أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان
المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
الصفحات: ٥٠٤
متكلم به ، و (ما) بعدها للمجازاة.
والدليل على (مهما) قد تضمنت معنى (ما) أنه قد يعود إليها الضمير مما بعدها كما يعود إلى (ما) ، قال المتنخل الهذلي :
إذا سدته سدت مطواعة |
|
ومهما وكلت إليه كفّاة (١) |
ف (الهاء) في كفاه عائد إلى (مهما) ، كما تعود إلى (ما) ، ولا يكون مثل هذا العائد في أين ومتى ، لا تقل : أين تكن أكن فيه ، ولا متى تأتني آتك فيه وأما كيف ، فإن الخليل قال في المجازاة بها : هي مستكرهة ، ولم يحتج لذلك ، بل قوّى المجازاة بها حين قال : معناها : على أي حال تكن أكن.
قال أبو سعيد : أحتاج أن أبين أن (كيف) حقيقتها وموضوعها ، إنه اسم غير ظرف وإن كان قد يؤدي معناها قولهم (على أي حال) ، والدليل على ذلك إذا قلت : كيف هذا الثوب؟ فالجواب أن يقال : خشن أو لين أو طويل أو قصير ونحو ذلك.
وكذلك إذا قال : كيف زيد؟ فالجواب : سمح ، أو صعب ، أو شجاع أو جبان أو ما أشبه ذلك.
ولو قال : على أي حال زيد؟ لقلت : على حال شدة أو على حال رخاء وهذا ما يقتضيه لفظ السؤال.
ولو كان (كيف) ظرفا ، لم يمتنع دخول حروف الجر عليه كدخولها على متى وأين في قولك : إلى متى يكون هذا ؛ ومن أين أقبلت؟
فلو قال قائل : كيف زيد؟ فقيل في جوابه : على حال سيئة ، أو على حال صفة لجاز ، وليس بجوابه على الحقيقة والموضوع ، ولكن يجوز ذلك لأن معناها معنى سيئ الحال أو حسن الحال الذي هو الجواب المطابق للسؤال ب (كيف).
وقد اختصت (كيف) بأشياء ليست في نظائرها.
منها أنها اسم ليس بظرف ، لا يكون لها عائد ، ولا يخبر عنها كمن ، وما ، وأي ، تقول : من ضربته؟ وما أكلته؟ وأيّ أثبته؟ وتقول : من في الدار؟ وما عندك؟ وأيّ خلفك؟ ولا تقل : كيف ضربته؟ و (الهاء) عائدة إلى (كيف) ، ولا كيف في الدار؟ كما قلت : من في الدار ، على الابتداء أو الخبر.
ومنها أنه لا يكون جوابها إلا نكرة ، وجواب أخواتها يكون معارف ونكرات يقول
__________________
(١) البيت في ديوانه ٢ / ٣٠ ، الخزانة ٩ / ٢٦ ؛ ابن يعيش ٧ / ٤٣.
القائل : كيف زيد؟ فيقال له : سخي أو بخيل أو شجاع أو جبان ، ولا يجوز أن يقال : السخي ، ولا البخيل ولا الشجاع ولا الجبان.
وقد يقال في جواب (من زيد؟) : أخوك ، وزيد أخوك.
ويقال في جواب (ما طعامك؟) : اللحم والخبز ، ويقال : لحم وخبز ، وقد يقال في جواب (أي الناس زيد؟) : أخوك ، أو هذا ، أو نحوهما من المعارف.
ويقال : رجل بجنبك. ورجل في دارك ، أو نحو ذلك من النكرات.
فأما مع المجازاة بها ، ففيه قولان : أحدهما : أنه لما كان أخواتها معارف ونكرات ، وقصرت هي على أحد الأمرين ، ضعفت عن التصريف بها في المجازاة ، فالقول الآخر أنها لما لم يخبر عنها ، ولا يعود إليها ، كما يكون ذلك في : من ، وما ، وأي ، ضعفت عن تصريفها في مواضع نظائرها من المجازاة ، ولم تكن ضرورة مضطر إليها في المجازاة إذ كانت (على أي حال) تغني عنها كما قد ذكرناه.
وتركوا المجازاة ب (كم) لأن (ما) و (من) تغنيان عنها ، لأنهما في المجازاة لقليل ما يقعان عليه وكثيرة ، ألا ترى أنك إذا قلت : كما تسر أسر ، فمعناه : إن يسر قليلا أسر مثله ، وإن يسر كثيرا أسر مثله ، وليس المتكلم بعالم كمن يسير ، ولا هو مستدع من المخاطب تعريفه مقدار سيره ، وإنما وضعت (كم) ليتعرف بها المتكلم مقدار ما يسأل عنه ليقف عليه.
وأما المجازاة ب (إذا) فإن ما منع من المجازاة بها إلا في الشعر ، أن الذاكر لها في الكلام كالمعترف بأنها كائنة ، كقولك : إذا طلعت الشمس فأتني ؛ فالمتكلم معترف بطلوع الشمس ، وحق ما يجازى به ألا يدرى أيكون أم لا يكون ، كقولك : إن قدم زيد زرته ، وإن تمطر اليوم نجلس للحديث ، ولا يدري أتمطر اليوم أم لا ؛ ولذلك حسن : إذا احمر البسر فأتني ، وقبح : إن احمر البسر فائتني ، لإحاطة العلم أن احمر البسر كائن.
وإنما جاز المجازاة بها في الشعر لأنها قد شاركت (إن) في الاستقبال ، ولأن وقتها غير معلوم ، فأشبهت ـ لجهالة وقتها ـ ما لا يدري أيكون أم لا. وقد نستعمل (إذا) في الموضع الذي يحسن فيه (إن) ، ولا يتبين بينهما فرق للمشابهة التي بينها ، وكذلك تستعمل (إن) في موضع (إذا) ؛ قد يقول القائل : إن متّ فأخرجوا ثلث مالي للفقراء والمساكين ، وقال الله ـ تبارك وتعالى ـ : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ)(١) والموت كائن لا محالة ،
__________________
(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٤٤.
وقال الشاعر :
كم شامت بي أن هلكت |
|
وقائل : لله درّه (١) |
وقال آخر :
إذا أنت لم تنزع عن الجهل والخنا |
|
أصبت حليما أو أصابك جاهل (٢) |
وقد يجوز أن ينزع ، ويجوز ألا ينزع ، ولا يحيط العلم بأي ذلك يكون.
وقولهم : إن مات زيد كان كذا ، أحسن من قولك : إن احمر البسر ، لأن الموت وإن كان معلوما أنه كائن فلا يعرف وقته ، واحمرار البسر معروف الوقت.
وأما قوله :
إذا لم تزل في كلّ دار ... (٣)
فإن أبا عمر الجرمي كان يفسره : إذا لم تزل المرأة في كل دار عرفتها لها يسكب واكف من دمع عينيك ؛ وخبر (لم تزل المرأة) : في كل دار ؛ وجواب (إذا) : يسكب المضمرة قبل (واكف) ، وتفسيره (يسكب) الذي في آخر البيت ؛ ومثله في الكلام لو تكلم به : إذا لم يزل زيد قائما عمرو يقم ، على معنى : يقم عمرو يقم. وقرب (واكف) من المعرفة لأنه موصول منعوت بقوله : من دمع عينيك.
وقال الأخفش : إذا لم تزل عينك في هذه الدار واكف سجمت ، وجعل (لها واكف) خبر (لم تزل) و (تسجم) جواب (إذا) وذكرت : يسكب ، ويسجم ، لأن البيت يروى على الوجهين.
وقوله : وينجزم الجواب بما قبله ، ويجوز أن يكون بجملة ما قبله ، وهو (إن) والشرط ، ويحتمل أن يكون ب (إن) وحدها ؛ والاختيار عندي أن يكون ب (إن) وحدها ، وقد مضى ذكر اختياري رفع خبر الابتداء بالابتداء.
وأما قول الخليل : (إن) هي أم حروف الجزاء ، فلأنها تدخل على الجزاء. في جميع وجوهه ، وليست كذا سائر ما يجازى به ، لأن (من) يجازى بها فيما يعقل ، و (ما) فيما لا يعقل ، و (أي) فيما يبعض ، و (متى) للزمان ، و (أين) و (حيثما) للمكان ، (وأنى) نحو من ذلك ، و (إذ ما) يتكلم بها القليل منهم ، وما كل العرب تعرفها.
__________________
(١) البيت ورد منسوبا للنابغة الجعدي في ديوانه ١٩١ ؛ ابن يعيش ٩ / ٤.
(٢) البيت ورد منسوبا لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ٣٠.
(٣) البيت ورد منسوبا إلى رجل من بني سلول ، سبق تخريجه.
ومما يدل على أن (إن) أم حروف الجزاء ، أنها قد يسكت ةعليها ويحذف الشرط بعدها والجواب ، ولا يفعل ذلك بغيرها ، يقول القائل : لا آتى الأمير لأنه جائر ، فيقال : ائته وإن : وكذلك : لا أصلي خلف فلان لأنه أعمى ، فيقال : صل خلفه وإن ؛ يراد بذلك : وإن كان جائرا ، وإن كان أعمى فصل خلفه ، وأنشد بعض النحويين في ذلك :
قالت سليمى ليت لي بعلا يمن |
|
يغسل عن جلدي وينسينّي الحزن |
وحاجة ليس لها عندي ثمن |
|
مستورة قضاؤها منه ومن |
قالت بنات العمّ يا سلمى وإن |
|
كان عييّا معدما قالت وإن (١) |
والذي أحوج إلى إدخال (الفاء) في جواب الجزاء ، أن أصل الجواب أن يكون مستقبلا ، لأنه شئ مضمون فله إذا فعل الشرط ، أو وجد مجزوما ملتبسا بما قبله من الشرط ، ف (إن) هي التي تربط أحدهما بالآخر ، ثم عرض في الكلام أن يجازى بالابتداء والخبر لنيابتهما عن الجواب ، و (إن) لا تعمل فيهما ، ولا يقعان موقع فعل مجزوم ؛ فآتوا بحرف يقع بعده الابتداء والخبر ، وجعلوه مع ما بعده في موضع الجواب ، وذلك قولك : إن تزرني فعندي سعة ، وإن تأتني فالمنزل لك ؛ واختاروا (الفاء) دون (الواو) ودون (ثم) لأن حق الجواب أن يكون عقيب الشرط متصلا ؛ لأنه بالشرط يستوجب ، ومن أجل وقوعه يقع ، و (الفاء) توجب ذلك لأنها في العطف بعد الذي قبله ، متصل به ؛ وتركوا (الواو) لأنها لا تدل على الترتيب ؛ وعدلوا عن (ثم) لأن بينها وبين ما قبلها أكثر من مهلة (الفاء).
وقد حذفت العرب (الفاء) في الجواب في ضرورة الشاعر ، وسهل ذلك أن أصل الجواب لا يكون فيه (فاء) على ما ذكرناه ، وتقديره : من يفعل الحسنات فالله ، ويروى : فالرحمن ، والذي قبله : من يفعل الخير فالرحمن يشكرها ؛ وليس في هذه الرواية ضرورة ((وينكع العنز ظالما)) تقديره : فهو ظالم ؛ ويكثر في المجازاة حذف المبتدإ بعد (الفاء) لأنه يجري ذكره في الشرط كقولك : إن تأتني فمحبوب ؛ لأن المخاطب قد جرى ذكره في الشرط كقولك : إن تأتني فمحبوب ، وإن يزرني زيد فمكرم ، تقديره : فأنت محبوب ، لأن المخاطب قد جرى ذكره في (تأتني) ، وإن يزرني زيد فهو مكرم ، لأنه قد جرى ذكره.
وأما قوله : إن تأتني لأفعلن ، ففيه وجهان :
__________________
(١) الأبيات منسوبة إلى رؤبة بن العجاج في ديوانه ١٨٦ ؛ والخزانة ٣ / ٣٦٠.
الأول : تقدير (الفاء). إن تأتني فلأفعلن.
والآخر : نية التقديم. كأنه قال : لأفعلن إن تأتني.
وكلاهما غير حسن ، أما حذف (الفاء) فقد ذكرناه آنفا ، وأما التقديم فإنه لا يحسن مع جزم الشرط ب (إن) ، فإذا لم ينجزم بها حسن كقولك : إن أتيتني لأكرمنك ، وإن لم تأتني لأغمنك ؛ ومن أجل هذا ألزموا الشرط الفعل الماضي في اليمين ، كقولك : والله لئن أتيتني لأكرمنّك ، وو الله لئن جفوتني لا أزورك ، لأن جواب اليمين يغني عن جواب الشرط ، ويبطل جزمه ، ويصير بمنزلة ما ذكر قبله ، كأنه قال : والله لا أزورك ؛ وإنما صارت (إن) إذا جزمت اقتضت مجزوما بعدها ، لأنها بجزمها ما بعدها يظهر أنها تجزم ، وجزمها يتعلق بفعلين ، فإذا لم يظهر جزمها في الثاني صارت بمنزلة حرف جازم لا يؤتى بعده بمجزوم ؛ ومن أجل ذلك قال الله ـ تبارك وتعالى ـ : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)(١) فقال : لنكونن ، لأن جزم (تغفر) بلم لا ب (إن) ؛ وقال : (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٢). لما كانت (إن) هي الجازمة ل (تغفر).
وأما قوله :
هذا سراقة للقرآن يدرسه (٣)
فذكر الأصمعي أن هذا البيت قديم ، وأن أبا عمرو أنشده إياه ، و (الهاء) في (يدرسه) للمصدر تقديره : للقرآن يدرس درسا ، وكني عن الدرس.
ولو قلنا : ضربته زيدا على هذا التأويل لجاز تقديره : ضربته الضرب زيدا وكني عنه ، لأن الضرب قد دل عليه ضربت ، ولا يحسن أن تكون (الهاء) ضمير القرآن ، لأن القرآن وإن كانت فيه (اللام) ، فقد جعل بمنزلة المفعول ، واللام في صلة (يدرس) ؛ ولو قلت : القرآن يدرسه لم يجز أن ينصب القرآن بيدرس ، و (الهاء) ضميره.
وكذلك قول الله ـ عزوجل ـ : (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)(٤) ، ولا يجوز (يرهبونه) و (الهاء) للرب ـ جل وعز ـ ، ومثل هذا قول زهير بن جناب :
__________________
(١) سورة الأعراف ، الآية : ٢٣.
(٢) سورة هود ، الآية : ٤٧.
(٣) صدر بيت سبق تخريجه.
(٤) سورة الأعراف ، الآية : ١٥٤.
من كل ما نال الفتى |
|
قد نلته إلا التحية (١) |
على معنى : قد نلت النيل ، وحق الكلام : من كل ما نال الفتى قد نلت ، كأنه قال : كل ما نال الفتى قد نلت ؛ ومن أجل (الهاء) كان الأصمعي ينكر هذه الرواية ، ويروي :
ولكل ما نال الفتى قد نلته
وكان لا يتوهم في (نلته) المصدر.
وأما جعلهم (إذا) في موضع (الفاء) في الجواب ، فيمكن أن يكون تشبيها ب (إذا) التي للمفاجأة ؛ لأن الشرط يؤدي إلى الجواب ، فكأنه هجم عليه وأثاره. وكذلك طريق المفاجأة ، ألا ترى أنك إذا قلت : " أصابتهم سيئة فإذا هم يقنطون" (٢) كانت مفاجأة ؛ وإصابة السيئة هجمت بهم على القنوط ، وإذا دخل حرف الجزاء صار شرطا وجزاء ، واكتفى ب (إذا) من (الفاء) ، واستقبح ذكر (الفاء) معها في المجازاة.
وقد يجزم الجواب وإن كان الشرط غير مجزوم ، وأحسن ذلك أن يكون الشرط ب (كان) لقوة (كان) في باب المجازاة ، ووقوعها على كل ماض ومستقبل ، وذلك في قول الله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها)(٣) ، ولو لا (كان) لم يقو إلّا الاستقبال ، لأن قولك : (إن تأتني آتك) أحسن من (إن أتيتني آتك) ، وإنما يجيء في الشعر أكثره.
وقول سيبويه : إن تأتني فأكرمك ، (أكرمك) عنده مرفوع ، لأنه واقع موقع الابتداء ، أي : فأنا أكرمك ، وإنما ذهب إلى هذا لأن دخول (الفاء) إنما احتيج إليه بسبب المبتدإ والخبر على ما ذكرته قبيل هذا الفصل ، ولو لا ذلك لقال : إن تأتني أكرمك ، وباقي الباب مستغن عن شرحه بوضوح كلام سيبويه أو شرح نظيره.
هذا باب الأسماء التي يجازى بها وتكون بمنزلة (الذي)
وتلك الأسماء التي يجازى بها : من ، وما ، وأيهم. فإذا جعلتها بمنزلة (الذي) قلت : ما تقول أقول ، فتصير (تقول) صلة (ما) حتى تكمل اسما ، فكأنك قلت : الذي تقول أقول. وكذلك من يأتيني آتيه ، وأيّها تشاء أعطيك ، قال الفرزدق :
__________________
(١) البيت في ديوانه ، انظر المعمرين ٢٦ ؛ والتصريح ١ / ٣٢٦.
(٢) إشارة إلى الآية ٣٦ من سورة الروم.
(٣) سورة هود ، من الآية : ١٥.
ومن يميل أمال السيف ذروته حيث |
|
التقى من حفافى رأسه الشّعر (١) |
وتقول : آتي من يأتيني ، وأقول ما تقول ، وأعطيك أيّها تشاء ؛ هذا وجه الكلام وأحسنه ، وذلك أنه قبح أن يؤخّر حرف الجزاء ، إذا جزم ما بعده ؛ فلما قبح ذلك حملوه على (الذي) ، ولو جزموه هاهنا لحسن أن تقول : آتيك إن تأتني ؛ وإذا قلت : آتي من أتاني ، فأنت بالخيار ، إن شئت كانت (أتاني) صلة ، وإن شئت كانت بمنزلتها في (إن).
فقد يجوز في الشعر : آتي من يأتني ، وقال الهذلي :
فقلت تحمّل فوق طوقك إنّها |
|
مطيّعة من يأتها لا يضيرها (٢) |
هكذا أنشدناه يونس كأنه قال : لا يضيرها من يأتها ، كما كان : وإني متى أشرف ناظر ـ على القلب ـ ولو أريد به حذف (الفاء) جاز ، فجعلت ك (إن).
وإذا قلت : أقول مهما تقل ، وأكون حيثما تكن ، وأكون أين تكن ، وآتيك متى تأتني ، وتلتبس بها أنى تأتها ، لم يجز إلا في الشعر ، وكان جزما ، من قبل أنهم لم يجعلوا هذه الحروف بمنزلة ما يكون محتاجا إلى الصلة حتى تكمل اسما ، ألا ترى أنه لا يقال : لها تصنع قبيح ، ولا في الكتاب مهما تقول ، إذا أراد أن يجعل القول وصلا ، فهذه الحروف بمنزلة (إن) ، لا يكون الفعل صلة لها ، فعلى هذا فأجز ذا الباب.
قال أبو سعيد : هذه الأسماء التي يجازى بها المذكورة في هذا الباب ، إنما يجازى بها إذا كانت مبتدأة في اللفظ ، غير واقع عليها عامل خافض ولا غيره.
وهذه الأسماء إن جرت مجرى (إن) في كونها صدورا ، إذا جوزي بها فإنها تدخلها الأشياء الخافضة إذا كانت في صلة ما بعدها ، أو كانت مبتدأة ، وذلك للضرورة المؤدية إلى ذلك فيها دون أن تقول : بمن تمرر أمرر به ، وعلى أيهم تنزل أنزل عليه ، وفيما تزهد أزهد فيه ؛ فالباء في صلة (تمرّ) الذي هو شرط ، وفي موضع نصب بها ؛ و (على) في صلة (تنزل) وهي في موضع نصب بها ؛ و (من) و (ما) و (أيّهم) قد تضمنت الأسماء ، وحرف الجزاء ، والأفعال التي بعدهن أفعال تتعدى بحروف الجر ؛ وحروف الجر لا تكون إلا قبل الأسماء ، متصلّا بها ، فقادت الضرورة إلى تقديمها لذلك وتأخير الأفعال العاملة فيها ؛ لأن الفعل قد يجوز أن يعمل النصب فيما قبلها ، فلم تكن بنا ضرورة إلى تقديم فعل الشرط
__________________
(١) البيت في ديوانه ١ / ٢٠٠ ، الكتاب ٣ / ٧٠.
(٢) البيت في ديوانه ١ / ١٥٤ ، الخزانة ٣ / ٦٤٧ ؛ والكتاب ٣ / ٧٠.
عليها ؛ فإذا أتينا ب (إن) انفصل الاسم من (إن) فوقع حرف الجر على الاسم وهو بعد (إن) ، فلم يحتج إلى تقديمه كقولك : إن تمرر بزيد أمرر به ، وإن تنزل على زيد أنزل عليه ، وإن تزهد في شيء أزهد فيه.
وكذلك إن وقع الشرط باسم مضاف ، قدمته وأضفته إلى اسم المجازاة ضرورة كقولك : غلام من تضرب أضرب ، وصاحب أيهم تعاشر أعاشر ، تنصب (غلام) بيضرب ، و (صاحب) بتعاشر ؛ ولا بد من تقديمه من حيث كان خافضا لما بعده.
ولو كانت (إن) لم يجز تقديم شيء ، عليها لانفصال الاسم منها كقولك :
إن تضرب غلام زيد أضرب.
وكذلك المبتدأ المضاف إلى هذه الأسماء ، كان حقه أن يكون فاعل فعل الشرط ويكون مضافا إلى الاسم الذي ليس بمبهم كقولك : إن يأتك غلام زيد ، أو غلام خالد ، أو غلام غيرهم. فلما أبهمت فيها فصار الاسم المبهم وهو (من) و (أيّهم) و (ما) متضمنا للاسم والحرف ، أضفت إليه ضرورة كما أضفته إلى زيد وعمرو ، وقدمته ، فبطل أن يكون فاعلا ، فرفع بالابتداء ، كذلك الفاعل إذا قدّم على الفعل رفع بالابتداء كقولك : زيد قام ، وعمرو انطلق.
فإذا أوقعت على هذه الأسماء عاملا قبلها من غير ما ذكرنا بطلت المجازاة بها وصارت بمنزلة (الذي) واحتاجت إلى صلة على ما ذكره سيبويه ومثلها ، وهذا هو المختار فيها.
وقد يجوز أن يكون قبلها ما يعمل فيها ، وتجريه مجرى فعل لا يتعدى ، وليس بالمختار وذلك قولك : آتي من أتاني ؛ الوجه المختار فيه أن تجعل (من) في موضع نصب ب (آتي) و (أتاني) في صلته ، فيكون كقولك : آتي الذي أتاني.
ويجوز أن يكون بمنزلة قولك : أخرج متى أتاني زيد ، وأقيم أين أقام زيد ، ويكون معناه : أخرج إن أتاني زيد ، وأقيم إن أقام زيد ؛ ويكون (متى) و (أين) ظرفين لما بعدهما ، لا لأخرج وأقيم ؛ وكذلك :
آتي من أتاني ، كأنه قال : آتي إن أتاني زيد ، ولم يذكر (آتي) مفعولا ، إلا أنه يعلم أنه يأتي الذي يأتيه كما تقول : ضربت وضربني زيد ، فيعلم أن (ضربت) واقع على زيد ؛ وكذلك لو قلت : إن يأتني زيد آت ، وحذفت (الهاء) ، لكان الوجه أن يكون : آته.
وأما قوله :
... من يأتها لا يضيرها (١)
ففي رفع (يضيرها) وجهان :
أحدهما : بإضمار (الفاء) كأنه قال : فلا يضيرها ؛ وهذا الوجه لا خلاف في جوازه.
والوجه الآخر : يرتفع على التقديم كأنه قال : لا يضيرها من يأتها.
وقد خالف سيبويه فيما أجازه من التقديم في هذا البيت اثنان :
أحدهما : الذي يرى أن الفعل المرفوع إذا وقع بعد الشرط ، لم يجز أن ينوي به التقديم ، وإن حسن تقديمه. وقائل هذا محمد بن يزيد ، يقول : إن أتيتني أكرمك ، لا يجوز أن يكون بتقدير : أكرمك إن أتيتني ، وإن كان يحسن أن يقول : أكرمك إن أتيتني.
والمخالف الآخر زعم أنه لا يجوز بتقدير التقديم فيه ، لأنا إن قدمناه لم يجز أن يكون (من) فاعلا ليضيرها لأنها قد جزمت (بأنها) ، ولا يجوز أن تجزم وهي فاعلة لفعل قبلها ؛ وإن لم تكن (من) هي الفاعلة فلا يبين لها فاعل ، فلم يجز غيره التقديم من أجل ذلك.
فأما أبو العباس فقد ذكرنا قوله قبل هذا ، وصحته أن المرفوع إذا وقع بعد الشرط ، فقد وقع في موقعه ، فلا ينوي به التقديم الذي ليس بموضعه ، كما لا يقال : ضرب غلامه زيدا على نية :
ضرب زيدا غلامه ، لأن الغلام وقع في موضعه لأنه فاعل ، وحق الفاعل التقديم ؛ والجواب عن هذا : أن الشرط على وجهين :
أحدهما : أن يكون المعتمد المقصود تقديم الشرط ، واتباع الجواب له كقولك : إن تأتني آتك ، وإن تأتني فأنا مكرم لك ، فلا يجوز تقديم الجواب على الشرط.
والآخر : أن يكون الاعتماد على فعل وفاعل ومبتدإ ؛ وحين يبتدئه المتكلم ويعلقه بشرط كما يعلقه بظرف فيقول : أكرمك إن أتيتني ، وأنا مكرمك إن زرتني. كما تقول : أكرمك يوم الجمعة. فإذا قال : إن أتيتني أكرمك ، فليس (أكرمك) بجواب ، فيكون تقديمنا له إلى غير موضعه ؛ وإنما جعل الفعل الذي القصد فيه التقديم ، ويدل على ذلك أن المقسم إذا حلف على شرط وجزاء ، جعل جواب القسم نائبا عن الجزاء ، وجعل إعرابه ولفظه على جواب اليمين دون جواب الشرط في المجازاة.
وإن كان واقعا بعد الشرط ، وذلك قولك : والله لإن جفوتني لا أزورك ، فترفع (لا
__________________
(١) عجز بيت سبق تخريجه.
أزورك) وهو بعد (جفوتني) الذي هو شرط ؛ فإن كان (لا أزورك) مجازاة ، فينبغي أن يكون مجزوما ، وإن كان ينوي به غير المجازاة ، وهو واقع موقع الجزاء ما ينوي به غير الجزاء.
وقد ذكر أبو بكر بن الأعرابي عن أبي العباس المبرد أنه قال :
إذا قلت : لإن أتيتني لأكرمنك. وإنما هو : والله لإن أتيتني والله لأكرمنك ، وأضمرت ، قال : ولا يكون هذا إلا على قسمين.
قال أبو سعيد : وهذا غلط وسهو من أبي العباس لأن الشرط إذا أفرد فليس بخبر ، والقسم إنما يقع على خبر ، وما يصح فيه التصديق والتكذيب ، ألا ترى أن الاستفهام والأمر والنهي لا يصح القسم عليهنّ لأنهن لسن بأخبار ، فكيف يصح القسم على الشرط وحده ، وأما الذي رد تقديم (لا يضيرها) لأنه لا فاعل معه ، فيجوز أن يكون ضمير الفاعل على شرط التفسير ، كما يكون في قولك : ضربني وضربت زيدا ، ونحو ذلك مما يضمر على شرط التفسير ، كأنه قال : لا يضيرها أحد إن أتاها أحد ؛ لأنّ معنى من يأتها إن يأتها أحد ، فأضمر في يضيرها ؛ لأن الكلام الذي بعدها فيه ذكر المضمر الذي أضمر على شرط التفسير ، وأما : أقول مهما تقل ، وأكون حيثما تكن وأكون أين تكن ، وآتيك متى تأتني ، وتلتبس بها أنّى تأتها فلا يجوز رفع ما بعدهن من الأفعال لأنهن لا يكن بمنزلة (الذي) كما تكون (من) و (ما) و (أيهم) ، فنجعل الفعل بعدهن صلة لها ، ونرفع ، ألا ترى أنّك تقول : مررت بمن يعجبني ، وبما يسرّني ، وبأيّهم يوافقني ، ولا تقول مررت بمهما يسرني.
فلما لم تكن هذه الحروف بمنزلة الذي بطل رفع الفعل فيهنّ ، ووجبت المجازاة وقبح الجزم في فعل الشرط ، إذ لا جواب بعده ، كما قبح أن تقول : أقول إن تقل وآتيك إن تأتني ولو كان ماضيا لحسن كقولك : أقول إن قلت ، وآتيك إن أتيتني لأن الشرط لم يجزم ، وهذه الظروف التي يجازي بها لا تتمكن ولا يخبر عنها كما يخبر عن (ما) و (من) و (أيهم) ألا ترى أنك تقول ما تصنع قبيح على أن ما مبتدأ ، وتصنع في صلته وقبيح خبره ، ولا يجوز مهما تصنع قبيح ؛ لأن مهما لا يخبر عنها ، وتقول : في الكتاب ما تقول ـ بمعنى مكتوب عندي ما تقول ـ فتكون (ما) مبتدأ بمنزلة (الذي) ، و (تقول) صلتها ، و (في الكتاب) خبر مقدّم ، كما يقول : في الدار صنيعك ، ولا يجوز على هذا : في الكتاب مهما تقول ، إذا جعلت (تقول) صلة لمهما كما تجعلها صلة لما.
هذا باب ما تكون فيه الأسماء التي يجازى بها بمنزلة (الذي)
وذلك قولك : إن من يأتيني آتيه ، وكان من يأتيني آتيه ، وليس من يأتيني آتيه.
وإنما أذهبت الجزاء من هاهنا لأنك أعلمت (كان) و (إنّ) لم يسغ لك أن تدع (كان) وأشباهه معلقة لا تعملها في شيء ، فلما أعملهنّ ذهب الجزاء ، ولم يكن من مواضعه ؛ ألا ترى أنك لو جئت ب (أن) و (متى) كان محالا. فهذا دليل على أن الجزاء لا ينبغي له هاهنا ب (من) و (ما) و (أيّ) ، فإن شغلت هذه الحروف بشيء جازيت.
فمن ذلك قولك : إنه من يأتنا نأته ، وقال الله ـ تعالى ذكره ـ : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ)(١) وكنت من يأتني آته ، وتقول : كان من يأته يعطه ، وليس من يأته يحببه ، إذا أضمرت الاسم في كان أو في ليس ، لأنه حينئذ بمنزلة (لست) و (كنت) ، فإن لم تضمر فالكلام على ما ذكرناه وقد جاء في الشعر : إن من يأتني آته قال الأعشى :
إنّ من لام في بني بنت حسّا |
|
ن ألمه وأعصه في الخطوب (٢) |
وقال أميّة بن أبي الصلت :
ولكنّ من لا يلق أمرا ينوبه |
|
بعدّته ينزل به وهو أعزل (٣) |
فزعم أنه إنما جاز حيث أضمر الهاء ، وأراد (إنه) ، و (لكنه) كما قال الرّاعي :
فلو أنّ حقّ اليوم منكم إقامة |
|
وإن كان سرح قد مضى فتسرّعا (٤) |
أراد : فلو أنه حقّ ، ولو لم يرد الهاء كان الكلام محالا.
وتقول : قد علمت أنّ من يأتني آته ، من قبل أنّ (أن) هاهنا فيها إضمار الهاء ، ولا تجئ مخففة إلا على ذلك كما قال :
أكاشره وأعلم أن كلانا |
|
على ما شاء صاحبه حريص (٥) |
__________________
(١) سورة طه ، الآية : ٧٤.
(٢) البيت في ديوانه ٢١٩ ، ابن يعيش ٣ / ١١٥ ؛ الكتاب ٣ / ٧٢.
(٣) البيت في ديوانه ، الكتاب ٣ / ٧٣.
(٤) البيت في ديوانه ١٦٧ ، الخزانة ١١ / ٤٥١.
(٥) البيت ورد منسوبا لعدي بن زيد ؛ ولعمرو بن جابر الحنفي في حماسة البحتري ١٨ ، ابن يعيش ١ / ٥٤ ؛ الكتاب ٣ / ٧٣ ، ٧٤.
ولا يجوز أن تنوي في (كان) وأشباه (كان) علامة إضمار المخاطب ، ولا تذكرها لو قلت : ليس من يأتك تعطه ، تريد لست لم يجز ولو جاز ذا لقلت : كان من يأتك تعطه تريد به كنت.
قال الأعشى :
في فتية كسيوف الهند قد علموا |
|
أن هالك كلّ من يحفى وينتعل (١) |
فهذا يريد معنى الهاء.
ولا يخفّف (أن) إلا عليه كما قال : قد علمت أن لا يقول وأي إنّه لا يقول ، وقال تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً)(٢) وليس هذا بقوي في الكلام كقّوة (أن لا يقول) لأن لها عوض من ذهاب العلامة ، ألا ترى أنهم لا يكادون يتكلمون به بغير الهاء ، فيقولون : قد علمت أن عبد الله منطلق.
قال أبو سعيد : قد ذكرنا أن الاسم الذي يجازى به لا يعمل فيه إلا فعل الشرط ، أو ما يتصل بفعل الشرط والابتداء ، فإذا دخل عليها مما قبلها ما ينصبها أو يرفعها أو يخفضها لم يجاز بها وبطل عملها ، فلما قلت :
إنّ من يأتيني ، وكان من يأتيني ، انتصب (من) بإن ، وارتفع بكان ، فبطل تضمنها لحرف المجازاة لاستحالة وقوع حرف المجازاة بعد هذه العوامل ، ومن أجل هذا قال سيبويه : ((فلما أعملتهن ... يعني العوامل ـ في (من) ذهب الجزاء ولم يكن من مواضعه ، ألا ترى أنك لو جئت (بأن) و (متى) كان محالا ، فاستدل باستحالة وقوع (إن) و (متى) بعد كان وأشباهه إن (من) لا تقع بعدهن إذا كانت للمجازاة لتضمنها معنى (إن) وذكر متى معها ، لأن (متى) وإن كانت اسما لا تدخل عليها العوامل التي تدخل على (من ، وما ، وأي) لأن هذه الأسماء يخبر عنها ، ويدخل عليها جميع العوامل التي تدخل على الأسماء المتمكنة ، و (متى) لا يخبر عنها ، وكذلك (أين ، وحيثما ، وأنّى) فإذا شغلت هذه العوامل بشيء ، فصار الموضع بعده موضعا يقع فيه المبتدأ جاز أن يقع (من ، وما ، وأي) للمجازاة نحو قولك : إنه من يأتني آته ، وكنت من يأتني آته ، وكان من يأته يعطه إذا أضمرت فيه اسما جرى ذكره ، وكذلك إن جعل فيه ضمير الأمر والشأن كقولك : كان من يأت زيدا يكرمه ، والأبيات التي أنشدها فيها كلها ضمير محذوف منصوب من (أنّ)
__________________
(١) البيت في ديوانه ١٠٩ ، الكتاب ٢ / ١٣٧ ، ٣ / ٧٤ ؛ المقتضب ٣ / ٩.
(٢) سورة طه ، الآية : ٨٩.
و (لكنّ) ، فصار ما بعدها موضع ابتداء وخبر مثله.
إنّ من يدخل الكنيسة يوما |
|
يلق فيها جآزرا وظباء (١) |
ومعناه إنه ، ولذلك لو خفّفت (إنّ) والاسم فيها ضمير ـ كقوله :
ويكأن من يكن له نشب يحبب |
|
ومن يفتقر يعش عيّش ضر (٢) |
لأنه موضع يقع فيه ابتداء وقد عملت أن في المضمر ، ولم يجز أن تنوي في كان وأشباهه علامة إضمار المخاطب ، ولا تذكرها لأن علامة إضمار المخاطب في ليس ، وكان كعلامة المخاطب في الفعل الماضي ، وهي تاء ملفوظ بها كقولك : قمت وذهبت ولا يجوز حذفها لأنها فاعل ، والفاعل لا يحذف ، فيبقى الفعل فارغا من الفاعل ؛ ومن وجه آخر وهو أن علامة الفاعل المخاطب بعض صيغة الفعل ، فلو حذفناها بقي كن في معنى كنت وليس في معنى لست وهذا محال ، لأنكّ لا تقول : كن من يأتك تأته ، وليس من يأتك تأته ، فإذا كان الفعل مستقبلا جاز أن تنوي لأنه ليس له علامة ملفوظ بها ، وذلك قولك للمخاطب : تكون من يأتك تأته ، وفي (تكون) ضمير الفاعل المخاطب ، وفي بيت الأعشى :
أن هالك كل من يحفى وينتعل (٣)
وفي حاشية كتاب أبي بكر مبرمان : هذا معمول ، والبيت :
أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل (٤)
قال أبو سعيد :
الشاهد في كلتا الروايتين واحد لأنه في إضمار الهاء في (إنّ) وتقديره إنه هنالك وإنه ليس ، وباقي الباب مفهوم.
هذا باب يذهب فيه الجزاء من الأسماء كما ذهب في (إن)
و (كان) وأشباههما
غير أنّ (إنّ وكان) عوامل فيما بعدهن ، والحروف في هذا الباب يحدثن فيما
__________________
(١) البيت ورد منسوبا إلى الأخطل ، ابن يعيش ٣ / ١١٥.
(٢) البيت ورد منسوبا لزيد بن عمرو بن نفيل ، ابن يعيش ٤ / ٧٦ ؛ الكتاب ، ٢ / ١٥٥.
(٣) عجز بيت سبق تخريجه.
(٤) البيت ورد منسوبا للأعشى في ديوانه ٤٥.
بعدهنّ من الأسماء ما أحدثت (إنّ وكان) وأشباههما لأنهما من الحروف التي تدخل على المبتدإ والمبني عليه ، فلا تغيّر الكلام عن حاله ، وسأبين لك كيف ذهب الجزاء فيهنّ إن شاء الله.
فمن ذلك قوله : أتذكر إذ من يأتينا نأتيه ، وما من يأتينا نأتيه ، وأما من يأتينا فنحن نأتيه.
وإنما كرهوا الجزاء هاهنا لأنه ليس من مواضعه ، ألا ترى أنه لا يحسن أن تقول : أتذكر إذ إن تأتنا نأتك ، كما لم يجز أن تقول : إنّ إن تأتنا نأتك ، فلما صار هذا الباب باب (إنّ وكان) كرهوا الجزاء فيه ، وقد يجوز في الشعر أن يجازى بعد هذه الحروف ، فيقول : أتذكر إذ من يأتنا نأته ، وإنما أجازوه لأنّ (إذ) وهذه الحروف تغير ما دخلت عليه عن حاله قبل أن تجيء بها ، فقالوا : ندخلها على من يأتنا نأته ، وتغيّر الكلام ، كأنا قلنا : من يأتنا نأته ، كما أنا إذا قلنا : إذ عبد الله منطلق كأنا قلنا : عبد الله منطلق ؛ لأنّ (إذ) لم تحدث شيئا لم يكن قبل تذكرها.
فقال لبيد :
على حين من تلبث عليه ذنوبه |
|
يجد فقدها وفي المقام تدابر (١) |
ولو اضطر شاعر فقال : أتذكر إذ إن تأتنا نأتك جاز له ، كما كان في (من) وتقول : أتذكر إذ نحن من يأتنا نأته ، فنحن فصلت بين (إذ) و (من) ، كما فصل الاسم في كان بين (كان) و (من). وتقول : مررت به فإذا من يأتيه يعطيه. وإن شئت جزمت لأن الإضمار يحسن هاهنا ، ألا ترى أنك تقول : مررت به فإذا أجمل الناس ، ومررت به فإذا أيّما رجل. فإذا أردت الإضمار فكأنك قلت : فإذا هو من يأته يعطه ؛ فإن لم تضمر ، وجعلت إذا هي لمن ، فهي بمنزلة (إذ) لا يجوز فيها الجزم.
وتقول : لا من يأتك تعطه ولا من يعطك تأته من قبل أن (لا) ليست كإذ وأشباهها ، لأنها لغو بمنزلة (ما) في قول الله ـ تبارك وتعالى ـ (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ)(٢) فما بعده كشيء ليس قبله لا ، ألا تراها تدخل على المجرور فلا تغيّره عن حاله ، تقول : مررت برجل لا قائم ولا قاعد ، وتدخل على النصب فلا تغيره عن حاله
__________________
(١) البيت في ديوانه ٢١٧ ؛ الخزانة ٣ / ٦٤٩ ؛ الكتاب ٣ / ٧٥.
(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٩.
تقول : لا مرحبا ولا أهلا ، ولا تغير الشيء عن حاله التي كان عليها قبل أن ينفيه ، ولا ينفيه مغيّرا عن حاله يعني في الإعراب الذي كان ، فصار ما بعدها معها بمنزلة حرف واحد ليست فيه (لا) و (إذا) وأشباهها لا يقعن هذه المواضع ، ولا يكون الكلام بعدهن إلا مبتدأ قال ابن مقبل :
وقدر ككفّ القرد لا مستعيرها |
|
يعار ولا من يأتها يتدسّم (١) |
ووقوع (إن) بعد (لا) يقويّ الجزاء فيما بعد لا.
وذلك قول الرجل : لا إن أتيناك أعطيتنا ، ولا إن قعدنا عندك عرضت علينا ، و (لا) لغو في كلامهم.
ألا ترى أنّك تقول : خفت ألّا يقول ، ويجري مجرى خفت أن تقول.
وتقول : إن لا تقل أقل ، فلا لغو. وإذا وأشباهها ليست هكذا إنما يصرفن الكلام أبدا إلى ابتداء.
وتقول : ما أنا ببخيل ولكن إن تأتني أعطك ، جاز هذا وحسن لأنك قد تضمرها هنا كما تضمر في (إذا) ، ألا ترى أنك تقول :
ما رأيتك عاقلا ولكن أحمق ، فإن لم تضمر تركت الجزاء ، كما فعلت ذلك في (إذا) فاصرفه ، قال طرفة :
ولست بحلّال التّلاع مخافة |
|
ولكن متى يسترفد القوم أرفد (٢) |
كأنه قال : أنا ولا يجوز في (متى) أن يكون الفعل وصلا لها ، كما جاز في (من) و (الذي) وسمعناهم ينشدون قول العجير السلولي :
وما ذاك أن كان ابن عمّي ولا أخي |
|
ولكن متى ما أملك الضرّ أنفع (٣) |
والقوافي مرفوعة كأنه قال : ولكن أنفع متى ما أملك الضرّ ، ويكون أملك على متى في موضع جزاء ، وما لغو. لا نجد سبيلا إلى أن يكون بمنزلة (من) فتوصل ، ولكنها كمهما.
وأما قول الله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ)(٤)
__________________
(١) البيت في ديوانه ٣٩٥ ، الكتاب ٣ / ٧٧.
(٢) البيت في ديوانه ٢٩ ، الخزانة ٩ / ٦٦ ، ٦٧ ؛ الكتاب ٣ / ٧٨.
(٣) البيت في ديوانه ، الخزانة ٩ / ٦٦ ، ٧٠ ، ٧٣ ؛ والكتاب ٣ / ٧٨.
(٤) سورة الواقعة ، الآيتان : ٩٠ ، ٩١.
فإنما هو كقولك : أما غدا فلك ذاك. فحسنت لأنه لم يجزم بها ، كما حسنت في قوله : ((أنت ظالم إن فعلت)).
وأبو الحسن يراه جوابا لهم جميعا ، ولا يجيز ذلك إذا جزم لأنه يخلص الجواب للجزاء.
قال أبو سعيد :
((أما كراهة المجازاة بعد (إذ) ففي لفظ سيبويه ما يدل على أن من قبله كره ذلك ، إما من النحويين وإما من العرب ، ولعلهم كرهوا ذلك من أجل أن (إذ) اسم للوقت ، وكان حقه أن يضاف إلى اسم واحد ، وما يضاف إلى اسم واحد لا يقع بعده مجازاة لأنه يجر ما بعده ، وموضع المجازاة لا يكون مجرورا بما قبله ، وقد مض الكلام في ذلك ، ثم أجازه في الشعر لوقوع الاسم المبتدأ والخبر بعده ، وبعد ما كان في معناه من أسماء الزمان ، وأنشد قول لبيد :
عل حين من تلبث عليه ذنوبه |
|
يجد فقدها وفي المقام تدابر (١) |
ويروى : تداثر ، وهذا مثل ، وإنما يصف لبيد مجلسا فاخر فيه القبائل بين يدي بعض الملوك فظهر عليهم وغلبهم وذلك قوله :
وزدت معدّا والعباد وطيّئا |
|
وكلبا كما زيد الخماس البواكر (٢) |
على حين من تلبث عليه ذنوبه.
أراد شدة الكلام في المجالس ، وإن من أبطأت عنه الحجة في الامتحان فقد غلب ، ومعنى تداثر : تزاحم وتكاثر ، ومعنى تدابر تقاطع ، لأن ما هم فيه من الشدة يحملهم على أن لا يلوي الواحد منهم على قرابته ويحمله على أن يقاطعه فإذا كان بعد (إذ) اسم حسن بعد ذلك الاسم المجازاة كقولك : أتذكر إذ نحن من يأتنا نأته ، لأن (نحن) في موضع مبتدإ وما بعده خبره ، فصار كقولك : زيد من يأته يكرمه ، وعلى هذا الوجه استحسن سيبويه مررت به فإذا من يأته يعطه على تقدير فإذا هو من يأته يعطه ، وإضمار (هو) كثير بعد إذ مستحسن ، كقولك : مررت به فإذا أجمل الناس ، ومررت به فإذا أيما رجل على معنى فإذا هو أجمل الناس ، وإذا هو أيما رجل ، وإن لم تقدّر (هو) بعد إذا قلت مرت به فإذا من يأتيه يعطيه ، (من) بمعنى الذي ، ويأتيه صلتها ، ويعطيه خبرها ، وهو بمنزلة (فإذا زيد
__________________
(١) البيت سبق تخريجه.
(٢) البيت ورد منسوبا للبيد بن ربيعة في ديوانه ٢١٦ ، الخزانة ٩ / ٦٣.
يعطيك) ، واستحسن المجازاة بعد لا كقولك : لا من يأتك تعطه ، ولا من يعطك تأته ، وكقوله :
... ولا من يأتيها يتدسّم (١)
لأن (لا) لا تفصل بين العامل والمعمول فيه في قولك : فمررت برجل لا قائم ولا قاعد.
وقال الشاعر :
ما لقي البيض من الحرقوص |
|
يدخل تحت الفلق المرصوص |
بمهر لا غال ولا رخيص (٢) |
وفي قولك : خفت أن لا يقول ، كما تقول : خفت أن تقول ، وجعلها لغوا لأنها لا تفصل بين العامل والمعمول فيه كما أنّ (ما) في قول الله ـ تبارك وتعالى ـ : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ)(٣) لم تفصل بين الباء وبين رحمة ، وقوّى أيضا المجازاة (بمن) بعد (لا) وقوع (إن) بعدها في قولهم :
لا إن أتيناك أعطيتنا ، ولا إن قعدنا عنك عرضت علينا ، وذلك أنها تدخل في الكلام فلا تغيّره عن حده في الإيجاب ، لأنه ينفي على ما كان موجبا ، كقولك : لا مرحبا ولا أهلا بزيد ولا سلام على بكر ، على قولك : مرحبا وأهلا بزيد وسلام على بكر ، ولكن بمنزلة (إذا) في حسن إضمار الابتداء بها ، فحسنت المجازاة على ذلك التقدير ، ألا ترى أنّك تقول : ما رأيتك عاقلا ولكن أحمق ، ومنه ما أنا ببخيل ولكن إن تأتني أعطك ، ومنه قول طرفة :
ولكن متى يسترفد القوم أرفد (٤)
على تقدير : ولكن أنا متى ؛ وقد تقدم قولنا أن متى لا توصل بالفعل ولا تغيّره ، كما يوصل الذي ، ومن ، وما ، وأيّهم ، لأنه لا يخبر عن (متى) كما يخبر عن هذه الأسماء.
وقوله :
__________________
(١) عجز بيت سبق تخريجه.
(٢) لم تقف عليه فيما أتيح لنا من مصادر.
(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٩.
(٤) عجز بيت ثم تخريجه.
متى ما أملك الضّرّ أنفع (١)
تقديره : ولكن أنفع متى ما أملك الضّرّ ، وفيه قبح لأنه جزم الشرط ، وليس بعده جواب ، وقبحه كقبح قولك : أكرمك إن تأتني ، وقد ذكرناه ، ولا بد لمتى هاهنا من المجازاة ، وجزم (أملك) لأنها لا تنصرف إلى مذهب (من) وأخواتها ، فيرفع الفعل بعدها صلة لها ، وقول الله ـ عزوجل ـ : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ* فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ)(٢).
تقديره : مهما يكن من شيء فسلام لك من أصحاب اليمين إن كان من أصحاب اليمين ، فالفاء وما بعدها جواب (مهما) ، ثم جعلت (أما) في معنى مهما والشرط ، وعوّضوا من المحذوف تقديم بعض ما بعد الفاء ، وسلام لك مبتدأ وخبر مغن عن إن كما يغني عنه قولك : أنا مكرمك ، ويحتمل أن يكون التقدير : مهما يكن من شيء ، فإن كان من أصحاب اليمين فسلام ، فيكون فاء إن إحداهما لأمّا والأخرى لجواب إن ، فلما جعل مكانها أمّا وحذف الشرط وقدّم (إن كان) التقت الفا أن ، فأغنت إحداهما عن الأخرى ، وهذا يحتمله مذهب أبي الحسن لأنه يجعله جوابا لهما ، ولا يحسن جزمه ، ولو قلت : وأما إن يكن من أصحاب اليمين لم يحسن لأنّا إن جزمناه وقدرناه بعد سلام لك كانت جازمة لا جواب بعدها ، فتأمل ذلك إن شاء الله.
هذا باب إذا لزمت فيه الأسماء التي يجازى بها حروف الجر لم
تغيّرها عن الجزاء
وذلك قولك : على أيّ دابة أحمل أركبه ، وبمن تؤخذ أو خذ به ، هذا قول يونس والخليل جميعا.
فحروف الجر لم تغيّرها عن الاستفهام ألا ترى أنك تقول :
بمن تمرّ ، وعلى أيّها أركب ، فلو غيرّتها عن الجزاء غيرتها عن الاستفهام ، وقال ابن همّام :
لمّا تمكّن دنياهم أطاعهم |
|
في أيّ نحو يميلوا دينه يمل (٣) |
__________________
(١) عجز بيت سبق تخريجه.
(٢) سورة الواقعة ، الآيتان : ٩٠ ، ٩١.
(٣) البيت في ديوانه ، الكتاب ٣ / ٨٠ ؛ ولسان العرب ٣ / ٤١٤ (مكن).
وذلك لأن الفعل إنما يصل إلى الاسم بالباء ونحوها ، فالفعل مع الباء بمنزلة فعل ليس قبله حرف جر ، ولا بعده ، فصار الفعل الذي يصل بإضافة كالفعل الذي لا يصل بإضافة ؛ لأن الفعل يصل بالجر إلى الاسم كما يصل غيره رافعا وناصبا فالجر هاهنا نظير الرفع والنصب في غيره.
فإن قلت : بمن تمرّ به أمرّ ، وعلى من تنزل عليه أنزل ، وبما تأتيني به آتيك ، رفعت لأن الفعل إنما أوصلته إلى الهاء بالباء الثانية ، والباء الأولى للفعل الآخر ، فتغيّر عن حال الجزاء ، كما تغير عن حال الاستفهام ، فصارت بمنزلة (الذي) لأنك أدخلت الباء للفعل خبرا وصلت الفعل الذي يلي الأسماء بالباء الثانية إلى الهاء ، فصارت الأولى ك (كان) و (إنّ) وعملت الباء فيما بعدها عمل كان وإنّ فيما بعدهما.
وقد يجوز أن تقول : بمن تمر أمر ، وعلى من تنزل أنزل ، إذا أردت معنى عليه وبه وليس بحدّ الكلام وفيه ضعف ، ومثل ذلك قول الشاعر ، وهو بعض الأعراب :
إنّ الكريم وأبيك يعتمل |
|
إن لم يجد يوما على من يتّكل (١) |
ويقول : غلام من تضرب أضربه ، لأن ما يضاف إلى من بمنزلة من ، ألا ترى أنك تقول : أبو أيّهم رأيته. وتقول : بغلام من تؤخذ أوخذ به ، كأنك قلت : بمن تؤخّذ أؤخذ به ، وحسن الاستفهام هاهنا يقوّي الجزاء ، تقول : غلام من تضرب ، وبغلام من مررت ، ألا ترى أن كينونة الفعل غير واصل ثانية.
ويقول : بمن تمرر أمرر به ، وبمن تؤخذ أوخذ به ، فحدّ الكلام أن تثبت الباء في الآخر ، لأنه فعل لا يصل إلا بحرف إضافة يدلك على ذلك أنك لو قلت :
من تضرب أنزل لم يجز حتى تقول : عليه ، إلا في شعر.
فإن قلت : بمن تمرر أمرر ، وبمن تؤخذ أؤخذ ، فهذا أمثل ، وليس بحد الكلام ، وإنما كان في هذا أمثل ، لأنه قد ذكر الباء في الفعل الأول فعلم أن الآخر مثله لأنه ذلك الفعل.
قال أبو سعيد :
قد تقدم أن الاسم الذي يجازى به إذا عمل فيه ما قبله بطلت المجازاة ، إلا يكون
__________________
(١) البيت في الخزانة ٤ / ٢٥٢ ؛ الكتاب ٣ / ٨١.
العامل حرف جر في صلة فعل الشرط ، أو اسما مضافا قد نصبه فعل الشرط أو مبتدأ مضافا ؛ فإذا قلت :
على أي دابّة أحمل أركبه ، فعلى في صلة أحمل الذي هو شرط ، فلذلك لم تبطل المجازاة ، واركبه الجواب وكذلك بمن تؤخذ أوخذ ، الباء في بمن في صلة تؤخذ ، والحجة في جواز تقدّمها في المجازاة إذا كان العامل فيها ما بعدها كالحجة في جواز تقدمها في الاستفهام إذا كان العامل لا يجوز فيها ما بعدها.
كقولك : بمن تمر ، ولو قدمت العامل فيهما لم يجز ، لا يجوز تمرّ بمن في الاستفهام ، ولا تؤخذ بمن أوخذ به ، وعلى هذا تقول في الاستفهام على أنها أركب وقوله :
في أيّ نحو يميلوا دينه يمل (١)
يميلوا هو الواقع على (في) فإذا قلت : بمن تمرّ به أمرّ ، وعلى أيّهم تنزل عليه أنزل ، فقد جعلت ما بعد ما وأيهم صلة لهما ، فأوجب ذلك أن يكونا بمنزلة الذي ، لأنهما في الاستفهام والمجازاة لا يحتاجان إلى صلة ، وتقديره بالذي تمرّ به أمّر ، وتمرّ فيه صلة الذي ، والعائد إلى الذي الهاء الذي في به بعد تمرّ ، والباء الواقعة على الذي في صلة أمرّ. وتقديره أمرّ بالذي تمرّ به ، وكذلك أنزل على الذي تنزل عليه ، وآتيك بالذي تأتيني به ، وقد يكتفون بأحد حرفي الجر ، ويحذفون الآخر ، وإن كان منويا ، وذلك في الذي في المجازاة ، كقولهم في معنى : الذي بمن تمر أمر تقديره بمنّ تمر به أمر ، واكتفوا بالباء الأولى والثانية منوية لأن الهاء في به المنوية هي العائدة إلى من ، وكذلك التقدير على من تنزل عليه أنزل ، وحذف عليه والهاء فيها هي العائدة إلى من ، ومثله في الاكتفاء بأحد الحرفين في كلامهم إنهم يقولون :
مررت ومرّ بي زيد ، ونزلت ونزل عليّ زيد تقديره مررت بزيد. ومرّ بي ، ونزلت على زيد ، ونزل عليّ فسوغت الثانية حذف الأولى ، ودلت عليه ، وقد يقول القائل : في أي شيء تصرّفني اتصرّف ، وإلى أين وجّهتني توجّهت ، والمعنى انصرف فيه ، وتوجهت إليه ، وعلى هذا قول ابن همام :
في أيّ نحو يميلوا دينه يمل
وأنشد سيبويه في ذلك :
__________________
(١) عجز بيت سبق تخريجه.