شرح كتاب سيبويه - ج ٣

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٣

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٠٤

لك. كأنك قلت : لا غلامين ولا جاريتين في مكان كذا وكذا لك ، فجاء ب" لك" بعد ما بني على الكلام الأول في مكان كذا وكذا ، كما قال : لا يدين بها لك ، حين صيره كأنه جاء ب" لك" فيه بعد ما قال : " لا يدين بها في الدنيا".

واعلم أن المنفي الواحد إذا لم يل" لك" فإنما يذهب منه التنوين كما أذهب من آخر" خمسة عشر" لا كما أذهب من المضاف.

والدليل على ذلك أن العرب تقول : لا غلامين عندك ولا غلامين فيها. ولا أب فيها ، وأثبتوا النون فيها ؛ لأن النون لا تحذف من الاسم الذي يجعل وما قبله أو وما بعد بمنزلة اسم في واحد. ألا تراهم قالوا : الذين في الدار. فجعلوا" الذين" وما بعده من الكلام بمنزلة اسمين جعلا اسما واحدا ، ولم يحذفوا النون ؛ لأنها لا تجيء على حد التنوين. ألا تراها تدخل في الألف واللام وفيما لا ينصرف ، وإنما صارت الأسماء حين وليت" لك" بمنزلة مضاف لأنهم كأنّهم ألحقوا اللام بعد اسم كان مضافا ، كما أنك إذا قلت : يا تيم تيم عدي فإنما ألحقت الاسم اسما كان مضافا ، ولم يغير الثاني المعنى ، كما أن اللام لا تغير معنى : لا أباك.

وإذا قلت : " لا أب فيها" فليست (في) من الحروف التي إذا لحقت بعد مضاف لم تغير المعنى الذي كان قبل أن تلحق.

ألا ترى أن" اللام" لا تغير معنى المضاف إلى الاسم إذا صارت بينهما ، كما أن الاسم الذي يثنى به لا يغير المعنى إذا صار بين الأول والمضاف إليه ، فمن ثم صارت اللام بمنزلة الاسم الذي يتثنى به.

وتقول : لا غلام وجارية فيها ؛ لأن" لا" إنما تجعل وما تعمل فيه اسما واحدا ، إذا كانت إلى جنب الاسم ، فكما لا يجوز أن تفصل خمسة من عشرة كذلك لم يستقم هذا لأنه أي (لا) مشبه به ، فإذا فارقه جرى على الأصل ، قال الشاعر :

لا أب وابنا مثل مروان وابنه

إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا (١)

وتقول : " لا رجل ولا امرأة يا فتى" إذا كانت" لا" بمنزلتها في" ليس" حين تقول : ليس لك رجل ولا امرأة فيها.

قال رجل من بني سليم وهو أنس بن العباس :

__________________

(١) البيت لرجل من بني عبد مناة من بني كنانة ، انظر : الخزانة ٢ / ١٠٢ ، والعيني ٢ / ٣٥٥.

٢١

لا نسب اليوم ولا خلة

اتسع الخرق على الراقع (١)

ويروى : " اتسع الفتق على الراتق"

كما وتقول : " لا رجل ولا امرأة فيها" فتعيد" لا" الأولى كما تقول : ليس عبد الله وليس أخوه فيها. وتكون حال الآخرة في تثنيتها كحال الأولى.

فإن قلت : لا غلامين ولا جاريتين لك ، إذا كانت الثانية هي الأولى أثبت النون ؛ لأن" لك" خبرا عنهما والنون لا تذهب إذا جعلتهما كاسم واحد ؛ لأن النون أقوى من التنوين ، فلم يجروا عليها ما أجروا على التنوين في هذا الباب. لأنه مفارق للنون ولأنها ثبت فيما لا يثبت فيه.

واعلم أن كل شيء حسن لك أن تعمل فيه" رب" حسن لك أن تعمل فيه" لا".

وسألت الخليل عن قول العرب" ولا سيما زيد" فزعم أنه مثل قولك" ولا مثل زيد" و" ما" لغو وقال : ولا سيما وزيد. كقولهم : دع ما زيد ، وكقوله : (مَثَلاً ما بَعُوضَةً)(٢) ف" سي" في هذا الموضع بمنزلة" مثل" فمن ثم عملت فيه" لا" كما تعمل" رب" في" مثل" وذلك قولك : " رب مثل زيد".

قال أبو محجن الثقفي :

يا رب مثلك في النساء غريرة

بيضاء قد متعتها بطلاق (٣)

قال أبو سعيد : إذا كان بعد الاسم المنفي لام إضافة ففي الاسم الأول وجهان :

أحدهما : أن يبنى الاسم الأول مع" لا" وتكون اللام في موضع النعت للاسم أو في موضع الخبر ، وهذا هو الأصل والقياس ، وتكون منزلة" اللام" كمنزلة سائر حروف الجر وذلك قولك" لا غلام لك".

كما تقول : لا رجل في الدار ولا غلامين لك ، كما تقول لا رجلين في الدار ولا أب لزيد.

كما تقول : " لا أب كزيد" والاسم الأول مبني مع" لا" وحرف الجر بعده في موضع النعت له أو الخبر.

__________________

(١) البيت في ابن يعيش ٢ / ١٠١ ، والدرر ٢ / ١٩٨ ، والعيني ، ٢ / ٣٥٢.

(٢) سورة البقرة ، من الآية ٢٦.

(٣) البيت ليس في ديوانه ، وهو منسوب لغيلان بن سلمة في ابن يعيش ٣ / ١٢٦ ، والكتاب ١ / ٢١٢ ، المقتضب ٤ / ٤٨٩.

٢٢

والوجه الآخر : أن يكون الاسم الذي بعد" لا" مضافا إلى الاسم الذي بعد" اللام" وتكون اللام زائدة مؤكدة للإضافة ، ويكون لفظ الاسم الأول كلفظ الاسم المضاف و" لا" عاملة فيه غير مبنية معه وذلك قولك" لا أبا لزيد ولا أخا لك ولا مسلمي لك".

وعلم بثبات الألف في" أبا" وأخا" أنهما مضافان إذ كانت هذه الألف وأختاها الواو والباء إنما يدخلن على (أبوك وأخوك وحموك وفوك وذو) وإذا كانت مضافة فتكون الواو علامة الرفع والياء علامة الجر والألف علامة النصب.

وعلم بسقوط النون من : لا غلامي لزيد ، ولا جاريتي لأخيك ، ولا مسلمي لك أنه مضاف وزيادة اللام شاذة ، ولا تزاد إلا في" لا" وفي النداء كقوله :

... يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام (١)

وأخرجه عن القياس سيبويه وطول الكلام عليه والاحتجاج له وذكر الأشياء الشاذة ليؤنس بشذوذه.

وأصل هذا عنده : إن الإضافة وقعت قبل اللام ، وهي في نية التنوين المانع من الإضافة ، كما لا تعرف إضافة" مثل" إلى" زيد" في قولك : لا مثل زيد.

والأصل عنده في : لا أبا لك. ولا مسلمي لك. لا أباك ولا مسلميك. قال الشاعر :

وقد مات شماخ ومات مزرد

وأي كريم لا أباك يخلّد (٢)

وقال آخر (٣) :

أبا لموت الذي لا بدّ أني

ملاق لا أباك تخوّفيني (٤)

وأدخلوا" اللام" بين المضاف والمضاف إليه توكيدا ؛ لأن الإضافة بمعنى" اللام" كما أدخلوا" تيم" الثاني بين" تيم" الأول وبين" عدي" في : يا تيم تيم عدي".

وكما زادوا" الهاء" في طلحة بعد أن رخموه.

__________________

(١) البيت سبق تخريجه.

(٢) البيت سبق تخريجه.

(٣) قائل البيت : أبو حية النميري ، وهو الهيثم بن الربيع بن زرارة ، من بني نمير بن عامر ، وكنيته أبو حية ، توفي ١٨٣ ه‍.

انظر الخزانة ٣ / ١٥٤.

(٤) البيت في ابن يعيش ٢ / ١٠٥ ، والخزانة ٢ / ١١٨ ، والعقد الفريد ٢ / ٤٨٨.

٢٣

وزادوا" اللام" في : يا بؤس للحرب ... (١)

وشبه باب النفي بباب النداء لما يقع فيهما من التغيير وحذف التنوين.

وما كان من ذلك في تقدير الإضافة إلى ما بعد اللام ، ولا يحسن أن تفصل بينه وبين اللام. فإذا فصلت بطلت الإضافة ، تقول : لا يدين به لك ، ولا يدين اليوم لك إثبات النّون أحسن ؛ والوجه لأنك إذا حذفت النون فإنما تحذفها للإضافة إلى ما بعد اللام ، وقد فصلت بينهما بقولك" بها" و" اليوم" فلم يحسن ، فعدلت إلى الوجه الذي لا إضافة فيه فقلت : لا يدين بها لك ولا أب يوم الجمعة لك ، وجعلت" لك" خبرا أو نعتا أو بيانا بعد أن تضمر خبرا هو : مكان أو زمان".

والبيان" بلك" أن تقدر" أعني" كما تقدر ذلك في : سقيا لك ، وإذا أردت هذا المعنى فليس" لك" بنعت ولا خبر.

وإن تركت" لك" استغناء يعلم المخاطب بها كقولهم : " لا رجل"" ولا بأس" فهو جائز وإن ذكرته توكيدا وأنت تعلم أنّ المخاطب يعلمه جاز.

وإن أضفت مع الفصل ففيه قبح ، وهو مع قبحه جائز في الشعر وشاهده :

كأن أصوات من إيغالهن بنا

أواخر الميس أصوات الفراريج (٢)

أضاف" أصوات" إلى" أواخر الميس" وفصل بما بينهما من الكلام.

ولا يقع الفصل بين المضاف والمضاف إليه إلا بالظرف وحروف الجر ، وقد استقبح سيبويه الفصل بين الجار والمجرور بما يتم به الكلام وبما لا يتم.

وأجاز يونس الفصل بما لا يتم الكلام به كقوله :

لا يدي بها لك. ومعناه : لا طاقة بها لك." وبها" في هذا الموضع لا يكون خبرا ولا يتم. وقد احتج سيبويه بما ذكره.

ومعنى قول سيبويه" وقد يفرق بين الذي يحسن عليه السكوت والذي لا يحسن في موضع غير هذا" يعني نحو قوله :

في الدار زيد قائم وقائما ؛ لأن الكلام يتم بقوله : في الدار ، ولا تقول : بعمرو زيد

__________________

(١) جزء بيت لسعد بن مالك ، وتمامه :

يا بؤس للحرب التي

وضعت أراهط فاستراحوا

انظر : الخزانة ١ / ٢٢٤ ، والكامل ٧ / ١٤٧.

(٢) البيت سبق تخريجه.

٢٤

كفيلا" لأنك لا تقول : بعمر وزيد وتسكت.

وشبه سيبويه أيضا اختصاص"لا"بزيادة اللام بعدها بشذوذ تنوين"غدوة"مع" لدن".

وبقولهم : " ملامح ومذاكير" في جمع" لمح وذكر" و" عذيرك" في لزوم الإضافة والتعريف والخروج عن منهاج نظائره وقد ذكر شذوذ هذه الأشياء في مواضعها.

وقد ذكرنا في أول شرح الباب : لا أب لزيد وقول الشاعر :

" لا أب لي سواه ..."

من ذلك.

فإن قال قائل : ذكرتم أن قول القائل : لا أخا لك .. تقديره" لا أخاك. واللام زائدة ، فإذا قال : لا أخالي. وجعلت اللام زائدة بقى : " لا أخاي" وليس في الكلام رأيت أخاي ..؟

فالجواب : أن الأصل أن يقال : رأيت أخيّ وحملت أبيّ كما تقول : ألقمت فيّ واستثقلوا تشديد الياء فحذفوا لام الفعل وشبهوها بما حذف لامه نحو : يدي ودمي ، فإذا فصلوا بينهما باللام رجع الحرف إلى أصله ونطق به على قياسه في : " لا أخا لك" وغيره.

وإذا عطف على اسم" لا" المبني معها فليس في المعطوف غير التنوين لبطلان بنائه مع شيء يسقط التنوين منه كقولك : لا رجل وامرأة ولا أب وابنا.

وإن أعدت" لا" فأنت بالخيار :

إن شئت جعلتها عاملة مثل الأولى فتبني معها الاسم كقولك : لا رجل ولا امرأة في الدار.

وإن شئت جعلتها مؤكدة للجحد ـ دخولها كخروجها ـ ونونت الاسم الثاني بالعطف على الأول ، وذلك قولك : لا رجل ولا امرأة ولا نسب اليوم ولا خلة.

والعطف بالواو وحدها و" لا" لتوكيد الجحد.

وهذا معنى قول سيبويه" إذا كانت بمنزلتها في" ليس" لأنك إذا قلت : ليس لك رجل ولا امرأة" فلا" الثانية غير عاملة. إنما هي مؤكدة للجحد الذي ب" ليس".

وباقي الباب مفهوم.

هذا باب ما يثبت فيه التنوين من الأسماء المنفية

" وذلك من قبل أن التنوين لم يصر منتهي الاسم فصار كأنه حرف قبل آخر الاسم ، وإنما يحذف في النفي والنداء منتهى الاسم ، وذلك قولك : لا خيرا من زيد

٢٥

لك ولا حسنا وجهه لك ، ولا ضاربا زيدا لك ؛ لأن ما بعد : " حسن" و" ضارب" و" خبر" من تمام الأسماء فقبح أن يحذفوا قبل أن ينتهوا إلى منتهى الاسم ؛ لأن الحذف في النفي أواخر الأسماء.

ومثل ذلك قولهم : لا عشرين درهما لك.

وقال الخليل ـ رحمه‌الله ـ كذلك" لا آمرا بالمعروف لك" إذا جعلت" بالمعروف" من تمام الاسم وجعلته متصلا به ، كأنك قلت : لا آمرا معروفا لك.

وإن قلت : " لا آمرا بمعروف" فكأنك جئت بمعروف بعد ما بنيت على الأول كلاما ، كقولك : لا آمر في الدار يوم الجمعة.

وإن شئت جعلته كأنك قلت : لا آمر يوم الجمعة فيها. فيصير المبني على الأول مؤخرا ويكون الملغي مقدما.

وكذلك" لا داعيا إلى الله لك" و" لا مغيرا على الأعداء لك" إذا كان الآخر متصلا بالأول كاتصال منك" بأفعل".

وإن جعلته منفصلا من الأول كانفصال" لك" من" سقيا لك" لم تنون لأنه يصير حينئذ بمنزلة يوم الجمعة.

وإن شئت قلت" لا آمرا يوم الجمعة" إذا نفيت الآمرين يوم الجمعة لا من سواهم من الآمرين.

فإذا قلت : " لا آمر يوم الجمعة" فأنت تنفي الآمرين كلهم ثم أعملت" في" أي حين.

وإذا قلت : " لا ضاربا يوم الجمعة" فإنما تنفي ضاربي يوم الجمعة في يومه أو في يوم غيره وتجعل" يوم الجمعة" منتهى الاسم.

وإنما نونت لأنه صار منتهى الاسم" اليوم" كما صار ما ذكرت منتهى الاسم ، وصار التنوين كأنه زيادة في الاسم قبل آخره ؛ نحو" واو" مضروب و" ألف" مضارب ، ونونت كما نونت في النداء كل شيء صار منتهى الاسم فيه ما بعده وليس منه ، فنوّن في هذا ما نونته في النداء كما ذكرت لك إلا النكرة ، فإن النكرة في هذا الباب بمنزلة المعرفة في النداء ، ولا تعمل" لا" إلا في النكرة تجعل معها بمنزلة خمسة عشر. فالنكرة هاهنا كالمعرفة هناك".

قال أبو سعيد : قد ذكرت أن الاسم الذي بني مع" لا" هو اسم مفرد منكور ، والاسم

٢٦

المبني في النداء هو اسم مفرد معروف ، وإن الإضافة تبطل هذا البناء.

أما في النداء فقد ذكرنا حجته.

وأما في" لا" فإنها لو بنيت مع المضاف والمضاف إليه صار بمنزلة ثلاثة أشياء جعلت شيئا واحدا وليس هذا في الكلام.

ويجري مجرى المضاف الموصول بشيء هو من تمامه ؛ لأن الاسم مع تمامه بمنزلة المضاف والمضاف إليه.

وكذلك حكم المنادى المضاف والموصول أنهما لا يبنيان ، وذلك قولك : " لا خيرا من زيد" و" لا ضاربا زيدا" و" لا حسنا وجهه لك" لأن" من زيد" من تمام .. خبر" وزيدا" مفعول" ضارب" ووجهه" فاعل" حسن.

وعلى هذا قال الخليل : " لا آمرا بالمعروف لك ؛ لأن الباء من" بمعروف" منصوب بآمر ، كقولك : أمرت بالمعروف فأنا آمر بالمعروف ، و" الباء" في اسم الفاعل مثلها في الفعل ، وكذلك لو حذفت الباء فجعلت" المعروف" مفعول آمر" قلت" : " لا آمرا معروفا".

فإن قلت : " لا آمر بمعروف" فإن الباء ليست في صلة" آمر" كأنك قلت : " لا آمر" وسكتّ وأضمرت خبره ثم جئت بالباء للتبيين ، كأنك قلت : أعني بمعروف كما تقول : " سقيا" ثم تجيء ب" لك" على أعني.

وكذلك : لا داعيا إلى الله لك. و" لا مغيرا على الأعداء لك".

وقولك : " لا آمر في الدار يوم الجمعة" لا يعمل فيها" آمر" إنما هي خبر أو نعت : والعامل فيها" استقر" ويوم الجمعة ظرف للاستقرار الذي ناب عنه" في الدار" ويجوز تقديمه عليه" لا آمر يوم الجمعة فيها".

فإن قلت : " لا آمرا يوم الجمعة" فيوم الجمعة منصوب" بآمر" كأنك قلت : لا رجل يأمر يوم الجمعة. فنفيت من يقع أمره في يوم الجمعة دون من سواهم.

وإن قلت : " لا آمر يوم الجمعة" فقد نفيت الآمرين كلهم ؛ لأنك لم تعلق الأمر بيوم الجمعة فصار كأنك قلت : " لا آمر" كما تقول : " لا رجل" وتضمر الخبر وتجعل" يوم الجمعة" ظرفا لذلك الخبر ، كأنك قلت : " لا آمر لنا يوم الجمعة" أي نملكه يوم الجمعة ، وفيما ذكرناه دلالة على غيره.

٢٧

هذا باب وصف المنفي

" اعلم أنك إذا وصفت المنفي فإن شئت نونت صفة المنفي ـ وهو أكثر في الكلام ـ وإن شئت لم تنون وذلك قولك : " لا غلام ظريفا لك" و" لا غلام ظريف لك" فأما الذين نونوا فإنهم جعلوا الاسم و" لا" بمنزلة اسم واحد. وجعلوا صفة المنصوب في هذا الموضع بمنزلته في غير المنفي.

وأما الذين قالوا : " لا غلام ظريف لك" فإنهم جعلوا الموصوف والوصف بمنزلة اسم واحد.

فإذا قلت : لا غلام ظريفا عاقلا لك" فأنت في الوصف الأول بالخيار ، ولا يكون الثاني إلا منونا من قبل أنه لا تكون ثلاثة أشياء منفصلة بمنزلة اسم واحد.

ومثل ذلك : " لا غلام فيها ظريفا" إذا جعلت" فيها" صفة أو غير صفة.

فإن كررت الاسم فصار وصفا فأنت فيه بالخيار إن شئت نونت وإن شئت لم تنون ... وذلك قولك : " لا ماء ماء باردا" ولا ماء ماء باردا".

ولا يكون" باردا" إلا منونا لأنه وصف ثان.

وتركوا التنوين في الثاني لأنهم جعلوه كالوصف الأول ، كما قالوا : " مررت بدار آجر" و" بباب ساج" فوصفوا" بآجر" و" ساج و" آجر" و" ساج" اسمان كما أن" ماء" الثاني اسم ، وقد وصفوا به حيث قالوا : لا ماء ماء باردا.

قال أبو سعيد : الذي يفسر من هذا الباب أن الاسم والصفة لم بنيا و" لا" قد دخلت عليهما ، وهي تبنى مع ما بعدها فتصير ثلاثة أشياء كشيء واحد؟

فالجواب : أنهما بنيا لأن الموضع الذي وقعا فيه موضع تغيير وبناء يبنى مع غيره ، فإذا كان قد بني فيه الاسم مع حرف فبناء اسم مع اسم أولى ؛ لأن ذلك أكثر في الكلام كخمسة عشر" وأخواتها". و" جاري بيت بيت" وغير ذلك.

فإذا أدخلنا" لا" على الاسم والصفة وقد بني أحدهما مع الآخر كانت هي غير مبنية معهما ، بل تكون عاملة في موضعهما ، كما تكون عاملة في موضع خمسة عشر" إذا دخلت عليها. وكما تكون عاملة غير مبنية في" لا خيرا من زيد" و" لا حسنا وجهه".

هذا باب لا يكون الوصف فيه إلا منونا

" وذلك قولك : " لا رجل اليوم ظريفا ولا رجل فيها عاقلا" إذا جعلت" فيها" خبرا أو لغوا و" لا رجل فيك راغبا" من قبل إنه لا يجوز لك أن تجعل الاسم والصفة بمنزلة اسم واحد. وقد فصلت بينهما ، كما أنه لا يجوز لك أن تفصل بين عشر

٢٨

وخمسة في خمسة عشر".

ومما لا يكون الوصف فيه إلا منونا قوله : " لا ماء سماء باردا" و" لا مثله عاقلا" من قبل أن المضاف لا يجعل مع غيره بمنزلة : " خمسة عشر" وإنما يذهب التنوين منه كما يذهب منه في غير هذا الموضع ، فمن ثم صار وصفه بمنزلته في غير هذا الموضع.

ألا ترى أن هذا لو لم يكن مضافا لم يكن إلا منونا. كما يكون في غير باب النفي ، وذلك قولك : " لا ضاربا زيدا لك" ولا حسنا وجه الأخ فيها". فإذا كففت التنوين وأضفت كان بمنزلته في غير هذا الباب ، كما كان ذلك غير مضاف ، فلما صار التنوين إنما يكف للإضافة جرى على الأصل.

فإذا قلت : " لا ماء ولا لبن" ثم وصفت اللبن فأنت بالخيار في التنوين وتركه.

فإن جعلت الصفة للماء لم يكن الوصف إلا منونا ؛ لأنه لا يفصل بين الشيئين اللذين يجعلان بمنزلة اسم واحد مضمرا أو مظهرا ؛ لأنهما قد صارا اسما واحدا ويحتاجان إلى الخبر مضمرا أو مظهرا.

ألا ترى أنه لو جاز : تيم تيم عدي لم يستقم لك إلا أن تقول : ذاهبون.

فإذا قلت : " لا أبا لك" فهاهنا إضمار مكان".

قال أبو سعيد : في كلام سيبويه في هذا الباب مع ما تقدم من الشروح ما يغني عن تفسيره.

هذا باب لا تسقط فيه النون وإن وليت «لك»

" وذلك قولك : لا غلامين ظريفين لك ، ولا مسلمين صالحين لك ، من قبل أن" الظريفين" و" الصالحين" نعت للمنفي ، ومن اسمه وليس واحد من الاسمين ولي (لا) ثم وليته" لك" ولكنه وصف وموصوف. فليس للموصوف سبيل إلى الإضافة فلم يجز ذلك للوصف لأنه ليس بالمنفي.

وإنما هو صفة ، وإنما جاز التخفيف في النفي ، فلم يجز ذلك إلا في المنفي ، كما أنه يجوز في المنادى أشياء لا تجوز في وصفه من الحذف والاستخفاف ، وقد بين ذلك".

قال أبو سعيد : الذي منع من إسقاط النون وبعدها" لك" أن النون إنما تسقط من المبني الذي يلي" لا" على نية الإضافة إلى ما بعد" اللام".

فإذا ما قلنا : لا غلامين ظريفين لك فبين (غلامين) وبين (لك) (ظريفين) وهما صفة

٢٩

لغلامين فمنعا أن تضاف" غلامين" إلى الكاف في (لك) لفصل" ظريفين" بينهما.

وإنما يجوز في الضرورة إذا اضطر الشاعر إلى الفصل بين الجار والمجرور بالظرف وحروف الجر.

وقوله" إنما جاز التخفيف في النفي" يعني حذف النون والتنوين للإضافة إلى ما بعد" اللام" من الاسم الذي يلي حرف النفي.

" ولم يجز ذلك إلا في المنفي" يعني : لم يجز حذف النون والتنوين إلا في الاسم المنفي دون صفته.

هذا باب ما جرى على موضع المنفي لا على الحرف الذي عمل

في المنفي

" فمن ذلك قول ذي الرمة :

بها العين والآرام لا عدّ عندها

ولا كرع إلا المغارات والوبل (١)

وقول رجل من مذحج :

هذا لعمركم الصغار بعينه

لا أم لي إن كان ذاك ولا أب (٢)

فزعم الخليل : أن هذا يجري على الموضع لا على الحرف الذي عمل في الاسم كما أن الشاعر (عقيبة الأسدي) (٣) حين قال :

فلسنا بالجبال ولا الحديدا (٤)

أجراه على الموضع.

ومثل ذلك أيضا قول العرب : لا مال له قليل ولا كثير ، رفعوه على الموضع.

ومثل ذلك أيضا قول العرب : لا مثله أحد ولا كزيد أحد. وإن شئت حملت الكلام على" لا" فنصبت.

وتقول : " لا مثله رجل" إذا حملته على الموضع كما قال بعض العرب" لا حول

__________________

(١) الرواية في ديوانه : سوى العين. انظر : الديوان ٤٥٨ ، وشرح المفضليات ٢١١.

(٢) البيت منسوب لهنى بني أحمر ، وهو من بني الحارث بن كنانة ، شاعر جاهلي ، انظر : معجم الشعراء ٤٨٩ ، والأعلام ٩ / ١٠٨ ، والبيت في ابن يعيش ٢ / ١١٠ ، والمقتضب ٤ / ٣٧١.

(٣) هو عقبة بن هبيرة الأسدي ، شاعر جاهلي ، انظر : الأعلام ٥ / ٣٨ ، والخزانة ١ / ٣٤٣ ، وصمت اللآلي ١٤٩.

(٤) عجز بيت وصدره : معاوية إننا بشر فأسجح. انظر : الكتاب ١ / ٣٤ ، والمقتضب ٣ / ٣٣٧.

٣٠

ولا قوة إلا بالله" وإن شئت حملته على" لا" فنونته ونصبته ، وإن شئت قلت : " لا مثله رجلا" على قوله" لي مثله غلاما" وقال ذو الرمة :

هي الدّار إذ ميّ لأهلك جيرة

ليالي لا أمثالهنّ لياليا (١)

وقال الخليل ـ رحمه‌الله ـ : يدلك على أن" رجل" في موضع اسم مبتدأ مرفوع قولك : لا رجل أفضل منك ، كأنك قلت : زيد أفضل منك ، ومثل ذلك : يحسبك قول السوء ، كأنك قلت : حسبك قول السوء.

وقال الخليل رحمه‌الله : " كأنك قلت : رجل أفضل منك" حين مثّله.

وأما قول جرير :

لا كالعشية زائرا ومزورا (٢)

فلا يكون إلا نصبا من قبل أن العشية ليست بالزائر وإنما أراد : لا أرى كالعشية زائرا ، كما تقول ما رأيت كاليوم رجلا. ف" كاليوم" كقولك : في اليوم ؛ لأن الكاف ليست باسم.

وفيه معنى التعجب كما قال : " تالله رجلا. وسبحان الله رجلا" إنما أراد : تالله ما رأيت رجلا. ولكنه يترك إظهار الفعل استغناء ؛ لأن المخاطب يعلم أن هذا الموضع إنما يضمر فيه هذا الفعل لكثرة استعمالهم إياه.

وتقول : لا كالعشية عشية ولا كزيد رجل ؛ لأن الآخر هو الأول ولأن" زيدا" رجل. فصار" لا كزيد" كأنك قلت : " لا أحد كزيد" ثم قلت : " رجل" كما تقول : لا مال له قليل ولا كثير على الموضع.

قال امرؤ القيس :

ويلمنها في هواء الجوّ طالبة

ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب (٣)

كأنه قال : ولا شيء له كهذا الذي.

ورفع على ما ذكرت لك.

فإن شئت نصبت على نصبه :

__________________

(١) البيت في ديوانه ٦٥٠ ، وابن يعيش ٢ / ١٠٣ ، والمقتضب ٤ / ٣٦٤.

(٢) عجز بيت صدره : يا صاحبي دنا الرواح فسيرا. انظر : ديوانه ١٣٤ ، وابن يعيش : ٢ / ١١٤.

(٣) البيت في ديوانه ٢٢٧ ، والخزانة ٤ / ٩١ ، وابن يعيش ٢ / ١١٤.

٣١

 ... فهل في معدّ فوق ذلك مرفدا (١)

كأنه قال : لا أحد كزيد" رجلا" وحمل" الرجل" على" زيد" كما حمل" المرفد" على" ذلك".

وإن شئت نصبته على ما نصبت عليه" لا مال له قليلا ولا كثيرا".

ونظير : " لا كزيد" في حذفهم الاسم قولهم : " لا عليك" وإنما يريدون" لا بأس عليك"" ولا شيء عليك" ولكنه حذف لكثرة استعمالهم إياه.

قال أبو سعيد : قد ذكرنا أن" لا" وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد مرفوع بالابتداء والحجة فيه.

ومن الحجة فيه أيضا ما لا يقصر عما ذكرناه بل يزيد عليه : أن" لا" وإن نصبت بها وبنيت المنصوب معها ، فإنا إذا فصلنا بينها وبين اسمها لظرف أو حرف جر بطل عملها وارتفع اسمها بالابتداء مع صحة الجحد بها. وبقاء معنى المنصوب كقوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ)(٢).

فلما كان ارتفاع الاسم بعد" لا" بالابتداء لا يغير معنى المنصوب فيها صارت بمنزلة" إن" التي ابتداء الاسم في موضعها لا يغير معناه منصوبا بل هو في" لا" أقوى ؛ لأنه يجوز أن يظهر الاسم بعدها مبتدأ.

فمن ذلك جاز ـ في نعت ما يعد" لا" وفي بيانه مما يجري مجرى النعت. وفي العطف عليه وفي الخبر عنه ـ الرفع حملا على موضع" لا" مع الاسم والنصب على الاسم الذي بعد" لا".

ومن أجل ذلك شبهه بقولهم :

... فلسنا بالجبال ولا الحديدا (٣)

أجراه على موضع الباء ؛ لأنه في موضع خبر" ليس" ولو أجراه على ما بعد الباء لقال : ولا الحديد.

وأما النعت فقوله العرب : لا مال له قليل ولا كثير .. على الموضع ولا مال له قليلا ولا كثيرا .. على ما بعد" لا".

__________________

(١) عجز بيت سبق تخريجه.

(٢) سورة الصافات ، الآية : ٤٧.

(٣) عجز بيت سبق تخريجه.

٣٢

وأما ما جرى مجرى النعت فقوله" لا مثله أحد" ولا مثله رجل" ولا كزيد أحد" فبين" مثله"" بأحد"" وبرجل" وجرى مجرى النعت كما ذكرناه في عطف البيان ، والكاف بمنزلة" مثل" ويجوز فيه النصب على ما ذكرنا.

وأما العطف فقول بعض العرب : " لا حول ولا قوة إلا بالله" ويجوز" ولا قوة إلا بالله" على ما تقدم.

وأما الخبر : لا رجل أفضل منك ، كأنك قلت : زيد أفضل منك ولا يجوز فيه النصب إذا كان خبرا.

وإن جعلت" أفضل منك" نعتا جاز فيه النصب أيضا على ما ذكرنا

وشبهه بقولك : بحسبك قول السوء ، أن مجرور الباء في موضع رفع بالابتداء وقول السوء خبره ، كأنه قال : " حسبك قول السوء".

وأما : " لا كالعشية زائرا ومزورا" .. فقد أحاط العلم أن الزائر والمزور لا يراد بهما العشية فاضطر المعنى إلى فعل يضمر فيه ما يظهر في مثل معناه وهو : لا أرى زائرا ومزورا كزائر العشية ومزورها ، كما قالوا : ما رأيت كاليوم رجلا والمعنى : ما رأيت رجلا كرجل رأيته أو أراه ، وإنما يقال ذلك عند التعجب.

ولو قال" لا كالعشية عشية" جاز في" عشية" الرفع والنصب كما تقول : لا مثل العشية عشية وعشية على موضع" لا" وعلى ما بعد" لا".

وأجاز النصب أيضا من وجه آخر وهو التمييز الذي مر ذكره في قوله :

... فهل في معدّ فوق ذلك مرفدا

كأنه قال : فهل في عدد أكثر من ذلك مرفدا ، وقد ذكرناه فيما تقدم كأنه قال : لا أحد كزيد رجلا ، وقد ذكرنا هذا ونحوه فيما فسرناه في : لي مثله رجلا. وقوله بعد بيت امرئ القيس" كأنه قال ولا شيء له كهذا" فرفع على ما ذكرت لك. يعني : رفع على موضع" لا" وما عملت فيه.

هذا باب ما لا تغير فيه «لا» الأسماء عن حالها التي كانت عليها

قبل أن تدخل «لا»

ولا يجوز ذلك إلا أن تعيد" لا" الثانية من قبل أنه جواب لقوله : أغلام عندك أم جارية؟ إذا ادعيت أن أحدهما عنده فلا يحسن إلا أن تعيد" لا" كما أنه لا يحسن إذا أردت المعنى الذي تكون فيه" أم" إلا أن تذكرها مع اسم بعدها.

٣٣

فإذا قال : " لا غلام" فإنما هو جواب لقوله : هل من غلام؟ وعملت" لا" فيما بعدها. وإن كانت في موضع ابتداء كما عملت" من" في" الغلام" وإن كانت في موضع ابتداء فما لم يتغير عن حاله قبل أن تدخل" لا" قول الله تعالى : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(١) وقال الراعي :

وما صدمتك حتى قلت معلنة

لا ناقة لي في هذا ولا جمل (٢)

وقد جعلت ـ وليس ذلك بالأكثر ـ بمنزلة" ليس".

وإن جعلتها بمنزلة" ليس" كانت حالها كحال" لا" في أنها في موضع ابتداء وأنها لا تعمل في معرفة.

فمن ذلك قول سعد بن مالك :

من صدّ عن نيرانها

فأنا ابن قيس لا براح (٣)

واعلم أن المعارف لا تجري مجرى النكرة في هذا الباب لأن" لا" لا تعمل في معرفة أبدا.

فأما قول الشاعر :

لا هيثم الليلة للمطي (٤)

فإنه جعله نكرة كأنه قال : لا هيثم من الهيثميين. ومثل ذلك : لا بصرة لكم.

وقال ابن الزبير الأسدي :

أرى الحاجات عند أبي خبيب

نكدن ولا أمية بالبلاد (٥)

قلت : فكيف يكون هذا وإنما أراد عليّا عليه‌السلام؟

فقال لأنه لا يجوز لك أن تعمل" لا" إلا في نكرة.

__________________

(١) سورة الأنعام ، من الآية ٤٨.

(٢) البيت في الخزانة ٢ / ٣٣٦ ، وابن يعيش ٢ / ١١١ ، نهاية الأرب ٣ / ٥٦.

(٣) الخزانة ٢ / ٩٠ ، وابن يعيش ١ / ١٠٨ ، والمغني ١ / ٢٣٩.

(٤) رجز لم يعرف قائله. في ابن يعيش ٢ / ١٠٢ ، الدرر ١ / ١٢٤.

(٥) البيت نسبه ابن السيرافي لفضالة بن شريك ، ونسبه صاحب الأغاني لعبد الله بن فضالة بن شريك ١٠ / ١٦٣. والراجح أنه لابن الزبير الأسدي ، قاله في هجاء عبد الله بن الزبير بن العوام ، وكان يكنى أبا خبيب عند الذم. الخزانة ٤ / ٦١ ، وابن يعيش ٢ / ١٠٣ ، والمقتضب ٤ / ٣٦٢.

٣٤

فإذا جعلت" أبا حسن" نكرة حسن لك أن تعمل" لا" وعلم المخاطب أنه دخل في هؤلاء المنكورين" على".

فإن قلت : إنه لم يرد أن ينفي كل من اسمه علي فإنما أراد أن ينفي منكورين كلهم في صفة علي كأنه قال :

" لا أمثال" علي" لهذه القضية".

ودل هذا الكلام على أنه ليس لها" علي" وأنه قد غيب عنها وإن جعلته نكرة ورفعته كما رفعت" لا براح" فجائز.

ومثله قول الشاعر : " مزاحم العقيلي.

فرطن فلا رد لما بت فانقضى

ولكن بغوض أن يقال عديم (١)

وقد يجوز في الشعر رفع المعرفة ولا تثني" لا".

قال الشاعر :

بكت جزعا واسترجعت ثم آذنت

ركائبها إن لا إلينا رجوعها (٢)

واعلم أنك إذا فصلت بين" لا" وبين الاسم بحشو لم يحسن إلا أن تعيد" لا" الثانية لأنه جعل جواب أذا عندك أم ذا؟

ولم تجعل" لا" في هذا الموضع بمنزلة" ليس" وذلك لأنهم جعلوها إذا رفعت مثلها إذا نصبت لا تفصل لأنها ليست بفعل.

فمما فصل بينه وبين" لا" بحشو قوله تعالى :

(لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ)(٣) ولا يجوز : " لا فيها أحد" إلا ضعيفا ولا يحسن لا فيك خير.

وإن تكلمت به فلا يكون إلا رفعا لأن" لا" لا تعمل إذا فصل بينها وبين الاسم لا رافعة ولا ناصبة لما ذكرت لك.

وتقول : لا أحد أفضل منك إذا جعلته خبرا وكذلك : لا أحد خير منك قال الشاعر :

__________________

(١) البيت في الخزانة ٣ / ٤٣ ، والأعلم ١ / ٣٥٤.

(٢) البيت ففي الخزانة ٤ / ٣٤ ، وابن يعيش ١ / ١١٣.

(٣) الصافات : ٤٧.

٣٥

وردّ جازرهم حرفا مصرمة

ولا كريم من الولدان مصبوح (١)

لما صار خبرا جرى على الموضع لأنه ليس بوصف ولا محمول على" لا" فجرى مجرى لا أحد فيها إلا زيد.

وإن شئت قلت : لا أحد أفضل منك في قول من جعلها" كليس" ويجريها مجراها ناصبة في الموضع وفيما يجوز أن يحمل عليها.

ولم تجهل" لا" التي" كليس" مع ما بعدها كاسم واحد لئلا يكون الرافع كالناصب وليس أيضا كل شيء يخالف بلفظه يجري مجري ما كان في معناه".

قال أبو سعيد : اعلم أن" لا" إذا عملت كانت على وجهين :

أحدهما : أن تنصب ما بعدها وتبني معه إذا كان مفردا كنحو ما تقدم من قولنا لا رجل في الدار وإن كررتها وأردت إعمالها على هذا الوجه جاز وقلت : لا رجل ولا امرأة ، ويكون جواب قوله : هل من رجل أو من امرأة؟

والوجه الثاني : أن ترفع ما بعدها من النكرات وتنصب أخبارها ولا تعمل إلا في نكرة ولا تفصل بينها وبين ما عملت فيه كقولنا : لا رجل أفضل منك وتكون محمولة على" ليس" في رفع الاسم ونصب الخبر وليس هذا بالكثير فيها ، والكثير فيها أن تنصب ، فلما جوز فيها رفع اسمها ونصب خبرها لم تخرج عن حكمها في أقوى حاليها وهو نصب الاسم ورفع الخبر ، فلم يفصل بينها وبين ما عملت فيه ولم تعمل إلا في نكرة.

وعلى مذهب" ليس" حمل سيبويه :

فأنا ابن قيس لا براح (٢)

وحذف الخبر كما يحذفه وهي ناصبة.

و (ما) في عملها إذا شبهت بليس أقوى من (لا) لأن" ما" إنما تدخل على مبتدإ وخبر وجعلت مثل" إن" في جواب اليمين." إن" للإيجاب." ما" للجحد فتدخل على جميع ما تدخل عليه" إن" وليست" لا" كذلك.

وأصلها أن تكون ناصبة عاطفة. والرافعة منها محمولة على الناصبة فأجريت مجراها.

وتدخل" لا" على المعارف والنكرات مكررة على أنها جواب كلام قد عمل بعضه في بعض من المبتدإ والخبر ويكرر فأعيد الجواب على التكرير الذي في السؤال وذلك

__________________

(١) البيت في الشعر والشعراء ١ / ٢٤٥ ، وابن يعيش ١ / ١٠٧ ، والأشموني ٢ / ١٨.

(٢) عجز بيت سبق تخريجه.

٣٦

قولك : لا غلام عندي ولا جارية" ولا زيد في الدار ولا عمرو".

وهو جواب : أغلام عندك أم جارية؟ وأزيد في الدار أم عمرو؟ وهذا سؤال من قد علم أن أحدهما عنده أو أحدهما في الدار ولا يعرفه بعينه فسأل ليعرف بعينه ، وإن كان المسؤول يعرف ما سأل عنه قال : زيد. إن كان زيد أو عمرو إن كان عمرو ، وإن لم يكن في الدار واحد منهما قال : لا زيد ولا عمرو. وإن لم يكن عنده غلام ولا جارية قال : " لا غلام عندي ولا جارية".

ولا يحسن أن تقول : لا زيد عندي .. من غير تكرير" لا" وذلك أن قولك : لا زيد عندي إنما هو جواب من قال : أزيد عندك؟ فكان حق الجواب أن يقول المجيب : نعم إن كان عنده. أو" لا" إن لم يكن عنده. ولا يزيد شيئا على" لا" كما لا يزيد شيئا على نعم.

وإن كرر فهو جواب كلام لا يجوز في جوابه" لا" ولا" نعم" لأنه جواب قولك : أغلام عندك أم جارية؟ وهو سؤال موضوع على أن السائل قد علم أن أحدهما عنده وإنما سأل تعيينه ، فإن كان الأمر كما اعتقد السائل في السؤال فالجواب أن يقال : غلام أو جارية ، وإن يكن كما اعتقده السائل ولم يكن عنده واحد منهما قال : لا غلام عندي ولا جارية. فلذلك خالف التكرير الإفراد.

وقد أجاز الإفراد في الشعر وأنشد فيه :

أن لا إلينا رجوعها (١)

لأن المعنى الموجب منه لا يحتاج إلى تكرير لو قال : أنه إلينا رجوعها. لكان كلاما حسنا ، فدخلت" لا" وعملت الجحد ولم تغير لفظ الموجب. وستقف من ذلك بعد هذا الباب على ما يحسن فيه الرفع ولا تحتاج" لا" إلى إعادة.

وأما قوله : " لا هيثم للمطي" و" قضية ولا أبا حسن لها" و" لا أمية بالبلاد" فالمعنى الذي يذكر مثل هذا الكلام عند حضوره وكونه هو الذي سوغ فيه التنكير ؛ وذلك لأن الكلام إنما يقال لإنسان كان يقوم بأمر من الأمور وله فيه كفاية وغناء فحضر ذلك الأمر ولم يوجد ذلك الإنسان ، ولا من يقوم به مثل قيامه. ولو وجد من يقوم مقامه لم نطلب. فصار التقدير" لا مثل هيثم" ولا مثل أبي حسن" ولا مثل" أمية" ودخلت هذه الأسماء في

__________________

(١) عجز بيت سبق تخريجه.

٣٧

المعنى. وأريدوا به كما يقول القائل لمن يخاطبه :

" مثلك لا يتكلم بهذا"" ومثلك لا يفعل القبيح".

وإنما تريد : أنت وأمثالك لا تفعلون مثل ذلك.

وإذا فصلت بين" لا" وما عملت فيه النصب أو الرفع مما ذكرنا بطل عملها ورفعت ما بعدها بالابتداء. واحتجت إلى التكرير كقوله عزوجل : (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ)(١).

وقد يجوز في التكرير أن يكون الأول منهما منصوبا مبنيّا مع" لا" والأخير مرفوعا كقولنا" لا رجل ولا غلام" ولا جارية في الدار ولا زيد".

وقد قرأ يعقوب الحضرمي .. (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ١١٢] (هم) مرفوع محمول على موضع لا خوف.

وقد بيّن هذا في الباب الذي يتلو هذا الباب.

وأما قوله :

فرطن ولا رد لما بت فانقضى

فإنه يروى على ثلاثة أوجه : " ولكن بغوض" على تكثير الفعل مثل :

ضروب وشروب. وبغيض وهو اسم للذات كقولك : رجل بغيض" وليس بتكثير الفعل. ويروى : ولكن تعوض ، أن يقال عديم من العوض.

هذا باب لا تجوز فيه المعرفة إلا أن تحمل على الموضع

لإنه لا يجوز ل (لا) أن تعمل في معرفة كما لا يجوز ذلك ل (رب) ، فمن ذلك قولك : لا غلام لك ولا العباس.

فإن قلت : أحمله على" لا" فإنه ينبغي لك أن تقول : رب رجل لك والعباس ، وكذلك : لا غلام لك وأخوه.

فأما من قال : كل شاة وسخلتها بدرهم ، فينبغي له أن يقول :

لا رجل لك وأخاه" لأنه كان قال : " لا رجل لك وأخا له".

قال أبو سعيد : ما في هذا الباب بيّن مفهوم.

__________________

(١) الصافات : ٤٧.

٣٨

هذا باب ما إذا لحقته «لا» لم تغيره عن حاله التي كان

عليها قبل أن تلحق

وذلك لأنها لحقت ما عمل فيه غيرها كما أنها إذا لحقت الأفعال التي هي بدل منها لم تغيرها عن حالها التي كانت عليها قبل أن تلحق.

ولا يلزمك في هذا الباب تثنية" لا" كما لا تثنى" لا" في الأفعال التي هي بدل منها وذلك قولك : لا مرحبا ولا أهلا ولا كرامة ولا مسرة ولا شللا ولا سقيا ولا رعيا ولا هنيئا ولا مريئا. صارت" لا" مع هذه الأسماء بمنزلة اسم منصوب ليس معه" لا" لأنها أجريت مجراها قبل أن تلحق" لا" ومثل ذلك" لا سلام عليك" ولم تغير الكلام عما كان عليه قبل أن تلحق" لا".

وقال جرير :

ونبئت جوابا وسكنا يسبني

وعمرو بن عفرة لا سلام على عمرو (١)

ولم تلزمك في ذا" تثنية" لا" كما لم يلزمك ذلك في الفعل الذي فيه معناه.

وذلك لا سلم الله عليه ، فدخلت ذا الباب لتنفي ما كان دعاء ، كما دخلت على الفعل الذي هو بدل من لفظه.

ومثل : " لا سلام على عمرو"." لا بك السوء" لأن معناه : لا ساءك الله.

ومما جرى مجرى الدعاء ما هو يطلق عند الحاجة ببشاشة نحو : كرامة ومسرة ونعمة عين ... فدخلت" لا" على هذا كما دخلت على قوله : ولا أكرمك ولا أسرك ولا أنعمك عينا. ولو قبح دخولها هاهنا لقبح في الاسم كما قبح في لا ضاربا ؛ لأنه لا يجوز" لا اضرب" في الأمر.

وقد دخلت" لا" في موضع غير هذا فلم تغيره عن حاله قبل أن تدخله وذلك قولهم : لا سواء.

وإنما دخلت" لا" هاهنا : لأنها عاقبت ما ارتفعت عليه سواء ألا ترى أنك لا تقول : هذان لا سواء ، فجاز هذا كما جاز" لا ها الله ذا" حين عاقبت ولم يجز ذكر الواو.

وقالوا : لا نولك أن تفعل ؛ لأنهم جعلوه معاقبا لقوله : " لا ينبغي أن تفعل كذا

__________________

(١) البيت في ديوانه ٢٧٩ ، والمقتضب ٤ / ٣٨١

٣٩

وكذا ، وصار بدلا منه فدخل فيه ما دخل في" ينبغي" كما دخل في" لا سلام" ما دخل في" سلم".

واعلم أن" لا" قد تكون في بعض المواضع بمنزلة اسم واحد هي والمضاف إليه ليس معه شيء.

وذلك نحو قولك : " أخذته بلا ذنب" وأخذته بلا شيء وغضبت من لا شيء ، وذهبت بلا عتاد. والمعنى معنى ذهبت بغير عتاد وأخذته بغير ذنب ، إذا لم ترد أن تجعل" غيرا" شيئا أخذه يعتد به عليه ، ومثل ذلك قولك للرجل : أجئتنا بغير شيء؟ أي رائقا والرائق : الخالي.

ونقول إذا قللت الشيء أو صغرت أمره :

ما كان إلا كلا شيء وإنك ولا شيئا سواء ، ومن هذا النحو قول الشاعر وهو أبو الطفيل الغنوي :

تركتني حين لا مال أعيش به

وحين جن زمان الناس أو كلبا (١)

والرفع عربي على قوله :

" ...

حين لا مستصرخ" (٢)

و" ...

لا براح" (٣)

والنصب أجود وأكثر من الرفع لأنك إذا قلت : " لا غلام" فهي أكثر من الرافعة التي هي بمعنى ليس.

قال الشاعر :

حنّت قلوصي حين لا حين محنّ (٤)

وأما قول جرير :

ما بال جهلك بعد الحلم والدين

وقد علاك مشيب حين لا حين (٥)

__________________

(١) البيت في الخزانة ٢ / ٩٠ ، الأغاني ١٣ / ١٠٩.

(٢) جزء بيت من مشطور الرجز للعجاج ، ديوانه ص ٤٥٩ ، وأمالي ابن الشجري ١ / ٢٥٩. وتمامه : بي الجحيم حين لا مستصرخ

(٣) جزء سبق تخريجه.

(٤) نسب البيت للعجاج ولم يرد في ديوانه. في الخزانة ٤ / ٤٥ ، والمقتضب ٤ / ٣٥٨.

(٥) البيت في ديوانه ٥٨٦ ، والخزانة ٤ / ٧٤.

٤٠