شرح كتاب سيبويه - ج ٣

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٣

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

أفي يوم الجمعة رحيلك.

وأما قول الله عزوجل : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ)(١) ففيه قراءتان : كسر أن وفتحها. فمن كسرها فقد تم الكلام بقوله : " وما يشعركم". ثم أخبر الله عزوجل أنهم لا يؤمنون". ومن فتحها : فقد تم الكلام أيضا عند قوله" وما يشعركم" ثم استأنف الكلام فأبهم أمرهم فلم يخبر عنهم بإيمان ولا غيره فقال : " أنها" على معنى" لعلها" وهذا قول النحويين والخليل والكسائي والفراء وهو مذهب كلام العرب.

حكى الخليل : ائت السوق أنك تشتري. بمعنى لعلك تشتري. وحكى الكسائي قال : سمعت رجلا يقول : (ما أدري أنه صاحبها) يريد لعله صاحبها. ومن العرب من يقول : لو" أن" في معنى" لعل" قال الكسائي : سمعت أبا الهيثم يقول :

" فلو أنها نزعت ..." يريد فراقا وأنشد الفراء :

فقلت امكثي حتى يسار لو أننا

نحج معا قالت أعام وقابله؟ (٢)

وقد تقول العرب : علك وعنّك ولعنك ولعلهم أبدلوا العين في" عنك" همزة

قال الفرزدق :

ألستم عائحين بنا لعنّا

نرى العرصات أو أثر الخيام (٣)

وإنما كرهوا أن يجعلوا" أنها" في صلة : يشعركم ؛ لأن ذلك يصير كالعذر لهم والإخبار بأنهم يؤمنون ، إذا قلت لإنسان : " ما يدريك أن زيدا ليس حسن" فالأظهر في قصد قائله : أنه يغلب له الإحسان. فلذلك عدلوا إلى تفسيره" بلعل".

ولا يحسن لأن (أنّ) تلي" إنّ" ولا" إنّ"" أنّ". لأنهما جميعا للتأكيد يجريان مجرى واحدا فكرهوا الجمع بينهما كما كرهوا الجمع بين اللام وأنّ فإن فصلت بينهما أو عطفت

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ١٠٩.

(٢) لم أقف على القائل. والبيت برواية :

فقلت امكثي حتى يسار لعلنا

نحج معا قالت أعام وقابله؟

انظر الهمع : ١ / ٢٩ ، والدرر : ١ / ٩ ، وفي الكتاب : ٢ / ٣٩ مستشهدا به على أن يسار معدول عن" الميسرة" وانظر اللسان (يسر) ، والمخصص : ١٧ / ٦٤.

(٣) البيت في الديوان ص ٨٣٥ ، والتصريح : ١ / ١٩٢ ، والإنصاف : ٢٢٥ ، العرصات : مفردها عرصة وهي كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء.

٣٤١

حسن. فالفصل قولك : " أن لك أنك تحيى وتكرم" والعطف قولك : " أن كرامتك عندي وأنك تعان" وعلى هذا قرأ من قرأ (وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا) (طه : ١١٩) ومن كسر استأنف ثم مثل فساد الجمع بين إنّ وأنّ فقال : ألا ترى أنك لا تقول : إن أنك ذاهب في الكتاب ولا : " قد عرفت أن إنك منطلق في الكتاب" معنى هذا : أن قولك في الكتاب" خبر أن" و" أنّ". و" أنك ذاهب"" اسم إنّ" وأنك منطلق اسم" أن" وفساد الجمع بين إنّ وأنّ وبين" أنّ وأنّ".

ولو فصل بينهما قال : " أن في الكتاب أنك ذاهب"" وقد عرفت أن في الكتاب إنك منطلق". لجاز وحسن الفصل بينهما. ومعنى هذا الكلام : إن الكتاب انطوى واشتمل معناه على أنه ذاهب وعلى أنه منطلق كما يقول القائل لصاحبه : في اعتقادي أنك راحل. وليس يريد حكاية لفظ الكتاب. وإنما يريد معنى ما في الكتاب. وقوله : (وكرهوا ابتداء" أن" لئلا يشبهوها بالأسماء التي تعمل فيها" إنّ" يعني : لم يجعلوها مثل زيد ونحوه من الأسماء التي تدخل عليها" أن" وتليها. وقد مضي الكلام فيه." ولئلا يشبهوها بأنّ" الخفيفة. لأن" أن" والفعل بمنزلة مصدر فعله يعني : مصدر الفعل الذي يلي" أن" كقولك : أريد أن تذهب" أي أريد ذهابك". ومن حيث ـ جاز أن تدخل على : " تذهب" فتقول : " إنّ أن تذهب خير لك من أنّ تقيم" كما تقول. أن الذهاب خير لك من الإقامة.

وإذا قال الرجل للرجل : لم فعلت ذاك؟ فقال : لم أنه ظريف. ففتح أن" لتقدير الكلام" فعلها" وإعادة" لم" لا يعتد بها المسئول كونه أعاد سؤال السائل وحكى لفظه ثم أجاب عنه. وأنّا قوله : أي أني نجد .. كأن إنسانا تكلم بشيء عرض فيه أنه نجد وشجاع. كرجل قال : أنا أسير بالليل وحدي في المفاوز فحكى عنه الحاكي هذا فقال قائل :

أي أنه نجد. فجعل" أي" عبارة عن معنى كلامه وأجراه مجرى القول.

" أنا أسير بالليل وحدي في المفاوز" بمنزلة (قال أني نجد). وإذا قال : أي أني نجد. كأنه قال : أي لأني نجد.

هذا باب آخر من أبواب «أن»

تقول : ذلك وأن لك عندي ما أحببت. وقال الله عزوجل : (ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ

٣٤٢

مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ)(١) وقال عزوجل : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ)(٢) وذلك لأنها شركت" ذلك" فيما حمل عليه. كأنه قال : الأمر ذلك وأن الله. ولو جاءت مبتدأة لجازت بذلك على ذلك قوله عزوجل : (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ)(٣) (فمن) ليس محمولا على ما حمل عليه (ذلك) فكذلك يجوز أن تكون" أن" منقطعة من ذلك قول الأحوص : (٤)

عودت قومي إذا ما الضّيف نبهني

عقر العشار على عسري وإيساري (٥)

إنّي إذا خفيت نار لمرملة

ألفي بأرفع تل رافعا ناري

ذاك وإنّي على جاري لذو حدب

أحنو عليه بما يحنى على الجار

فهذا لا يكون إلا مستأنفا غير محمول على ما حمل عليه" ذاك" فهذا يقوي ابتداء" إنّ" في الأول.

قال أبو سعيد : " اذاك وأن من الأمر كذا وكذا" إنما يتكلم به المتكلم بقصة ، ثم يؤكدها ليعطف عليها قصة أخرى زيادة على القصة الأولى في معنى ما قصدت به كقولك للرجل : " أنا أكرم من قصدني من أمثالك وأن لك عندي ما أحببت" تقديره (والأمر ذلك) وهو تقدير لما ذكره أولا وعطف" أن لك عندي ما أحببت" على" ذلك" لأن" ذلك" مصدر هو خبر الابتداء وهو كأنه قال : فالأمر كما ذكرته أولا والأمر أيضا أن لك عندي

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية : ١٨.

(٢) سورة الأنفال ، الآية : ١٤.

(٣) سورة الحج ، الآية : ٦٠.

(٤) هو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عاصم الأنصاري من بني ضبيعة ، شاعر إسلامي من طبقة جميل بن معمر وكان معاصرا لجرير والفرزدق. مات بدمشق ١٠٥ ه‍ لقب بالأحوص لضيق في مؤخرة عينيه.

الشعر والشعراء : ٢٠٤ ، الأعلام : ٤ / ٤٥٧ ، والخصائص : ٣ / ١٧٥.

(٥) انظر الأغاني : ٦ / ١١ ، أمالي القالي : ٣ / ١٢٣ ، الخزانة : ٤ / ٣٠٤ ، وهي من بحر البسيط ، العشار : جمع عشراء وهي التي أتى عليها من حملها عشرة أشهر. المرملة : الجماعة التي نفد زادها ، الحدب : الحنو والعطف.

٣٤٣

ما أحببت. وقوله : (ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ)(١) كأنه قال : العون لكم من الله لأشياء ذكرها من تأييده ونصره وعونه. وكقوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً)(٢) فهذه أشياء قد أعان الله بها المؤمنين ويعينهم أيضا بتوهين الكافرين وذكر هذا تقوية من الله ومعونة لهم. وقوله : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ)(٣) ذكر الله عزوجل شدة قدمها لهم في الدنيا وذلك قوله : (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ)(٤) فذوقوه عاجلا في الدنيا والأمر أيضا : أن للكافرين عذاب النار بعد ذلك.

وإن استأنفت فكسرت فهو جيد لأنه جملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ومن أوضح ما يدل على جواز الاستئناف قوله عزوجل : (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ)(٥) لأن" من" وما بعدها شرط وجزاء وهي جملة منزلة منزلة المكسورة. وأما ما أنشده من الأبيات فإن" عودت" قد تعدى إلى مفعولين. إلى" قومي" وإلى : عقر العشار. ثم استأنف" أني" في البيت الثاني وقوله في البيت الثالث : " ذاك وأني"" ذاك أمري" وكسر" إني" بعدها فعطف جملة على جملة ، قوله : (فهذا لا يكون مستأنفا) يعني إذا كسرت فهي جملة مستأنفة وإذا فتحت فهي من الجملة التي فيها" ذاك" لأنها محمولة على" ذاك" و" ذاك" خبر ابتداء محذوف وقوله : " فهذا يقوي ابتداء" إن" في الأول" يعني بالأول : " إنّ لك ألّا تجوع فيها ولا تعرى" و" أنّك" و" إنّك" بالابتداء والقطع.

هذا باب آخر من أبواب «أن»

تقول : (جئتك أنك تريد المعروف) إنما أردت : جئتك لأنك تريد المعروف

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية : ١٨.

(٢) سورة الأنفال ، الآية : ١٧.

(٣) سورة الأنفال ، الآية : ١٤.

(٤) سورة الأنفال ، الآية : ١٢.

(٥) سورة الحج ، الآية : ٦٠.

٣٤٤

ولكنك حذفت" اللام" هاهنا كما تحذفها من المصدر إذا قلت :

أغفر عوراء الكريم ادخاره

وأعرض عن ذنب اللئيم تكرّما (١)

أي : لادخاره.

وسألت الخليل عن قوله جل ذكره : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)(٢) فقال : إنما هو على حذف اللام كأنه قال : ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون. وقال نظيرها : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ)(٣) لأنه إنما هو : لذلك فليعبدوا فإن حذفت اللام من" أنّ" فهو نصب كما أنك لو حذفت اللام من" لايلاف" كان نصبا هذا قول الخليل : ولو قرءوها" وإن هذه أمتكم أمة واحدة" كان جيدا وقد قرئ.

ولو قلت : جئتك إنّك تريد المعروف. مبتدأ كان جيدا. وقال عزوجل : (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ)(٤) وقال عزوجل : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(٥) إنما أراد : بأني مغلوب وبأني لكم نذير مبين ولكنه حذف الباء. وقال عزوجل : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً)(٦) بمنزلة : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً)(٧) والمعنى : ولأن هذه أمتكم فاتقون. ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا. وأما المفسرون فقالوا : على" أوحى إلى ..." كما كان : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ)(٨) على" أوحى إلي).

ولو قرئت (وإن المساجد لله). كان جيدا واعلم أن هذا البيت ينشد على

__________________

(١) البيت لحاتم الطائي وهو : حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي كنيته أبو عدي ، يضرب المثل بجوده توفي ٤٦ ه‍.

البيت في ديوانه ٨١ ، برواية (وأصفح عن شتم) انظر الخزانة : ١ / ٤٩١ ، الكتاب : ١ / ١٨٤ ، العيني : ٣ / ٧٥.

(٢) سورة المؤمنون ، الآية : ٥٢.

(٣) سورة قريش ، الآية : ١.

(٤) سورة القمر ، الآية : ١٠.

(٥) سورة هود ، الآية : ٢٥.

(٦) سورة الجن ، الآية : ١٨.

(٧) سورة المؤمنون ، الآية : ٥٢.

(٨) سورة الجن ، الآية : ١٩.

٣٤٥

وجهين : على إرادة اللام وعلى الابتداء. فقال الفرزدق :

منعت تميما منك أني أنا ابنها

وشاعرها المعروف عند المواسم (١)

وسمعت من العرب من يقول : " إنيّ ..."

وتقول : (لبيك إن الحمد والنعمة لك" وإن شئت قلت : (أّنّ) ولو قال إنسان إنّ" أنّ" في موضع جر في هذه الأشياء ولكنه حذف لما كثر في كلامهم فجاز فيه حذف الجار كما حذفوا" رب" في قولهم :

وبلد تحسبه مكسوحا (٢)

لكان قولا قويا. وله نظائر نحو قوله : لاه أبوك. والأول : قول الخليل. ويقوى ذلك قولهم : " وأن المساجد لله" لأنهم لا يقدمون" أن" ويبتدئونها ويعملون فيها ما بعدها ، إلا أنه يحتج الخليل بأن المعنى معنى اللام فإذا كان الفعل أو غيره موصولا باللام جاز تقديمه وتأخيره ؛ لأنه ليس هو الذي عمل فيه في المعنى. فاحتملوا هذا المعنى كما قالوا : " حسبك ينم الناس" إذ كان فيه معنى الأمر وسترى مثله.

قال أبو سعيد : إذا تقدمت" أن" مفتوحة ووليها حرف جر مقدم فقول الخليل : إنها في موضع نصب بالفعل الذي كان يعمل في حروف الجر. فإذا قلت" جئتك أنك تريد المعروف".

" فأنك" في موضع نصب بجئتك. لما حذفت اللام وصل الفعل إلى ما بعدها وكانت اللام في موضع نصب. وكذلك سائر ما ذكرناه.

وكان الكسائي يقول أنها في موضع جر وقد قوى سيبويه كونها في موضع جر من غير أن يبطل قول الخليل أو يرده.

وكان أبو العباس محمد بن يزيد يراه منصوبا ويذهب مذهب الخليل فيه.

قال أبو سعيد : والزجاج يجوّز الأمرين جميعا في (أن) : النصب والجر. والأقوى عندي : أن موضعه جر لأن حروف الجر تحذف من" أن" و" أنّ" مخففة ومشددة. لأنهما وما بعدهما بمنزلة اسم واحد وقد طال فحسن الحذف كما يحسن حذف الضمير العائد

__________________

(١) ديوانه ٨٥٧ برواية (راجلها) والبيت من بحر الطويل.

(٢) لم نقف على قائله انظر الأعلم : ١ / ٤٦٥ ، وهو في وصف فلاة.

٣٤٦

إلى" الذي" في قولك : الذي ضربت زيد بمعنى : الذي ضربته ولا يحسن" الضارب أنا زيد" تريد : الضارب ، وكذلك حسن أن يقال : " أنا راغب أن أصاحبك" و" أنا على ثقة أنك مقيم" والمعنى : " أنا راغب في أن أصاحبك" و" على ثقة من أنك مقيم" فحسن حذف حرفي الجر منهما. ولو رددتهما إلى لفظ المصدر لم يجز أن تحذف حرف الجر. لا يجوز : أنا راغب مصاحبتك إلا أن تأتي" بفي" كما لا يجوز : (أنا متكلم زيدا) بمعنى : متكلم في زيد. وكذلك لو قلت : " أنا على ثقة مقامك" لم يجز حتى تقول : (على ثقة من مقامك). فإذا كان طرح حرف الجر للاستطالة في اللفظ فكأنه موجود في الحكم. ألا ترى أنك تقول : مررت بالذي ضرب زيد. بمعنى : الذي ضربه زيد. وتعطف الأخ على الهاء المحذوفة العائد إلى الذي" وكأنها موجودة فكذلك اللام" وسائر حروف الجر إذا حذفت كأنها موجودة.

ومن الدليل على ذلك : أنك تقدمها مفتوحة إذا كانت اللام مقدرة قبلها. فإن كانت اللام هي العاملة فهي مجرورة. وإن كان العامل فيها الفعل الذي بعدها صارت بمنزلة قولنا : عرفت أن زيدا قائم. ولا يجوّز أحد : " أنّ زيدا قائم عرفت" لتأخر العامل. فإن قيل المعنى معنى اللام وإن حذفت؟ فإن الجواب أن اللام لما حذفت في اللفظ ونقل العمل في" أن" إلى الذي بعدها لم يّكن للّام تأثير في لفظ" أنّ" وقد وقعت مبتدأة في اللفظ فوجب أن تكسر.

ويقوى هذا أنك تقول : إنّ زيدا قائم علمت ، والمعنى : علمت أن زيدا قائم ولم يجز.

من أجل ذلك فتح : " إن" في الابتداء. وفي آخر الباب ضمائر ذكرت ما يعود إليها قوله : (إلا أنه) الهاء للخليل وموصلا إليه (الهاء) وكذلك" الهاء" في تقديمه وتأخيره وقوله : ليس هو الذي عمل فيه يعني : ليس الفعل الذي عمل في" أن" وباقي الباب من كلامه مفهوم وقد مضى من الشرح ما يدل على ما لم يشرح.

هذا باب أنما

اعلم أن كل موضع تقع فيه" أنّ" تقع فيه" أنّما" وما بدئ بعدها صلة لها. كما" أن" ما ابتدئ بعد" الذي" صلة له.

ولا تكون هي عاملة فيما بعدها كما لا يكون" الذي" عاملا فيما بعده. فمن

٣٤٧

ذلك قوله عزوجل : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ)(١) وقال ابن الاطنابة :

أبلغ الحارث بن ظالم المو

عد والناذر النذور عليّا (٢)

أنّما تقتل النيّام ولا تق

تل يقظان ذا سلاح كميا

فإنما وقعت" أنما" هاهنا لأنك لو قلت : (أن إلهكم إله واحد) ، (وأنك تقتل النيام) كان حسنا وإن شئت قلت : أنما تقتل النيام ، على الابتداء زعم ذلك الخليل ، فأما" أنما" فلا تكون اسما وأنما هي فيما زعم الخليل بمنزلة فعل ملغي. مثل : (أشهد لزيد خير منك) لأنها لا تعمل فيما بعدها. ولا تكون إلا مبتدأة بمنزلة [إذ] و" إذا" لا تعمل شيئا.

واعلم أن الموضع الذي لا يجوز فيه" إنّ" إلا مبتدأة لا تكون فيه" أنما" إلا مبتدأة مثل قولك :

" وجدتك أنما أنت صاحب كل خنى"

لأنك لو قلت : وجدتك أنك صاحب كل خنى لم يجز. وذلك أنك إذا قلت : أرى أنه منطلق" فأنما وقع الرأي على شئ لا يكون الكاف التي في وجدتك ونحوه من الأسماء. فمن ثم لم يجز : رأيتك إنك منطلق وأنما أدخلت" أنما" على هذا الكلام مبتدأ كأنك قلت : وجدتك أنت صاحب كل خنى. ثم أدخلت" أنما" على هذا الكلام فصار كقولك : " أنما أنت صاحب كل خنى" لأنك أدخلتها على كلام قد عمل بعضه في بعض. ولم تضع" أنما" في موضع" ذاك" إذا قلت : " وجدتك ذاك" لأن" ذاك" هو الأول. و" أن" و" أنما" أنما يصيران الكلام شأنا وحديثا فلا يكون الخبر ولا الحديث" الرجل" ولا" زيدا" ولا أشباه ذلك من الأسماء. وقال كثير.

أراني ولا كفران لله إنّما

أواخي من الأقوام كل بخيل (٣)

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية : ١١٠ / سورة فصلت ، الآية : ٦.

(٢) الأغاني : ١٠ / ٢٩ ، ابن يعيش : ٨ / ٥٦.

(٣) ديوان كثير ٢٤٨ ، الخصائص : ١ / ٣٣٨ ، ابن يعيش ٣ / ٥٥.

٣٤٨

لأنه لو قال : أني هاهنا كان غير جائز لما ذكرناه. فأنما هاهنا بمنزلتها في قولك : زيد إنما يواخي كل بخيل. وهو كلام مبتدأ وتقول خبره" وأنما يجالس أهل الخبث" لأنك لا تقول : " أرى أيره أنه يجالس" فحسنت" أنه" هاهنا ؛ لأن الآخر هو الأول.

قال أبو سعيد : " أنما" المفتوحة وما بعدها من فعل وفاعل ومبتدأ وخبر بمنزلة اسم واحد في معنى المصدر. كما أن أن المفتوحة واسمها وخبرها بمنزلة اسم واحد في معنى المصدر. والفرق بينهما : أن" أنما" أبطل عملها بدخول" ما" فصار يليها كل كلام. ومنزلتها بعد منزلة" أنّ" بعد اسمها لأن ما بعد اسمها من رتيبة الابتداء والخبر والفعل والفاعل والشرط والجواب كقولك :

علمت أن زيدا أبوه منطلق." وعلمت أن زيدا ينطلق أبوه"" وعلمت أن زيدا أن تأته يأتك" و" أنما" بمنزلة" أنّ" و" أنما" وما بعدها من اسم وخبر وفعل وفاعل وشرط جزاء بمنزلة" أن" واسمها إذ كان بعدها جملة. ومعنى قوله : " أنما تقتل النيام".

أن الحارث بن ظالم المري قتل خالد بن جعفر بن كلاب وهو نائم. وكان سببه أن الحادث بن ظالم دخل على النعمان بن المنذر ، وخالد جالس معه يأكل تمرا فلما رآه النعمان قال : أذن يا حار .. فقال له خالد : من ذا الذي أراك تدني أبينت اللعن ..؟ فقال : هذا الحارث بن ظالم.

قال للحارث : ما رأني إلا حسن البلاء عندك. قال : وما بلاؤك قال : قتلت أشراف قومك فتركتك سيدهم. قال : سأجزيك ببلائك وجلس يأكل معهم فلما خرج الحارث قال النعمان لخالد : ما أردت أن تحرش بهذا الكلب وأنت ضيف لي.

قال خالد : إنما هو عبد من عبيدي لو كنت نائما ما أيقظني. فلما أمسى النعمان بعث إلى الحارث بن ظالم بعس من خبر يعتبقه أراده أن يشغله فصبته بينه وبين جبيه في كتب. فلما أمسى الحارث بن ظالم حبى بالسيف حتى أتى خالدا وهو في قبة من أدم فوضع السيف في بطنه ثم اتكأ عليه حتى قتله ثم تحمل من تحت ليلته حتى لحق بقريش.

فلما قال ابن الإطنابة هذا الشعر أتاه الحارث متنكرا فأنبهه وهو لا يعرف الحارث فلما انتبه قال له : البس سلاحك فأنني مستنصرك. فلبس سلاحه ومشى معه حتى تنحيا من البيوت فقال له الحارث : ألست يقظان ذا سلاح؟ قال : بلى ، قال : فأنا الحارث بن

٣٤٩

ظالم أريد قتلك. فذل له ابن الاطنابة حتى كف عنه.

و" أنما تقتل" في موضع نصب" بأبلغ" ومعنى قول الخليل : " أنما" بمنزلة فعل ملغى : أن" أن" منزلتها منزلة فعل على ما تقدم من ذكر ذلك. فإذا كفت لم يكن لها اسم منصوب صار بمنزلة فعل ملغي كقولك : أشهد لزيد خير منك. وقوله : بمنزلة (إذ) و" إذا" ، وأن" إذ" و" إذا" لا يعملان شيئا فيما بعدهما وتلي" إذا" المبتدأ والخبر والفعل والفاعل وتمامها بما بعدها. وكذلك" أنما" يليها المبتدأ والخبر والفعل والفاعل وهي لا تعمل شيئا فيما بعدها فهذا وجه التشبيه. وقوله : وجدتك أنما أنت صاحب كل خنى لم يجز سيبويه في" أنما" إلا الكسر.

وذلك أن" وجدتك" يتعدى إلى مفعولين وهي من باب" علمت" و" حسبت" ورأيت من رؤية القلب" فالكاف" المفعول الأول والمفعول الثاني جملة قائمة بنفسها فحكمها أن تكون كلاما مستأنفا يوضع في موضع الخبر نحو : المبتدأ والخبر. وما هو بمنزلتها نحو الفعل والفاعل. و" إنّ" المكسورة مما يصح أن يبتدأ به من الكلام ولو قلت : حسبتك أنما أنت صاحب كل خنّى بفتح" أنما" كان بمنزلة : المصدر. والمصدر لا يكون خبرا للكاف. ألا ترى أنك لا تقول : " حسبت زيدا خروجه" و" حسبت زيدا سبقه".

وقد قرئ (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ)(١) وهو على ما سقناه من كلام سيبويه لا يجوز. وهو مذهب من تقدم من النحويين البصريين إلا أن الزجاج أجازه على البدل من" الذين" واحتج بقول" عبده بن الطيب" (٢) في بدل المصدر من الاسم :

فما كان قيس هلكه هلك واحد

ولكنه بنيان قوم تهدما (٣)

" أبدل" هلكه" من" قيس".

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٧٨.

(٢) هو يزيد بن عمرو التميمي ، شاعر مكة مخضرم أدرك الإسلام وأسلم توفي ٢٥ ه‍ العقد الفريد : ٣ / ٢٨٦.

(٣) البيت في الكتاب : ١ / ٧٧ ، ابن يعيش : ٣ / ٦٥ ، زهر الآداب : ٩٦٥.

٣٥٠

قال أبو سعيد : للمحتج عن سيبويه أن يقول : أن بدل" هلكه" من" قيس" لا يشبه الآية لأن هلكه إذا أبدل من" قيس" جعل مكانه واحتاج إلى مثل ما كان يحتاج إليه" قيس" من الخبر فأتى له بخبر فقام خبره مقام خبر" قيس" كما أقيم هو مقام" قيس". وليس كذلك الآية. لأنه إذا قرأ" ولا تحسبن الذين كفروا" وجب أن يؤتى (" لِلَّذِينَ كَفَرُوا") بخبر لأنه بمنزلة اسم مفرد. والبدل منه لا يصح أن يكون خبرا عنه. وقد يحتمل تجويز ذلك على وجه آخر ضعيف لا أحب أن يحمل كتاب الله عليه. أما ضعفه فلأنه بدل من اسم يقتضي خبرا. وقد أبطل خبره ولأنه أيضا أبدل اسما يقوم مقام اسمين من اسم مفرد لا يقوم مقام اسمين فلان الاسم الأول إذا أبدل منه جعل بمنزلة المطرح الذي لم يذكر واعتمد بوقوع المحسبة على الثاني ولم يعتد بالأول كأنه قال : " ولا تحسبن أنما تملى لهم خبر لأنفسهم" ومثله قوله :

لسان السّؤ تهديتها إلينا

وحنت وما حسبتك أنّ تحينا (١)

أبدل (أن تحينا) من الكاف و" أن تحينا" تقوم مقام مفعولي حسبك.

كما قال عزوجل : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ)(٢) و (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ)(٣) وإنما جاز" وجدت خبره أنما يجالس أهل الخبث" لأن" الخبر" مصدر و" أنما" مصدر هو الأول. وجوّز أن تقول في الابتداء : خيرك أنما تجالس أهل الخبث.

ولا يجوز : " زيد أنما يجالس".

ولا تقل : " خبرك أنما تجالس أهل الخبث" بالكسر كما لا تقول : (زيد أنما تجالس أهل الخبث) بالفتح وكذلك : " أرى أمره أنما يجالس" ... بالفتح وأنه في موضع المفعول الثاني.

وفي الباب التالي لهذا ما يكون بدلا مما هو مثله. كقولك : بلغني قصتك أنك فاعل وقد بلغني الحديث أنهم منطلقون" هذا بين لأن الصفة والحديث هما : " أن".

__________________

(١) البيت لم نعثر على قائله. انظر المغني : ١ / ١٨٢ ، شرح شواهد السيوطي ١ / ٥٠٦.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٧١.

(٣) سورة القيامة ، الآية ٢٥.

٣٥١

هذا باب تكون فيه «أن» بدلا من شيء هو الأول

وذلك قولك : بلغتني قصتك أنك فاعل. وقد بلغني الحديث أنهم منطلقون ، وكذلك القصة وما أشبهها.

هذا باب تكون فيه «أن» بدلا من شيء ليس بالأول

من ذلك (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ)(١) (فأنّ) مبدلة من" إحدى الطائفتين" موضوعة في مكانها كأنك قلت. وإذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم كما أنك إذا قلت : (رأيت متاعك بعضه إلى بعض) فقد أبدلت الآخر من الأول : فكأنك قلت : " رأيت بعض متاعك فوق بعض فإنما نصبت بعضا" لأنك أردت معنى : (رأيت بعض متاعك فوق بعض) كما جاء الأول على معنى : " وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين لكم".

وقال عزوجل : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ)(٢) فالمعنى والله أعلم : ألم يروا أن القرون الذين أهلكناهم إليهم لا يرجعون ومما جاء مبدلا من هذا الباب قوله : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ)(٣) فكأنه قال : أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم ، وذلك أريد بها ولكنها إنما قدمت" أن" الأولى ليعلم بعد أي شيء الإخراج.

ومثله قوله : زعم أنه إذا أتاك أنه سيفعل ، وقد علمت أنه سيفعل وقد علمت أنه إذا فعل أنه لا يستقيم أن تبتدئ" إنّ" هاهنا. كما تبتدئ الأسماء والفعل إذا قلت : (قد علمت زيدا أبوه خير منك). وقد رأيت زيدا يقول" أبوه ذاك" ؛ لأن" إنّ" لا تبتدأ في كل موضع من تلك المواضع.

وزعم الخليل أن مثل ذلك قوله عزوجل : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ)(٤) ولو قال : " فإنّ" كانت عربية جيدة. وسمعناهم يقولون

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية ٧.

(٢) سورة يس ، الآية ٣١.

(٣) سورة المؤمنون ، الآية ٣٥.

(٤) سورة التوبة ، الآية ٦٣.

٣٥٢

قول ابن مقبل :

وعلمي بأسدام المياه فلم تزل

قلائص تخدي في طريق طلائح

وأنّي إذا قلت ركابي مناخها

فإنّي على حظّي من الأمر جامح (١)

وإن جاء في الشعر : " قد علمت أنك إذا فعلت أنك سوف تغتبط" تريد معنى" الفاء" جاز. والوجه والحد ما قلت لك أول مرة. ونظير ذلك في الابتداء (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ)(٢) ، (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣).

وبلغنا أن الأعرج (٤) قرأ (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥) ونظيره البيت الذي أنشدتك.

قال أبو سعيد : أما قوله : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ)(٦) فأن إحدى الطائفتين هو المفعول الثاني" ليعدكم" والمفعول الأول : هو الكاف والميم في" يعدكم" و" أنها لكم" بدل من" إحدى الطائفتين" وهذا بدل اشتمال كما تقول : وعدتك أحد الثوبين ملكه. و" ملكه" بدل من" أحد الثوبين".

وقوله عزوجل : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ)(٧) " أنهم" بدل من معنى جملة" كم أهلكنا قبلهم من القرون" لأمر إنكارهم. لأن لفظ" كم" في التقدير : منصوب" بأهلكنا" إذا كانت" كم" في الاستفهام في مذهب" ربّ" لا يعمل فيها ما قبلها. فلو أبدلنا" أنهم" من لفظ" كم" صار العامل فيها" أهلكنا"

__________________

(١) البيتان في ديوانه ٤٦ ، والأعلم ١ / ٤٦٧.

(٢) سورة هود ، الآية : ٢٢.

(٣) سورة النحل ، الآية : ١١٩.

(٤) الأعرج : هو عبد الرحمن بن هرمز أبو داود من موالي بني هاشم من أهل المدينة حافظ قارئ ، أدرك أبا هريرة وكان وافر العلم توفي ١١٧ ه‍.

الأعلام : ٣ / ١١٦.

(٥) سورة الأنعام ، الآية : ٥٤.

(٦) سورة الأنفال ، الآية : ٧.

(٧) سورة يس ، الآية : ٣١.

٣٥٣

فيكون تقديره : (أهلكنا أنهم إليهم لا يرجعون) وهذا لا معنى له. ولكن" كم" وما بعدها إذا جعلت اسما غير استفهام فتقديرها : (ا لم يروا الذين أهلكناهم من القرون). ومعنى : " يروا" يعلموا. لأن رؤية العين منهم لم تقع على القرون التي خلت من قبلهم.

فإذا قدرناه هذا التقدير وأبدلناه صار معناه : " ألم يعلموا أن القرون التي أهلكناهم من قبلهم لا يرجعون". وفي" أن" وجه آخر وهو : أن تجعلها في صلة : " أهلكناهم" بمعنى : أهلكناهم بأنهم لا يرجعون" أي" : أهلكناهم لهذا الضرب من الهلاك.

وقوله عزوجل : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ)(١) فيه وجهان :

أحدهما : أن تجعل" أنكم" المفعول الثاني من" يعدكم" والمفعول الأول" الكاف والميم". واسم" أن" الكاف والميم بعدها. وخبرها." مخرجون"" فإذا متم" ظرف" لمخرجون". و (أنكم) الثانية معادة وهي الأولى ليقرب من الخبر لما تراخى ما بينها وبين الخبر. وهي مكررة توكيدا للأولى ، قوله عزوجل : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ)(٢) هم الثانية إعادة للأولى توكيدا وهذا قول أبي عمر الجرمي في هذا ونحوه. ويحتج له في ذلك : أنها تقع بعد الفاء مفتوحة في قوله عزوجل : (أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ)(٣) إنما هو" فله نار جهنم ..." ثم كررها توكيدا ولو لا أنها مكررة لكسرت لأنها في موضع الابتداء بعد" الفاء" للتراخي كما قال عزوجل : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ)(٤) فهذه كررت للتراخي ، ومثل هذا في القرآن كثير.

والوجه الثاني : أن تجعل" أنكم" المفعول الثاني ل" يعدكم" و" أنكم مخرجون" في موضع اسم مبتدأ وخبره" إذا متم" وهو ظرف له. وتقديره : أيعدكم أنكم إذا متم أخراجكم. والمبتدأ والخبر خبر" أنكم" والعائد إلى" الكاف والميم" التي هي اسم" أنكم" الأولى" الكاف والميم" التي هي اسم" أنكم" الثاني. وهذا قول أبي العباس المبرد.

__________________

(١) سورة المؤمنون ، الآية : ٣٥.

(٢) سورة هود ، الآية : ١٩.

(٣) سورة التوبة ، الآية : ٦٣.

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٨.

٣٥٤

قال أبو سعيد : وعلى هذين الوجهين قولهم زعم أنه إذا أتاك أنه سيفعل وقد علمت أنه إذا فعل أنه سيمضي. وظاهر كلام سيبويه أنه جعل" أنكم" الثانية بدلا من" أنكم" الأولى في قوله تعالى : (أَيَعِدُكُمْ ...") لأنه قال : " ومما جاء مبدلا" ثم قال : كأنه على : (" أَيَعِدُكُمْ ....... أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ").

وفي هذا الكلام عندي خلل لأنه لا يجوز البدل من الاسم حتى يتم الاسم. وقوله : " إذا متم" ليس باسم تام لأنه لم يأتي" لأنه" بخبر. وتمام الاسم" بأن واسمها وخبرها" والذي عندي : أنه لا بدل في هذه الآية وإنما البدل في قوله عزوجل : (" إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ") وقد مر الكلام فيه.

وقول سيبويه : " ولا يستقيم أن تبتدئ"" أن" هاهنا كما تبتدئ الأسماء والأفعال إذا قلت : " قد علمت زيدا أبوه خير منك" وقد رأيت زيدا يقول : " أبوه ذاك". لأن" أن" لا تبتدأ في كل موضع وهذا من تلك المواضع" يعني" : أنك إذا قلت" زعم أنه إذا أتاك سيفعل وقد علمت أنه سيمضي". لم يجز كسر" إن" الثانية. لا يجوز" أنه سيفعل وإنه سيمضي". لأن كسرها هو الابتداء. وإنما لم يجز ذلك لأن" إذا أتاك" و (إذا فعل) ظرف لما بعده فإذا كسرنا" إن" بطل أن تكون ظرفا" لأن" ولا ظرفا لما بعد" أن" كما يكون ظرفا" لأن".

فتقول في" أن" المفتوحة" في الحق أنك كريم" و (يوم الجمعة أنك راحل) وأنما جاز في" أن" المفتوحة لأن محلها محل الاسم والظرف يتقدم على الاسم الذي هو ظرفه كقولك (خلفك زيد ويوم الجمعة رحيلك) و" إن" المكسورة وما بعدها ليس في تقدير اسم فيكون له ظرف يتقدمه. ولا ما بعدها يعمل فيما قبلها.

وقوله عزوجل : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ)(١) و" أن". فمن كسر : فلان الجواب بالفاء. وإنما يكون بكلام مستأنف قائم بنفسه. فالباب فيه الكسر. والذي يفتح فله ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يجعل" إن" مكسورة معادة من الكلام الذي قبلها للتوكيد وتقديره : فله نار جهنم و" أن" مكررة.

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ٦٣.

٣٥٥

والوجه الثاني : أن تجعل" أنّ" مبتدأة وخبرها محذوف وتقديرها : فله أن له نار جهنم. ولو قال : (من يعصى الله فالنار) كان كلاما مفهوما جائزا وتقديره : فله النار.

والوجه الثالث : فيستحق أن له النار وما أشبه ذلك من إضمار ما يليق به.

وما ذكر في القرآن في آخر الباب قد اجتمعت فيه النسخ على ما كتبته. والذي في القرآن (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ)(١) ، (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢).

هذا باب من أبواب «أنّ» تكون فيه «أنّ» مبنية على ما قبلها

وذلك قولك : أحقا أنك ذاهب؟ وكذلك : أكبر ظنك أنك ذاهب؟ وأجهد رأيك أنك ذاهب؟ وكذلك هما في الخبر.

وقد سألت الخليل فقلت : ما منعهم أن يقولوا : أحقا إنك ذاهب على القلب كأنك قلت : أنك ذاهب. ألحق؟ فقال : لأن" أن" لا يبتدأ بها في كل موضع ، ولو جاز هذا لجاز : يوم الجمعة إنك ذاهب تريد : إنك ذاهب يوم الجمعة.

ولقلت أيضا : لا محالة إنك ذاهبة تريد : إنك لا محالة ذاهب فلما لم يجز ذلك حملوه على" أفي حق أنك ذاهب؟ وعلى : أفي أكبر ظنك أنك ذاهب؟ وصارت" أنّ" مبنية عليه كما يبني الرحيل على غد إذا قلت : غدا الرحيل. والدليل على ذلك : إنشاد العرب كما زعم يونس أنه سمع العرب يقولون في بيت الأسود بن يعفر :

أحقّا بني أبناء سلمى بن جندل

تهدّدكم إيّاي وسط المجالس (٣)

وزعم الخليل أن التهدد هاهنا بمنزلة : " الرحيل" بعد" غد". وأن" أن" بمنزلته وموضعه كموضعه.

ونظير : أحقا أنك ذاهب. من أشعار العرب قول العبدي (٤) :

__________________

(١) سورة هود ، الآية : ٢٢.

(٢) سورة النحل ، الآية : ١١٠.

(٣) الخزانة : ١ / ١٩٣ ، الشعر والشعراء : ١ / ٢٥٦ ، الأغاني : ١١ / ١٣٢ ، ٢٦٨.

(٤) هو المفضل النكري والعبدي نسبة إلى عبد قيس والنكري نسبة إلى (نكره). جمهرة أنساب العرب

٣٥٦

أحقّا أن جيرتنا استقلّوا

فنيّتنا ونيّتهم فريق

وقال عمر بن أبي ربيعة :

أالحق إن دار الرّباب تباعدت

أو أنبت حبل أنّ قلبك طائر؟ (١)

وقال النابغة الجعدي :

ألا أبلغ بني خلف رسولا

أحقّا أنّ أخطلكم هجاني (٢)

فكل هذه الأبيات سمعناها من أهل الثقة هكذا. والرفع في جميع هذا جيد قوي وذلك أنك إن شئت قلت : أحق أنك ذاهب. وأكبر ظنك أنك ذاهب تجعل الآخر هو الأول. وأما قولهم : " لا محالة أنك ذاهب" فإنما حملوا" أنّ" على : أن فيه إضمار" من" على قولك : (لا محالة أنك) كما تقول : (لابد أنك) كأنك قلت : لابد من أنك حين لم يجز أن يحملوا الكلام على القلب.

وسألته عن قولهم : أمّا حقا فأنك ذاهب فقال : هذا جيد. وهذا الموضع من مواضع إنّ ألا ترى أنك تقول : أما يوم الجمعة فإنك ذاهب. وأما فيها فأنك قائم وأنما جاز هذا في" أما" لأن فيها معنى يوم الجمعة مهما يكن من شئ فإنك ذاهب.

وأما قوله عزوجل : (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ)(٣) فإن" جرم" عملت لأنها فعل ومعناها : لقد حق أن لهم النار ، ولقد استحق أن لهم النار.

وقول المفسرين معناها : حقا أن لهم النار يدلك أنها بمنزلة هذا الفعل إذا مثلت." جرم" قد عملت في" أن" عملها في قول القزاري : (٤)

ولقد طعنت أبا عيّينة طعنة

جرمت فزارة بعدها أنّ يغضبوا (٥)

__________________

٢٨٢ ، سمط اللآلي ١٢٥. العيني : ٢ / ٢٣٥ ، الأشموني : ١ / ٢٧٨ ، الهمع ٢ / ٧١.

(١) الديوان : ٣٣ ، الخزانة : ٤ / ٣٠٣ ، الأشموني ٤ / ٢٧٨.

(٢) سبق تخريجه.

(٣) سورة النحل ، الآية : ٦٢.

(٤) هو عوف بن عطية واسمه عمرو بن عيسى بن وديعة ، معجم الشعراء : ١٢٥.

(٥) انظر المقتضب : ٢ / ٣٥٢ ، معاني القرآن للفراء : ٢ / ٩.

٣٥٧

وزعم الخليل أن" جرم" أنما تكون جوابا لما قبلها من الكلام. يقول الرجل كان كذا وفعلوا كذا فتقول : لا جرم أنهم سيندمون أو أنه سيكون كذا وكذا. وتقول : أما جهد رأيي فأنّك ذاهب لأنك لم تضطر إلى أن تجعله ظرفا كما اضطررت في الأول وهذا من مواضع" أن" لأنك تقول : " أما في رأيي فأنك ذاهب". أي : فأنت ذاهب وأن شئت قبلت" فأنّك" وهو ضعيف. لأنك إذا قلت : أما جهد رأيي فإنك عالم لم تضطر إلى أن تجعل الجهد ظرفا للقصة لأن ابتداء" إن" يحسن هاهنا.

فإذا قلت : جهد رأيي أنك عالم. لم يجز أن يكون الجهد إلا ظرفا. لأنك لو جعلته مفعولا كان من صلة" أنّ" ولا يجوز تقديمه ومع ذلك أنك لم تجئ بالمبتدأ. فإذا قلت : أما جهد رأيي حسن ابتداء" أن" ونصبت جهد بالفعل لا بالظرف لأنك لم تضطر إلى الظرف وتقول : " أما في الدار فإنك قائم" لا يجوز فيه إلا" إنّ" لأن إنّ تجعل الكلام قصة وحديثا. ولم ترد أن تخبر أن في الدار حديثه ولكنك أردت أن تقول" أما في الدار فأنت قائم" فمن ثم لم يعمل في" أن" شيء وإذا أردت أن تقول أما في الدار فحديثك وخبرك قلت : أما في الدار فأنك منطلق. أي هذه القصة. ويقول الرجل : ما اليوم؟ فتقول : اليوم أنك مرتحل ، كأنه قال : في اليوم رحيلك. وعلى هذا الحد تقول : أما اليوم فأنّك مرتحل.

وأما قولهم : أما بعد فأن الله عزوجل قال في كتابه. فأنه بمنزلة قولك : أما اليوم فإنّك. ولا يكون" بعد" أبدا مبنيا عليها. إذا لم تكن مضادة ولا مبنية على شئ. إنما تكون لغوا.

وسألته عن : " شد ما أنك ذاهب" وعز ما أنك ذاهب. فقال : هذا بمنزلة : حقا أنك ذاهب كما تقول : أما أنك ذاهب بمنزلته حقا أنك ذاهب. كما كانت" لو" بمنزلة" لو لا" ولا يبتدأ بعدها الأسماء سوى" أن" نحو : لو أنك ذاهب ولا يبتدأ بعدها الاسماء. و" لو" بمنزلة" لو لا" وأن لم يجز فيها ما يجوز فيما يشبهها. تقول : لو أنه ذاهب لفعلت. وقال عزوجل : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي)(١) وأن شئت جعلت : شد ما وعز ما كأنك قلت : نعم العمل أنك تقول الحق. وسألته عن

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ١٠٠.

٣٥٨

قوله : كما أنه لا يعلم ذلك فتجاوز الله عنه. وهذا حق كما أنك ذاهب. فزعم أن العاملة في" أن" الكاف. و" ما" لغو إلا أن" ما" لا تحذف هاهنا كراهية أن يجئ لفظها مثل لفظ" كان" كما ألزموا" النون" لأفعلن و" اللام" قولهم : إن كان ليفعل" كراهية أن يلتبس اللفظان. ويدلك على أن" الكاف" هي العاملة قولهم : هذا حق مثل ما أنك هاهنا. وبعض العرب يرفع فيما حدثنا يونس ورغم أنهم يقولون (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(١). فلو لا أن" ما" لغو لم يرتفع مثل وإن نصبت" مثل" فما أيضا لغو ، لأنك تقول : مثل أنك هاهنا. وإن جاءت" ما" مسقطة من" الكاف" في الشعر جاز كما قال النابغة الجعدي :

قروما تسامى عند باب دفاعه

كأن يؤخذ المرء الكريم فيقتلا (٢)

ف" ما" لا تحذف هاهنا في الكلام كما لا تحذف في الكلام من" أما" في قولك :

فأن جزعا وإن إجمال صبره (٣)

قال أبو سعيد : إذا قلت : أحقا أنك ذاهب وأكثر ظنك وجهد رأيك ففيه الرفع والنصب فالرفع على الابتداء والخبر فإذا قلت : أحقا أنك ذاهب فتقديره" أحق ذهابك" وأكثر ظني ذهابك" وجهد رأيى ذهابك" والنصب على تقدم هذه الأشياء ظروفا. وقال : " رفع أنك" بالابتداء وذلك أنك إذا قدمت هذه الأشياء ونصبتها فلا وجه لنصبها غير الظروف. ورفع" أنّ" ويكون التقدير فيها : (أفي زمن حق أنك ذاهب) ثم حذف" زمن" كما قيل : سير عليه مقدم الحاج يريد : زمن مقدم الحاج أو وقت مقدم الحاج ، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وقد تبين من كلام العرب أنها في مذهب الظرف : بدخول" في" عليها.

__________________

(١) سورة الذاريات ، الآية : ٢٣.

(٢) ديوان النابغة الجعدي : ١٣١. والبيت من بحر الطويل.

(٣) عجز بيت لدريد بن الصمة صدره :

لقد كذبتك نفسك فاكذبنها

الخزانة : ٤ / ٤٤٤ ، الكتاب : ١ / ١٣٤.

٣٥٩

قال أبو زبيد الطائي :

ألا أبلغ بني عمرو بن كعب

بأنّي في مودتكم نفيس (١)

أفي حق مواساتي أخاكم

بمالي ثم يظلمني السريس

وتبين أن" أن" في موضع رفع بقوله :

أحقّا بنى أبناء سلمى بن جندل

تهدّدكم إيّاي وسط المجالس (٢)

فرفع (تهددكم) وهو في موضع" أن" حين قال :

أحقا أنّ أخطلكم هجاني (٣)

وفي رفعه وجهان :

أحدهما : وهو الذي أختاره أنه رفع ما قبله من الظرف خبره ومنزلته كمنزلة" خلف زيد"" وفي الدار عمرو" ولو أدخلنا عليه" أن" وأخواتها وقدمنا الظرف وجعلنا" أنّ" مقدرا لنصبنا وذلك قولك : (في أكثر ظني رحيلك) كما تقول (يوم الجمعة أنك راحل) و (يوم الجمعة رحيلك) و" إنّ يوم الجمعة رحيلك" فتبين بنصبه بعد" أن" رفعه قبلها بالابتداء. وذهب أبو العباس المبرد إلى أن الخليل : رفع" أن" بالظرف في هذا الموضع يعني : " أفي حق أنك ذاهب" وفي أكثر ظني أنك ذاهب. للضرورة كما يرفع بالظرف المضمر في قولك : " زيد في الدار وعمرو عندك".

قال أبو سعيد : أما رفع المضمر بالظرف فصحيح وأما رفع الظاهر فليس مذهب سيبويه والخليل. وأظن أن الذي دعا أبا العباس إلى حكاية هذا عن الخليل أنه : لما ذكر : " أفي حق أنك ذاهب"." وفي أكثر ظني أنك ذاهب" قال عقيبه : وصارت" أن" مبنية عليه كما تبنى الرحيل ...

وقد استعمل سيبويه لفظ البناء على الشيء الذي ليس بعامل فيما بني عليه كما قال : " أنّ" مبنية على" لو لا". وإنما ذلك على جهة تقدمها وحاجتها إلى ما بعدها.

__________________

(١) ديوان أبو زبيد الطائي : ١٠٠.

(٢) البيت للأسود بن يعفر سبق تخريجه.

(٣) البيت للنابغة الجعدي سبق تخريجه.

٣٦٠