوصل.

قال أبو العباس المبرّد : لأنك لو ذكرت الخبر وأظهرته لم تكن أيّ إلا مرفوعة نحو قولك : من ذكرت؟ وأيّ هؤلاء؟ وإنّما نصب أيّا على الحكاية ، وإن كان في موضع رفع ، كما قيل : من زيدا؟ وإن كان زيدا في موضع رفع ، ولو أفردت أيّا للاثنين والجماعة ، أو ذكّرته في المؤنث لجاز ؛ لو قلت : رأيت امرأة ، أو رأيت رجلين ، أو رأيت رجالا ، أو رأيت امرأتين ، أو نسوة ، لجاز أن تقول في جميع ذلك : أيّا ؛ لأنّ لفظ أيّ يجوز أن يقع على لفظ الاثنين والجماعة على لفظ الواحد ، ويقع للمؤنّث على لفظ المذكّر ، وإنّما فصلوا بين المعرفة والنكرة في المسألة فاكتفوا في النكرة بذكر اسم واحد ، ولم يكتفوا في المعرفة إلا بذكر الاسم والخبر ؛ لأنّ المسألة عنهما على وجهين مختلفين ، ففرّقوا بينهما لذلك.

فأما المسألة عن النكرة فإنّما هي عن ذاتها لا عن صفتها ، فإذا قال القائل : رأيت

١٧٢

رجلا ، فقال السائل : أيّا ، وجب على المسؤول أن يقول : زيد أو عمرو أو نحوهما ؛ لأنه لا يعرف الرجل عينا ، فإذا قال : رأيت عبد الله ، والقائل لم يورد ذلك إلا معتقدا أنّ المخاطب يعرفه ، وقد يجوز أن يكون المخاطب يعرف جماعة بأعيانهم اسم كلّ واحد منهم عبد الله ، فيحتاج في كلّ واحد منهم إذا ذكر له إلى تلخيصه بالنّعت ، فإذا قال : أيّ عبد الله ، فإنّما يسأل عن نعته ، فيقول المسؤول : العطّار أو البزاز أو نحو ذلك ، كما يبتدئ المتكلّم بمعرفة وبنعته إذا خاف اللّبس ، ولا بدّ من ذكر عبد الله ؛ لأنّ الجواب نعت ولا بدّ من ذكر المنعوت.

هذا باب" من" إذا كنت مستفهما عن نكرة

قال سيبويه : (اعلم أنّك تثنّي من إذا قلت : رأيت رجلين كما تثنيّ (أيّ) ، وذلك قولك : رأيت رجلين ، فتقول : منين ، وأتاني رجلان ، فتقول : منان ، وإذا قال : رأيت رجالا قلت : منين ، كما قلت أيّين. فإن قلت : رأيت امرأة قلت : منه؟ كما قلت : أيّه ، فإن قلت : رأيت امرأتين قلت : منتين كما قلت : أيّتين ، إلا أنّ النّون مجزومة ، فإن قلت : رأيت نساء قلت : منات كما قلت : أيّات ، إلا أنّ الواحد يخالف أيّا في موضع الجرّ والرفع ، وذلك قولك : أتاني رجل فيقول : منو ، وتقول : مررت برجل فيقول مني. وسنبيّن وجه هذه الواو والياء في غير هذا الموضع إن شاء الله.

فأيّ في الجر والرفع إذا وقفت عليه بمنزلة زيد وعمرو ؛ وذلك لأن التنوين لا يلحق (من) في الصّلة ، وهو يلحق أيّا ، فصار بمنزلة زيد وعمرو ، وأمّا (من) فلا ينوّن في الصلة فجاء في الوقف مخالفا.

وزعم الخليل أنّ منه ومنتين ، ومنات ومنين كلّ هذا في الصّلة من مسكّن النون ، وذلك أنك تقول إذا قال : رأيت نساء أو رجالا أو امرأة أو امرأتين أو رجلا أو رجلين قلت : من يا فتى.

وزعم الخليل أنّ الدليل على ذلك أنك تقول : منو في الوقف ، ثم تقول : من يا فتى؟ فيصير بمنزلة قولك : من قال ذاك؟ فتقول : من يا فتى؟ وكذلك إذا قلت : من يا فتى عند قول القائل : رأيت رجالا أو نساء ، فكأنّك قلت : من قال ذاك ، إذا عنيت جماعة ، وإنما فارق باب (من) باب (أيّ) أنّ أيّا في الصلة يثبت فيها التنوين ، تقول : أيّ هذا؟ وأيّة هذه؟

وقد زعموا أنّ بعض العرب يقول : أيّون هؤلاء؟ وأيّان هذان؟ وأيّ قد تجمع في

١٧٣

الصّلة وتضاف وتثنّى وتنوّن ، ومن لا تثنّى ولا تجمع في الاستفهام على هذا الحدّ كما تثنّى أيّ وتجمع في الاستفهام ، وأيّ منوّن على كل حال في الاستفهام وغيره ، فهو أقوى.

وحدثنا يونس : أنّ ناسا يقولون : منا ومني ومنو ، عنيت واحدا أو اثنين أو جماعة ؛ فمن قال هذا قال : أيّا وأيّ وأيّ ، عنى واحدا أو اثنين أو جماعة ، وإنّما فعلوا ذلك ب (من) ؛ لأنّهم يقولون : من قال ذاك؟ فيعنون من شاءوا من العدّة. وكذلك أيّ ؛ قد تقول : أيّ ، عنيت واحدا أو اثنين أو جماعة.

وأمّا يونس فإنّه يقيس منه على أيّة فيقول : منة ومنة ومنة ، إذا قال : يا فتى. وكذلك ينبغي له أن يقول إذا آثر ألا يغيّرها في الصلة.

وهذا بعيد ؛ فإنّما يجوز هذا على قول شاعر قاله مرّة في شعر ثمّ لم يسمع بعد ، قال :

أتوا ناري فقلت منون أنتم

فقالوا الجنّ قلت عموا ظلاما (١)

وزعم يونس أنّه سمع عربيا يقول : ضرب من منا.

وهذا بعيد لا تتكلم به العرب ، ولا يستعمله منهم ناس كثير ، وكان يونس إذا ذكرها يقول : ولا يقبل هذا كلّ أحد ، فإنما يجوز منون يا فتى على هذا.

وينبغي لهذا ألا يقول : منو في الوقف ، ولكن يجعله كأيّ. وإذا قال : رأيت امرأة ورجلا ، فبدأ في المسألة بالمؤنث ، قلت : من ومنا ؛ لأنك تقول : من يا فتى في الصّلة في المؤنث ، وإن بدأت بالمذكّر قلت : من ومنه.

وإنما جمعت أيّ في الاستفهام لأنه إنما الأصل فيها الاستفهام ، وهي فيه أكثر في كلامهم وإنّها تشبه الأسماء التامة التي لا تحتاج إلى صلة في الجزاء والاستفهام. وقد شبّه (من) به في هذا الموضع لأنه يجري مجراه في هذا الموضع ، ولم يفرّقوا في أيّ لما ذكرت لك مما يدخله من التنوين والإضافة ؛ نقول : لم يفرّقوا في أيّ إذا عنوا المؤنث والاثنين والجميع في الوقف والوصل كما فرّقوا في من ؛ لتمكّن أيّ).

قال أبو سعيد : كان سبيل من في السّؤال سبيل أيّ ، وكان حقّ السّائل إذا قال

__________________

(١) البيت ورد منسوبا لسمير بن الحارث الضّبّيّ ، في الخزانة ٦ / ١٦٧ ، ١٦٨ ، ١٧٠ ؛ ابن يعيش ٤ / ١٦ الكتاب ٢ / ٤١١ ؛ تاج العروس (منن ، أنس) ؛ المقتضب ٢ / ٣٠٦.

١٧٤

القائل : رأيت رجلا أن يقول : من الرجل؟ ؛ لأنّ النكرة إذا أعيدت عرّفت بالألف واللام التي للعهد ، وذكرها قبل أن تعاد هو العهد الذي يكون بين المتكلّم والمخاطب فيها ، فلمّا احتاجوا في إتمام الكلام إلى إعادة لفظ المذكور بزيادة الألف واللام وذكر الابتداء والخبر كان أخفّ من ذلك الاقتصار على لفظ من ، وتضمين لفظه من علامات دلائل إعراب المسؤول عنه وتثنيته وجمعه وتأنيثه ما يدلّ عليه ، وهذه العلامات إنّما تلحقها في الوقف ، وليست بإعراب لها ؛ لأنها مبنية على السّكون ، وإنما هي دلائل على المسؤول عنه ، واستوت علامة المرفوع والمنصوب والمجرور في ثباتها في الوقف ؛ لأنّها لم تجر مجرى المعرب المنوّن في قولك : ولا يبدلون من التنوين في المرفوع والمجرور إذا وقفوا نحو : جاءني زيد ، وهذا فرس ، ومررت بزيد ؛ لأنّ الواو والياء والألف في منو ومني ومنا ليست واحدة منهنّ بدلا من تنوين ؛ إذ لا تنوين في من. وإنما أدخلوا الضمّة على من ، ولم يجز الوقوف على الضمّة إذا وقفوا ؛ لأنه لا يوقف على متحرك ، ولم يجز أيضا ضمّ النّون إذا وصلوا ؛ لأنّ من مبنيّة على السكون ، فاحتاجوا إلى وصلها بالواو ، ووصل المفتوح والمكسور منها بالألف والياء كوصل حرف الرّويّ إذا كان مضموما بالواو ، وإذا كان مفتوحا بالألف ، وإذا كان مكسورا بالياء ، كقولك في القافية الرجلا والرجلو والرجلى ، ولم يفعلوا هذه بأيّ في الوقف ، أعني صلتها بالواو والياء والألف ؛ لأنه معرب جار مجرى زيد وعمرو وفرس ، فيعمل فيه في الوقف ما يعمل بزيد وفرس ، وقد ذكرنا الحجة في بناء من وإعراب أيّ في غير هذا الموضع من الشرح بما أغنى عن إعادته.

والذي يقول : منو ومنى ومنا في الواحد والاثنين والجمع يكتفي بما ضمّنه من علامة الإعراب في الدّلالة ، وتجري على أصلها أنّها تصلح للاثنين والجماعة والمؤنث بلفظ المذكر الواحد.

وإنما قيل في التثنية للمؤنث منتين بسكون النون فيما ذكره أبو العبّاس المبرّد ؛ لأنّ النون كانت في (من) ساكنة ، قال : وإنّما حركتها في منه من أجل ما بعدها ؛ لأنّ هاء التأنيث لا تقع إلا بعد حرف متحرك ، وكذلك في التثنية لأنّ الألف يفتح ما قبلها.

قال أبو العباس : " فأمّا قولك : منو ومنى فإنّما حرّكت معها النون لعلّتين ، إحداهما : قولك في النّصب : منا ؛ لأنّ الألف لا تقع إلا بعد مفتوح ، فلمّا حرّكت في النصب حرّكت في الخفض والرفع ليكون المجرى واحدا ، والعلّة الأخرى أنّ الياء والواو خفيّتان فإذا جعلت قبل كلّ واحدة منهما الحركة التي هي منها ظهرتا وتبيّنتا" فأبو العباس جعل حركة النّون تابعة لما بعدها ، والذي يوجبه مذهبه أنّهم أدخلوا الواو في منو قبل ضمّة النّون ، وأدخلوا

١٧٥

الياء في منى قبل كسرة النون.

قال أبو سعيد : والذي عندي أنّهم أدخلوا الضمة والكسرة والفتحة أولا كما يدخلونها في أيّ وفي المعربات ، وتتبعها الحروف لما ذكرته لك من العلّة في ذلك ، أمّا منتين فإنّهم أسكنوا النّون لأنّهم بنوها مع التّاء كما قالوا : هنت وبنت وأخت.

وأمّا ما قاسه يونس من إعراب منه في الوصل والنصب والجرّ وإجرائها مجرى أيّة وتثنية من وجمعه في الوصل للبيت الذي أنشده ، فإن أبا إسحاق الزجاج قال في البيت : كأنه وقف على منون وسكت عندها ثم ابتدأ ، وقد نسبوا هذ الشعر إلى سمير بن الحارث ، ومنهم من يرويه : عموا صباحا ، ومنهم من يرويه : عموا ظلاما ، وأنشد بعده بيتا آخر وهو :

فقلت إلى الطّعام فقال منهم

زعيم نحسد الإنس الطّعاما (١)

واستبعد سيبويه ما حكاه ، وهو لعمري بعيد جدّا ؛ لأن قوله : ضرب من منا استفهام عن الضارب وعن المضروب بلفظين من ألفاظ الاستفهام ، وقد قدّم الفعل على الاستفهامين جميعا ، والاسم المستفهم به يتضمن حرف الاستفهام ولا يكون إلا صدرا ، ولو رددناهما إلى ما تضمّناه من حرف الاستفهام لصار تقديره : ضرب أزيد أعمرا ، وهذا باطل مضمحلّ. ومن وأيّ لا تجمعان ولا تثنّيان إلا في الاستفهام على النحو الذي ذكرناه فيهما دون المجازاة ومعنى الذي ؛ لأنّ الأصل فيهما الاستفهام ، وهما في الاستفهام أكثر منهما في غير الاستفهام ؛ ولأنهما في الاستفهام قد يقومان مقام زيد في التّمام والاكتفاء من غير صلة ، كقولك : من زيد ، وأيّ زيد ، كما تقول : أخوك زيد ، والذاهب زيد ، ولو كانا في غير الاستفهام لاحتجت إلى زيادة على لفظ من وأيّ ، إمّا صلة إذا كانتا بمعنى الذي ، وإمّا شرط إذا كانتا للمجازاة ، والذي يثنّي (أيّ) ويجمعه ويؤنثه في الوقف يثنيه ويجمعه ويؤنثه في الوصل ، ولا يفصل بينهما كما فصل بين تثنية من وجمعه وتأنيثه في الوقف والوصل ؛ لتمكّن أيّ وإعرابه. وإنما قال : من ومنا ومنه ؛ لأن العلامة إنما تلحق في الذي يقف عليه ، والأول لا تلحقه علامة ؛ لأنّه وصل بالثاني ، وتقدير منا في هذا الباب كتقدير أيّا في الباب المتقدم ؛ يجوز أن يكون في موضع مبتدإ ، أو خبر مبتدإ ، ويجوز أن يكون المنصوب منه بفعل مقدّر بعده كأنه قال : أيّ رجل ضربت؟ ومن ضربت؟

__________________

(١) البيت ورد منسوبا لسمير بن الحارث ، في الخزانة ٦ / ١٧٠ ، ٧ / ١٠٥ ؛ ابن يعيش ٤ / ١٧ ؛ والكتاب ٢ / ٤١١.

١٧٦

هذا باب ما لا يحسن فيه من كما حسن فيما قبله

قال سيبويه : (وذلك أنه لا يجوز أن يقول الرجل : رأيت عبد الله ، فتقول : منا ؛ لأنه إذا ذكر عبد الله فإنّما يذكر رجلا تعرفه بعينه ، أو رجلا أنت عنده ممّن يعرفه بعينه ، وأنت تسأله على أنه ممّن يعرفه بعينه ، إلا أنّك لا تدري : الطويل هو أم القصير أم ابن زيد أم ابن عمرو؟ فكرهوا أن يجروا هذه مجرى النكرة إذا كانا مفترقين. وكذلك : رأيته ورأيت الرجل ، لا يحسن أن تقول فيهما إلا من هو ، ومن الرجل؟

وقد سمعنا من العرب من يقال له : ذهب معهم ، فيقول : مع منين؟ وقد رأيته ، فيقول : منا ، أو رأيت منا. وذلك أنه سأله على أن الذين ذكر ليسوا عنده ممن يعرفه بعينه ، وأنّ الأمر ليس على ما وصفه المحدّث ، فهو ينبغي له أن يسأل في هذا الموضع كما سأل حين قال : رأيت رجلا).

قال أبو سعيد : قد تقدم قبل هذا الباب أنّ المسألة عن المعرفة لا تكون باسم واحد ، وإنما تكون المسألة عن النكرة باسم واحد ، وذكرنا الفصل بين المعرفة والنكرة ، وإنما جاز أن يقول : مع منين؟ وهو يستفهم عن الهاء والميم في معهم ، وأن يقول : منا؟ وهو يستفهم عن الهاء في رأيته ؛ لأن المتكلم بنى أمر المخاطب على أنه عارف بالاسم المكنيّ ، ولم يكن عارفا به ؛ فأورد مسألته على غير ما ذكره المتكلم. وكأن السائل سأل على ما كان ينبغي للمتكلم أن يكلّمه به إذا لم يعرف ، والذي كان ينبغي للمتكلم أن يقول : ذهب مع رجال ، ورأيت رجلا ، فلما غلط المتكلم في توهمه على المخاطب أنه يعرفه ردّه المخاطب إلى الحقّ في حال نفسه أنه غير عارف بمن ذكره ، وسأل عن ذلك ، وجعل المتكلم كأنه قد تكلّم به ، وربّما عدل المخاطب عما يوجبه لفظ المتكلم ، وذلك قولك : كيف أصبحت؟ فتقول : صالح ، ومن ضربت؟ فتقول : زيد ، والذي يقتضيه لفظ السؤال صالحا وزيدا. وقد مضى الكلام في نحو هذا والله أعلم.

هذا باب اختلاف العرب في الاسم المعروف الغالب إذا

استفهمت عنه بمن

قال سيبويه : (اعلم أنّ أهل الحجاز يقولون إذا قال الرجل رأيت زيدا : من زيدا؟ وإذا قال مررت بزيد قالوا : من زيد؟ وإذا قال : هذا عبد الله قالوا : من عبد الله؟

وأمّا بنو تميم فيرفعون على كلّ حال ، وهو أقيس القولين.

فأمّا أهل الحجاز فإنّهم حملوه على أنّهم حكوا ما تكلّم به المسؤول ، كما قال

١٧٧

بعض العرب : دعنا من تمرتان ، على الحكاية لقوله : ما عنده تمرتان. وسمعت عربيا يقول لرجل سأله فقال : أليس قرشيّا؟ فقال : ليس بقرشيا ، حكاية لقوله. فجاز هذا في الاسم الذي يكون غالبا على هذا الوجه ، ولا يجوز في غير الاسم الغالب كما جاز فيه ، وذلك أنّه الأكثر في كلامهم ، وهو العلم الأوّل الذي به يتعارفون. وإنما يحتاج إلى الصفة إذا خاف الالتباس من الأسماء الغالبة. وإنّما حكى مبادرة للمسؤول ، وتوكيدا عليه أنّه ليس يسأله عن غير هذا الذي تكلّم به.

وإذا قال : رأيت أخا زيد لم يجز : من أخا زيد؟ إلا على قول من قال : دعنا من تمرتان ، وليس بقرشيا ، والوجه الرفع لأنه ليس باسم غالب.

وقال يونس : إذا قال رجل : رأيت زيدا وعمرا ، أو زيدا وأخاه ، أو زيدا أخا عمرو ، فالرفع يردّه إلى القياس والأصل إذا جاوز الواحد ، كما يردّ ما زيد إلا منطلق إلى الأصل. وأمّا ناس فإنّهم قاسوه فقالوا : تقول : من أخو زيد وعمرو ، ومن عمرا وأخا زيد ؛ يتبع الكلام بعضه بعضا ، وهذا حسن.

فإذا قالوا من عمرا؟ ومن أخو زيد؟ ؛ رفعوا أخا زيد ؛ لأنه قد انقطع الأول من الثاني الذي مع الأخ ، فكأنك قلت : من أخو زيد؟ كما أنك تقول : تبّا له ، وويلا له ، وتبّ له ، وويل له.

وسألت يونس عن : رأيت زيد بن عمرو فقال : أقول من زيد بن عمرو؟ ؛ لأنّ أصل هذا أجري كالواحد ، ومن نوّن زيدا جعل (ابن) صفة منفصلة ورفع في قول يونس. فإذا قال : رأيت زيدا فقلت : أيّ زيد؟ فليس إلا الرفع ، تجريه على القياس. وإنما جازت الحكاية في من لأنّهم ل (من) أكثر استعمالا ، وهم يغيّرون الأكثر في كلامهم عن حال نظائره. وإن أدخلت الواو والفاء في من فقلت : ومن أو فمن ، لم يكن فيما بعده إلا الرفع).

قال أبو سعيد : مسائل الباب وتفريعها على قول أهل الحجاز ؛ لأنّ بني تميم على منهاج القياس في غير هذا الباب ، ولا خلاف بينهم أنّ مستفهما لو ابتدأ الاستفهام على غير كلام سمعه لقال : من زيد؟ ومن مبتدأ وزيد خبره ، أو زيد مبتدأ ومن خبره ، وإذا قال قائل : رأيت زيدا فقيل له : من زيد؟ فهو كالسؤال له في الابتداء ؛ من مبتدأ وزيد خبره ، أو زيد مبتدأ ومن خبره ، فهذا القياس. ويدلّ على ذلك أيضا أنّهم لا يختلفون أنّه إذا قال : رأيت زيدا قلت : أيّ زيد؟ فأيّ كمن ، وأيّ زيد : مبتدأ وخبر.

١٧٨

وأمّا أهل الحجاز فإنّهم يحكون كلام المتكلّم في الاسم العلم ؛ إذا قال قائل : رأيت زيدا ، قالو : من زيدا؟ وإذا قالوا : مررت بزيد ، قالوا : من زيد؟ وإنما حكوا لفظه لئلا يتوهّم المسؤول أنّه سئل عن غير الذي ذكره من الزّيدين ، وحرصوا لحكاية لفظه على التّبيين له أنه مسؤول عن الذي ذكره ، وموضع المنصوب والمخفوض في من زيدا ، ومن زيد ، رفع على خبر من أو الابتداء ، كما أنّ قولهم : دعنا من تمرتان ، تمرتان في موضع خفض ؛ كأنه قال : دعنا من لفظك تمرتان ، فناب تمرتان عن ذلك ، وكذلك قول من قال : لست بقرشيّا ، في موضع خفض بالباء. وإنما يختار أهل الحجاز الحكاية بالأسماء الأعلام دون غيرها ؛ لأن أكثر ما يخبر عن الناس بالأسماء الأعلام في مكاتباتهم ومعاملاتهم ، وفيما ينسب إليهم من مناقب أو مثالب ، والاسم العلم إذا ذكر فكأنه شامل على تعريف جميع ما فيه من صفاته المعروفة ، وإنّما ينعت إذا زاحمه غيره في لفظه بما يبينه عن غيره. وقد ذكر نحو هذا في ذكر الأسماء الأعلام.

وإذا لم يكن الاسم علما أجري على القياس ، ورفع على الابتداء والخبر. وإذا عطف على الاسم العلم أو نعت بغير اسم أبيه فالرفع على القياس ؛ لأن السائل إذا أطال بالعطف أو بالنعت محتذيا على كلام المتكلم ، فحكايته لإطالته تغنيه عن حكايته لإعرابه ، ويكون أولى ؛ لأنّ الإطالة بالعطف والنعت لا تخرج اللفظ عن قياسه كما تخرجه الحكاية ، وذلك إذا قال القائل : رأيت زيدا وعمرا ، ورأيت زيدا أخا عمرو فالباب أن يقول السائل : من زيد وعمرو؟ ومن زيد أخو عمرو؟

وقد حكى سيبويه في العطف عن غير يونس الحكاية إذا كان الذي يلي (من) الاسم العلم ، واستحسنه ؛ لأنّ المعطوف غير المعطوف عليه ، فالسؤال وقع بالاسم مفردا ، ثم عطف شيء آخر عليه قد وقع به سؤال ، وليس كذلك النّعت ؛ لأنّ النعت والمنعوت كشيء واحد. وإذا قال : رأيت زيد بن عمرو جاز أن يقول : من زيد بن عمرو ؛ لأنّ زيدا قد بني مع ابن فجعلا كشيء واحد ، فصارا كشيء مضاف ، فإذا قال : جاءني عبد الله ، أو رأيت عبد الله ، أو مررت بعبد الله جازت الحكاية في هذه الوجوه ، فتقول : من عبد الله ، أو مررت بعبد الله؟ ومن عبد الله ، وكذلك جاءني زيد بن عمرو ، ومررت بزيد بن عمرو ، ورأيت زيد بن عمرو. وردّ إلى القياس ورفع ؛ لأنهما لم يجعلا كشيء واحد ، وصار بمنزلة قولك : رأيت زيدا أخا عمرو.

وإنما جازت الحكاية بمن ولم تجز بأيّ لعلتين :

إحداهما : أنّ السؤال ب (من) عمّا يعقل أكثر من السؤال بأيّ ، وتغييرهم لما يكثر

١٧٩

التصرّف فيه ـ بالوجوه ـ أكثر من التغيير والتصرّف فيما يقلّ.

والعلة الأخرى : أنّ أيّا معربة ، فإذا سألوا بها فلا بدّ من رفعها ، فإذا رفعوا أيّا في قولهم : أيّ زيد؟ على ما يوجبه القياس أتبعوه لفظ الاسم العلم على ما يوجبه القياس.

وإذا أدخلوا في أول السّؤال الفاء والواو لم يكن فيما بعده إلا الرفع ، وذلك قولك إذا قال القائل : رأيت زيدا ، ومن زيد؟ أو فمن زيد ؛ لأنّك لمّا أدخلت حرف العطف علم المسؤول أنّك تعطف على كلامه وتنحو نحوه ، فاستغنيت عن الحكاية.

وقد أجاز سيبويه الحكاية في غير الأسماء الأعلام على غير وجه الاختيار ؛ إذا قال القائل : رأيت أخا زيد ، جاز من أخا زيد؟ كما جاز دعنا من تمرتان ، وليس بكلام مختار في لغة أهل الحجاز كما يختارون الحكاية في الأعلام ، وباقي الباب مفهوم.

وذكر أبو العباس المبرّد في كتابه المعروف بالمقتضب فقال : " كان يونس يجري الحكاية في جميع المعارف ، ويرى بابها وباب الأعلام واحدا" والذي حكاه سيبويه عن يونس في الباب إذا قال القائل : رأيت زيد أو عمرا ، أو رأيت زيدا وأخاه ، أو زيدا أخا عمرو ؛ فالرفع يردّه إلى القياس. وما أدري من أين لأبي العباس هذه الحكاية عن يونس ، والله أعلم.

هذا باب من إذا أردت أن يضاف لك من تسأل عنه

قال سيبويه : " وذلك قولك : رأيت زيدا. فتقول : المني. فإن قال : رأيت الزيدين قلت : المنيّين. فإن ذكر ثلاثة قلت : المنيّين ، وتحمل الكلام على ما حمل عليه المسؤول كلامه إن كان مجرورا أو منصوبا أو مرفوعا ، كأنك قلت : آلقرشي أم الثّقفي؟ فإن قال : القرشي نصب ، وإن شاء رفع على هو ، كما قال صالح في : كيف كنت"؟

قال أبو سعيد : قد يحتاج الإنسان إلى معرفة نسب من يذكر له إذا عرف ذلك الاسم لجماعة مختلفي الأنساب ، فإذا سأل عنه أورد لفظ المسألة مبهما منسوبا ، فاحتاج إلى ذكر اللفظ المبهم الذّي يسأل به عن أبي الرّجل الذي تراد معرفة نسبه ، واحتاج إلى نسبته وإلى الألف واللام. فأمّا الألف واللام فلأنه يسأل عن صفة العبارة عنها بالألف واللام ، وأمّا الاسم المبهم فهو من ؛ لأنّ بها يسأل عن الرجل المنسوب إليه ، وأمّا علامة النسبة التي هي الياء فليعلم أنه يسأل عنه منسوبا ، ويجري إعراب المنّي على إعراب الاسم الذي ذكره المتكلّم إن قال : جاءني زيد قلت : المني ، وإن قال : مررت بزيد قلت :

١٨٠