شرح كتاب سيبويه - ج ٣

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٣

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

وبلد ليس به طوريّ

ولا خلا الجنّ به إنسيّ (١)

فتقديره : ولا به إنسيّ خلا الجن ، ف (به) مقدرة بعد لا محذوفة ؛ لأنه لو قال : ليس به طوريّ ولا إنسيّ ، فمعناه : ولا به إنسيّ ، فاستثنى بعد تقدم شيء في التقدير ، ويدل عليه ما قبله ، فيفسّر كأنه قال : ما به خلا الجنّ إنسيّ ، وتقديم الاستثناء فيه للضرورة ، والذي يحكى عن الكوفيين : جواز تقديم الاستثناء في أول الكلام.

قال الكسائي : " إلا طعامك ما أكل زيد" استثناء ، وجاز أن تضعه مقدما ومؤخرا.

وهذا عند أصحابنا لا يجوز من غير جهة :

فمنه أن تقديم الاستثناء في أول الكلام لم يقم عليه دليل من سماع ولا قياس.

ومنه أن (ما) لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. لا تقول : زيدا ما ضربت ، فإذا لم يجز ذلك كان جوازه بعد دخول" إلا" عليه أبعد.

هذا باب مجرى علامات المضمرين ، وما يجوز فيهن

وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى.

هذا باب علامة المضمرين المرفوعين

قال سيبويه : " اعلم أنّ المضمر المرفوع إذا حدّث عن نفسه فإن علامته أنا ، وإن حدّث عن نفسه وعن آخر قال : نحن ، وإن حدث عن نفسه وعن آخرين قال : نحن.

ولا يقع (أنا) ، في موضع التاء التي في فعلت ، لا يجوز أن تقول : فعل أنا ؛ لأنهم استغنوا بالتاء عن أنا ، ولا تقع نحن في موضع (نا) التي في فعلنا. لا تقول : فعل نحن.

وأما المضمر المخاطب : فعلامته إن كان واحدا : أنت ، وإن خاطبت اثنين فعلامتهما أنتما ، وإن خاطبت جميعا فعلامتهم أنتم.

واعلم أنه لا يقع أنت في موضع التاء التي في فعلت ، ولا أنتما في موضع (تما) التي في فعلتما. ألا ترى أنك لا تقول : فعل أنتما ، ولا يقع أنتم في موضع (تم) التي في : فعلتم ، لو قلت : فعل أنتم لم يجز. ولا يقع أنتن في موضع (تن) التي في فعلتنّ ، لو قلت : فعل أنتن لم يجز.

وأما المضمر المحدّث عنه فعلامته : " هو" ، وإن كان مؤنثا فعلامته : " هي" ، وإن

__________________

(١) البيت في ديوانه ٦٨ ؛ والخزانة ٣ / ٣١١ ، ٣١٢ ، ٣٣٨ ؛ تاج العروس (أنس).

١٠١

حدثت عن اثنين فعلامتهما : " هما". وإن حدثت عن جميع فعلامتهم" هم" ، وإن كان الجميع جميع مؤنث فعلامته : " هن".

ولا يقع هو في موضع المضمر الذي في فعل ، لو قلت : " فعل هو" لم يجز ، إلا أن يكون صفة. ولا يجوز أن يكون" هما" في موضع الألف التي في ضربا ، والألف التي في" يضربان" ، لو قلت : " ضرب هما" أو" يضرب هما" لم يجز. ولا يقع" هم" في موضع" الواو" التي في" ضربوا" ، ولا الواو التي مع النون في يضربون. لو قلت : " ضرب هم" أو" يضرب هم" لم يجز. وكذلك هي ، لا تقع موضع الإضمار الذي في" فعلت" ؛ لأنّ ذلك الإضمار بمنزلة الإضمار الذي له علامة. ولا تقع هن في موضع النون التي في فعلن ، ويفعلن ، لو قلت : فعلت هي أو فعل هنّ لم يجز ، إلا أن يكون صفة ، كما لم يجز ذلك في المذكر ؛ والمؤنث يجري مجرى المذكر.

ف (أنا) ، وأنت ، ونحن وأنتما ، وأنتن ، وهو ، وهي ، وهما ، وهم ، وهن لا يقع شيء منها في موضع شيء من العلامات مما ذكرنا ، ولا في موضع المضمر الذي لا علامة له ؛ لأنهم استغنوا بهذا فأسقطوا ذلك".

قال أبو سعيد : أدخل الاسم المضمر في الكلام خوفا من اللبس ، واحتراسا منه ، ومن النحويين من يسميه المكنيّ ؛ وذلك أن الأسماء الظاهرة كثيرة الاشتراك والالتباس ، وليس لها أحوال تقترن بها تدل على المختص منها إذا التبست ، وإنما يدل على اختصاص المختص منها في كثير من أحواله الصفات ، كقولنا : مررت بزيد البزّاز ، وبهذا الرجل ، وبرجل ظريف.

والمضمرات تستغنى عن ذلك بالأحوال المقترنة بها ، المغنية عن صفاتها ، وهي ثلاثة أقسام : المتكلم والمخاطب ، والغائب ، والأحوال المقترنة بها : حضور المتكلم والمخاطب ، والمشاهدة لهما ، وتقدّم ذكر الغائب الذي يصيّره بمنزلة الحاضر المشاهد في الحكم.

وأعرفهم المتكلم ، ثم المخاطب ، ثم الغائب. وإنما صار المتكلم أعرف لأنه لا يوهمك غيره.

فإن قال قائل : فقد يتكلم المتكلم فلا يعرفه السامع فيسأل عنه ، فيقول : " من المتكلم؟ " ، كما يقال : " من المخاطب؟ " إذا سمع خطاب لا يعرف المعنىّ به.

قيل له : المتكلم قد عرف حسّا ، وإن جهل نبه ؛ لأن الذي يسمع كلامه إن لم يكن بينهما حجاب فهو يعاينه ، ويسمع كلامه ، وإن كان بينهما حجاب فقد أحسّ كلامه

١٠٢

بسمعه إياه ، فأما سؤاله عنه فكما يسأل الرجل عمن يعاينه ، فيقول : من هذا؟ ومن الرجل؟ فيكشف ما ذكرناه أن رجلا محجوبا لو أحسّ بجماعة بقربه فسمع واحدا منهم يقول : أنا قتلت فلانا ، وأنا فعلت وصنعت ، علم أن القاتل هو المتكلم ، لا يذهب وهمه إلى غيره ، ولو سمع أنت قتلت فلانا لم يذهب وهمه إلى بعض من حضر دون بعض ، والمخاطب يتلو المتكلم بالحضور والمشاهدة ، وأضعفها تعريفا" كناية الغائب" ؛ لأنها تكون كناية عن معرفة ونكرة ، حتى قال بعض النحويين : " كناية النكرة بمنزلة النكرة".

وأعرفهم المتكلم ، ثم المخاطب ، ثم الغائب. وإنما صار المتكلم أعرف لأنه لا يوهمك غيره.

فإن قال قائل : فقد يتكلم المتكلم فلا يعرفه السامع فيسأل عنه ، فيقول : " من المتكلم؟ " ، كما يقال : " من المخاطب؟ " إذا سمع خطاب لا يعرف المعنىّ به.

قيل له : المتكلم قد عرف حسّا ، وإن جهل نسبه ؛ لأن الذي يسمع كلامه إن لم يكن بينهما حجاب فهو يعاينه ، ويسمع كلامه ، وإن كان بينهما حجاب فقد أحسّ كلامه بسمعه إياه ، فأما سؤاله عنه فكما يسأل الرجل عمن يعاينه ، فيقول : من هذا؟ ومن الرجل ، ويكشف ما ذكرناه أن رجلا محجوبا لو أحسّ بجماعة بقربه فسمع واحدا منهم يقول : أنا قتلت فلانا ، وأنا فعلت وصنعت ، علم أن القاتل هو المتكلم ، لا يذهب وهمه إلى غيره ، ولو سمع أنت قتلت فلانا لم يذهب وهمه إلى بعض من حضر دون بعض ، والمخاطب يتلو المتكلم بالحضور والمشاهدة ، وأضعفها تعريفا" كناية الغائب" ؛ لأنها تكون كناية عن معرفة ونكرة ، حتى قال بعض النحويين : " كناية النكرة بمنزلة النكرة".

فأما المتكلم فجعل له لفظ ينفرد به لا يشاركه فيه غيره كما لا يشاركه غيره في لفظه ، وعبارته عن نفسه وغيره ، إذ كان لا يجوز أن يكون كلام واحد من متكلّمين ، ولفظ واحد من لافظين ، ومن أجل ذلك يستوي لفظ المتكلم المذكر والمؤنث ؛ لأنّ الفصل بين المؤنث والمذكر إنما يحتاج إليه لئلا يتوهّم غير المقصود في موضع المقصود ، وتثنية المتكلم وجمعه على لفظ واحد ، أما في الضمير المنفصل المرفوع فهو" نحن" في الاثنين والجميع.

وأما في الضمير المتصل المرفوع ب" نا" كقولك : " قمنا" و" ذهبنا" في الاثنين والجميع ، وإنما يستوي لفظ الاثنين والجميع ؛ لأنه على غير طريق التثنية والجمع في غيره. وذاك أن المثنى هو شيئان متساويا اللفظ ضم أحدهما إلى الآخر" كزيد وزيد" و" رجل ورجل" وما أشبه ذلك.

١٠٣

والمجموعة هو جماعة متساو واللفظ ضم بعضهم إلى بعض كقولنا : " زيد وزيد وزيد" ، و" رجل ورجل ورجل" ، فيقال : " زيدون" و" رجال".

والمتكلم لا يشاركه متكلم آخر في خطاب واحد فيكون اللفظ لهما ، فتبطل تثنيته وجمعه على منهاج التثنية والجمع ، ولكنه كما كان قد يتكلم عن نفسه وحده ، ويتكلم عن نفسه وغيره ، جعل اللفظ الذي يتكلم به عن نفسه وغيره مخالفا للفظ الذي له وحده ، واستوى أن يكون غيره المضموم إليه واحدا واثنين وجماعة ؛ فيقول : أنا خارج ، ونحن خارجان ، ونحن خارجون ، وقمت ضاحكا ، وقمنا ضاحكين ، وقمنا ضاحكين.

وأما المخاطب فإنه يفصل بين لفظ مؤنثه ومذكّره ، ويثنى ويجمع ؛ فيقال للمذكر : أنت ، وقمت ، وللمؤنث : أنت ، وقمت ، وكذلك ضربتك للمذكر ، وضربتك للمؤنث ، وكسر ما ذكرناه في علامة المؤنث ، والياء في هي وفي ذي ، في مؤنث هو وذا ، كله محمول على الياء في : (تفعلين) وفصل بين المؤنث والمذكر في الخطاب ؛ لأنه قد يكون بحضرة المتكلم اثنان من المؤنث والمذكر وهو مقبل عليهما ، فيخاطب أحدهما ، فلا يعرف حتى ينبهه بعلامته ، وثنّى المخاطب وجمع لما ذكرنا من انصراف الخطاب إلى بعض الحاضرين دون بعض ، فعلم بالتثنية والجمع المقصود منهم بالخطاب.

وإذا ضم إلى المخاطب غائب صار لفظه كلفظ الاثنين المخاطبين ، وإذا ضم إليه أكثر من واحد صار لفظه كلفظ الجماعة المخاطبين ، فيقال : أنتما خرجتما ، وأحدهما حاضر ، وأنتم خرجتم وأحدهم حاضر ، وعلى هذا حملت الأبيات المنشدة في خطاب الواحد بلفظ الاثنين. قال امرؤ القيس :

خليلّي مرّا بي على أمّ جندب

نقضّ لبانات الفؤاد المعذّب (١)

ثم قال :

ألم تر أني كلّما جئت طارقا

وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب (٢)

ويروى : (ألم ترياني) ، والشاهد في الأول.

وقال آخر :

خليليّ قوما في عطالة فانظرا

أنارا ترى من نحو يبرين أم برقا (٣)

__________________

(١) البيت في ديوانه ٤١.

(٢) البيت منسوبا لامرئ القيس في ديوانه ٤١.

(٣) البيت منسوبا لسويد بن كراع العكلي ، وتاج العروس (عطل).

١٠٤

فقال : " ترى" بعد" خليليّ" ، وقال آخر :

فإن تزجراني يا ابن عفّان أزدجر

وإن تتركاني أحم عرضا ممنّعا (١)

وقال أوس بن حجر :

يا ابني شراحيل ما بالي وبالكما

إنّ المجاهل منها عرية قذف

أذمة لكما عندي فنطلبها

أم من عرام إلهي نالكم نطف

فنطلبها لواحد ، وابتداء الخطاب لاثنين ، ويروى" فأعطيها" ، وتعود" الهاء" إلى ذمة ، وهذا لا شاهد فيه.

وقال بعض النحويين : إنّ العرب جرت عادتها في خطاب الواحد بلفظ الاثنين ، على عادتهم إذا أرادوا الرحيل وأمروا برحلة البعير ، وشدّ الأداة عليه ، أن يأمروا اثنين بالشد ، فيقولون : " يا غلامان ارحلاه ، ونحو ذلك ، وهذا يكثر في كلامهم ، فجروا على عادة ذلك اللفظ وإن أرادوا واحدا.

وذكر بعض النحويين أن قوله عزوجل : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ)(٢) خطاب لواحد وأجري بلفظ الاثنين ، فإذا صح أنه خطاب لواحد فهو على نحو ما ذكرناه.

وأما ضمير الغائب فإنه يثنى ويجمع وتبين فيه علامة المؤنث ، وهو أولى بذلك ؛ لأنه ضمير ظاهر قد جرى ذكره ، والظاهر يثّنّى ويجمع ، ويدخل فيه المؤنث.

واعلم أن في المضمرات منفصلا ومتصلا :

فأما المنفصل فهو : " أنا" و" أنت" و" نحن" و" أنتما" و" أنتم" و" أنتن" و" هو" و" هي" و" هما" و" هم" و" هن" ، وقد أجري الضمير للمنصوب : " إيا" وما يتصل بها من علامة المتكلم والمخاطب والغائب في التثنية والجمع ، والمؤنث والمذكر نحو : إياي ، وإيانا ، وإياه ، وإياهما ، وإياهم ... ، وسائر ما يتصل بإيا.

وأما الضمير المتصل فهو : كل ضمير لمجرور ، وكل ضمير لمنصوب سوى (إيا) ، وكل ضمير لمرفوع سوى ما ذكرناه من (أنا) وما بعده إلى (هن) ، إنما جعل بعضه متصلا وبعضه منفصلا ؛ لاختلاف مواقع ما نضمر ؛ لأن الأسماء التي تضمر بعضها يتصل باللفظ العامل الذي يعمل فيه ، فضميره يقع موقعه في الاتصال بالعامل ، وبعضها ينفصل عن

__________________

(١) البيت منسوب لسويد بن كراع العكلي ، الخزانة ١١ / ١٧ ؛ ولسان العرب (جزز) ؛ وتاج العروس (جزز).

(٢) سورة ق ، من الآية : ٢٤.

١٠٥

عامله بالتقدّم عليه ، وبالفصل بينه وبينه ، فضميره منفصل من عامله.

ومن المنفصل أيضا ضمير الاسم الذي لا لفظ يعمل فيه فيتصل به.

وجملة الضمير تجري مجرى حروف المعاني التي تستعمل في الأشياء المختلفة ، وهي حروف قليلة محصورة تستعمل فيما لا يحصي من الأسماء والأفعال ، كحروف العطف ، وحروف الخفض ، وحروف النصب في الأسماء والأفعال ، وحروف الجزم وحروف الاستفهام وما جرى مجراهن ، وكذلك الضمائر هي ضمائر أسماء مختلفة بألفاظ قليلة محصورة تتكرر على كل المضمرات ، فلما كانت كذلك قلّلت حروفها ، فجعل ما كان منها متصلا على حرف ، إلا أن يكون هاء فيزاد عليه حرف آخر لخفائه ، كالتاء في قمت ، والكاف في ضربتك ، وجعل بعض المتصل في النية كالضمير في أفعل ونفعل وتفعل ، وفي زيد قام ، وزيد في التثنية والجمع ، واحتمل أن يكون على حرف واحد ؛ لأنه يتصل بما قبله من حروف الكلمة.

وإذا كان منفصلا كان على حرفين أو أكثر ؛ لأنه لا يمكن إفراد كلمة على حرف واحد ، والمنفصل منفرد عن غيره بمنزلة الاسم الظاهر ، وهذه سبيل حروف المعاني ؛ منها ما هو على حرف واحد كواو العطف والباء واللام ، ومنها ما هو على أكثر من حرف ك (عن وعلى).

ومن أجل أنّ المتصل أقلّ حروفا من المنفصل كان النطق بالمتصل أخفّ ، فلم يستعملوا المنفصل في المواضع التي يقع فيها المتصل ؛ لأنهم لا يؤثرون الأثقل على الأخفّ إلا في الضرورة ، وهذا الذي ضمّنه سيبويه الباب حين قال : (لا يقع أنت موضع التاء في فعلت ، ولا أنتما في موضع تما التي في فعلتما ، وسائر ما ذكره إثر هذه إلى آخر الباب.

فإن قال قائل : فلم تغيرت حروف المضمرات وصيغتها في الرفع والنصب؟ فيقال : أنت في الرفع ، وإياك في النصب ، والتاء في ضربتك للمرفوع ، والكاف للمنصوب ، ومن سبيل الأسماء الظاهرة أن لا تتغير حروفها وصيغتها كقولك : (هذا زيد) ، و (رأيت زيدا) و (مررت بزيد)؟

قيل : لمّا كانت الضمائر واقعة مواقع الأسماء المعربة المختلفة الإعراب ، وهي مبنية ، جعلوا العوض من الإعراب الدّال على المعاني المختلفة تغيير صيغة ؛ ليدلّ على مثل ما دلّ عليه الإعراب وهو مبني.

١٠٦

هذا باب استعمالهم علامة الإضمار الذي لا يقع

موقع ما يضمر في الفعل

الذي لم يقع موقعه

قال سيبويه : " فمن ذلك قولهم : (كيف أنت؟ وأين هو؟ من قبل أنك لا تقدر على التاء هاهنا ، ولا على الإضمار الذي في فعل. ومثل ذلك : نحن وأنتم ذاهبون ؛ لأنك لا تقدر هاهنا على التاء والميم التي في فعلتم ، كما لا تقدر في الأول على التاء التي في فعلت. وكذلك جاء عبد الله وأنت ؛ لأنك لا تقدر على التاء التي تكون في الفعل. وتقول : فيها أنتم ؛ لأنك لا تقدر على التاء. هاهنا وفيها هم قياما ، بتلك المنزلة ؛ لأنك لا تقدر هنا على الإضمار الذي في فعل.

ومثل ذلك : أما الخبيث فأنت ، وأمّا العاقل فهو ؛ لأنك لا تقدر هنا على شيء مما ذكرنا. وكذلك : كنّا وأنت ذاهبين ، وكذلك : أهو هو. قال الله عزوجل : (كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ ...) [النمل : ٤٢] ؛ فوقع هو هاهنا لأنك لا تقدر على الإضمار الذي في فعل. وقال الشاعر :

فكأنّها هي بعد غبّ كلالها

أو أسفع الخدّين شاة إران (١)

وتقول : ما جاء إلا أنا. قال عمرو بن معدي كرب :

قد علمت سلمى وجاراتها

ما قطّر الفارس إلا أنّا (٢)

وكذلك ها أنا ذا ، وها نحن أولاء ، وها هو ذاك ، وها أنت ذا ، وها أنتم أولاء ، وها أنتن أولاء.

وإنما استعملت هذه الحروف هاهنا لأنك لا تقدر على شيء من الحروف التي تكون علامة في الفعل ، ولا على الإضمار الذي في فعل.

وزعم الخليل أن (ها) هاهنا هي التي مع (ذا) إذا قلت : (هذا) ، وإنما أرادوا أن يقولوا : هذا أنت ، ولكنهم جعلوا أنت بين ها وذا ؛ وأرادوا أن يقولوا : أنا هذا وهذا أنا ، فقدموا ها وصارت أنا بينهما.

__________________

(١) البيت منسوب للبيد بن ربيعة ١٤٣ ، الكتاب ٢ / ٣٥٣ ؛ وفي لسان العرب ، وتاج العروس (أرن ، شوه).

(٢) البيت في ديوانه ١٥٥ ؛ والكتاب ٢ / ٣٥٣ ؛ لسان العرب ، وتاج العروس (قطر).

١٠٧

وزعم أبو الخطاب أنّ بعض العرب الموثوق بهم يقولون : هذا أنا وأنا هذا.

ومثل ما قال الخليل في هذا قول الشاعر وهو لبيد :

ونحن اقتسمنا المال نصفين بيننا

فقلت لهم هذا لها ها وذا ليا (١)

كأنه أراد أن يقول : وهذا لي ، فصيّر الواو بين ها وذا.

وزعم أن مثل ذلك إي ها الله ذا ، إنما هو هذا.

وقد تكون ها في ها أنت ذا غير مقدمة ، ولكنها تكون بمنزلتها في هذا ؛ يدلّك على ذلك قوله : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) [آل عمران : ٦٦] ، فلو كانت ها هاهنا هي التي تكون مع أولاء إذا قلت : هؤلاء ، لم تعد هاهنا بعد أنتم.

وحدثنا يونس أيضا تصديقا لقول أبي الخطاب ، أنّ العرب تقول : هذا أنت تقول كذا وكذا ، لم يرد بقوله : هذا أنت ، أن يعرّفه نفسه ، كأنك تريد أن تعلمه أنه ليس غيره. هذا محال ، ولكنه أراد أن ينبهه ، كأنه قال : الحاضر عندنا أنت ، أو الحاضر القائل كذا وكذا.

وإن شئت لم تقدم ها في هذا الباب ، قال الله عزوجل : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ)(٢).

قال أبو سعيد : قد بينا أن الضمير المنفصل هو الذي لا يلي عاملا ، ولا يتصل به ، إمّا أن يكون معرّى من عامل لفظي ، أو يكون مقدما على عامله ، أو مفصولا بينه وبينه بحرف استثناء ، أو حرف عطف ، أو بشيء يفصل بينه وبين عامله فصلا لازما.

فأما ضمير المرفوع المنفصل فله خمسة مواضع : الابتداء ، وخبره ، وخبر إنّ وأخواتها بمنزلة خبره ، وبعد حرف الاستثناء ، وبعد حرف العطف.

فالابتداء والخبر معرّيان من عامل لفظي ، وضميرهما منفصل كقولك : (كيف أنت؟) و (أين هو؟) ؛ كيف وأين خبران مقدمان ، وأنت وهو مبتدآن ، وكذلك نحن وأنتم ذاهبون ؛ نحن مبتدأ ، وأنتم عطف عليه ، و (ذاهبون) خبرهما ، وكذلك (جاء عبد الله وأنت) أنت عطف على عبد الله ، وانفصل لأنه وقع بعد حرف العطف ، ولم يلتزق بالعامل ، ولم يمكن ذلك فيه.

__________________

(١) البيت في ديوانه ٣٦٠ ؛ والخزانة ٤٦١ ؛ ابن يعيش ٨ / ١١٤ ؛ الكتاب ٢ / ٣٥٤ ؛ المقتضب ٢ / ٣٢٢.

(٢) سورة البقرة ، من الآية : ٨٥.

١٠٨

ومن الضمير المنفصل الواقع موقع المبتدإ أقوله : (فيها أنتم) ؛ لأن (فيها) خبر مقدم ، و (أنتم) مبتدأ ، وتقديره : (أنتم فيها) ، ومثله (فيها هم قياما) ، وقوله : (أما الخبيث فأنت) ، و (أما العاقل فهو) ، أنت وهو مبتدآن ، وخبرهما ما قبلهما ، أو خبران لما قبلهما ، وقوله : (أهو هو؟) مبتدأ أو خبر ، وهما منفصلان ، وكأنه هو وأوتينا هو خبر كأن ، وقول لبيد : (كأنها هي) ؛ هي خبر كأنها ، وإنما يصف ناقة أنها بعد كلالها وتعبها كأنها نفسها قبل الكلال في النشاط والقوة ، أو كأنها أسفع الخدين شاة إران ، يعني ثورا وحشيّا ، ويسمّى الثور الوحشي : شاة ، والبقرة الوحشية : شاة ونعجة ، وإران : نشاط ، ويقال : عدو ، أرن يأرن أرنا ، والاسم الإران ، ويقال : الإران كناس الوحشية ، وكناسها مثل البيت تأويه ، والإران : سرير الميت ، ومنه قول الشاعر وهو طرفة :

أمون كألواح الإران نسأتها (١)

والتفسير الذي ذكرته أنّ (هي) ترجع إلى الناقة على معنى : كأنها نفسها ، شيء رأيت أصحابنا يفسرونه به ، والذي رأيت عليه مفسّري شعر لبيد يذكرونه : أنّ (هي) كناية عن سفينة ذكرت قبل هذا البيت في القصيدة،شبّه الناقة بها في السرعة ، وذلك قوله :

فصددت عن أطلالهن بجسرة

عيرانة كالعقر ذي البنيان

كسفينة الهنديّ طابق درءها

بسقائف مشبوحة ودهان

فكأنها هي بعد غبّ كلالها

أو أسفع الخدين شاة إران (٢)

أراد فكأنها السفينة المذكورة.

وقوله : (ما قطّر الفارس إلا أنا) وقعت الكناية بعد حرف الاستثناء فكانت منفصلة.

وأما قوله : (ها أنا ذا) ، و (ها نحن أولاء) ، و (ها هو ذاك) و (ها أنت ذا) ، و (ها أنتم أولاء) ، و (ها أنتن أولاء) ف (ها) للتنبيه ، والأسماء بعدها مبتدآت ، والخبر أسماء الإشارة : (ذا ، وأولاء ، وذاك) ، وإن شئت جعلت الضمير المقدم هو الخبر ، والإشارة هي الاسم ، وأما : (ها) فيجوز أن تكون مع (ذا) وفصل بينهما بأنت ، والمراد بها أن تكون مع (ذا) ، والتقدير : أنا هذا ، ويجوز أن يكون التنبيه للمضمر ؛ لأنهما يشتركان في الإبهام.

فأما من قدر (ها) مع (ذا) وإن فصل بينهما بأنت فيحتج بقول زهير :

__________________

(١) البيت في ديوانه ٢٢.

(٢) الأبيات منسوبة للبيد بن ربيعة في ديوانه ١٤٢ ، ١٤٣.

١٠٩

تعلماها لعمر الله ذا قسما

فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك (١)

وإنما هو : (تعلما هذا لعمر الله قسما) ، ويحتج أيضا بقوله :

 ...

فقلت لهم هذا لها ها وذا ليا

والتقدير : (هذا لها ، وهذا لي) ، فصيّر الواو بين (ها) و (ذا).

ويحتج أيضا بقولهم : (لا ها الله ذا) ، واسم الله عزوجل ظاهر لا يدخل عليه (ها) للتنبيه ، كما لا تدخل على (زيد) ونحوه ، وإنما معناه : (لا والله هذا).

وأما من يقدّر أن (ها) داخلة على (أنت) غير منوي دخولها على (ذا) فإنه يحتج بقوله عزوجل : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) [آل عمران : ٦٦]. فأتي ب (ها) فأدخلها على (أنتم) ، ثم أعادها في (أولاء) ؛ فلو كانت الأولى منويّا بها التأخير لكانت (ها) الأولى والثانية جميعا ل (أولاء) ، وهذا بعيد ، وهذه حجة سيبويه ، ومعنى قوله : وقد تكون (ها) في (ها أنت ذا) غير مقدمة ، أي في موضعها ل (أنت) ، غير مقدمة من (ذا) إلى (أنت).

وقال أبو سعيد : وإنما يقول القائل : (ها أنا ذا) ، إذا طلب رجل لم يدر أحاضر هو أم غائب؟ فقال المطلوب : (ها أنا ذا) أي الحاضر عندك أنا ، وإنما يقع جوابا ، ويقول القائل : (أين من يقوم بالأمر؟) فيقول له الآخر : (ها أنا ذا) ، أو (ها أنت ذا) ، أي أنا في ذاك الموضع الذي التمست فيه من التمست ، أو أنت في ذلك الموضع ، وأكثرمايأتي في كلام العرب(هذا) بتقديم (ها) والفصل بينها وبين ذا ، بالضمير المنفصل.

والذي حكاه أبو الخطاب عن العرب الموثوق بهم من قولهم : (هذا أنا) و (أنا هذا) هو في معنى : (ها أنا ذا) ، ولو ابتدأ إنسان على غير هذا الوجه الذي ذكرناه فقال : (ها أنت ، وها أنا) ، يريد أن يعرّفه نفسه كان محالا ؛ لأنه إذا أشار له إلى نفسه فالإخبار عنه ب (أنت) لا فائدة فيه ؛ لأنك إنما تعلمه أنه ليس غيره ، ولو قلت : (ما يزيد غير زيد) ، و (ليس زيد غير زيد) كان لغوا لا فائدة فيه ، ولو قلت. هذا أنت والإشارة إلى غير المخاطب لجاز ، ومعناه : هذا مثلك،كما تقول : زيد عمرو على معنى:زيد مثل عمرو.

والذي حكاه يونس عن العرب : هذا أنت تقول كذا كذا ، هو مثل قوله عزوجل : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٥] ؛ لأن قولهم : هذا أنت كقولك : أنت هذا ، أحدهما مبتدأ والآخر خبره ، أيهما شئت جعلته المبتدأ ، وجعلت الآخر الخبر.

__________________

(١) البيت في ديوانه ١٨٢ ؛ الخزانة ١ / ٤١ ، ٥ / ٤٥١ ، ١١ / ١٩٤ ؛ والكتاب ٣ / ٥٠٠ ، ٥١٠ ، وتاج العروس (سلك) ، والمقتضب ٢ / ٣٢٣.

١١٠

وقولهم : يفعل كذا وكذا ، في موضع الحال عند البصريين ؛ كأنك قلت : (هذا زيد فاعلا كذا) ، العامل فيه معنى التنبيه ، وعند الكوفيين المنصوب في هذا بمنزلة الخبر ؛ لأن المعنى عندهم : زيد فاعل كذا ، ثم أدخلوا هذا للوقت الحاضر كما يدخلون كان لما قضى ، فإذا أدخلوا هذا وهو اسم ، ارتفع به زيد ، وارتفع هو بزيد على ما يوجبه حكم المبتدإ والخبر ، وانتصب الذي بعده لارتفاع زيد بهذا ، ويسمّي أهل الكوفة هذا : (التقريب) ، ومنزلته عندهم منزلة كان ؛ لأن كان دخلت على : زيد قائم ، فارتفع زيد بها ، وبطل ارتفاعه بقائم ، وارتفاع قائم فانتصب ، ولا يجوز إسقاط المنصوب ؛ لأنّ الفائدة به معقودة ، والقصد إليه.

ويجوز عند الكوفيين : هذا زيد القائم ، كما يجوز كان زيد القائم ، ولا يجوز عند البصريين : (هذا زيد القائم) لأن مجراه مجرى الحال عندهم.

وأما قوله عزوجل : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٥] ففيه ثلاثة أقوال :

أحدها : مذهب أصحابنا وهو : أنّ أنتم هؤلاء مبتدأ أو خبر ، وتقتلون أنفسكم في موضع الحال ، تقديره : (قائلين أنفسكم).

وعلى أصل مذهب الكوفيين تقتلون خبر التقريب ، على ما ذكرناه من مذهب الكوفيين.

وقال أحمد بن يحيى ثعلب : هؤلاء في معنى (الذين) ، وتقتلون في صلتها ، كأنه قال : (ثم أنتم الذين تقتلون أنفسكم). كما قال ابن مفرغ :

عدس ما لعبّاد عليك إمارة

أمنت تحملين طليق (١)

معناه : والذي تحملين طليق ، وكان ينبغي على ما قدّره أحمد بن يحيى أن يقرأ : ثم أنتم هؤلاء يقتلون أنفسهم على تقدير : (ثم أنتم الذين يقتلون أنفسهم).

ويجوز عند البصريين : (ثم أنتم الذين تقتلون أنفسكم) في الضرورة ، وليس ذلك بالمختار ، وأنشدوا فيه لمهلهل :

وأنا الذي قتّلت بكرا بالقنا

وتركت مرة غير ذات سنام (٢)

__________________

(١) البيت في ديوانه ١١٥ ؛ الخزانة ٦ / ٤١ ، ٤٢ ؛ ابن يعيش ٤ / ٢٣ ، ٧٩ ؛ ولسان العرب وتاج العروس (حدس ، عدس).

(٢) البيت في ديوانه ، الخزانة ٦ / ٧٣ ؛ ابن يعيش ٤ / ٢٥ ؛ المقتضب ٤ / ١٣٢.

١١١

والوجه : (وأنا الذي قتل). والآخر :

يا أيها الذكر الذي قد سؤتني

وفضحتني وطردت أمّ عياليا (١)

والوجه : (يا أيها الذكر الذي قد ساءني) ، والآخر :

يا مرّ يا ابن واقع يا أنتا

أنت الذي طلقت عام جعتا

حتى إذا اصطبحت واغتبقتا

أقبلت مرتادا لما تركتا (٢)

والوجه : (الذي طلق عام جاع).

وذكر أحمد بن يحيى أنه إنما قال : (هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) على هذه اللغة ؛ لأنه قد تقدم ذكر (أنتم) ، وتقدير (أنت الذي قمت) عند الكوفيين : (أنت قمت) ، وألغي (الذي) ؛ لأن الكلام لا يختل بإسقاطه ، ومثله (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ)(٣) و (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ)(٤) فيهما الوجوه التي ذكرتها.

فإن قال قائل : إذا زعمتم أنّ قوله : (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) في موضع الحال ، والحال فضلة في الكلام ، فهل يجوز أن تقول : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ).

قيل له : إذا كان المقصد الإخبار عما أوجب حكم اللفظ فيه أن يكون حالا وجب أن يجري لفظه على الحال ، وتصير الحال لازمة على ما أوجبه المعنى ، كما أنّ الصفة في بعض المواضع لازمة ، كقولك : (مررت بمن صالح) ، و (يا أيها الرجل ، فصالح والرجل صفتان لازمتان لا يجوز إسقاطهما من الكلام ، وإن كان أهل الصفة أن تكون مستغنى عنها.

وأيضا فإنا رأينا الحال مع المصادر لا يستغنى عنها في مثل قولك : (شربك المسويق ملتوتا) ونحوه.

وأما قوله :

هذا لها ها وذا ليا (٥)

__________________

(١) البيت منسوب لأبي النجم العجلي ؛ المقتضب ٤ / ١٣٢.

(٢) البيت منسوب لسالم بن دارة ؛ الخزانة ٢ / ١٣٩ ؛ وبلا نسبة في ابن يعيش ١ / ١٢٧ ، ١٣٠ ؛ ولسان العرب وتاج العروس (الياء).

(٣) سورة آل عمران ، من الآية : ٦٦.

(٤) سورة آل عمران ، من الآية : ١١٩.

(٥) سبق تخريج هذا البيت.

١١٢

بمعنى : (وهذا ليا) ، فإنما جاز تقديم (ها) على الواو ؛ لأن (ها) تنبيه ، والتنبيه قد يدخل على الواو إذا عطف بها جملة على جملة كقولك : (ألا إنّ زيدا خارج) ، (ألا وإنّ عمرا مقيم) ، ونحو هذا ، فاعرفه إن شاء الله تعالى.

هذا باب علامة المضمرين المنصوبين

قال سيبويه : اعلم أنّ علامة المضمرين المنصوبين إيا ما لم يقدّر على الكاف التي في رأيتك ، وكما التي في رأيتكما ، وكم التي في رأيتكم ، وكنّ التي في رأيتكن ، والهاء التي في رأيته ، والهاء التي في رأيتها ، وهما التي في رأيتهما ، وهم التي في رأيتهم ، وهنّ التي في رأيتهن ، وفي التي في رأيتني ، ونا التي في رأيتنا.

فإن قدّرت على شيء من هذه الحروف في موضع لم توقع إيّا ذلك الموضع ؛ لأنهم استغنوا بها عن إيا ، كما استغنوا بالتاء وأخواتها في الرفع عن أنت وأخواتها.

قال أبو سعيد : هذه الضمائر المنصوبة المتصلة التي ذكرها سيبويه لا يجوز استعمال إيا مكانها ؛ لأنّ إيا منفصل ، وإنما تستعمل إيا في الموضع الذي لا يقع فيه المتصل ، وقد تقدم ذكر ذلك ، والباب مفهوم كلامه فيه.

هذا باب استعمالهم إيّا إذا لم يقع مواقع الحروف التي ذكرنا

قال سيبويه : فمن ذلك : إياك رأيت ، وإياك أعني ، فإنما استعملت إياك هاهنا من قبل أنك لا تقدر على الكاف. وقال الله عزوجل : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١) من قبل أنك لا تقدر على كم هاهنا.

وتقول : إنّي وإيّاك منطلقان ؛ لأنك لا تقدر على الكاف. ونظير ذلك قوله تعالى : (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)(٢).

فلو قدرت على الهاء التي في : رأيته لم تقل : إياه. وقال الشاعر :

مبرأ من عيوب النّاس كلّهم

فالله يرعى أبا حرب وإيّانا (٣)

لأنه لا يقدر على (نا) التي في رأيتنا. وقال آخر :

لعمرك ما خشيت على عديّ

سيوف بني مقيّدة الحمار

__________________

(١) سورة سبأ ، من الآية : ٢٤.

(٢) سورة الإسراء ، من الآية : ٦٧.

(٣) في الكتاب ٢ / ٣٥٦ ؛ وابن يعيش ٣ / ٧٥.

١١٣

ولكنّي خشيت على عديّ

سيوف الجنّ أو إيّاك حار (١)

لأنه لا يقدر على الكاف.

وتقول : إن إياك رأيت كما تقول : إياك رأيت ؛ من قبل أنك إذا قلت : إنّ أفضلهم منتصب ب لقيت.

هذا قول الخليل ، وهو في هذا غير حسن في الكلام ؛ لأنه إنما يريد : إنه إياك لقيت ، فترك الهاء ، وهذا جائز في الشعر.

وإن قلت : إنّ أفضلهم لقيت فنصب ب إنّ ، فهو قبيح ، حتى تقول : لقيته ، وقد تبين وجه ذلك.

وتقول : عجبت من ضربي إيّاك. فإن قلت : لم؟ وقد تقع الكاف هاهنا وأخواتها ، تقول : عجبت من ضربيك ومن ضربيه ، ومن ضربيكم؟ فالعرب قد تكلّم بهذا ، وليس بالكثير.

ولم تستحكم علامات الإضمار التي لا تقع إيا مواقعها كما استحكمت في الفعل ، لا يقال : عجبت من ضربكني إن بدأت به قبل المتكلم ، ولا من ضربهيك إن بدأت بالبعيد قبل القريب. فلما قبح هذا عندهم ، ولم تستحكم هذه الحروف عندهم في هذا الموضع ، صارت إياك عندهم في هذا الموضع بمنزلتها في الموضع الذي لا يقع فيه شيء من هذه الحروف.

ومثل ذلك : كان إياه ؛ لأن كانه قليلة ، ولم تستحكم هذه الحروف هاهنا ، لا تقول : كانني ، وليسني ، ولا كانك. فصارت إيّا هنا بمنزلتها في ضربي إياك.

وتقول : أتوني ليس إياك ، ولا يكون إياه ؛ لأنك لا تقدر على الكاف ولا الهاء هاهنا ، فصارت (إيّا) بدلا من الكاف والهاء في هذا الموضع. قال ابن أبي ربيعة.

ليت هذا الليل شهر

لا نري فيه عريبا

ليس إيّاي وإيا

ك ولا نخشى رقيبا

مقمرا غيّب عنّا

من أردنا أن يغيبا (٢)

وبلغني عن العرب الموثوق بهم أنهم يقولون : ليسني ، وكذلك كانني.

__________________

(١) البيت منسوب لفاختة بنت عدي ، الكتاب ٢ / ٣٥٧ ؛ ولسان العرب (قيد).

(٢) البيت في ديوانه ٤٨٥ ، والخزانة ٣٢٢ ؛ ابن يعيش ٣ / ٧٥ ، ٧٦ ؛ الكتاب ٢ / ٣٥٨ ؛ المقتضب ٣ / ٩٨.

١١٤

وتقول : عجبت من ضرب زيد أنت ، ومن ضربك هو ، إذا جعلت زيدا مفعولا ، وجعلت المضمرّ الذي علامته الكاف فاعلا ، فجاز أنت هاهنا للفاعل كما جاز إيّا للمفعول ؛ لأن إيّا وأنت علامتا الإضمار ، وامتناع التاء يقوّي دخول أنت هاهنا.

وتقول : قد جئتك فوجدتك أنت أنت ، فأنت الأولى مبتدأة ، والثانية مبنية عليها ، كأنك قلت : فوجدتك وجهك طليق. والمعنى : أنك أردت أن تقول : فوجدتك أنت الذي أعرف.

ومثل ذلك : أنت أنت ، وإن فعلت هذا فأنت أنت ، أي فأنت الذي أعرف ، أو أنت الجواد والجلد ، كما تقول : الناس الناس ، أي الناس بكلّ مكان وعلى كل حال كما تعرف.

وإن شئت قلت : قد ولّيت أمرا فكنت أنت إياك ، وقد جربتك فوجدتك أنت إياك ، جعلت أنت صفة ، وجعلت إياك بمنزلة الظريف إذا قلت : وجدتك أنت الظريف ، والمعنى أنك أردت أن تقول : وجدتك كما كنت أعرف. وهذا كله قول الخليل ، سمعناه منه.

وتقول : أنت أنت ، تكررها ، كما تقول للرجل : أنت ، وتسكت على حد قوله : قال الناس : زيد. وعلى هذا الحد تقول : قد جرّيت فكنت كنت إذا كررتها توكيدا ، وإن شئت جعلت أنت صفة ، وفي نسخة أبي بكر مبرمان : فكنت أنت ، وعليه يستقيم الكلام.

قال أبو سعيد : قد ذكرنا أنّ من مواضع الضمير المنفصل تقديمه على المعامل ، والفصل بينه وبينه بحرف الاستثناء وحرف العطف ، فالتقديم كقوله عزوجل : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(١) ، والاستثناء قوله : (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)(٢) ، والعطف قوله : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ)(٣) ، (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٤).

وإذا قلت : (إنّ زيدا رأيت) ففي نصب (زيد) وجهان :

أحدهما : أن تنصبه ب (إنّ) وتضمر في (رأيت) الهاء العائدة إليه.

والآخر : أن تنصبه ب (رأيت) وتقدر في (إنّ) الهاء على تقدير (إنه) ، وجميعا غير

__________________

(١) سورة الفاتحة ، الآية : ٥.

(٢) سورة الإسراء ، من الآية : ٦٧.

(٣) سورة الممتحنة ، من الآية : ١.

(٤) سورة سبأ ، من الآية : ٢٤.

١١٥

مستحسن عند البصريين في الكلام ، وأقبحهما. عندهم حذف الضمير من (إنّ) ، وأقبحهما عند الكوفيين حذف الهاء من رأيت.

فإذا جعلت المخاطب مفعولا قلت على قول من حذف الهاء : من إنّ ، ونصب الاسم بالفعل الذي بعده : إنّ إيّاك رأيت ، كما تقول : (إياك رأيت) ، والذي ينصب الاسم ب (إنّ) يقول : (إنك رأيت) ، وسبيل (إنّ) سبيل الفعل ، وإذا عملت في الضمير اتصل بها.

وأما قولك : (عجبت من ضربي إيّاك) ، و (من ضربيك) ، و (من ضربيه) ، و (من ضربيكم) ، فالاسم الأول المضاف إليه المصدر ، وهو مجرور بالإضافة ، فاعلا كان في المعنى أو مفعولا. فإن كان مفعولا فالاسم الثاني مرفوع ، ولا يكون ضميره إلا منفصلا ، وذلك أن ضمير المرفوع المتصل لا يوجد إلا في الفعل ، وإذا كان مع غيره فلا يلي الفعل سواه ، كقولك : (ضربتك) ، و (ضربتني) ، وإنما لزم تقدّمه في الفعل على كل شيء ؛ لأنه قد يغير بنية الفعل حتى يختلط به كأنه من بنائه ؛ كقولك : (قمت) ، و (قمنا) ، و (ذهبت) ، و (ذهبتما) ، و (ذهبن) ، فيسكّن آخر الفعل له وكان مفتوحا ، ويختلط به حتى يصير مقدّرا في الفعل بغير علامة ، كقولك : (زيد قام) ، و (أنت تقوم) ، و (أنا أقوم) ، و (نحن نقوم).

ولا يجوز أن يوجد ضمير مرفوع متصل في غير فعل ؛ ومن أجل هذا استحكمت علامات الإضمار في الفعل ، وشبّه غير الفعل بالفعل في بعض المواضع مما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

فإذا كان الاسم المضاف إليه المصدر مفعولا ، وأتي الفاعل بعده مضمرا ، فهو منفصل لا غير ، وذك قولك : (عجبت من ضرب زيد أنت) ، و (من ضربك هو) ، ومن ضربهما أنت ، ومن ضربك هن ، ومن ضربك أنا ، ومن ضربي أنت ، وسواء في ذلك أبدأت بالأقرب أم بالأبعد.

وإن كان المضاف إليه المصدر فاعلا وكان مضمرا ، وبعده المفعول مضمر ، فهو الذي يتكلم عليه النحويون ، وتقع عليه المسائل. وهو قولك : (عجبت من ضربي إياك) ، و (من ضربيك) ، والأجود المختار : (ضربي إياك) ، وذلك أن (ضرب) اسم ، ولا تستحكم فيه علامة الإضمار إذا كانت علامة ضمير المرفوع لا تتصل به ، ولا بما اتصل به ، وإنما يتصل به ضمير المجرور الذي تشاركه فيه الأسماء التي ليس فيها معنى فعل نحو : (غلامي) ، و (غلامك) ، و (غلامه) ، ولا يتصل بالضمير المضاف إليه (الغلام) ضمير آخر متصل.

وأيضا فإن الضمير المضاف إليه الضرب مجرور يحلّ محلّ التنوين في (ضرب) ،

١١٦

ونحن لو نوّنّا (ضربا) ما وليه ضمير متصل ، وإنما يليه المنفصل ، كقولك : عجبت من ضرب إياك ، ومن ضرب إياه ، ومن ضرب إياي.

وإنما يشبّه ضربيك في اتصال الضميرين ب (ضربتك) حين اتصل به التاء والكاف ، وهما ضميرا فاعل ومفعول به ، وهو في الفعل قوي ؛ لاستحكام علامات الإضمار في الفعل ؛ ولأنّ الفعل يغيره ضمير الفاعل ، ويسكّن آخره حتى يصير معه كشيء واحد ، فكأن إضمار المفعول إنما يدخل بعد ذلك على شيء واحد ، وليس إضمار الفاعل في الفعل كإضماره في المصدر ؛ لأن إضماره في المصدر يوجب له الجرّ الذي يشاركه فيه المفعول.

وأيضا فإن الفاعل المضمر في الفعل ليس محله محل تنوين يوجب اتصال ما بعده من الضمير منه ، وإنما يشبّه الضميران المتصلان بالمصدر بالضميرين المتصلين بالفعل ؛ لأنّ الفعل منه مأخوذ ، والمصدر يعمل عمله ، فيشبه ما اتصل بالمصدر بما اتصل بالفعل كذلك.

فإذا وصلوا الضميرين بالمصدر فالأول : ضمير فاعل ، والثاني : ضمير مفعول به. على ما ذكرنا من ترتيب ذلك ، ولم يحسن حتى يكون ترتيبه على تقديم المتكلم ، ثم المخاطب ، ثم الغائب. كقولك : (عجبت من ضربيك) ، و (من ضربيه) ، و (من ضربكه) ، وهو جائز حسن ، والأجود منه : (من ضربي إياك) ، و (ضربي إياه) ، و (ضربك إياه). فإن كان الفاعل هو المخاطب ، وأضفت المصدر إليه ، والمفعول به المتكلم لم يحسن إلا المنفصل. نحو قولك : عجبت من ضربك إياي ، وكذلك عجبت من ضربه إياك ، وضربه إياي على ما رتبه سيبويه من تقديم القريب وهو المتكلم ، ثم المخاطب ، ثم البعيد الغائب ، ولم يحسن من (ضربكني) ، ولا من (ضربهيني) ولا من (ضربهيك).

وإذا كان الضميران لغائبين ، وكان الأول منهما فاعلا في المعنى ، كنت مخيرا في الثاني بين المتصل والمنفصل ، كقولك : (عجبت من ضربهيها) ، و (من ضربه إياها).

فإن قال قائل : قد شرط سيبويه قبل هذا الموضع أنّ الضمير المتصل إذا أمكن لم يجز المنفصل ، فلم جوّز في هذا الموضع المنفصل في الموضع الذي يقع فيه المتصل؟

قيل له : للمتصل مواضع مخصوصة به ، وهي المواضع التي فيها يلي المتصل العوامل فيه ، وللمنفصل مواضع مختصة به ، وقد ذكرنا مواضعهما جميعا ، وفي تلك المواضع لا يقع أحدهما موضع الآخر ، وقد يعرض في الكلام مواضع يقع فيها تأويلان ؛ أحدهما يجذب إلى شبه المتصل والآخر يجذب إلى شبه المنفصل ، فيستعملان جميعا فيما فيه شبه منهما.

١١٧

وأما من يقول : (ضربيك) فإنه يحمله على (ضربتك) حين اتصل به ضمير الفاعل والمفعول ، و (ضربيك) مصدره ، والياء فيه كالتاء في المعنى.

ومن قال : (ضربي إياك) حمله على ما ذكرناه من مخالفة المصدر للفعل في اتصال الضمير به.

ومما يجوز فيه الضمير المتصل والمنفصل كنايات أخبار كان وليس وأخواتهما ، والأكثر في كلام العرب ، والاختيار عند النحويين في ذلك ، الضمير المنفصل كقولك : (أتاني القوم ليس إياك) ، و (أتوني) لا يكون إياه).

وقال عمر بن أبي ربيعة :

لئن كان إياه لقد حال بعدنا

عن العهد والإنسان قد يتغير (١)

وقال أيضا :

ليت هذا الليل شهر

لا نرى فيه عريبا

ليس إيّاي وإيّا

ك ولا نخشى رقيبا

وإنما كان الاختيار في ذلك الضمير المنفصل لعلل ثلاث منها : أنّ كان وأخواتها أفعال دخلت على مبتدإ وخبر ، فأما الاسم المخبر عنه فإنّ ضميره يتصل ؛ لأنه بمنزلة فاعل هذه الأفعال ، والاسمية له لازمة ، ويصير مع الفعل كشيء واحد ، وتغير بنيته له ، وأما الخبر فقد يكون فعلا ، وجملة ، وظرفا غير متمكن. فلما كانت هذه الأشياء لا يجوز إضمارها ولا تكون إلا منفصلة من الفعل اختير في الخبر الذي يمكن إضماره ـ إذا أضمر ـ أن يكون على منهاج ما لا يضمر من الأخبار في الخروج عن الفعل.

ومنها : أنّ الاسم والخبر كلّ واحد منهما منفصل من الآخر غير مختلط به ، فإذا وصلنا ضمير الخبر جاز مع ضمير الخبر أن تضمر الاسم ، لأنه هو الأصل في الإضمار ، فإذا اجتمع الضميران في الفعل كقولك : (كنتك) ، و (إن زيدا كانه) لم ينفصل الخبر من الاسم واختلط به.

ومنها أنّا لو وصلنا الخبر بضمير الاسم فقلنا : (كنتك) ، و (كانك زيد) ، و (كانني عمرو) والفاعل والمفعول في هذه الأفعال كشيء واحد ؛ لأنهما اسم وخبر ، فإما أن يكون أحدهما هو الآخر أو مشبّها به مجعولا بمنزلته ، وفعل الفاعل لا يتعدى إلى نفسه متصلا ، ويتعدى إلى نفسه منفصلا ، لا يجوز (ضربتني) ، ولا (ضررتني) ، وتقول : إياي ضررت ،

__________________

(١) البيت في ديوانه ٥٤ ؛ والخزانة ٥ / ٣١٢ ، ٣١٧ ؛ ٧ / ٣٩٧ ، ٣٩٨.

١١٨

وما ضررت إلا إياي.

فإن قال قائل : فأنت قد تقول : ظننتني قائما ، وحسبتك منطلقا فتعدّي فعله إلى نفسه. فهلا استحسنت كنتك على هذا؟

قيل له : إنما جاز حسبتك منطلقا ونحوه ، لأنّ المحسبة وبابها لا تقع على المفعول الأول في الحقيقة ، فلم يعتدّ به ، وإنما هي واقعة على المفعول الثاني ، فإذا قلت : كان زيد منطلقا ، فالمعتمد بالإخبار الانطلاق. والذي يقول : ليسني ، وكانني فعلى شبيه اللفظ حين جعل الاسم والخبر في هذه الأفعال بمنزلة الفاعل والمفعول به.

وقد حكي عن بعض العرب أنه قال : عليه رجلا ليسني ، لرجل ذكر له أنه يريده ، وقد شبّه ليس لقلة تمكّنها بالحرف ، فقيل : ليس كما قيل : ليتي ولعلّي ، كما قال الشاعر فيما أنشدنا أبو بكر بن دريد :

عددت قومي كعديد الطّيس

إذ ذهب القوم الكرام ليسي (١)

وأما قوله : (لأن إيّا ، وأنت علامتا الإضمار) ، فهو مخالف لما ذكره في باب إياك عن الخليل ، حيث جعل الكاف في موضع خفض بإضافة إيّا إليها في قوله : إياك نفسك ، وإياه وإيّا الشّوابّ ؛ لأن إيّا إذا كانت علامة إضمار لم يجز إضافته إلى شيء ، كما أن المضمر ، لا يضاف. والصحيح من الأقاويل المقولة في إيّاك : أنها مضافة إلى ما بعدها ، وأنّ ما بعدها مخفوض بالإضافة ، وأنّ منزلة إيّا منزله اسم ظاهر مضاف إلى ما بعده ، والمضاف والمضاف إليه كشيء واحد ، كقولك : رأيتك نفسك ، ومررت بك نفسك ، وقمت أنت نفسك : فالنفس في الحقيقة ليست غير الذي أضيفت إليه ؛ لأنك إذا قلت : ضربتك نفسك فلست تقصد بالنفس إلى إلي بعضه ولا إلى شيء سواه ، وإنما قال سيبويه :

(إيا : علامة المضمر) ؛ لأنها وضعت ليوصّل بها إلى لفظ المضمر في الموضع الذي لا يتّصل بعامله ، وذلك أنّ ضمير المخفوض والمنصوب لفظهما واحد في أصل الموضوع لاشتراكهما في أشياء كثيرة ذكرت في مواضعها ، وضمير المخفوض لا يكون إلا متصلا ، وكان حقّ المنصوب أن يكون كذلك إلا أنه عرض للمنصوب حال اختصّ بها من جواز التقديم والتأخير ، والفصل بينه وبين عامله. فإذا أضمر لم يكن وصلة ، وذلك نحو قولك : إياك ضربت ، أصله : ضربتك ، والكاف لا يتكلم بها وحدها منفصلة من ضربت ، فلما

__________________

(١) البيت في ديوانه ١٧٥ ؛ والخزانة ٥ / ٣٢٤ ، ٣٢٥ ؛ ابن يعيش ٣ / ١٠٨ ؛ ولسان العرب وتاج العروس (طيس).

١١٩

كان المفعول يقع متقدما ومتأخرا ، وبعد حرف العطف ، وحرف الاستثناء ، وهو للمتكلم والمخاطب والغائب الذي جرى ذكره اضطرّنا وقوعه في هذه المواضع إلى لفظ نجعله وصلة إلى اللفظ الذي يشترك فيه المنصوب والمخفوض وهو إيّا ، ولا بدّ ل (إيّا) من أن يكون له موقع يتعمده بالناصب الذي كان ينصب ما بعده ، فإذا نصبناه كان بمنزلة اسم اتصل به اسم آخر ، فسبيله أن يكون مضافا إليه كقولك : تعمدت زيدا ، وتعمدت نفس زيد ، وجاءني زيد ، وجاءني ذو زيد ، وجاءني حي زيد ، والمعنى في ذلك كله : جاءني زيد ؛ فقد استعملت هذه الوصل في المواضع التي يستغنى فيها عن الوصل ، وجعلت مضافة إلى ما بعدها على ما يوجبه ترتيب الكلام وإصلاح اللفظ.

ومما يشبه ما ذكرناه مما دخل وصلة إلى غيره قولهم : يا أيها الرجل ، الأصل فيه : نداء الرجل ، ولم يمكن ذلك بسبب الألف واللام فيه ، فأدخلوا أي فنادوه ، وأجروه مجرى المنادى المفرد ، وضمّوه ، ثم جعلوا المقصود بالنداء نعتا له ؛ لأنّ اتصاله به يوجب له حكما في اللفظ.

وقد قيل فيه أقاويل غير ما قلناه. قال بعض النحويين : هي بكمالها اسم ، وقال بعضهم : الياء والكاف والهاء في : إيّاي ، وإيّاك ، وإياه هي الأسماء ، وإيّا عماد لها ؛ لأنها لا تقوم بأنفسها.

وزعم قائل هذا القول أنها ليست في موضع خفض ، وينبغي على قوله أن تكون الياء والكاف والهاء في موضع نصب ، وأنّ إيا بمنزلة حرف زائد لا يحول بين العامل والمعمول فيه ، أو يكون إيّا مع الكاف في موضع نصب ، ولا ينفصل أحدهما.

وقال بعضهم : إيّا اسم مبهم يكنى به عن المنصوب ، وجعلت الكاف والهاء والياء بيانا عن المقصود ليعلم المخاطب من الغائب ، ولا موضع لها من الإعراب ، هي بمنزلة الكاف في : ذلك ، وأولئك.

وقوله : فوجدتك أنت أنت ؛ وجدتك تكون على معنيين أحدهما : بمعنى أصبتك ، والآخر : بمعنى علمتك ، وأنت الأولى مبتدأه ، والثانية خبرها ، فإن أردت ب (وجدتك) معنى الإصابة ف (أنت أنت) جملة في موضع الحال ، ويجوز فيه الواو : فوجدتك وأنت أنت ، وإن كان وجدتك بمعنى علمتك ، ف (أنت أنت) جملة في موضع المفعول الثاني ، ولا تجوز فيه الواو ، ولا يجوز في موضع أنت أنت الضمير المتصل ؛ لأنه ابتداء وخبر ، وهما منفصلان ، وإنّما يقال : أنت أنت ، وزيد زيد ، وما أشبهه مما يعاد فيه لفظ الاسم ، أي : أنت على العهد الذي عرف منك وذكرت به ، كما قال الشاعر :

١٢٠