شرح كتاب سيبويه - ج ٣

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٣

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

وقوله : " وقد يجوز في الشعر : أشهد أن زيدا ذاهب بقوله : والله أنه ذاهب" ؛ لأن معناه معنى اليمين.

قال أبو سعيد : قد يستعمل بمعنى اليمين يقال : أشهد لأخرجن ، و" أشهد بالله لأخرجن". وقد ذكره أهل العراق في كتاب" الأيمان" وقالوا : " إذا قال أشهد وأشهد بالله وأحلف وأحلف بالله أو أقسم وأقسم بالله. فهو كله سواء في صحة اليمين فإذا أتى بشيء من ذلك فعليه كفارة إذا حنث فيه.

والغالب في الكلام أن" أشهد" يذهب بها مذهب الباء إذا وقعت ولم يكن في خبرها" اللام" كقولهم في الأذان :

أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.

وإذا ذهبوا بها مذهب اليمين أتوا لها بجواب فإذا كسروا أتوا باللام كقوله عزوجل : (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ)(١) وأتوا" باللام" في الجواب كقولك : أشهد لأخرجن.

وقد رد أبو العباس المبرد على سيبويه إجازته في الشعر : أشهد إنّ زيدا ذاهب.

فقال : ليس للضرورة في" أن" و" إن" عمل. لأن وزنهما واحد. والقافية بهما سواء فهما في الشعر سواء.

قال أبو سعيد : وجه الضرورة أن تريد اليمين. ولا تجعل في خبرها اللام ولا تتلقاها باللام ولا يفتحها وهو يريد اليمين. لأن فتحها إنما يكون إذا أراد بها معنى الباء كنحو ما ذكرنا : أشهد أن محمدا رسول الله. وقد أجاز سيبويه كسر" إنّ" بعد" علمت" من غير لام في قولك : علمت أن زيدا ذاهب. على : تأويل اللام وحذفها وشبه حذفها بحذف اللام من قوله عزوجل : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها)(٢) ، وتقديره : لقد أفلح لأنه جواب (وَالشَّمْسِ وَضُحاها)(٣) واستضعف حذف اللام في : " أن زيدا ذاهب" وليس حذفها بضعيف في قوله : " قد أفلح من زكاها". لأن ما قبلها من طول الكلام عوض. وهو

__________________

(١) سورة المنافقون ، الآية : ١.

(٢) سورة الشمس ، الآية : ٩.

(٣) سورة الشمس ، الآية : ١.

٣٨١

ضعيف في : " إنك" لأنه ليس قبله ما يكون عوضا.

وقد أجازه أبو العباس على كلامين. كأنه قال : " وقد علمت ..." ثم ابتدأ فقال" أن زيدا ذاهب" وهذا ضعيف.

وباقي الكلام مفهوم من لفظ سيبويه

هذا باب «أنّ» و «إنّ»

فأن مفتوحة تكون على وجوه :

فأحدهما : أن تكون" أن" وما تعمل فيه من الأفعال بمنزلة مصادرها.

والآخر : أن تكون فيه بمنزلة" أي".

ووجه آخر : تكون فيه مخففة من الثقيلة.

ووجه آخر : تكون فيه لغوا نحو قولك : لما أن جاء وأما والله أن لو فعلت.

وأما أن فتكون للمجازاة وتكون" أن" يبتدأ ما بعدها في معنى اليمين وفي اليمين كما قال الله عزوجل : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ)(١) ، و (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)(٢) ، وحدثني عن رجل من أهل المدينة موثوق به أنه سمع عربيا يتكلم بمثل قولك : " أن زيدا لذاهب" وهي التي في قوله عزوجل : (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ* لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ)(٣).

وهذه" أن" محذوفة. وتكون بمنزلة" ما" قال الله عزوجل : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ)(٤).

وتصرف الكلام إلى الابتداء كما صرفتها" ما" إلى الابتداء وذلك قولك :

ما أن زيد ذاهب. قال الشاعر :

وما إن طبنا جين ولكن

منايانا ودولة آخرينا (٥)

__________________

(١) سورة الطارق ، الآية : ٤.

(٢) سورة يونس ، الآية : ٣٢.

(٣) سورة الصافات ، الآيتان : ١٦٧ ، ١٦٨.

(٤) سورة الملك ، الآية : ٢٠.

(٥) الخزانة : ٢ / ١٢١ ، الكتاب : ٢ / ٣٠٥ ، الهمع : ١ / ١٢٣ ، الحماسة البصرية : ٢ / ٤١٦.

٣٨٢

قال أبو سعيد : أما" أن" الداخلة على الأفعال فتنصب المستقبل منها وتكون معها بمنزلة المصدر فهي تدخل على الماضي والمستقبل كقولك : " أعجبني أن دخلت الدار". و" تعجبني أن تزورنا" ولا تقع للحال. وقد ذكرت في غير موضعها.

وأما" أن" التي بمعنى" أي" فهي نائبة عن القول وتأتي بعد فعل في معنى القول وليس بقول. كقولك : كتبت إليك أن قم. تأويله : قلت لك : قم. ولو قلت لك : أن قم لم يجز. لأن القول يحكي ما بعده. ويؤتى بما بعده باللفظ الذي يجوز وقوعه في الابتداء.

وما كان في معنى القول وليس بقول فهو يعمل وما بعده ليس كالكلام المبتدأ وهذا الوجه في" أنّ" لم يعرفه الكوفيون ولم يذكروه. وعرفه البصريون وذكروه. وسموه" أن" التي للعبارة وحملوا عليه قوله عزوجل : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا)(١) ، وفي تقديره وجهان :

أحدهما : انطلقوا. فقال بعضهم لبعض" امشوا واصبروا" وذلك أنهم انصرفوا عن مجلس دعاهم فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى التوحيد لله عزوجل وترك الآلهة دونه وصار" انطلق الملأ منهم" لما اضمروا القول بعده بمعنى : فعل يتضمن القول نحو : كتب واشباهه.

والوجه الآخر : أن يكون" انطلقوا" بمعنى" تكلموا" كما يقال : انطلق زيد في الحديث كأن خروجه عن السكوت إلى الكلام هو الانطلاق.

ويقال في" امشوا" أي : اكثروا ونموا. والمشاء : النماء. وأمشيت الماشية ماشية.

وأهل الكوفة جعلوا" أن" في موضع نصب بإسقاط الخافض وهو" الباء" كأنه قال : وانطلقوا بالمشي وحقيقته : أي قال بعضهم لبعض" أمشوا" وقد ذكر كونها بعض الثقيلة وأحكامها وزيادتها.

وأما" أن" المخففة التي للإيجاب فهي مخففة عن الثقيلة فإن بقيت أعمالهم لم يحتج إلى" اللام" كما لا يحتاج في الثقيلة كقولك : أن زيدا قائم وإن شئت أدخلت اللام فقلت : أن زيدا لقائم ولا تدخل إلا على اسم وخبر.

وإن خففتها ولم تعملها لزمت" اللام" فيما بعدها للدلالة على الفرق بينها وبين" أن" في معنى الجحد ودخلت على الاسم والفعل فالاسم كقولك : أن زيد لذاهب والفعل

__________________

(١) سورة ص ، الآية : ٦.

٣٨٣

أن قام لزيد ومنه قوله عزوجل : (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً)(١) ، وقوله عزوجل : (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ)(٢).

وأهل الكوفة يذهبن في" أن" إلى أنها بمعنى" ما" وفي اللام إلى أنها بمعنى" ألا" وتأولوا قول الشاعر :

شلت يمينك إن قتلت لمسلما

وجهت عليك عقوبة المتعمّد (٣)

إلى أن معناه : ما قتلت إلا مسلما.

قال أبو سعيد :

هذا التقدير وإن كان يصح معناه هذا الموضع فحقيقة الكلام أن اللام دخلت على التوكيد ولزمت للفصل بينها وبين" أن" التي بمعنى" ما" ولا نعلم" اللام" تستعمل بمعنى" إلا" ولو جاز ذلك جاز أن تقول : " جاءني القوم لزيد" بمعنى : إلا زيدا.

مذهب سيبويه أن دخول" أن" بعد" ما" يبطل عمل" ما" في قول أهل الحجاز وبهذا يرد قول أبي العباس المبرد : " أن" وحدها لو دخلت على اسم وخبر لعملت كعمل (ما) نحو أن زيد قائما فلو كانت تعمل وحدها لما أبطلت عمل" ما" بل كانت تؤكد عملها.

وأهل الكوفة يذهبون إلى أن" أن" إذا دخلت على" ما" وهما حرفا جحد ترادفا على الجحد كما يترادف حرفا التوكيد على الشيء كقولهم" أن زيدا لقائم".

وأهل البصرة يجعلون" أن" بعد" ما" زائدة لأنها لو لم تكن زائدة كانت جحد وجحد الجحد إيجاب وليس التوكيد بجحد.

وجعل سيبويه إبطال" أن" لعمل" ما" في قول أهل الحجاز كإبطال" ما" عمل" أن" في قولك : " أنما زيد أخوك" لأن كل واحدة منهما أبطلت عمل ما قبلها وصار ما بعدها مبتدأ وخبرا.

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ١٠٨.

(٢) سورة الصافات ، الآيتان : ١٦٧ ، ١٦٨.

(٣) البيت لعاتكة بنت زيد ترثي زوجها الزبير بن العوام وقد قتل في موقعة الجمل.

الخزانة : ١ / ٢٤ ، ابن يعيش : ٨ / ٧١ ، شواهد المغني للسيوطي : ١ / ٧١ ، العيني : ٢ / ٤٧٨.

٣٨٤

هذا باب من أبواب «أن» التي تكون الفعل بمنزلة المصدر

تقول : أن تأتيني خير لك كأنك قلت : الإتيان خير لك ومثل قوله عزوجل : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ)(١) ، يعني : الصوم خير لكم قال عبد الرحمن بن حسان : ـ

أني رأيت المكارم حسبكم

أن تلبسوا حر الثياب وتضيعوا (٢)

كأنه قال : رأيت حسبكم لبس الثياب.

واعلم أن" اللام" ونحوها من حروف الجر قد تحذف من" أن" كما حذفت من" إن" وجعلوها بمنزلة المصدر حين قلت : " فعلت ذاك حذر الشر" أي : لحذر الشر ويكون مجرورا على التفسير الآخر.

ومثل ذلك قولك : إنما انقطع إليك أن تكرمه أي لإكرامه ومثل ذلك قوله : لا تفعل كذا وكذا أن يصيبك أمر تكرهه كأنه قال : لأن يصيبك أو : من أجل أن يصيبك وقال عزوجل : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما)(٣) ، وقال عزوجل : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ)(٤).

كأنه قال : لإن كان ذا مال.

وقال الأعشى :

أأن رأت رجلا أعشى أضربه

ريب المنون ودهر مفسد خبل (٥)

" فأنّ" هاهنا حالها في حذف حرف الجر كحال" أن" وتفسيرها كتفسيرها. وهي مع صلتها بمنزلة المصدر من ذلك قولك : أئتني بعد أن يقع الأمر. وأتاني بعد أن وقع الأمر كأنه قال : بعد وقوع الأمر. ومن ذلك قوله : " أما أن أسير إلى الشام فما أكرهه". " وأما أن أقيم فلي فيه أجر" كأنه قال : أما السيرورة فما أكرهها. وأما الإقامة فلي فيها

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٨٤.

(٢) البيت لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت.

الخزانة : ٢ / ١٠٤ ، الهمع : ٢ / ٣ ، الأعلام : ٤ / ٧٤.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ١٨٢.

(٤) سورة القلم ، الآية : ١٤.

(٥) البيت بديوان الأعشى : ١٢٠ ، المقتضب : ١ / ٢٩٢.

٣٨٥

أجر.

وتقول : لا يلبث أن يأتيك" أي" : لا يلبث عن إتيانك وقال عزوجل (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا)(١) ، (فأن) محمولة على (كان) كأنه قال : ـ " فما كان جواب قومه إلا قول كذا وكذا ..." وإن شئت رفعت الجواب فكانت (أن) منصوبة. وتقول" ما منعك أن تأتينا". أراد من إتياننا فهذا على حذف حرف الجر. وفيه ما يجيء محمولا على ما يرفع وينصب من الأفعال تقول : قد خفت أن يفعل. وسمعت عربيا يقول : أنعم في أن تشده أي بالغ في أن يكون ذلك هذا المعنى و (أن) محمولة على" أنعم". وقال عزوجل : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ)(٢) ، ثم قال" أن" يكفروا على التفسير كأنه قيل له : ما هو فقال : أن يكفروا.

وتقول أني مما أن أفعل ذاك. كأنه قال : أني من الأمر أو من الشأن أن أفعل ذاك فوقعت" ما" هذا الموقع كما تقول العرب : " بئسما" يريدون : بئس الشيء.

وتقول : ائتني بعد ما يقول ذاك. كأنك قلت : (ائتني) بعد قولك ذاك. القول كما أنك إذا قلت : بعد أن تقول. فإنما تريد : ذلك.

ولو كانت" بعد" مع" ما" بمنزلة كلمة واحدة لم تقل : من بعد ما يقول ذاك القول. ولكانت" الدال" على حالة واحدة. وإن شئت قلت : أني مما أفعل فيكون" ما" مع" من" بمنزلة كلمة واحدة نحو : ربما.

قال أبو حية النميري :

وأنّا لمّا نضرب الكبش ضربة

على رأسه تلقى اللّسان من الفم (٣)

وتقول إذا أضفت إلى" أن" الأسماء : " أنه أهل أن يفعل" وإن شئت قلت أنه أهل أن يفعل ، ومخافة أن يفعل : إنه أهل لأن يفعل ومخافة لأن يفعل فهذه الإضافة كإضافتهم بعض الأشياء إلى" أن" قال الشاعر :

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ٥٦.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٩٠.

(٣) المقتضب : ٤ / ١٧٤ ، الخزانة : ٤ / ٢٨٢ ، والمغني : ١ / ٣١١.

٣٨٦

تظلّ الشّمس كاسفة عليه

كآبة أنها فقدت عقيلا (١)

وتقول : أنت أهل أن تقول. (أهل) عاملة في" أن" كأنك قلت : أنت مستحق أن تفعل.

وسمعنا فصحاء العرب يقولون : لحق أنه ذاهب فيضيفون. كأنه قال : ليقين ذاك أمرك. وليست في كلام كل العرب. و" أمرك" هو خبر هذا الكلام لأنه إذا أضاف لم يكن كقولك : لحق ذاك من خبر. وإنما قبحه عندي حذف الخبر. ألا ترى أنك لو قلت لعبد الله فأضمرت الخبر لم يحسن. ولا يبعد خبر مثل هذا أن يضمر وتقول : أنه خليق لأن" يفعل" وأنه خليق أن يفعل" على حذف" وتقول : عسيت أن تفعل. فإن هاهنا بمنزلتها في قولك : قاربت أن تفعل أي قاربت ذاك. وبمنزلة : دنوت أن تفعل. وأخلولقت السماء أن تمطر أي : لأن تمطر. وعسيت بمنزلة أخلولقت السماء ولا يستعملون المصدر هاهنا كما لم يستعملوا الاسم الذي الفعل في موضعه كقولك : " بذي تسلم" لا يقولون عسيت.

ونقول : " عسى أن يفعل". وعسى أن يفعلا و" عسى أن تفعلوا"" فعسى" محمولة عليها" أن" كما تقول : دنا أن يفعلوا وكما قال : أخلولقت السماء أن تمطر. وكل هذا تكلم بها عامة العرب وكقوله" عسى" الواحد والجمع والمؤنث تدل على ذلك.

ومن العرب من يقول : " وعسيا" و" عسوا" وعست" وعستا" و" عسين". فمن قال ذلك كانت" أن" فيهن بمنزلتها في : " عسيت" في أنها منصوبة. وأعلم أنهم لم يستعملوا" عسى فعلك"" واستغنوا بأن تفعل" عن ذلك. كما استغنى أكثر العرب (بعسى) عن أن يقولوا : عسيا وعسوا. وبلو" أنه ذاهب" عن" لو ذهابه". ومع هذا أنهم لم يستعملوا المصدر في هذا الباب كما لم يستعملوا الاسم الذي في موضعه" يفعل" في عسى. وكاد. (يعني أنهم لا يقولون : عسى فاعلا ولا : كاد فاعلا) فترى هذا ومن كلامهم الاستغناء بالشيء عن الشيء.

واعلم من العرب من يقول : " عسى يفعل" لشبهها يكاد يفعل." فيفعل" حينئذ في موضع الاسم المنصوب في قولك : " عسى الغوبر أبؤسا فهذا مثل من أمثال العرب أجروا

__________________

(١) انظر العيني : ٢ / ٢٤١.

٣٨٧

فيه" عسى" جرى" كان".

قال هدبة : (١)

عسى الهمّ الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فر قريب

وقال آخر :

عسى الله يعني عن تلاد ابن قادر

بمنهمر جون الرباب سكوب (٢)

وقال : ـ

فأما كيس فنجا ولكن

عسى يغتر بي حمق لئيم (٣)

وأما" كاد" فلأنهم لا يذكرون الأسماء في موضع هذه الأفعال كما ذكرنا في الأجزاء التي تليها. ومثله : جعل يقول لا يذكرون الاسم هنا. ومثله : أخذ يقول ... والفعل هنا بمنزلة الفعل في" كاد" إذا قلت : كاد يقول. وهو في موضع اسم منصوب بمنزلته وهو ثم خبر كما أنه هنا خبر إلا أنك لا تستعمل الاسم فأخلصوا هذه الحروف للأفعال كما خلصت حروف الاستفهام للأفعال نحو : " هلا" و" إلا" وقد جاء في الشعر : كاد أن يفعل. شبهوه" بسعى".

قال رؤبة :

قد كاد من طول البلى أن يمصحا (٤)

وقد يجوز في الشعر أيضا : " لعلى أن أفعل" بمنزلة : عسيت أن أفعل. وتقول يوشك أن تجيء وأن محمولة على يوشك وتقول : توشك أن تجيء. فإن في موضع نصب كأنك قلت : قاربت أن تفعل. وقد يجوز (بمنزلة : عسى يجيء قال أمية بن

__________________

(١) هو لهدبة بن الخشرم العذري يكنى أبا سليمان.

انظر الخزانة : ٤ / ٨١ ، العيني : ٢ / ١٨٤ ، الهمع : ١ / ١٣٠.

(٢) هو لهدية بن الخشرم.

انظر المقتضب : ٢ / ٤٨ ، ابن يعيش : ٣ / ١٨٨ ، الكتاب : ٢ / ٢٦٩ ، التصريح : ٢ / ٣٥١.

(٣) لم يعرف قائله. انظر الخزانة : ٤ / ٨٢ ، المحتسب : ١ / ١١٩.

(٤) ملحقات ديوانه ١٧٢ ، المقتضب : ٣ / ٧٥ ، ابن يعيش : ٧ / ١٢١ ، العيني : ٢ / ١٥ ، الهمع : ١ / ١٣٠.

٣٨٨

أبي الصلت :

يوشك من فر من منيته

في بعض غراته يواقعها (١)

فهذه الحروف التي هي للتقريب شبيهة بعضها ببعض ولها نحو ليس لغيرها من الأفعال.

وسألته عن معنى قوله : " أريد لأن أفعل" فقال : أنما يريد أن يقول : " إرادتي لهذا" كما قال عزوجل : (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ)(٢) إنما هو : أمرت لهذا.

وسألته عن قول الفرزدق :

أتغضب أن أذنا قتيبة حزتا

جهارا ولم تغضب لقتل ابن خازم (٣)

فقال : " أن" لأنه قبيح أن يفصل بين" أن" والفعل كما قبح أن يفصل بين" كي" والفعل. فلما قبح ذلك ولم يجز حمل على" أن" لأنه قد تقدم فيها الأسماء قبل الأفعال.

قال أبو سعيد : قوله (٤)

أني رأيت من المكارم حسبكم

أن تلبسوا حر الثياب وتشبعوا

رأيت : من رؤية القلب. وحسبكم : المفعول الأول ، وأن تلبسوا : المفعول الثاني.

وقوله : من المكارم : بمنزلة الظرف لرأيت وليس من المفعولين في شيء. وهو كذلك : " حسبت في الدار زيدا خارجا". أي وقعت محسبتي في الدار. ويجوز أن يكون على التبيين كأنه قال : رأيت حسبكم. من المكارم ثم قدم : " من المكارم" على معنى : أعني من المكارم. كما قال عزوجل : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ)(٥) ، كأنه قال : أعني من الأوثان لأن الرجس يكون من الأوثان وغيرها وكذلك" حسبكم" يكون من المكارم وغيرها.

وحذف حرف الجر من" أن" مطرد في جميع الكلام لأن" أن" وما بعدها من الفعل

__________________

(١) ديوانه : ٤٢ ، العيني : ٢ / ١٧٨ ، الهمع : ١ / ١٢٩.

(٢) سورة الزمر ، الآية : ١٢.

(٣) ديوان الفرزدق : ٨٥٥ ، الخزانة : ٣ / ٦٥٥ ، الهمع : ٢ / ١٩.

(٤) هو عبد الرحمن بن حسان بن ثابت.

(٥) سورة الحج ، الآية : ٣٠.

٣٨٩

والفاعل بمنزلة المصدر فحذف حرف الجر لطول الاسم. وحذف اللام مطرد من المفعول له إن كان ب" أن" أو بلفظ المصدر كقولك : فعلت هذا لإكرام" زيد". وفعلته أن أكرم زيدا ومعناه كله : فعلته من أجل إكرام زيد. ولإكرام زيد. وهو المفعول له.

وأما قوله تعالى : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ)(١) ، أن كان ذا مال. ويقرأ : أنّ كان ذا مال بغير استفهام والمعنى في القراءتين بمعنى اللام تقديره : ألأن كان. وبغير استفهام : لأن كان.

وفي اللام قولان :

أحدهما : ألأن كان ذا مال وبنين تعلمه؟ ويقوى هذا أنها في قراءة : عبد الله : ولا تطع كل حلاف يبين إن كان ذا مال وبنين أي : لا تطعه لأن كان ذا مال وبنين.

والوجه الآخر : ألأن كان ذا مال وبنين. (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(٢) ، يكون اللام في موضع نصب بإضمار فعل بعده بمعنى : قال أساطير الأولين ومعناه : ألأن كان ذا مال وبنين يقول إذا تتلى عليه آياتنا هي أساطير الأولين. لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.

وأما قول الأعشى :

أأن رأت رجلا أعشى أضربه

ريب المنون ودهر مفسد خبل (٣)

فمعناه : ألأن رأت رجلا أعشى أضربه. وقد حمل بعض أصحابنا اللام على صلة قوله :

قالت هريرة لما جئت زائرها

ويلي عليك وويلي منك يا رجل (٤)

قال أبو سعيد : لا أستحب هذا التفسير لأن : (قالت هريرة ...) بعد" أأن" رأت رجلا ..." بأبيات كثيرة. وإن كان يمكن أن تحمل تلك الأبيات على أنها اعتراض في الكلام.

__________________

(١) سورة القلم ، الآية : ١٤.

(٢) سورة القلم ، الآية : ١٥.

(٣) ديوانه : ١٢٠.

(٤) ديوانه : ٥٥.

٣٩٠

والأجود أن يضمر بعد البيت فعل يدل عليه ما قبله. والذي قبله : ـ

صدّت هريّرة عنّا ما تكلمنا

جهلا بأيام خليد حبل من تصل (١)

والفعل المفسر : أأن رأت رجلا أعشى صدت : وجاز إضماره لتقدم ذكره. ومثله في الكلام أن يقول الرجل لمن يوبخه : ـ " سعيت في مكارهي وأذيتني لأن أحسنت إليك"؟ ومعناه مفهوم وإن حذف. ويقوى هذا أنه يروي : " من أن رأت رجلا".

وأنما احتيج إلى تطلب هذه الوجوه لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله وليس يتصل به ما بعده وما تكون" اللام" في صلته. وقولك : ما منعك أن تأتينا. وتقديره : من أن إتيانك. وقد يجوز حذف حرف الجر في" أن" ولا يجوز مع المصدر كقولك : وجلت أن يأتي زيد ورغبت أن أصبحت أخاك. ووجلت من أن يأتيني زيد ولو جعلته مصدرا لم يجز حذف الجار منه لا تقل : وجلت إتيان زيد. ولا رغبت صحبة أخيك. حتى تقول : من إتيان زيد. وفي صحبة أخيك وأما قوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا)(٢) ف" أن يكفروا" في موضع رفع ظاهر كلامه. وموضعه كموضعه في قولك : بئس رجلا زيد.

و" ما" في معنى" شيئا". واشتروا به" نعت لما" وإلى هذا المعنى ذهب الزجاج في معنى الآية. (٣)

وقال الفراء : " أن يكفروا" يجوز أن يكون في موضع خفض ورفع. فأما الخفض : فإن تردها على الهاء في" به" يذهب إلى أن" ما" بمعنى" الذي" وهي موصولة بقوله اشتروا به أنفسهم." وأن تكفروا" بدل من الهاء. فيصير أيضا في صلة" ما" وتسمى" بئسما" في هذا الوجه مكتفية. لأن تقديرها : بئس الذي اشتروا به أنفسهم. والكلام تام. وليس بمنزلة قولك : " بئس الرجل". لأن الكلام لا يتم حتى تقول بئس الرجل عبد الله. ويتم بقولك بئس ما صنعت. وبئس ما اشتريت به نفسك. ولا يحتاج بعده إلى اسم مرفوع يبين به." ما" بعد" بئس" هذا قول الفراء.

__________________

(١) البيت هو التاسع من القصيدة نفسها.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٩٠.

(٣) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٢ / ١٤٦ ، ١٤٧.

٣٩١

ولم يجز الفراء" بئسما صنيعك" و" ساء ما صنيعك" على أن تجعل" ما" بمنزلة" شيئا" أو بمنزلة" الشيء" ويجعل" صنيعك" بمنزلة" زيد" في قولك بئس شيئا زيد وأجازه على تأويل آخر : إذا جعلت ما بعد" بئس" بمنزلة" إذا" بعد (حب) فتقول : " بئس ما صنيعك" كما تقول" حبذا صنيعك" وفصل بين هذا والأول. لأن بئس الرجل زيد مرفوع عند الفراء بشيء ناب عنه بئس. أو قام مقامه وأصله : رجل بئس زيد" فرجل" رفع بزيد وزيد" رفع به" ثم حذفوا" رجل" وأظهروا الضمر الذي في" بئس" : فقالوا : بئس الرجل. فناب" بئس" عن" الرجل" ورفع زيدا. ورفع" الرجل" كما يرفع الفعل فاعله ف" نعم" رافع عند الفراء للرجل ولزيد جميعا. وإذا جعلهما وما بعدها بمنزلة" حبذا" فزيد" مرفوع بحبذا" كما هي.

وعلى هذا الوجه جعل الفراء قول الله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا)(١) ، و" حبذا" بمنزلة اسم يرافعه" زيد". وليس (لذا) موضع عنده. و" ذا" كبعض حروف الكلمة الذي لا موضع له.

وقد أجاز الفراء أن تكون" ما" زائدة في" نعم وبئس" وإذا كانت كذلك صارت" ما" كأنها ليست في الكلام ويكون ما بعدها كما بعد نعم وبئس. وتقول بئسما رجلا زيد. وبئسما رجلين الزيدان.

وقال الكسائي : ما بعد" نعم وبئس" بمنزلة اسم تام فإذا كان بعده اسم فهو بمنزلة" زيد" بعد" نعم الرجل". وإذا كان بعده فعل. كان فيه إضمار" ما" أخرى وذلك قولك في الاسم : نعم ما صنيعك وبئس ما كلامك : نعم شيئا صنيعك وبئس شيئا صنيعك وبئس شيئا كلامك. ومثله من كلام العرب : " بئسما تزويج ولا مهر" كأنه قال : بئس الشيء تزويج بغير مهر. وفي الفعل : بئسما صنعت. أضمر" ما" أخرى قبل" صنعت" تقديره بئسما ما صنعت كأنك قلت : بئس شيئا شيء صنيعك.

والدليل على ذلك : أن" ما" دخلت عليه" نعم" ولم توصل. ولم توصف في قوله عزوجل : (فَنِعِمَّا هِيَ)(٢) وقول القائل : غسلته غسلا نعما يعني به : نعم الغسيل.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٧١.

(٢) المصدر السابق.

٣٩٢

وإذا قال بئسما صنعت فتقديره : بئسما ما صنعت ، بمعنى : بئس الشيء أو بئس شيئا شيء صنعت" فما" الثانية مذكورة قد وصفتها (بصنعت) تريد : صنعته وحذفت الموصوف وأقمت الصفة مقامه كما حذف وقدر في قوله :

أمن يهجو رسول الله منكم

وينصره ويمدحه سواء (١)

بمعنى : ومن ينصر. على أن" من" نكرة حذفت وأقيمت صفتها مقامها. وكان ذلك أسهل من حذف الموصول.

وذكر سيبويه : أنهم سمعوا فصحاء العرب يقولون : لحق أنه ذاهب بإضافة" حق" إلى" أنه ..." وإضافتها توجب أنه اسم واحد وهو مبتدأ وخبره محذوف. ومثله سيبويه : بقوله : ليقين ذاك أمرك.

وذكر الأخفش أنه لم يسمع ذلك من العرب وأن الذي يقبحه حذف الخبر ثم أجازه وقال : لا يبعد خبر مثل هذا أن يضمر. وإنما مثله سيبويه بيقين ذاك أمرك لأن قولك : زيد منطلق بنا و" يقينا ..." فمقارب معناه. وحق أنه ذاهب في التقدير : حق ذهابه ومعناه : ذهابه حق صحيح. وحسن حذف خبره لتضمن الأول الاسم والخبر كما حسن حذف خبر حسبت أن زيدا قائم استغنى : " حسبت" عن الخبر يتضمن" أن" الاسم والخبر. وذلك أن الاعتماد على" أن" وقد تضمنت الاسم والخبر.

ومعنى خليق لأن تفعل. معناه : متهيئ للفعل بما يظهر من الإمارة الدالة على كون ذلك منه فيما بعدها. فاحتاجت" أن" للاستقبال وإلى" اللام" لأن معناه : متهيئ لهذا الفعل. وإذا قلت : أخلولقت السماء لأن تمطر. لما ظهر فيها من الغيم الندى ، الندى الذي يغلب على الظن أن المطر فيه. وإذا حذفت اللام من" أن" جاز لما ذكرت لك. ولا يجوز حذفها من المصدر. وتقول : " هو خليق أن يفعل" على معنى" لأن يفعل" ولا تقول : خليق الفعل بمعنى : للفعل. وكذلك : أخلولقت السماء أن تمطر ولا يحسن : أخلولقت السماء المطر. ومثله : دنوت أن تفعل ومعناه : دنوت من أن تفعل فإذا رددته إلى المصدر قلت : دنوت من الفعل ولا نقل : دنوت الفعل. وحذف

__________________

(١) البيت لحسان بن ثابت ديوانه : ٩.

المقتضب : ٢ / ١٣٧ ، المغني : ٢ / ٦٢٥ ، الأشموني : ١ / ١٧٤ ، العقد الفريد : ٥ / ٢٩٥.

٣٩٣

حرف الجر من" أن" لطوله على ما ذكرت لك.

وأما عسى فإنها موضوعة لفعل يتوهم كونه في الاستقبال فاحتاجت لذكر" أن" للدلالة على المستقبل كقولك : عسى زيد أن يفعل وعسى السماء أن تمطر كما تقول : أنه خليق أن يفعل واخلولقت السماء أن تمطر. ولا يجوز : عسى زيد الفعل. ولا : عسى زيد للفعل. كما تقول : زيد خليق للفعل وأخلولقت السماء للمطر. فإن قيل : فما الفصل بينهما ومذهبهما في الاستقبال واحد؟

والفصل بينهما أن" خليق" وما جرى مجراه من : " فمن" و" حرى" أسماء فاعلين ولها أفعال تتصرف في المضي والاستقبال. أشبهت باب" مريد" و" محب" و" مشته".

فقيل : خليق للفعل كما قيل : مريد له. ومحب له. ومشته له. وليس كذلك" عسى" لا مستقبل له. ولا اسم فاعل ولا مصدر. وأيضا فإن" خليق" وبابه شيء موجود وعلامة قائمة في الشيء كالإرادة والشهورة وليس كذلك" عسى".

واعلم أن" أن" تقع بعد هذه الأشياء على وجهين :

أحدهما : أن تكون في موضع رفع فاعله.

الآخر : أن يتقدم فاعل وتأتي" أن" بعده فتكون في تقدير منصوب تقول إذا كانت" أن" هي الفاعلة : " عسى أن تفعل" و" عسى أن تفعلا" و" عسى أن تفعلوا" و" عسى أن تفعل" و" عسى أن يفعلن" ففاعل" عسى" : أن يفعل و" أن يفعلا" وأن يفعلوا وأخلولق أن تفعلي.

وفي هذا الوجه تقول : الزيدان عسى أن يخرجا. والزيدون عسى أن يخرجوا والهندات عسى أن يخرجن والوجه الثاني أن تقول : عسيت أن أفعل. وعسينا أن نفعل. وعسيت أن تفعل وعسيتما أن تفعلا. وعسيت أن تفعلي. والزيدان عسيا أن يفعلا. والزيدون عسوا أن يفعلوا. والهندات عسين أن يفعلن.

قال أبو العباس : عند ذكر سيبويه في هذا الفصل : عسيا وعسوا هو الجيد واحتج بقوله عزوجل : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ)(١) وذهب عليه قوله : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ

__________________

(١) سورة محمد ، الآية : ٢٢.

٣٩٤

خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ)(١) ولم يقل : وعسيتم أن تكرهوا.

واعلم أن مذهب سيبويه في" أن" بعد" لو" : أنه مبتدأ. منزلتها في التقدير كمنزلتها بعد" لو لا" إذا قلت : لو لا أنه ذاهب وأنه محذوف الخبر وأنه لا يستعمل في موضع" أن" بعد لو المصدر. كما لا يستعمل بعد" لو لا" لأن" لو لا" يقع الاسم بعدها. و" لو" لا يقع بعدها الاسم وإنما يقع بعدها الفعل فشبه بها في" أن" وحدها دون الاسم لأن" أن" مشبه بالفعل وليس لفظها لفظ اسم محض.

وجاز تشبيه" لو" ب" لو لا" في ذلك : لأن" لو لا" يليها المبتدأ والخبر و" لو" يليها الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر والفعل والفاعل يؤول معناها إلى شيء واحد.

وإنما ذكره سيبويه : لأن" أنه ذاهب" بعد" لو" وإن كان تقديرها تقدير المصدر فلا يجوز وضع المصدر موضعه في اللفظ حجة في أنه لا يجوز ذكر المصدر في : " عسى" مكان" أن" وكذلك" كاد زيد يخرج" و" عسى زيد يخرج" معنى الفعل فيها إذا لم تذكر" أن" مع اسم الفاعل ولا يجوز وضع الفاعل موضعه فيقال : " كاد زيد فاعلا". لأن من كلامهم الاستغناء بالشيء عن الشيء.

من يقول من العرب : " عسى زيد" يجرى" عسى" مجرى" كأن" ويجعل الفعل في موضع خبره كأنه قال : عسى زيد فاعلا. كما قيل في المثل : " عسى الغوير أبوسأ". والباب فيها" أن" لما ذكرت لك. ولا يكاد معرف إسقاط" أن" منها إلا في شعر. والباب في" كاد" إسقاط" أن" لأنك إذا قلت : كاد يفعل. فإنما تقوله لمن هو على تحد لفعلك كالداخل فيه. وسبيل المستقبل أن يكون في كونه مهلة. وقد يجوز في كاد إدخال" أن" تشبيها بعسى.

ومما يحتج به لحذف" أن" في (عسى) أن عسى للمستقبل وقد يكون بعض المستقبل أقرب إلى الحال من بعض فإذا قال : عسى زيد يقوم. كأنه من الحال حتى أشبه" عسى" وقد تدخل" أن" على خبر" لعل" إذا كان فعلا. والباب فيه سقوط" أن" لأنه من باب" أن" و (كان). وإنما تدخل" لعل عند الشك ويقول : إن زيدا في الدار متيقنا. يقول إذا كان شاكا. لعل زيدا في الدار. وكذلك يقول المتيقن : إن زيدا يأكل.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢١٦.

٣٩٥

ويقول الشاك : لعل زيدا يأكل. وإنما جاز دخول" أن" فيها لأنها شاركت" عسى".

قال الشاعر :

لعلّك يوما أن تلم ملمه

عليك من اللائي يدعنك أجدعا (١)

وكرب يفعل مثل : " كاد يفعل" ومثله مما يكون للفعل مخلصا من الحروف : " أخذ يفعل" و" جعل يفعل" ذهبوا بهذه الأفعال مذهب اسم الفاعل ولم يذهبوا بها مذهب المصادر لأن قولك أخذ زيد يفعل. وجعل يفعل هو داخل في الفعل. فصار بمنزلة" زيد يفعل" إذا كان في حال فعل. وهذا معناه. وقوله : أخذ وجعل تحقيقا لدخوله فيه. ولا يجوز فيها" أن" وكرب لا يمنع معناه من دخول" أن" لأن معناه : قرب أن يفعل. لأنك تقول قربان وكربان. إذا قرب من الابتلاء. ولم أسمع فيه" بأن" وإن كان معناه يحتملها.

ويوشك معناه : " يسرع" وهو ضد" يبطئ" ومعنى" أن" فيها صحيحة ؛ لأنه بمنزلة" يقرب" و" يبطىء" بمنزلة" يبعد" والذي يقول : يوشك زيد يخرج. بمنزلة (زيد يخرج) وقول سيبويه عند ذكره" كرب" وكاد لما ذكرناه في الكراسة التي تليها. يعني ما ذكره في هذا باب دخول الرفع بعد ابتداء إعراب الأفعال بيسير.

وأما قولهم : أريد لأفعل. (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ)(٢) ففيها وجهان :

أحدهما : وهو الأغلب على تأويل أصحابنا : أن الإرادة وقعت على أمر آخر غير مذكور وأن قوله" لأن أفعل" و" لأن أكون أول المسلمين". بمنزلة المفعول. فكأنه قال : أريد لأن تفعل أنت ما تفعله. وكذلك : أمرت به لأن أكون أول المسلمين.

والوجه الثاني : أن تكون اللام توكيدا. أدخلت على المفعول. كما قال الله عزوجل : (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)(٣) و (لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ)(٤) و (عَسى أَنْ يَكُونَ

__________________

(١) هو ابن نويرة (اليربوعي) والبيت من قصيدة يرثي بها أخاه الذي قتل في حرب الردة على يد خالد بن الوليد. الخزانة : ٢ / ٤٣٣ ، المقتضب : ٣ / ٧٤ ، ابن يعيش : ٨ / ٨٦.

(٢) سورة الزمر ، الآية : ١٢.

(٣) سورة الأعراف ، الآية : ١٥٤.

(٤) سورة يوسف ، الآية : ٤٣.

٣٩٦

رَدِفَ لَكُمْ)(١) والتأويل فيه كله : الذين هم لربهم يرهبون. والرؤيا تعبرون وردفكم. وقد حكى الكوفيون لغات ذكروا أنها في معنى واحد وهي : أردت أن أقوم. وأردت لأن أقوم. وأردت كي تقوم. وأردت لكي تقوم. وأردت لأقوم. وأردت لكي أن أقوم. وإذا دخل بعض هذه الحروف على بعض كان الاعتماد عندهم في العمل على الأول منها. وما بعده توكيد له. قالوا إذا قلت : جئتك لأكرمك" اللام" هي الناصبة" أكرمك" وإذا دخلت بعد هذه" اللام" كي فالنصب للام و" كي" مؤكدة لها. وإذا انفردت فالعمل لها. وكذلك إن جاءت" أن" بعدها فهي مؤكدة لها. ويجوز أن تأتي بعد" كي" فتكون مؤكدة" لكي" ويجوز أن تأتي بعد اللام" كي أن" فتؤكد بهما. وقد أنشد :

أردت لكيما أن تطير بقريتي

فتتركها شنا ببيداء بلقع (٢)

وأما قوله :

أتغضب أن أذنا قتيبة حزّتا (٣)

فإن الخليل يختار" إن أذنا قتيبة" بكسر" إن" ولم يخالفه سيبويه. لأن العرب لم تفصل بين" أن" المفتوحة الناصبة للفعل ولم يأت ذلك في كلام ولا شعر. فعدل عن المفتوحة إلى المكسورة وقد أتى الفصل في المكسورة. قال الله عزوجل : ـ (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ)(٤).

وقد رده أبو العباس المبرد. وتوهم أبو بكر مبرمان أنه إذا كسر" إن" فلا يجوز أن تكون أذناه محزوزتين. لأن" إن" توجب الاستقبال. وقد أحاط العلم أن الفرزدق قال هذا الشعر بعد قتل قتيبة وجز أذنيه. وليس الأمر على ما ظناه. وذلك أن العرب قد تعادل وتفاضل بين الفعلين الماضيين في الموافقة. فتستقبل الكلام بهما كقوله عزوجل : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ)(٥).

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ٧٢.

(٢) سبق تخريجه.

(٣) هو للفرزدق وسبق تخريجه.

(٤) سورة التوبة ، الآية : ٦.

(٥) سورة الرعد ، الآية : ٥.

٣٩٧

قال الشاعر : (١)

إن يقتلوك فأن قتلك لم يكن

عارا عليك وبعض قتل عار

وقال آخر : (٢)

إن يقتلوك فقد هتكت بيوتهم

بعتيبة بن الحارث بن شهاب

والمخاطبان مقتولان : والقتل واقع بهما. وقد كسر" إن" وقد قال الله عزوجل : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ)(٣) وقد علم أن قتلهم قد مضى قبل هذا الخطاب. وهذا ونحوه" يقع" على فعل غير هذا الظاهر كأنهم افتخروا بقتله فقال : " إن يفخروا وأبقتلك فأن الأمر كذا وكذا ..." وقوله عزوجل : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ.) ووقوفهم على جهة التوبيخ لهم (كما يقول القائل لمن يعنفه بما سلف من فعله فيقول : ويحك لم تكذب؟ لم تبغض نفسك إلى الناس؟ ووبخهم بقتل الأنبياء والفعل لغيرهم لأنهم تولوهم على ذلك ورضوا به فنسب إليهم.

وذهب أبو العباس إلى أن : " إن أذناه" بمعنى المشددة ووجه الكلام في : " تغضب" وترضى" بأن" الخفيفة.

قال الشاعر : (٤)

أتغضب أن يقال أبوك عف

وترض أن يقال أبوك زان

فأشهد أن إلّك من قريش

كإل الرال من ولد الأتان

__________________

(١) هو لثابت قطنة : ثابت بن جابر العتكي من الأزد يكنى أبا العلاء ، مات مقتولا في سمرقند سنة ١١٠ ه‍.

انظر الخزانة : ٤ / ٨٥ ، المغني : ١ / ١٣٤ ، الأغاني : ١٤ / ٢٧٩.

(٢) هو لربيعة بن سعد من بني نصر بن قعين يرثي ابنه. انظر دلائل الإعجاز ٢٥٥ ، شرح شواهد المغني ١١٩.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٩١.

(٤) الشاعر ابن مفرغ الحميري.

انظر الموشح للمرزباني : ٤٢١ ، والبيت في الشعر والشعراء : ١ / ٣٦٣. برواية.

وأشهد أن إلك من زياد

كأل الفيل من ولد الأتان

٣٩٨

ومعنى : أتغضب؟ يعني تغضب قيس من قتل قتيبة بن مسلم ولم تغضب لقتل عبد الله بن خازم السلمي وهما جميعا من" قيس" وقاتلاهما من بني تميم. وإنما يريد الفرزدق بهذا اعلو" بني تميم" على" قيس" والوضع من" قيس" على العجز عن الانتصار وطلب الثأر.

وباقي الباب مفهوم

هذا باب ما تكون فيه «أن» بمنزلة «أي»

وذلك قوله تعالى عزوجل : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا)(١) زعم الخليل أن" أن" بمنزلة" أي" لأنك إذا قلت : انطلق بنو فلان : أن امشوا فأنت لا تريد أن تخبر أنهم انطلقوا بالمشي ومثل ذلك : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ)(٢). وهذا تفسير الخليل ومثل هذا في القرآن كثير.

وأما كتبت إليه أن أفعل. وأمرته أن قم. فيكون على وجهين.

على أن تكون (أن) التي تنصب الأفعال. ووصلتها بحرف الأمر والنهي كما وصلت" الذي" يقول وأشباهها إذا خاطبت.

والدليل على أنها تكون" أن" التي تنصب أنك تدخل الباء فتقول : أوعز إليه بأن أفعل فلو كانت" أي" لم تدخلها الباء. كما تدخل في الأسماء.

والوجه الآخر : أن تكون بمنزلة" أي" كما كانت بمنزلة أي في الأول. وأما قوله عزوجل : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٣)." وآخر قولهم أن لا إله إلا الله" فعلى قوله : أنه الحمد لله. وعلى أنه لا إله إلا الله لا تكون. (أن) التي تنصب الفعل لأن تلك لا يبتدأ بعدها الأسماء ولا تكون" أي" لأنها إنما تجيء بعد كلام يستغنى. ولا يكون موضع المبني على المبتدأ ومثل ذلك : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا)(٤) كأنه قال : ناديناه أنك قد صدقت الرؤيا يا إبراهيم.

__________________

(١) سورة ص ، الآية : ٦.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ١١٧.

(٣) سورة يونس ، الآية : ١٠.

(٤) سورة الصافات ، الآيتان : ١٠٤ ، ١٠٥.

٣٩٩

وقال الخليل تكون أيضا على" أي".

وإذا قلت : أرسل إليه إن ما أنت وذا فهي على : " أي". وإن أدخلت أي على" أنه" و" أنك" فكأنك قلت : أرسل إليه بأنك ما أنت وذا.

ويدلك على ذلك أن العرب قد تكلم به في هذا الموضوع مثقلا. ومن قال : (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها)(١) فكأنه قال : أنه غضب الله عليها. لا تخففها في الكلام أبدا وبعدها الأسماء إلا وأنت تريد الثقيلة مضمرا فيها الاسم فلو لم يريدوا ذلك لنصبوا كما ينصبون إذا اضطروا في الشعر بكأن إذا خففوا يريدون معنى : " كأن" ولم يريدوا الإضمار وذلك قوله :

كأن وريديه رشاء خلب (٢)

وهذه الكاف إنما هي مضافة إلى" أن" فلما اضطروا إلى التخفيف ولم تضمر لم تغير ذلك أن تنصب بها كما أنك قد تحذف من الفعل فلا يتغير عن عمله. ومثل ذلك قول الأعشى :

في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن هالك كل من يحفى وينتعل (٣)

كأنه قال : أنه هالك. ومثل ذلك. أول ما أقول : أن باسم الله. كأنه قال : أول ما أقول أنه باسم الله وإن شئت رفعت في قول الشاعر :

كأن وريداه رشاء خلب

على الإضمار في قوله : " أنه من يأتها تعطه" أو يكون هذا المضمر هو الذي ذكر كما قال :

ويوم توافينا بوجه مقسم

كأن ظبية تعطوا إلى وارق السلم (٤)

__________________

(١) سورة النور ، الآية : ٩.

(٢) رجز لرؤبة في ملحقات ديوانه ص ١٦٩ ، الخزانة : ٤ / ٣٥٦ ، ابن يعيش : ٨ / ٨٢ ، والإنصاف : ١٩٨.

(٣) سبق تخريجه.

(٤) قائل البيت ابن حريم اليشكري واسمه باغث.

انظر الكتاب : ١ / ٢٨١ ، الخزانة : ٤ / ٣٦٤ ، المغني : ٢ / ٣٠١ ، والأشموني : ١ / ٢٩٣.

٤٠٠