شرح كتاب سيبويه - ج ٣

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٣

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

متكلم به ، و (ما) بعدها للمجازاة.

والدليل على (مهما) قد تضمنت معنى (ما) أنه قد يعود إليها الضمير مما بعدها كما يعود إلى (ما) ، قال المتنخل الهذلي :

إذا سدته سدت مطواعة

ومهما وكلت إليه كفّاة (١)

ف (الهاء) في كفاه عائد إلى (مهما) ، كما تعود إلى (ما) ، ولا يكون مثل هذا العائد في أين ومتى ، لا تقل : أين تكن أكن فيه ، ولا متى تأتني آتك فيه وأما كيف ، فإن الخليل قال في المجازاة بها : هي مستكرهة ، ولم يحتج لذلك ، بل قوّى المجازاة بها حين قال : معناها : على أي حال تكن أكن.

قال أبو سعيد : أحتاج أن أبين أن (كيف) حقيقتها وموضوعها ، إنه اسم غير ظرف وإن كان قد يؤدي معناها قولهم (على أي حال) ، والدليل على ذلك إذا قلت : كيف هذا الثوب؟ فالجواب أن يقال : خشن أو لين أو طويل أو قصير ونحو ذلك.

وكذلك إذا قال : كيف زيد؟ فالجواب : سمح ، أو صعب ، أو شجاع أو جبان أو ما أشبه ذلك.

ولو قال : على أي حال زيد؟ لقلت : على حال شدة أو على حال رخاء وهذا ما يقتضيه لفظ السؤال.

ولو كان (كيف) ظرفا ، لم يمتنع دخول حروف الجر عليه كدخولها على متى وأين في قولك : إلى متى يكون هذا ؛ ومن أين أقبلت؟

فلو قال قائل : كيف زيد؟ فقيل في جوابه : على حال سيئة ، أو على حال صفة لجاز ، وليس بجوابه على الحقيقة والموضوع ، ولكن يجوز ذلك لأن معناها معنى سيئ الحال أو حسن الحال الذي هو الجواب المطابق للسؤال ب (كيف).

وقد اختصت (كيف) بأشياء ليست في نظائرها.

منها أنها اسم ليس بظرف ، لا يكون لها عائد ، ولا يخبر عنها كمن ، وما ، وأي ، تقول : من ضربته؟ وما أكلته؟ وأيّ أثبته؟ وتقول : من في الدار؟ وما عندك؟ وأيّ خلفك؟ ولا تقل : كيف ضربته؟ و (الهاء) عائدة إلى (كيف) ، ولا كيف في الدار؟ كما قلت : من في الدار ، على الابتداء أو الخبر.

ومنها أنه لا يكون جوابها إلا نكرة ، وجواب أخواتها يكون معارف ونكرات يقول

__________________

(١) البيت في ديوانه ٢ / ٣٠ ، الخزانة ٩ / ٢٦ ؛ ابن يعيش ٧ / ٤٣.

٢٦١

القائل : كيف زيد؟ فيقال له : سخي أو بخيل أو شجاع أو جبان ، ولا يجوز أن يقال : السخي ، ولا البخيل ولا الشجاع ولا الجبان.

وقد يقال في جواب (من زيد؟) : أخوك ، وزيد أخوك.

ويقال في جواب (ما طعامك؟) : اللحم والخبز ، ويقال : لحم وخبز ، وقد يقال في جواب (أي الناس زيد؟) : أخوك ، أو هذا ، أو نحوهما من المعارف.

ويقال : رجل بجنبك. ورجل في دارك ، أو نحو ذلك من النكرات.

فأما مع المجازاة بها ، ففيه قولان : أحدهما : أنه لما كان أخواتها معارف ونكرات ، وقصرت هي على أحد الأمرين ، ضعفت عن التصريف بها في المجازاة ، فالقول الآخر أنها لما لم يخبر عنها ، ولا يعود إليها ، كما يكون ذلك في : من ، وما ، وأي ، ضعفت عن تصريفها في مواضع نظائرها من المجازاة ، ولم تكن ضرورة مضطر إليها في المجازاة إذ كانت (على أي حال) تغني عنها كما قد ذكرناه.

وتركوا المجازاة ب (كم) لأن (ما) و (من) تغنيان عنها ، لأنهما في المجازاة لقليل ما يقعان عليه وكثيرة ، ألا ترى أنك إذا قلت : كما تسر أسر ، فمعناه : إن يسر قليلا أسر مثله ، وإن يسر كثيرا أسر مثله ، وليس المتكلم بعالم كمن يسير ، ولا هو مستدع من المخاطب تعريفه مقدار سيره ، وإنما وضعت (كم) ليتعرف بها المتكلم مقدار ما يسأل عنه ليقف عليه.

وأما المجازاة ب (إذا) فإن ما منع من المجازاة بها إلا في الشعر ، أن الذاكر لها في الكلام كالمعترف بأنها كائنة ، كقولك : إذا طلعت الشمس فأتني ؛ فالمتكلم معترف بطلوع الشمس ، وحق ما يجازى به ألا يدرى أيكون أم لا يكون ، كقولك : إن قدم زيد زرته ، وإن تمطر اليوم نجلس للحديث ، ولا يدري أتمطر اليوم أم لا ؛ ولذلك حسن : إذا احمر البسر فأتني ، وقبح : إن احمر البسر فائتني ، لإحاطة العلم أن احمر البسر كائن.

وإنما جاز المجازاة بها في الشعر لأنها قد شاركت (إن) في الاستقبال ، ولأن وقتها غير معلوم ، فأشبهت ـ لجهالة وقتها ـ ما لا يدري أيكون أم لا. وقد نستعمل (إذا) في الموضع الذي يحسن فيه (إن) ، ولا يتبين بينهما فرق للمشابهة التي بينها ، وكذلك تستعمل (إن) في موضع (إذا) ؛ قد يقول القائل : إن متّ فأخرجوا ثلث مالي للفقراء والمساكين ، وقال الله ـ تبارك وتعالى ـ : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ)(١) والموت كائن لا محالة ،

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٤٤.

٢٦٢

وقال الشاعر :

كم شامت بي أن هلكت

وقائل : لله درّه (١)

وقال آخر :

إذا أنت لم تنزع عن الجهل والخنا

أصبت حليما أو أصابك جاهل (٢)

وقد يجوز أن ينزع ، ويجوز ألا ينزع ، ولا يحيط العلم بأي ذلك يكون.

وقولهم : إن مات زيد كان كذا ، أحسن من قولك : إن احمر البسر ، لأن الموت وإن كان معلوما أنه كائن فلا يعرف وقته ، واحمرار البسر معروف الوقت.

وأما قوله :

إذا لم تزل في كلّ دار ... (٣)

فإن أبا عمر الجرمي كان يفسره : إذا لم تزل المرأة في كل دار عرفتها لها يسكب واكف من دمع عينيك ؛ وخبر (لم تزل المرأة) : في كل دار ؛ وجواب (إذا) : يسكب المضمرة قبل (واكف) ، وتفسيره (يسكب) الذي في آخر البيت ؛ ومثله في الكلام لو تكلم به : إذا لم يزل زيد قائما عمرو يقم ، على معنى : يقم عمرو يقم. وقرب (واكف) من المعرفة لأنه موصول منعوت بقوله : من دمع عينيك.

وقال الأخفش : إذا لم تزل عينك في هذه الدار واكف سجمت ، وجعل (لها واكف) خبر (لم تزل) و (تسجم) جواب (إذا) وذكرت : يسكب ، ويسجم ، لأن البيت يروى على الوجهين.

وقوله : وينجزم الجواب بما قبله ، ويجوز أن يكون بجملة ما قبله ، وهو (إن) والشرط ، ويحتمل أن يكون ب (إن) وحدها ؛ والاختيار عندي أن يكون ب (إن) وحدها ، وقد مضى ذكر اختياري رفع خبر الابتداء بالابتداء.

وأما قول الخليل : (إن) هي أم حروف الجزاء ، فلأنها تدخل على الجزاء. في جميع وجوهه ، وليست كذا سائر ما يجازى به ، لأن (من) يجازى بها فيما يعقل ، و (ما) فيما لا يعقل ، و (أي) فيما يبعض ، و (متى) للزمان ، و (أين) و (حيثما) للمكان ، (وأنى) نحو من ذلك ، و (إذ ما) يتكلم بها القليل منهم ، وما كل العرب تعرفها.

__________________

(١) البيت ورد منسوبا للنابغة الجعدي في ديوانه ١٩١ ؛ ابن يعيش ٩ / ٤.

(٢) البيت ورد منسوبا لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ٣٠.

(٣) البيت ورد منسوبا إلى رجل من بني سلول ، سبق تخريجه.

٢٦٣

ومما يدل على أن (إن) أم حروف الجزاء ، أنها قد يسكت ةعليها ويحذف الشرط بعدها والجواب ، ولا يفعل ذلك بغيرها ، يقول القائل : لا آتى الأمير لأنه جائر ، فيقال : ائته وإن : وكذلك : لا أصلي خلف فلان لأنه أعمى ، فيقال : صل خلفه وإن ؛ يراد بذلك : وإن كان جائرا ، وإن كان أعمى فصل خلفه ، وأنشد بعض النحويين في ذلك :

قالت سليمى ليت لي بعلا يمن

يغسل عن جلدي وينسينّي الحزن

وحاجة ليس لها عندي ثمن

مستورة قضاؤها منه ومن

قالت بنات العمّ يا سلمى وإن

كان عييّا معدما قالت وإن (١)

والذي أحوج إلى إدخال (الفاء) في جواب الجزاء ، أن أصل الجواب أن يكون مستقبلا ، لأنه شئ مضمون فله إذا فعل الشرط ، أو وجد مجزوما ملتبسا بما قبله من الشرط ، ف (إن) هي التي تربط أحدهما بالآخر ، ثم عرض في الكلام أن يجازى بالابتداء والخبر لنيابتهما عن الجواب ، و (إن) لا تعمل فيهما ، ولا يقعان موقع فعل مجزوم ؛ فآتوا بحرف يقع بعده الابتداء والخبر ، وجعلوه مع ما بعده في موضع الجواب ، وذلك قولك : إن تزرني فعندي سعة ، وإن تأتني فالمنزل لك ؛ واختاروا (الفاء) دون (الواو) ودون (ثم) لأن حق الجواب أن يكون عقيب الشرط متصلا ؛ لأنه بالشرط يستوجب ، ومن أجل وقوعه يقع ، و (الفاء) توجب ذلك لأنها في العطف بعد الذي قبله ، متصل به ؛ وتركوا (الواو) لأنها لا تدل على الترتيب ؛ وعدلوا عن (ثم) لأن بينها وبين ما قبلها أكثر من مهلة (الفاء).

وقد حذفت العرب (الفاء) في الجواب في ضرورة الشاعر ، وسهل ذلك أن أصل الجواب لا يكون فيه (فاء) على ما ذكرناه ، وتقديره : من يفعل الحسنات فالله ، ويروى : فالرحمن ، والذي قبله : من يفعل الخير فالرحمن يشكرها ؛ وليس في هذه الرواية ضرورة ((وينكع العنز ظالما)) تقديره : فهو ظالم ؛ ويكثر في المجازاة حذف المبتدإ بعد (الفاء) لأنه يجري ذكره في الشرط كقولك : إن تأتني فمحبوب ؛ لأن المخاطب قد جرى ذكره في الشرط كقولك : إن تأتني فمحبوب ، وإن يزرني زيد فمكرم ، تقديره : فأنت محبوب ، لأن المخاطب قد جرى ذكره في (تأتني) ، وإن يزرني زيد فهو مكرم ، لأنه قد جرى ذكره.

وأما قوله : إن تأتني لأفعلن ، ففيه وجهان :

__________________

(١) الأبيات منسوبة إلى رؤبة بن العجاج في ديوانه ١٨٦ ؛ والخزانة ٣ / ٣٦٠.

٢٦٤

الأول : تقدير (الفاء). إن تأتني فلأفعلن.

والآخر : نية التقديم. كأنه قال : لأفعلن إن تأتني.

وكلاهما غير حسن ، أما حذف (الفاء) فقد ذكرناه آنفا ، وأما التقديم فإنه لا يحسن مع جزم الشرط ب (إن) ، فإذا لم ينجزم بها حسن كقولك : إن أتيتني لأكرمنك ، وإن لم تأتني لأغمنك ؛ ومن أجل هذا ألزموا الشرط الفعل الماضي في اليمين ، كقولك : والله لئن أتيتني لأكرمنّك ، وو الله لئن جفوتني لا أزورك ، لأن جواب اليمين يغني عن جواب الشرط ، ويبطل جزمه ، ويصير بمنزلة ما ذكر قبله ، كأنه قال : والله لا أزورك ؛ وإنما صارت (إن) إذا جزمت اقتضت مجزوما بعدها ، لأنها بجزمها ما بعدها يظهر أنها تجزم ، وجزمها يتعلق بفعلين ، فإذا لم يظهر جزمها في الثاني صارت بمنزلة حرف جازم لا يؤتى بعده بمجزوم ؛ ومن أجل ذلك قال الله ـ تبارك وتعالى ـ : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)(١) فقال : لنكونن ، لأن جزم (تغفر) بلم لا ب (إن) ؛ وقال : (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٢). لما كانت (إن) هي الجازمة ل (تغفر).

وأما قوله :

هذا سراقة للقرآن يدرسه (٣)

فذكر الأصمعي أن هذا البيت قديم ، وأن أبا عمرو أنشده إياه ، و (الهاء) في (يدرسه) للمصدر تقديره : للقرآن يدرس درسا ، وكني عن الدرس.

ولو قلنا : ضربته زيدا على هذا التأويل لجاز تقديره : ضربته الضرب زيدا وكني عنه ، لأن الضرب قد دل عليه ضربت ، ولا يحسن أن تكون (الهاء) ضمير القرآن ، لأن القرآن وإن كانت فيه (اللام) ، فقد جعل بمنزلة المفعول ، واللام في صلة (يدرس) ؛ ولو قلت : القرآن يدرسه لم يجز أن ينصب القرآن بيدرس ، و (الهاء) ضميره.

وكذلك قول الله ـ عزوجل ـ : (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)(٤) ، ولا يجوز (يرهبونه) و (الهاء) للرب ـ جل وعز ـ ، ومثل هذا قول زهير بن جناب :

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٢٣.

(٢) سورة هود ، الآية : ٤٧.

(٣) صدر بيت سبق تخريجه.

(٤) سورة الأعراف ، الآية : ١٥٤.

٢٦٥

من كل ما نال الفتى

قد نلته إلا التحية (١)

على معنى : قد نلت النيل ، وحق الكلام : من كل ما نال الفتى قد نلت ، كأنه قال : كل ما نال الفتى قد نلت ؛ ومن أجل (الهاء) كان الأصمعي ينكر هذه الرواية ، ويروي :

ولكل ما نال الفتى قد نلته

وكان لا يتوهم في (نلته) المصدر.

وأما جعلهم (إذا) في موضع (الفاء) في الجواب ، فيمكن أن يكون تشبيها ب (إذا) التي للمفاجأة ؛ لأن الشرط يؤدي إلى الجواب ، فكأنه هجم عليه وأثاره. وكذلك طريق المفاجأة ، ألا ترى أنك إذا قلت : " أصابتهم سيئة فإذا هم يقنطون" (٢) كانت مفاجأة ؛ وإصابة السيئة هجمت بهم على القنوط ، وإذا دخل حرف الجزاء صار شرطا وجزاء ، واكتفى ب (إذا) من (الفاء) ، واستقبح ذكر (الفاء) معها في المجازاة.

وقد يجزم الجواب وإن كان الشرط غير مجزوم ، وأحسن ذلك أن يكون الشرط ب (كان) لقوة (كان) في باب المجازاة ، ووقوعها على كل ماض ومستقبل ، وذلك في قول الله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها)(٣) ، ولو لا (كان) لم يقو إلّا الاستقبال ، لأن قولك : (إن تأتني آتك) أحسن من (إن أتيتني آتك) ، وإنما يجيء في الشعر أكثره.

وقول سيبويه : إن تأتني فأكرمك ، (أكرمك) عنده مرفوع ، لأنه واقع موقع الابتداء ، أي : فأنا أكرمك ، وإنما ذهب إلى هذا لأن دخول (الفاء) إنما احتيج إليه بسبب المبتدإ والخبر على ما ذكرته قبيل هذا الفصل ، ولو لا ذلك لقال : إن تأتني أكرمك ، وباقي الباب مستغن عن شرحه بوضوح كلام سيبويه أو شرح نظيره.

هذا باب الأسماء التي يجازى بها وتكون بمنزلة (الذي)

وتلك الأسماء التي يجازى بها : من ، وما ، وأيهم. فإذا جعلتها بمنزلة (الذي) قلت : ما تقول أقول ، فتصير (تقول) صلة (ما) حتى تكمل اسما ، فكأنك قلت : الذي تقول أقول. وكذلك من يأتيني آتيه ، وأيّها تشاء أعطيك ، قال الفرزدق :

__________________

(١) البيت في ديوانه ، انظر المعمرين ٢٦ ؛ والتصريح ١ / ٣٢٦.

(٢) إشارة إلى الآية ٣٦ من سورة الروم.

(٣) سورة هود ، من الآية : ١٥.

٢٦٦

ومن يميل أمال السيف ذروته حيث

التقى من حفافى رأسه الشّعر (١)

وتقول : آتي من يأتيني ، وأقول ما تقول ، وأعطيك أيّها تشاء ؛ هذا وجه الكلام وأحسنه ، وذلك أنه قبح أن يؤخّر حرف الجزاء ، إذا جزم ما بعده ؛ فلما قبح ذلك حملوه على (الذي) ، ولو جزموه هاهنا لحسن أن تقول : آتيك إن تأتني ؛ وإذا قلت : آتي من أتاني ، فأنت بالخيار ، إن شئت كانت (أتاني) صلة ، وإن شئت كانت بمنزلتها في (إن).

فقد يجوز في الشعر : آتي من يأتني ، وقال الهذلي :

فقلت تحمّل فوق طوقك إنّها

مطيّعة من يأتها لا يضيرها (٢)

هكذا أنشدناه يونس كأنه قال : لا يضيرها من يأتها ، كما كان : وإني متى أشرف ناظر ـ على القلب ـ ولو أريد به حذف (الفاء) جاز ، فجعلت ك (إن).

وإذا قلت : أقول مهما تقل ، وأكون حيثما تكن ، وأكون أين تكن ، وآتيك متى تأتني ، وتلتبس بها أنى تأتها ، لم يجز إلا في الشعر ، وكان جزما ، من قبل أنهم لم يجعلوا هذه الحروف بمنزلة ما يكون محتاجا إلى الصلة حتى تكمل اسما ، ألا ترى أنه لا يقال : لها تصنع قبيح ، ولا في الكتاب مهما تقول ، إذا أراد أن يجعل القول وصلا ، فهذه الحروف بمنزلة (إن) ، لا يكون الفعل صلة لها ، فعلى هذا فأجز ذا الباب.

قال أبو سعيد : هذه الأسماء التي يجازى بها المذكورة في هذا الباب ، إنما يجازى بها إذا كانت مبتدأة في اللفظ ، غير واقع عليها عامل خافض ولا غيره.

وهذه الأسماء إن جرت مجرى (إن) في كونها صدورا ، إذا جوزي بها فإنها تدخلها الأشياء الخافضة إذا كانت في صلة ما بعدها ، أو كانت مبتدأة ، وذلك للضرورة المؤدية إلى ذلك فيها دون أن تقول : بمن تمرر أمرر به ، وعلى أيهم تنزل أنزل عليه ، وفيما تزهد أزهد فيه ؛ فالباء في صلة (تمرّ) الذي هو شرط ، وفي موضع نصب بها ؛ و (على) في صلة (تنزل) وهي في موضع نصب بها ؛ و (من) و (ما) و (أيّهم) قد تضمنت الأسماء ، وحرف الجزاء ، والأفعال التي بعدهن أفعال تتعدى بحروف الجر ؛ وحروف الجر لا تكون إلا قبل الأسماء ، متصلّا بها ، فقادت الضرورة إلى تقديمها لذلك وتأخير الأفعال العاملة فيها ؛ لأن الفعل قد يجوز أن يعمل النصب فيما قبلها ، فلم تكن بنا ضرورة إلى تقديم فعل الشرط

__________________

(١) البيت في ديوانه ١ / ٢٠٠ ، الكتاب ٣ / ٧٠.

(٢) البيت في ديوانه ١ / ١٥٤ ، الخزانة ٣ / ٦٤٧ ؛ والكتاب ٣ / ٧٠.

٢٦٧

عليها ؛ فإذا أتينا ب (إن) انفصل الاسم من (إن) فوقع حرف الجر على الاسم وهو بعد (إن) ، فلم يحتج إلى تقديمه كقولك : إن تمرر بزيد أمرر به ، وإن تنزل على زيد أنزل عليه ، وإن تزهد في شيء أزهد فيه.

وكذلك إن وقع الشرط باسم مضاف ، قدمته وأضفته إلى اسم المجازاة ضرورة كقولك : غلام من تضرب أضرب ، وصاحب أيهم تعاشر أعاشر ، تنصب (غلام) بيضرب ، و (صاحب) بتعاشر ؛ ولا بد من تقديمه من حيث كان خافضا لما بعده.

ولو كانت (إن) لم يجز تقديم شيء ، عليها لانفصال الاسم منها كقولك :

إن تضرب غلام زيد أضرب.

وكذلك المبتدأ المضاف إلى هذه الأسماء ، كان حقه أن يكون فاعل فعل الشرط ويكون مضافا إلى الاسم الذي ليس بمبهم كقولك : إن يأتك غلام زيد ، أو غلام خالد ، أو غلام غيرهم. فلما أبهمت فيها فصار الاسم المبهم وهو (من) و (أيّهم) و (ما) متضمنا للاسم والحرف ، أضفت إليه ضرورة كما أضفته إلى زيد وعمرو ، وقدمته ، فبطل أن يكون فاعلا ، فرفع بالابتداء ، كذلك الفاعل إذا قدّم على الفعل رفع بالابتداء كقولك : زيد قام ، وعمرو انطلق.

فإذا أوقعت على هذه الأسماء عاملا قبلها من غير ما ذكرنا بطلت المجازاة بها وصارت بمنزلة (الذي) واحتاجت إلى صلة على ما ذكره سيبويه ومثلها ، وهذا هو المختار فيها.

وقد يجوز أن يكون قبلها ما يعمل فيها ، وتجريه مجرى فعل لا يتعدى ، وليس بالمختار وذلك قولك : آتي من أتاني ؛ الوجه المختار فيه أن تجعل (من) في موضع نصب ب (آتي) و (أتاني) في صلته ، فيكون كقولك : آتي الذي أتاني.

ويجوز أن يكون بمنزلة قولك : أخرج متى أتاني زيد ، وأقيم أين أقام زيد ، ويكون معناه : أخرج إن أتاني زيد ، وأقيم إن أقام زيد ؛ ويكون (متى) و (أين) ظرفين لما بعدهما ، لا لأخرج وأقيم ؛ وكذلك :

آتي من أتاني ، كأنه قال : آتي إن أتاني زيد ، ولم يذكر (آتي) مفعولا ، إلا أنه يعلم أنه يأتي الذي يأتيه كما تقول : ضربت وضربني زيد ، فيعلم أن (ضربت) واقع على زيد ؛ وكذلك لو قلت : إن يأتني زيد آت ، وحذفت (الهاء) ، لكان الوجه أن يكون : آته.

وأما قوله :

٢٦٨

 ... من يأتها لا يضيرها (١)

ففي رفع (يضيرها) وجهان :

أحدهما : بإضمار (الفاء) كأنه قال : فلا يضيرها ؛ وهذا الوجه لا خلاف في جوازه.

والوجه الآخر : يرتفع على التقديم كأنه قال : لا يضيرها من يأتها.

وقد خالف سيبويه فيما أجازه من التقديم في هذا البيت اثنان :

أحدهما : الذي يرى أن الفعل المرفوع إذا وقع بعد الشرط ، لم يجز أن ينوي به التقديم ، وإن حسن تقديمه. وقائل هذا محمد بن يزيد ، يقول : إن أتيتني أكرمك ، لا يجوز أن يكون بتقدير : أكرمك إن أتيتني ، وإن كان يحسن أن يقول : أكرمك إن أتيتني.

والمخالف الآخر زعم أنه لا يجوز بتقدير التقديم فيه ، لأنا إن قدمناه لم يجز أن يكون (من) فاعلا ليضيرها لأنها قد جزمت (بأنها) ، ولا يجوز أن تجزم وهي فاعلة لفعل قبلها ؛ وإن لم تكن (من) هي الفاعلة فلا يبين لها فاعل ، فلم يجز غيره التقديم من أجل ذلك.

فأما أبو العباس فقد ذكرنا قوله قبل هذا ، وصحته أن المرفوع إذا وقع بعد الشرط ، فقد وقع في موقعه ، فلا ينوي به التقديم الذي ليس بموضعه ، كما لا يقال : ضرب غلامه زيدا على نية :

ضرب زيدا غلامه ، لأن الغلام وقع في موضعه لأنه فاعل ، وحق الفاعل التقديم ؛ والجواب عن هذا : أن الشرط على وجهين :

أحدهما : أن يكون المعتمد المقصود تقديم الشرط ، واتباع الجواب له كقولك : إن تأتني آتك ، وإن تأتني فأنا مكرم لك ، فلا يجوز تقديم الجواب على الشرط.

والآخر : أن يكون الاعتماد على فعل وفاعل ومبتدإ ؛ وحين يبتدئه المتكلم ويعلقه بشرط كما يعلقه بظرف فيقول : أكرمك إن أتيتني ، وأنا مكرمك إن زرتني. كما تقول : أكرمك يوم الجمعة. فإذا قال : إن أتيتني أكرمك ، فليس (أكرمك) بجواب ، فيكون تقديمنا له إلى غير موضعه ؛ وإنما جعل الفعل الذي القصد فيه التقديم ، ويدل على ذلك أن المقسم إذا حلف على شرط وجزاء ، جعل جواب القسم نائبا عن الجزاء ، وجعل إعرابه ولفظه على جواب اليمين دون جواب الشرط في المجازاة.

وإن كان واقعا بعد الشرط ، وذلك قولك : والله لإن جفوتني لا أزورك ، فترفع (لا

__________________

(١) عجز بيت سبق تخريجه.

٢٦٩

أزورك) وهو بعد (جفوتني) الذي هو شرط ؛ فإن كان (لا أزورك) مجازاة ، فينبغي أن يكون مجزوما ، وإن كان ينوي به غير المجازاة ، وهو واقع موقع الجزاء ما ينوي به غير الجزاء.

وقد ذكر أبو بكر بن الأعرابي عن أبي العباس المبرد أنه قال :

إذا قلت : لإن أتيتني لأكرمنك. وإنما هو : والله لإن أتيتني والله لأكرمنك ، وأضمرت ، قال : ولا يكون هذا إلا على قسمين.

قال أبو سعيد : وهذا غلط وسهو من أبي العباس لأن الشرط إذا أفرد فليس بخبر ، والقسم إنما يقع على خبر ، وما يصح فيه التصديق والتكذيب ، ألا ترى أن الاستفهام والأمر والنهي لا يصح القسم عليهنّ لأنهن لسن بأخبار ، فكيف يصح القسم على الشرط وحده ، وأما الذي رد تقديم (لا يضيرها) لأنه لا فاعل معه ، فيجوز أن يكون ضمير الفاعل على شرط التفسير ، كما يكون في قولك : ضربني وضربت زيدا ، ونحو ذلك مما يضمر على شرط التفسير ، كأنه قال : لا يضيرها أحد إن أتاها أحد ؛ لأنّ معنى من يأتها إن يأتها أحد ، فأضمر في يضيرها ؛ لأن الكلام الذي بعدها فيه ذكر المضمر الذي أضمر على شرط التفسير ، وأما : أقول مهما تقل ، وأكون حيثما تكن وأكون أين تكن ، وآتيك متى تأتني ، وتلتبس بها أنّى تأتها فلا يجوز رفع ما بعدهن من الأفعال لأنهن لا يكن بمنزلة (الذي) كما تكون (من) و (ما) و (أيهم) ، فنجعل الفعل بعدهن صلة لها ، ونرفع ، ألا ترى أنّك تقول : مررت بمن يعجبني ، وبما يسرّني ، وبأيّهم يوافقني ، ولا تقول مررت بمهما يسرني.

فلما لم تكن هذه الحروف بمنزلة الذي بطل رفع الفعل فيهنّ ، ووجبت المجازاة وقبح الجزم في فعل الشرط ، إذ لا جواب بعده ، كما قبح أن تقول : أقول إن تقل وآتيك إن تأتني ولو كان ماضيا لحسن كقولك : أقول إن قلت ، وآتيك إن أتيتني لأن الشرط لم يجزم ، وهذه الظروف التي يجازي بها لا تتمكن ولا يخبر عنها كما يخبر عن (ما) و (من) و (أيهم) ألا ترى أنك تقول ما تصنع قبيح على أن ما مبتدأ ، وتصنع في صلته وقبيح خبره ، ولا يجوز مهما تصنع قبيح ؛ لأن مهما لا يخبر عنها ، وتقول : في الكتاب ما تقول ـ بمعنى مكتوب عندي ما تقول ـ فتكون (ما) مبتدأ بمنزلة (الذي) ، و (تقول) صلتها ، و (في الكتاب) خبر مقدّم ، كما يقول : في الدار صنيعك ، ولا يجوز على هذا : في الكتاب مهما تقول ، إذا جعلت (تقول) صلة لمهما كما تجعلها صلة لما.

٢٧٠

هذا باب ما تكون فيه الأسماء التي يجازى بها بمنزلة (الذي)

وذلك قولك : إن من يأتيني آتيه ، وكان من يأتيني آتيه ، وليس من يأتيني آتيه.

وإنما أذهبت الجزاء من هاهنا لأنك أعلمت (كان) و (إنّ) لم يسغ لك أن تدع (كان) وأشباهه معلقة لا تعملها في شيء ، فلما أعملهنّ ذهب الجزاء ، ولم يكن من مواضعه ؛ ألا ترى أنك لو جئت ب (أن) و (متى) كان محالا. فهذا دليل على أن الجزاء لا ينبغي له هاهنا ب (من) و (ما) و (أيّ) ، فإن شغلت هذه الحروف بشيء جازيت.

فمن ذلك قولك : إنه من يأتنا نأته ، وقال الله ـ تعالى ذكره ـ : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ)(١) وكنت من يأتني آته ، وتقول : كان من يأته يعطه ، وليس من يأته يحببه ، إذا أضمرت الاسم في كان أو في ليس ، لأنه حينئذ بمنزلة (لست) و (كنت) ، فإن لم تضمر فالكلام على ما ذكرناه وقد جاء في الشعر : إن من يأتني آته قال الأعشى :

إنّ من لام في بني بنت حسّا

ن ألمه وأعصه في الخطوب (٢)

وقال أميّة بن أبي الصلت :

ولكنّ من لا يلق أمرا ينوبه

بعدّته ينزل به وهو أعزل (٣)

فزعم أنه إنما جاز حيث أضمر الهاء ، وأراد (إنه) ، و (لكنه) كما قال الرّاعي :

فلو أنّ حقّ اليوم منكم إقامة

وإن كان سرح قد مضى فتسرّعا (٤)

أراد : فلو أنه حقّ ، ولو لم يرد الهاء كان الكلام محالا.

وتقول : قد علمت أنّ من يأتني آته ، من قبل أنّ (أن) هاهنا فيها إضمار الهاء ، ولا تجئ مخففة إلا على ذلك كما قال :

أكاشره وأعلم أن كلانا

على ما شاء صاحبه حريص (٥)

__________________

(١) سورة طه ، الآية : ٧٤.

(٢) البيت في ديوانه ٢١٩ ، ابن يعيش ٣ / ١١٥ ؛ الكتاب ٣ / ٧٢.

(٣) البيت في ديوانه ، الكتاب ٣ / ٧٣.

(٤) البيت في ديوانه ١٦٧ ، الخزانة ١١ / ٤٥١.

(٥) البيت ورد منسوبا لعدي بن زيد ؛ ولعمرو بن جابر الحنفي في حماسة البحتري ١٨ ، ابن يعيش ١ / ٥٤ ؛ الكتاب ٣ / ٧٣ ، ٧٤.

٢٧١

ولا يجوز أن تنوي في (كان) وأشباه (كان) علامة إضمار المخاطب ، ولا تذكرها لو قلت : ليس من يأتك تعطه ، تريد لست لم يجز ولو جاز ذا لقلت : كان من يأتك تعطه تريد به كنت.

قال الأعشى :

في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن هالك كلّ من يحفى وينتعل (١)

فهذا يريد معنى الهاء.

ولا يخفّف (أن) إلا عليه كما قال : قد علمت أن لا يقول وأي إنّه لا يقول ، وقال تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً)(٢) وليس هذا بقوي في الكلام كقّوة (أن لا يقول) لأن لها عوض من ذهاب العلامة ، ألا ترى أنهم لا يكادون يتكلمون به بغير الهاء ، فيقولون : قد علمت أن عبد الله منطلق.

قال أبو سعيد : قد ذكرنا أن الاسم الذي يجازى به لا يعمل فيه إلا فعل الشرط ، أو ما يتصل بفعل الشرط والابتداء ، فإذا دخل عليها مما قبلها ما ينصبها أو يرفعها أو يخفضها لم يجاز بها وبطل عملها ، فلما قلت :

إنّ من يأتيني ، وكان من يأتيني ، انتصب (من) بإن ، وارتفع بكان ، فبطل تضمنها لحرف المجازاة لاستحالة وقوع حرف المجازاة بعد هذه العوامل ، ومن أجل هذا قال سيبويه : ((فلما أعملتهن ... يعني العوامل ـ في (من) ذهب الجزاء ولم يكن من مواضعه ، ألا ترى أنك لو جئت (بأن) و (متى) كان محالا ، فاستدل باستحالة وقوع (إن) و (متى) بعد كان وأشباهه إن (من) لا تقع بعدهن إذا كانت للمجازاة لتضمنها معنى (إن) وذكر متى معها ، لأن (متى) وإن كانت اسما لا تدخل عليها العوامل التي تدخل على (من ، وما ، وأي) لأن هذه الأسماء يخبر عنها ، ويدخل عليها جميع العوامل التي تدخل على الأسماء المتمكنة ، و (متى) لا يخبر عنها ، وكذلك (أين ، وحيثما ، وأنّى) فإذا شغلت هذه العوامل بشيء ، فصار الموضع بعده موضعا يقع فيه المبتدأ جاز أن يقع (من ، وما ، وأي) للمجازاة نحو قولك : إنه من يأتني آته ، وكنت من يأتني آته ، وكان من يأته يعطه إذا أضمرت فيه اسما جرى ذكره ، وكذلك إن جعل فيه ضمير الأمر والشأن كقولك : كان من يأت زيدا يكرمه ، والأبيات التي أنشدها فيها كلها ضمير محذوف منصوب من (أنّ)

__________________

(١) البيت في ديوانه ١٠٩ ، الكتاب ٢ / ١٣٧ ، ٣ / ٧٤ ؛ المقتضب ٣ / ٩.

(٢) سورة طه ، الآية : ٨٩.

٢٧٢

و (لكنّ) ، فصار ما بعدها موضع ابتداء وخبر مثله.

إنّ من يدخل الكنيسة يوما

يلق فيها جآزرا وظباء (١)

ومعناه إنه ، ولذلك لو خفّفت (إنّ) والاسم فيها ضمير ـ كقوله :

ويكأن من يكن له نشب يحبب

ومن يفتقر يعش عيّش ضر (٢)

لأنه موضع يقع فيه ابتداء وقد عملت أن في المضمر ، ولم يجز أن تنوي في كان وأشباهه علامة إضمار المخاطب ، ولا تذكرها لأن علامة إضمار المخاطب في ليس ، وكان كعلامة المخاطب في الفعل الماضي ، وهي تاء ملفوظ بها كقولك : قمت وذهبت ولا يجوز حذفها لأنها فاعل ، والفاعل لا يحذف ، فيبقى الفعل فارغا من الفاعل ؛ ومن وجه آخر وهو أن علامة الفاعل المخاطب بعض صيغة الفعل ، فلو حذفناها بقي كن في معنى كنت وليس في معنى لست وهذا محال ، لأنكّ لا تقول : كن من يأتك تأته ، وليس من يأتك تأته ، فإذا كان الفعل مستقبلا جاز أن تنوي لأنه ليس له علامة ملفوظ بها ، وذلك قولك للمخاطب : تكون من يأتك تأته ، وفي (تكون) ضمير الفاعل المخاطب ، وفي بيت الأعشى :

أن هالك كل من يحفى وينتعل (٣)

وفي حاشية كتاب أبي بكر مبرمان : هذا معمول ، والبيت :

أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل (٤)

قال أبو سعيد :

الشاهد في كلتا الروايتين واحد لأنه في إضمار الهاء في (إنّ) وتقديره إنه هنالك وإنه ليس ، وباقي الباب مفهوم.

هذا باب يذهب فيه الجزاء من الأسماء كما ذهب في (إن)

و (كان) وأشباههما

غير أنّ (إنّ وكان) عوامل فيما بعدهن ، والحروف في هذا الباب يحدثن فيما

__________________

(١) البيت ورد منسوبا إلى الأخطل ، ابن يعيش ٣ / ١١٥.

(٢) البيت ورد منسوبا لزيد بن عمرو بن نفيل ، ابن يعيش ٤ / ٧٦ ؛ الكتاب ، ٢ / ١٥٥.

(٣) عجز بيت سبق تخريجه.

(٤) البيت ورد منسوبا للأعشى في ديوانه ٤٥.

٢٧٣

بعدهنّ من الأسماء ما أحدثت (إنّ وكان) وأشباههما لأنهما من الحروف التي تدخل على المبتدإ والمبني عليه ، فلا تغيّر الكلام عن حاله ، وسأبين لك كيف ذهب الجزاء فيهنّ إن شاء الله.

فمن ذلك قوله : أتذكر إذ من يأتينا نأتيه ، وما من يأتينا نأتيه ، وأما من يأتينا فنحن نأتيه.

وإنما كرهوا الجزاء هاهنا لأنه ليس من مواضعه ، ألا ترى أنه لا يحسن أن تقول : أتذكر إذ إن تأتنا نأتك ، كما لم يجز أن تقول : إنّ إن تأتنا نأتك ، فلما صار هذا الباب باب (إنّ وكان) كرهوا الجزاء فيه ، وقد يجوز في الشعر أن يجازى بعد هذه الحروف ، فيقول : أتذكر إذ من يأتنا نأته ، وإنما أجازوه لأنّ (إذ) وهذه الحروف تغير ما دخلت عليه عن حاله قبل أن تجيء بها ، فقالوا : ندخلها على من يأتنا نأته ، وتغيّر الكلام ، كأنا قلنا : من يأتنا نأته ، كما أنا إذا قلنا : إذ عبد الله منطلق كأنا قلنا : عبد الله منطلق ؛ لأنّ (إذ) لم تحدث شيئا لم يكن قبل تذكرها.

فقال لبيد :

على حين من تلبث عليه ذنوبه

يجد فقدها وفي المقام تدابر (١)

ولو اضطر شاعر فقال : أتذكر إذ إن تأتنا نأتك جاز له ، كما كان في (من) وتقول : أتذكر إذ نحن من يأتنا نأته ، فنحن فصلت بين (إذ) و (من) ، كما فصل الاسم في كان بين (كان) و (من). وتقول : مررت به فإذا من يأتيه يعطيه. وإن شئت جزمت لأن الإضمار يحسن هاهنا ، ألا ترى أنك تقول : مررت به فإذا أجمل الناس ، ومررت به فإذا أيّما رجل. فإذا أردت الإضمار فكأنك قلت : فإذا هو من يأته يعطه ؛ فإن لم تضمر ، وجعلت إذا هي لمن ، فهي بمنزلة (إذ) لا يجوز فيها الجزم.

وتقول : لا من يأتك تعطه ولا من يعطك تأته من قبل أن (لا) ليست كإذ وأشباهها ، لأنها لغو بمنزلة (ما) في قول الله ـ تبارك وتعالى ـ (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ)(٢) فما بعده كشيء ليس قبله لا ، ألا تراها تدخل على المجرور فلا تغيّره عن حاله ، تقول : مررت برجل لا قائم ولا قاعد ، وتدخل على النصب فلا تغيره عن حاله

__________________

(١) البيت في ديوانه ٢١٧ ؛ الخزانة ٣ / ٦٤٩ ؛ الكتاب ٣ / ٧٥.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٩.

٢٧٤

تقول : لا مرحبا ولا أهلا ، ولا تغير الشيء عن حاله التي كان عليها قبل أن ينفيه ، ولا ينفيه مغيّرا عن حاله يعني في الإعراب الذي كان ، فصار ما بعدها معها بمنزلة حرف واحد ليست فيه (لا) و (إذا) وأشباهها لا يقعن هذه المواضع ، ولا يكون الكلام بعدهن إلا مبتدأ قال ابن مقبل :

وقدر ككفّ القرد لا مستعيرها

يعار ولا من يأتها يتدسّم (١)

ووقوع (إن) بعد (لا) يقويّ الجزاء فيما بعد لا.

وذلك قول الرجل : لا إن أتيناك أعطيتنا ، ولا إن قعدنا عندك عرضت علينا ، و (لا) لغو في كلامهم.

ألا ترى أنّك تقول : خفت ألّا يقول ، ويجري مجرى خفت أن تقول.

وتقول : إن لا تقل أقل ، فلا لغو. وإذا وأشباهها ليست هكذا إنما يصرفن الكلام أبدا إلى ابتداء.

وتقول : ما أنا ببخيل ولكن إن تأتني أعطك ، جاز هذا وحسن لأنك قد تضمرها هنا كما تضمر في (إذا) ، ألا ترى أنك تقول :

ما رأيتك عاقلا ولكن أحمق ، فإن لم تضمر تركت الجزاء ، كما فعلت ذلك في (إذا) فاصرفه ، قال طرفة :

ولست بحلّال التّلاع مخافة

ولكن متى يسترفد القوم أرفد (٢)

كأنه قال : أنا ولا يجوز في (متى) أن يكون الفعل وصلا لها ، كما جاز في (من) و (الذي) وسمعناهم ينشدون قول العجير السلولي :

وما ذاك أن كان ابن عمّي ولا أخي

ولكن متى ما أملك الضرّ أنفع (٣)

والقوافي مرفوعة كأنه قال : ولكن أنفع متى ما أملك الضرّ ، ويكون أملك على متى في موضع جزاء ، وما لغو. لا نجد سبيلا إلى أن يكون بمنزلة (من) فتوصل ، ولكنها كمهما.

وأما قول الله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ)(٤)

__________________

(١) البيت في ديوانه ٣٩٥ ، الكتاب ٣ / ٧٧.

(٢) البيت في ديوانه ٢٩ ، الخزانة ٩ / ٦٦ ، ٦٧ ؛ الكتاب ٣ / ٧٨.

(٣) البيت في ديوانه ، الخزانة ٩ / ٦٦ ، ٧٠ ، ٧٣ ؛ والكتاب ٣ / ٧٨.

(٤) سورة الواقعة ، الآيتان : ٩٠ ، ٩١.

٢٧٥

فإنما هو كقولك : أما غدا فلك ذاك. فحسنت لأنه لم يجزم بها ، كما حسنت في قوله : ((أنت ظالم إن فعلت)).

وأبو الحسن يراه جوابا لهم جميعا ، ولا يجيز ذلك إذا جزم لأنه يخلص الجواب للجزاء.

قال أبو سعيد :

((أما كراهة المجازاة بعد (إذ) ففي لفظ سيبويه ما يدل على أن من قبله كره ذلك ، إما من النحويين وإما من العرب ، ولعلهم كرهوا ذلك من أجل أن (إذ) اسم للوقت ، وكان حقه أن يضاف إلى اسم واحد ، وما يضاف إلى اسم واحد لا يقع بعده مجازاة لأنه يجر ما بعده ، وموضع المجازاة لا يكون مجرورا بما قبله ، وقد مض الكلام في ذلك ، ثم أجازه في الشعر لوقوع الاسم المبتدأ والخبر بعده ، وبعد ما كان في معناه من أسماء الزمان ، وأنشد قول لبيد :

عل حين من تلبث عليه ذنوبه

يجد فقدها وفي المقام تدابر (١)

ويروى : تداثر ، وهذا مثل ، وإنما يصف لبيد مجلسا فاخر فيه القبائل بين يدي بعض الملوك فظهر عليهم وغلبهم وذلك قوله :

وزدت معدّا والعباد وطيّئا

وكلبا كما زيد الخماس البواكر (٢)

على حين من تلبث عليه ذنوبه.

أراد شدة الكلام في المجالس ، وإن من أبطأت عنه الحجة في الامتحان فقد غلب ، ومعنى تداثر : تزاحم وتكاثر ، ومعنى تدابر تقاطع ، لأن ما هم فيه من الشدة يحملهم على أن لا يلوي الواحد منهم على قرابته ويحمله على أن يقاطعه فإذا كان بعد (إذ) اسم حسن بعد ذلك الاسم المجازاة كقولك : أتذكر إذ نحن من يأتنا نأته ، لأن (نحن) في موضع مبتدإ وما بعده خبره ، فصار كقولك : زيد من يأته يكرمه ، وعلى هذا الوجه استحسن سيبويه مررت به فإذا من يأته يعطه على تقدير فإذا هو من يأته يعطه ، وإضمار (هو) كثير بعد إذ مستحسن ، كقولك : مررت به فإذا أجمل الناس ، ومررت به فإذا أيما رجل على معنى فإذا هو أجمل الناس ، وإذا هو أيما رجل ، وإن لم تقدّر (هو) بعد إذا قلت مرت به فإذا من يأتيه يعطيه ، (من) بمعنى الذي ، ويأتيه صلتها ، ويعطيه خبرها ، وهو بمنزلة (فإذا زيد

__________________

(١) البيت سبق تخريجه.

(٢) البيت ورد منسوبا للبيد بن ربيعة في ديوانه ٢١٦ ، الخزانة ٩ / ٦٣.

٢٧٦

يعطيك) ، واستحسن المجازاة بعد لا كقولك : لا من يأتك تعطه ، ولا من يعطك تأته ، وكقوله :

... ولا من يأتيها يتدسّم (١)

لأن (لا) لا تفصل بين العامل والمعمول فيه في قولك : فمررت برجل لا قائم ولا قاعد.

وقال الشاعر :

ما لقي البيض من الحرقوص

يدخل تحت الفلق المرصوص

بمهر لا غال ولا رخيص (٢)

وفي قولك : خفت أن لا يقول ، كما تقول : خفت أن تقول ، وجعلها لغوا لأنها لا تفصل بين العامل والمعمول فيه كما أنّ (ما) في قول الله ـ تبارك وتعالى ـ : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ)(٣) لم تفصل بين الباء وبين رحمة ، وقوّى أيضا المجازاة (بمن) بعد (لا) وقوع (إن) بعدها في قولهم :

لا إن أتيناك أعطيتنا ، ولا إن قعدنا عنك عرضت علينا ، وذلك أنها تدخل في الكلام فلا تغيّره عن حده في الإيجاب ، لأنه ينفي على ما كان موجبا ، كقولك : لا مرحبا ولا أهلا بزيد ولا سلام على بكر ، على قولك : مرحبا وأهلا بزيد وسلام على بكر ، ولكن بمنزلة (إذا) في حسن إضمار الابتداء بها ، فحسنت المجازاة على ذلك التقدير ، ألا ترى أنّك تقول : ما رأيتك عاقلا ولكن أحمق ، ومنه ما أنا ببخيل ولكن إن تأتني أعطك ، ومنه قول طرفة :

ولكن متى يسترفد القوم أرفد (٤)

على تقدير : ولكن أنا متى ؛ وقد تقدم قولنا أن متى لا توصل بالفعل ولا تغيّره ، كما يوصل الذي ، ومن ، وما ، وأيّهم ، لأنه لا يخبر عن (متى) كما يخبر عن هذه الأسماء.

وقوله :

__________________

(١) عجز بيت سبق تخريجه.

(٢) لم تقف عليه فيما أتيح لنا من مصادر.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٩.

(٤) عجز بيت ثم تخريجه.

٢٧٧

متى ما أملك الضّرّ أنفع (١)

تقديره : ولكن أنفع متى ما أملك الضّرّ ، وفيه قبح لأنه جزم الشرط ، وليس بعده جواب ، وقبحه كقبح قولك : أكرمك إن تأتني ، وقد ذكرناه ، ولا بد لمتى هاهنا من المجازاة ، وجزم (أملك) لأنها لا تنصرف إلى مذهب (من) وأخواتها ، فيرفع الفعل بعدها صلة لها ، وقول الله ـ عزوجل ـ : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ* فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ)(٢).

تقديره : مهما يكن من شيء فسلام لك من أصحاب اليمين إن كان من أصحاب اليمين ، فالفاء وما بعدها جواب (مهما) ، ثم جعلت (أما) في معنى مهما والشرط ، وعوّضوا من المحذوف تقديم بعض ما بعد الفاء ، وسلام لك مبتدأ وخبر مغن عن إن كما يغني عنه قولك : أنا مكرمك ، ويحتمل أن يكون التقدير : مهما يكن من شيء ، فإن كان من أصحاب اليمين فسلام ، فيكون فاء إن إحداهما لأمّا والأخرى لجواب إن ، فلما جعل مكانها أمّا وحذف الشرط وقدّم (إن كان) التقت الفا أن ، فأغنت إحداهما عن الأخرى ، وهذا يحتمله مذهب أبي الحسن لأنه يجعله جوابا لهما ، ولا يحسن جزمه ، ولو قلت : وأما إن يكن من أصحاب اليمين لم يحسن لأنّا إن جزمناه وقدرناه بعد سلام لك كانت جازمة لا جواب بعدها ، فتأمل ذلك إن شاء الله.

هذا باب إذا لزمت فيه الأسماء التي يجازى بها حروف الجر لم

تغيّرها عن الجزاء

وذلك قولك : على أيّ دابة أحمل أركبه ، وبمن تؤخذ أو خذ به ، هذا قول يونس والخليل جميعا.

فحروف الجر لم تغيّرها عن الاستفهام ألا ترى أنك تقول :

بمن تمرّ ، وعلى أيّها أركب ، فلو غيرّتها عن الجزاء غيرتها عن الاستفهام ، وقال ابن همّام :

لمّا تمكّن دنياهم أطاعهم

في أيّ نحو يميلوا دينه يمل (٣)

__________________

(١) عجز بيت سبق تخريجه.

(٢) سورة الواقعة ، الآيتان : ٩٠ ، ٩١.

(٣) البيت في ديوانه ، الكتاب ٣ / ٨٠ ؛ ولسان العرب ٣ / ٤١٤ (مكن).

٢٧٨

وذلك لأن الفعل إنما يصل إلى الاسم بالباء ونحوها ، فالفعل مع الباء بمنزلة فعل ليس قبله حرف جر ، ولا بعده ، فصار الفعل الذي يصل بإضافة كالفعل الذي لا يصل بإضافة ؛ لأن الفعل يصل بالجر إلى الاسم كما يصل غيره رافعا وناصبا فالجر هاهنا نظير الرفع والنصب في غيره.

فإن قلت : بمن تمرّ به أمرّ ، وعلى من تنزل عليه أنزل ، وبما تأتيني به آتيك ، رفعت لأن الفعل إنما أوصلته إلى الهاء بالباء الثانية ، والباء الأولى للفعل الآخر ، فتغيّر عن حال الجزاء ، كما تغير عن حال الاستفهام ، فصارت بمنزلة (الذي) لأنك أدخلت الباء للفعل خبرا وصلت الفعل الذي يلي الأسماء بالباء الثانية إلى الهاء ، فصارت الأولى ك (كان) و (إنّ) وعملت الباء فيما بعدها عمل كان وإنّ فيما بعدهما.

وقد يجوز أن تقول : بمن تمر أمر ، وعلى من تنزل أنزل ، إذا أردت معنى عليه وبه وليس بحدّ الكلام وفيه ضعف ، ومثل ذلك قول الشاعر ، وهو بعض الأعراب :

إنّ الكريم وأبيك يعتمل

إن لم يجد يوما على من يتّكل (١)

ويقول : غلام من تضرب أضربه ، لأن ما يضاف إلى من بمنزلة من ، ألا ترى أنك تقول : أبو أيّهم رأيته. وتقول : بغلام من تؤخذ أوخذ به ، كأنك قلت : بمن تؤخّذ أؤخذ به ، وحسن الاستفهام هاهنا يقوّي الجزاء ، تقول : غلام من تضرب ، وبغلام من مررت ، ألا ترى أن كينونة الفعل غير واصل ثانية.

ويقول : بمن تمرر أمرر به ، وبمن تؤخذ أوخذ به ، فحدّ الكلام أن تثبت الباء في الآخر ، لأنه فعل لا يصل إلا بحرف إضافة يدلك على ذلك أنك لو قلت :

من تضرب أنزل لم يجز حتى تقول : عليه ، إلا في شعر.

فإن قلت : بمن تمرر أمرر ، وبمن تؤخذ أؤخذ ، فهذا أمثل ، وليس بحد الكلام ، وإنما كان في هذا أمثل ، لأنه قد ذكر الباء في الفعل الأول فعلم أن الآخر مثله لأنه ذلك الفعل.

قال أبو سعيد :

قد تقدم أن الاسم الذي يجازى به إذا عمل فيه ما قبله بطلت المجازاة ، إلا يكون

__________________

(١) البيت في الخزانة ٤ / ٢٥٢ ؛ الكتاب ٣ / ٨١.

٢٧٩

العامل حرف جر في صلة فعل الشرط ، أو اسما مضافا قد نصبه فعل الشرط أو مبتدأ مضافا ؛ فإذا قلت :

على أي دابّة أحمل أركبه ، فعلى في صلة أحمل الذي هو شرط ، فلذلك لم تبطل المجازاة ، واركبه الجواب وكذلك بمن تؤخذ أوخذ ، الباء في بمن في صلة تؤخذ ، والحجة في جواز تقدّمها في المجازاة إذا كان العامل فيها ما بعدها كالحجة في جواز تقدمها في الاستفهام إذا كان العامل لا يجوز فيها ما بعدها.

كقولك : بمن تمر ، ولو قدمت العامل فيهما لم يجز ، لا يجوز تمرّ بمن في الاستفهام ، ولا تؤخذ بمن أوخذ به ، وعلى هذا تقول في الاستفهام على أنها أركب وقوله :

في أيّ نحو يميلوا دينه يمل (١)

يميلوا هو الواقع على (في) فإذا قلت : بمن تمرّ به أمرّ ، وعلى أيّهم تنزل عليه أنزل ، فقد جعلت ما بعد ما وأيهم صلة لهما ، فأوجب ذلك أن يكونا بمنزلة الذي ، لأنهما في الاستفهام والمجازاة لا يحتاجان إلى صلة ، وتقديره بالذي تمرّ به أمّر ، وتمرّ فيه صلة الذي ، والعائد إلى الذي الهاء الذي في به بعد تمرّ ، والباء الواقعة على الذي في صلة أمرّ. وتقديره أمرّ بالذي تمرّ به ، وكذلك أنزل على الذي تنزل عليه ، وآتيك بالذي تأتيني به ، وقد يكتفون بأحد حرفي الجر ، ويحذفون الآخر ، وإن كان منويا ، وذلك في الذي في المجازاة ، كقولهم في معنى : الذي بمن تمر أمر تقديره بمنّ تمر به أمر ، واكتفوا بالباء الأولى والثانية منوية لأن الهاء في به المنوية هي العائدة إلى من ، وكذلك التقدير على من تنزل عليه أنزل ، وحذف عليه والهاء فيها هي العائدة إلى من ، ومثله في الاكتفاء بأحد الحرفين في كلامهم إنهم يقولون :

مررت ومرّ بي زيد ، ونزلت ونزل عليّ زيد تقديره مررت بزيد. ومرّ بي ، ونزلت على زيد ، ونزل عليّ فسوغت الثانية حذف الأولى ، ودلت عليه ، وقد يقول القائل : في أي شيء تصرّفني اتصرّف ، وإلى أين وجّهتني توجّهت ، والمعنى انصرف فيه ، وتوجهت إليه ، وعلى هذا قول ابن همام :

في أيّ نحو يميلوا دينه يمل

وأنشد سيبويه في ذلك :

__________________

(١) عجز بيت سبق تخريجه.

٢٨٠