شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢
الجزء ١ الجزء ٢

الثامن : مرادفة الباء ، نحو : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) (٣) [النجم : ٣] ، والظاهر أنها على حقيقتها ، وأن المعنى : وما يصدر قوله عن هوى.

التاسع : الاستعانة ، قاله ابن مالك ، ومثّله برميت عن القوس ، لأنهم يقولون أيضا : «رميت بالقوس» ، حكاهما الفرّاء ، وفيه ردّ على الحريري في إنكاره أن يقال ذلك ، إلا إذا كانت القوس هي المرميّة ؛ وحكي أيضا «رميت على القوس».

العاشر : [أن تكون زائدة]

أن تكون زائدة للتعويض من أخرى محذوفة ، كقوله [من الطويل] :

٢٢ ـ أتجزع إن نفس أتاها حمامها

فهلّا الّتي عن بين جنبيك تدفع

______________________________________________________

محاله ولا يخفاك بعد ما قدرناه أنه لا دليل فيما ذكره ؛ لأن من متعلقة بفعل التقبل فيه ، وفيه ما سلف بتعلق الجار بالمصدر لا بالتقبل على ما مر.

(والثامن) من معانيها (مرادفة الباء نحو : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤) [النجم : ٣ ـ ٤] (والظاهر أنها) للمجاوزة (على حقيقتها ، أو أن المعنى وما يصدر قوله عن هوى) وكأنه أشار بالتنكير إلى أن أل في الآية جنسية ، فمدخولها في حكم النكرة واستدل بالآية من لم ير الاجتهاد لا نفيا ولا إثباتا ؛ لأن الضمير في أن هو للقرآن.

(والتاسع) من معانيها (الاستعانة) كالباء (قاله ابن مالك ، ومثله برميت عن القوس ؛ لأنهم يقولون أيضا رميت بالقوس حكاهما الفرّاء) ولكن ليس في حكايتهما ما يقتضي الترادف لجواز أن يكون كل من الحرفين على معناه المعروف له ، فرميت بالقوس على معنى أن القوس آلة للرمي فالباء للاستعانة ورميت عن القوس على معنى أصدرت الرماية عن القوس ، فعن للمجاوزة (وفيه) أي : وفيما حكاه الفراء عن العرب من أنه يقال : رميت بالقوس إذا كانت آلة الرمي (رد على الحريري في إنكاره) في «درة الغوّاص» (أن يقال ذلك) أي : رميت بالقوس (إلا إذا كانت القوس هي المرمية ، وحكى) الفراء (أيضا رميت على القوس.

العاشر) من معانيها (أن تكون زائدة للتعويض من أخرى محذوفة كقوله :

أتجذع إن نفس أتاها حمامها

فهلا التي عن بين جنبيك تدفع) (١)

__________________

(١) البيت من البحر الطويل وهو لزيد بن رزين في جواهر الأدب ص ٣٢٥ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٣٦ ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٢٤٨ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٤٤. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ٤ / ٣١٣.

٤١

قال ابن جنّي : أراد : فهلّا تدفع عن التي بين جنبيك ، فحذفت «عن» من أول الموصول ، وزيدت بعده.

الوجه الثاني : أن تكون حرفا مصدريا ، وذلك أن بني تميم يقولون في نحو : «أعجبني أن تفعل» : عن تفعل ، قال ذو الرمّة [من البسيط] :

٢٣ ـ أعن ترسّمت من خرقاء منزلة

ماء الصّبابة من عينيك مسجوم

يقال : «ترسّمت الدار» أي : تأمّلتها ، وسجم الدمع : سال ، وسجمته العين : أسالته ، وكذا يفعلون في «أنّ» المشددة ؛ فيقولون : أشهد عنّ محمدا رسول الله ، وتسمى عنعنة تميم.

الثالث : أن تكون اسما بمعنى «جانب» ، ...

______________________________________________________

الحمام بكسر الحاء قضاء الموت وقدره (قال ابن جني : أراد فهلا تدفع عن التي بين جنبيك ، فحذفت عن من أوّل الموصول وزيدت بعده) وظاهر كلام المصنف أن شرط زيادتها التعويض ، وإلا لم يقيد وكذا ظاهر كلام ابن مالك في «التسهيل» ووقع في تفسير الثعلبي أنهم اختلفوا في تفسيره قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) [الأنفال : ١] فقيل : عن علمها وقيل من الأنفال ، وقيل : عن صلة وبذلك قرأ ابن مسعود ، وأصل الخلاف أنه هل المراد بالسؤال سؤال الاستخبار أو سؤال الاستعطاف؟ فقد رأيت ما حكاه من أن بعضهم ذهب إلى أنها زائدة ، وليس هناك تعويض.

(الوجه الثاني) من أوجه عن الثلاثة (أن تكون حرفا مصدريا ، وذلك أن بني تميم يقولون في أعجبني أن تفعل عن تفعل ، قال ذو الرمة :

أعن ترسمت من خرقاء منزلة

ماء الصبابة من عينيك مسجوم (١)

يقال توسمت الدار أي : تأملتها) قال الجوهري : والخرقاء صاحبة ذي الرمة وهي من عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة (وسجم الدمع سال وسجمته العين أسالته ، وكذلك يفعلون في أن المشددة فيقولون : أشهد عن محمدا رسول الله ، وتسمى عنعنة تميم.

الثالث) من أوجه عن (أن تكون اسما بمعنى جانب) وعليه سؤال معروف ، وهو أن الكلمة إنما تعد حرفا واسما إذا اتحد أصل معنييهما ، والجانب ليس بمعنى المجاوزة ، وجوابه أن

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، وهو لذي الرمة في ديوانه ص ٣٧١ ، والجنى الداني ص ٢٥٠ ، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ٣٥٦ ، وشرح المفصل ١٠ / ١٦. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ٧ / ٢٠٤.

٤٢

وذلك يتعيّن في ثلاثة مواضع :

أحدها : أن يدخل عليها «من» ، وهو كثير كقوله [من الكامل] :

٢٤ ـ فلقد أراني للرّماح دريئة

من عن يميني تارة وأمامي

ويحتمله عندي : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) [الأعراف : ١٧] فتقدّر معطوفة على مجرور «من» ، لا على «من» ومجرورها ؛ ...

______________________________________________________

الزمخشري ذكر في «المفصل» أن معنى جلس عن يميني أنه جلس متراخيا بدنه عن بدني في المكان الذي بحيال يميني ، فعلى هذا معنى جلست من عن يمينه جلست من جانب ، وموضع متجاوز عن بدنه حاصل بحيال يمينه ، فيكون المراد بالجانب الجهة التي جاوزت بدنه لا مطلق الجهة فيتحد أصل معنيي عن (وذلك متعين في ثلاثة مواضع :

أحدها أن تدخل عليها من وهو كثير كقوله :

فلقد أراني للرماح دريئة

من عن يميني تارة وأمامي) (١)

الدريئة حلقة يتعلم عليها الطعن ، قال عمرو بن معد يكرب :

ظللت كأني للرماح دريئة

أقاتل عن أبناء حزم وفرت (٢)

قال الأصمعي : هي مهموزة كذا في «الصحاح» (ويحتمله عندي ثم (لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) [الأعراف : ١٧] فتقدير) عن (معطوفة على مجرور من) الأول أو الثاني على الخلاف المعروف (لا على من ومجرورها) كما هو ظاهر كلام الجماعة ، قال الزمخشري : فإن قلت : كيف قيل من بين أيديهم ومن خلفهم بحرف الابتداء عن أيمانهم وعن شمائلهم بحرف المجاوزة؟ قلت : المفعول فيه عدي إليه الفعل نحو تعديه إلى المفعول به فكما اختلفت حروف التعدية في ذاك اختلف في هذا ، وكانت لغة فيؤخذ ولا يقاس وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط ، فلما سمعناهم يقولون : جلس عن يمينه وعلى يمينه وعن شماله وعلى

__________________

(١) البيت من البحر الكامل ، وهو لقطري بن الفجاءة في ديوانه ص ١٧١ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٥٨ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ٢٥٥ ، والأشباه والنظائر ٣ / ١٣. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ج ٧ / ٣٠٣.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص ٧٣ ، ولسان العرب ١ / ٧٤ (درأ) ، وبلا نسبة في كتاب العين ٨ / ٥٩ ، ومجمل اللغة ٢ / ٢٦٤. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ١ / ٥٤٣.

٤٣

و «من» الداخلة على «عن» زائدة عند ابن مالك ، ولابتداء الغاية عند غيره. قالوا فإذا قيل : «قعدت عن يمينه» فالمعنى في جانب يمينه ، وذلك محتمل للملاصقة ولخلافها ، فإن جئت بـ «من» تعيّن كون «القعود» ملاصقا لأوّل الناحية.

والثاني : أن يدخل عليها «على» ، وذلك نادر ، والمحفوظ منه بيت واحد ، وهو قوله [من الطويل] :

٢٥ ـ على عن يميني مرّت الطّير سنّحا

[وكيف سنوح واليمين قطيع؟]

______________________________________________________

شماله ، قلنا : معنى على يمينه أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه ، ومعنى عن يمينه أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين منحرفا عن يمينه غير ملاصق له ، ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره ونحوه من المفعول به قولهم : رميت عن القوس وعلى القوس ومن القوس ؛ لأن السهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ويبتدي الرمي منهما ، وكذلك قالوا : جلست بين يديه وخلفه ؛ لأنهما ظرفان للفعل ومن بين يديه ومن خلفه ؛ لأن الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول : جئته من الليل تريد بعض الليل ، هذا كلامه وانظر قوله : إن المفعول فيه اختلفت فيه حروف التعدية كاختلافها في المفعول به فهو محل وتأمّل.

(ومن الداخلة على عن زائدة عند ابن مالك) ولكن يلزم زيادتها في الإيجاب داخلة على المعرفة ، وغير الأخفش من البصريين يأبون ذلك لكن ابن مالك يقول بمذهب الأخفش والكوفيين في المسألة (ولابتداء الغاية عند غيره ، قالوا : فإذا قيل قعدت عن يمينه فالمعنى في جانب يمينه ، وذلك محتمل للملاصقة ولخلافها ؛ فإن جئت بمن تعين كون القعود ملاصقا لأول الناحية) ؛ لأن ابتداء الغاية يقتضيه.

(والثاني) من المواضع التي تتعين فيها الاسمية (أن تدخل عليها على) فلا تكون حرفا ، لأن حرف الجر لا يدخل على مثله إلا للتأكيد في الضرورة ، وليس هذا منه (وذلك نادر والمحفوظ منه بيت واحد وهو قوله :

على عن يميني مرت الطير سنحا) (١)

ولم أر من أنشده تاما والسنح جمع سانح كركع وراكع ، والسانح ما ولاك ميامنه والبارح ما ولاك مياسره ، والعرب تتفاءل بالأول وتتشاءم بالثاني.

__________________

(١) صدر بيت من البحر الطويل ، عجزه : وكيف سنوح واليمين قطيع ، وهو بلا نسبة في الجنى الداني ص ٢٤٣ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٥٩ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٤٠. ا ه ، انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ٤ / ٣٦٥.

٤٤

الثالث : أن يكون مجرورها وفاعل متعلّقها ضميرين لمسمّى واحد ، قاله الأخفش ، وذلك كقوله امرىء القيس [من الطويل] :

٢٦ ـ ودع عنك نهبا صيح في حجراته

[ولكن حديثا ما حديث الرّواحل]

وقول أبي نواس [من البسيط] :

٢٧ ـ دع عنك لومي فإنّ اللّوم إغراء

[وداوني بالّتي كانت هي الدّاء]

وذلك لئلا يؤدّي إلى تعدي فعل المضمر المتّصل إلى ضميره المتّصل ، وقد تقدّم الجواب عن هذا. وممّا يدلّ على أنها ليست هنا اسما أنه لا يصحّ حلول الجانب محلّها.

______________________________________________________

(والثالث) من محل تعين اسميتها (أن يكون مجرورها وفاعل متعلقها) بفتح اللام (ضميرين لمسمى واحد ، قاله الأخفش وذلك كقول امرىء القيس ؛

دع عنك نهبا صيح في حجراته)

ولكن حديثا ما حديث الرواحل (١)

الحجرات بفتح الحاء المهملة والجيم النواحي جمع حجرة ، مثل جمرة وجمرات (وقول أبي نواس) بواو لا همزة.

(دع عنك لومي فإن اللوم إغراء)

وداوني بالتي كانت هي الداء (٢)

فهي من ذلك اسم لا حرف (وذلك لئلا يؤدي إلى تعدي فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل) في غير باب ظن وما حمل عليه ، كما تقول فرحت بي وفرحت بك وهو ممتنع (وقد تقدم الجواب عن هذا) في على ، وهو إما على التعليق بمحذوف أي : دع عنك تركا ناشئا عنك ، وإما أن يخرج على تعلق الحرف بمضاف أي : دع عن نفسك (ومما يدل على أنها ليست هنا اسما أنها لا يصح حلول الجانب محلها) وقد مرت المنازعة في مثله بأن ما كان بمعنى شيء لا يلزم أن يصح حلوله محله.

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٩٤ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٥٩ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٤٠ ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٢٤٤. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ٦ / ٤٧٩.

(٢) البيت من البحر البسيط ، وهو لأبي نواس في ديوانه ١ / ٢١ ، وخزانة الأدب ١١ / ٤٣٤ ، وبلا نسبة في لسان العرب ٨ / ١٨٤ (شفع). ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ١ / ٣١.

٤٥

* (عوض) ظرف لاستغراق المستقبل مثل «أبدا» إلا أنه يختصّ بالنفي ، وهو معرب إن أضيف ، كقولهم : «لا أفعله عوض العائضين» ، مبنيّ إن لم يضف ، وبناؤه إمّا على الضمّ كـ «قبل» ، أو على الكسر كـ «أمس» ، أو على الفتح كـ «أين». وسمّي الزمان «عوضا» لأنه كلما مضى جزء منه عوضه جزء آخر ، وقيل : بل لأن الدهر في زعمهم يسلب ويعوّض ، واختلف في قول الأعشى [من الطويل] :

٢٨ ـ رضيعي لبان ثدي أمّ ، تحالفا

بأسحم داج عوض لا نتفرّق

______________________________________________________

(عوض)

(ظرف) موضوع (لاستغراق) الزمن (المستقبل مثل أبدا إلا أنه مختص بالنفي) وهذا في غالب الأمر وإلا فقد يستعمله معربا في الاستقبال بلا نفي يقال : افعل ذاك من ذي عوض أي : فيما يستقبل وقد يستعمل مبنيا في المضي بلا نفي أيضا كقوله :

ولو لا دفاعي من عفاق ومشهدي (١)

هوى بعقاق عوض عنقاء مغرب

في «الصحاح» العقاق كالقلاص الحوامل من كل حافر ، ولا أدري هل هذا هو المراد هنا أو لا؟ والعنق الداهية وهي في الأصل طائر عظيم معروف الاسم مجهول الجسم (وهو معرب إن أضيف كقولهم : لا أفعله عوض العائضين) فإن قيل : سيأتي أن في عوض لغة بالفتح عند عدم الإضافة ، فمن أين لنا في هذه الفتحة الموجودة عند الإضافة أنها فتحة إعراب لا فتحة بناء؟ قلت أجاب المصنف عنه في حواشي «التسهيل» بأنا قلنا بذلك لاتفاقهم على الفتح عند الإضافة واختلافهم فيه بدونها (مبني إن لم يضف) لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى.

(وبناؤه إما على الضم كقبل أو على الكسر كأمس أو على الفتح كأين ، وسمي الزمان عوضا لأنه كلما مضى منه جزء عوّضه جزء آخر) هكذا قال ابن جني في «التنبيه» على شكل الحماسة ، إنما سموا الدهر عوض ، لأنه من التعويض وذلك أنه كلما مضى جزء من الدهر خلفه آخر من بعده ، فكان الثاني عوض من الأول (وقيل : بل ؛ لأن الدهر في زعمهم) بضم الزاي وفتحها وكسرها ، والمراد به هنا القول الباطل (يسلب ويعوض واختلف في قوله الأعشى :

لعمري لقد لاحت عيون كثيرة

إلى ضوء نار في بقاع تحرق

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو بلا نسبة في الخزانة ٧ / ١٢٩. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ١ / ٢٠٨.

٤٦

فقيل : ظرف لنتفرق ، ...

______________________________________________________

تشب لمقرورين يصطليانها

وبات على النار الندى والمحلق (١)

رضيعي لبان ثدي أم تحالفا

بأسحم داج عوض لا نتفرق) (٢)

وقد مر إنشاد البيتين الأولين في حرف الباء ، وأن المراد بالمقرورين الندى والمحلق ، وما أحسن عطفه على الندى ففيه إشارة إلى أنهما متصاحبان متشاركان في الإلفة ، حتى كأنهما من جنس واحد ضجيعان لا يفارق أحدهما الآخر ، بل قد أثبت لهما في البيت الثالث الأخوة المقتضية للالتئام والتضامن وحسن الإلفة.

قال شارح «اللباب» ورضيعي لبان حال من الندى والمحلق ، ولا بد في قوله ثدي أم من تقدير حرف جر أي : من ثدي أم وهو يتعلق برضيعي ، قلت لا حاجة إلى تقدير الجار فإن رضع يتعدى بنفسه ، يقال رضع الصبي أمه ورضع ثديها فتقدر ناصبا للثدي أي : رضعا ثدي أم ولا إشكال ، قال : ويجوز أن يقرأ بالكسر على أنه بدل من لبان ، واللبان بكسر اللام لبن المرأة خاصة ، قيل : وعنى بأسحم داج الليل والباء ظرفية أي : تحالفا في ليل شديد السواد ، وقيل : هو الرحم أي : تحالفا في ظلمة الأحشاء قبل الولادة ، وقيل : هو الرماد أي : تحالفا عند الرماد ا ه قلت : وقيل : إن المراد بالأسحم الداجي زق الخمر وللعرب عادة في التعاقد عند الشراب بذلك (فقيل : ظرف لنتفرق) وقد يقال : هذا مبني على أن لا ليس لها الصدر ، وأما على القول بأن لها الصدر مطلقا أو إذا وقعت في نحو جواب القسم وهو الصحيح فلا يتأتى تعليق عوض بنتفرق ، وقد يجاب عن ذلك بما قاله الرضي : وهو أن الجملة القسمية قد تحذف لكون ظرف من معمولات الفعل الواقع جوابا دالا عليها نحو لا أفعله عوض قال : وإنما كان كذلك لكثرة استعمال عوض في القسم مع أن معناه أبدا أو البتة ، ففيه من التأكيد ما يفيد فائدة القسم ، ولأجل فائدته قد يقدم على عامله قائما مقام الجملة القسمية ، وإن كان عامله مقترنا بحرف يمتنع عمله فيما تقدمه كنون التأكيد ، وما يقال عوض لآتينك وعوض ما آتيك لغرض سد مسده القسم هذا كلامه ، وعليه فيمكن أن يقال : إن قوله لا نتفرق جواب لقسم محذوف سد مسده عوض ، فلا ضير إذن في تقدمه لهذا الغرض مع وجود لا غير إن جعل هذا الجواب كقسم مقدر مع وجود فعل قسمي ملفوظ به ، يمكن أن يكون هذا جوابا له خلاف الظاهر.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو للأعشى في ديوانه ص ٢٧٥ ، والأغاني ٩ / ١١١ ، وبلا نسبة في الاشتقاق ص ٢٤٠ ، والإنصاف ١ / ٤٠١. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ٥ / ١٥٢.

٤٧

وقال ابن الكلبي : قسم ، وهو اسم صنم كان لبكر بن وائل ، بدليل قوله [من الوافر] :

٢٩ ـ حلفت بمائرات حول عوض

وأنصاب تركن لدى السّعير

والسعير : اسم لصنم كان لعنزة ، انتهى. ولو كان كما زعم لم يتّجه بناؤه في البيت.

______________________________________________________

(وقال ابن الكلبي قسم وهو اسم صنم كان لبكر بن وائل بدليل قوله :

حلفت بمائرات حول عوض

وأنصاب تركن لدى السعير) (١)

مائرات صفة لمحذوف أي : بدماء مائرات أي : متموّجات والأنصاب جمع نصب بضم النون وإسكان الصاد المهملة ، وقد تضمان وهو ما نصب ليعبد من دون الله (والسعير اسم لصنم كان لعنزة) بعين مهملة ونون وزاي مفتوحات ، وهو أبو حي من ربيعة يقال له : عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار (اه) كلام ابن الكلبي (ولو كان كما زعم لم يتجه بناؤه في البيت) ويمكن أن يصحح كلام ابن الكلبي بأن يكون معنى قوله : إن عوض قسم أنه ساد مسد القسم كما تقدم ، فأطلق عليه أنه قسم بهذا الاعتبار وبناؤه حينئذ متجه ؛ لأنه ظرف مقطوع عن الإضافة وتقديمه على عامله لغرض جعله قائما مقام الجملة القسمية ، فإن قلت : قوله وهو اسم صنم يأبى ذلك قلت : إنما يأباه أن لو كان الضمير عائدا على عوض بقيد كونه ظرفا سد مسد القسم ، وهو ممنوع بل هو عائد على عوض لا باعتبار هذا القيد بل باعتبار لفظه فقط ، ويكون هذا من باب الاستخدام المعروف في فن البديع ، وهو أن يراد بلفظ له معنيان أحدهما ثم يراد بضميره المعنى الآخر ، أو يراد بأحد ضمير فيه أحد المعنيين ثم بالضمير الآخر المعنى الآخر ، والأول كقوله :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا (٢)

وما نحن فيه من هذا القسم كما أشرنا إليه والله أعلم.

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وهو لرشيد بن رميض العنزي في لسان العرب ٣٦٦ (سعر) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٧ / ١٤٠ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٤٢. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ٣ / ٥٧٢.

(٢) البيت من البحر الوافر ، وهو لمعود الحكماء (معاوية بن مالك) في لسان العرب ١٤ / ٣٩٩ (سما) ، وللفرزدق في تاج العروس (سما) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٣ / ٩٨. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ١ / ٩٩.

٤٨

* (عسى) فعل مطلقا ، لا حرف مطلقا خلافا لابن السرّاج وثعلب ، ولا حين يتّصل بالضمير المنصوب كقوله [من الرجز] :

______________________________________________________

(عسى)

(فعل مطلقا) لكنه فعل غير منصرف لتضمنه معنى الحرف أي : إنشاء الطمع والرجاء كلعل والإنشاآت في الأغلب من معاني الحروف ، والحروف لا يتصرف فيها ، وأما الفعلية نحو بعت والاسمية نحو أنت حر فمعنى الإنشاء عارض فيهما ، وحكى ابن ظفر في شرح «المقامات» عسيت أعسى قال الليلي وعلى هذا فيقال : عاس ، وقال العماني في شرح «الفصيح» وزعم بعضهم أنه يقال : عسى يعسو وعسى يعسى فيكون على هذا متصرفا ، ومما اعتقب الباء والواو على لامه وفي «حلى العلى» لعبد الدائم القيرواني لا يقال : من عسيت يفعل ولا فاعل إلا أن أبا زيد حكى عس ، قال وقد قال المعري :

فإن مثلي بهجران القريض عس (١)

قال الليلي إنما عس هنا بمعنى خليق.

قال المصنف : وقد وقع هذا الوهم بعينيه لابن مالك في «التسهيل» وذلك لأنه قال في باب التعجب : شذ قولهم ما أعساه بكذا وأعس به بمعنى ما أحقه وأحقق به ، وهذا أشد في الغلط ؛ لأنه معترف بالمعنى مع توهمه أن الفعل جامد وأنه عسى التي للمقاربة (لا حرف مطلقا خلافا لابن السراج وثعلب) وحكاه الرضي عن الزجاج ، قال وزعم أنه حرف لما رأى من عدم تصرفه ، وكونه بمعنى لعل قال : وإيصال الضمير المرفوع به يدفع ذلك إلا أن يعتذر عن ذلك بما اعتذر به أبو علي في ليس ، قلت : يشير بذلك إلى أن أبا علي ذهب في أحد قوليه إلى أن ليس حرف محتجا بأنها لو كانت فعلا محققا من فعل كصيد في صيد لعادت حركة الياء عند اتصال الضمير كصيدت ، وأجيب بأن ذلك لمفارقته إخوانه في عدم التصرف ، قال الفارسي : وأما إلحاق الضمير به في لست ولستما فلشبهه بالفعل ؛ لكونه على ثلاثة أحرف ، وبمعنى ما كان وكونه رافعا وناصبا كما ألحق الضمير بهات فقيل : هاتيا هاتوا هاتي مع كونه اسم فعل ، لقوّة مشابهته للأفعال لفظا فينقل ذلك إلى عسى حذوا القذة بالقذة (ولا) حرف (حين يتصل بالضمير المنصوب كقوله :

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، ولم أجده.

٤٩

٣٠ ـ [تقول بنتي : قد أنى أناكا] ،

يا أبتا ، علّك أو عساكا

خلافا لسيبويه ، حكاه عنه السيرافي ، ومعناه التّرجّي في المحبوب والإشفاق في المكروه ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦].

وتستعمل على أوجه :

أحدها : أن يقال : «عسى زيد أن يقوم» واختلف في إعرابه على أقوال :

أحدها ـ وهو قول الجمهور ـ أنه مثل : «كان زيد يقوم» ، واستشكل بأن الخبر ...

______________________________________________________

يا أبتا علك أو عساكا (١)

خلافا لسيبويه) ؛ فإنه في هذه الحال عامل عمل لعل (حكاه عنه السيرافي) قال ابن قاسم : وضعف بأن فيه اشتراك فعل وحرف في لفظ واحد قلت : وليس بذاك (ومعناه الترجي في المحبوب والإشفاق) أي : الخوف (في المكروه ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦]) فالأولى للترجي والثانية للإشفاق بحسب ما في نفس الأمر أي : إن ما كرهتموه ينبغي أن تترجوه فهو خير ، وما أحببتموه ينبغي أن تشفقوا منه فهو شر ، وذلك أنهم كرهوا الغزو وفيه إحدى الحسنيين ، إما الظفر والغنيمة وإما الشهادة والجنة ، وأحبوا القعود عن الغزو وفيه الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر ، والمفهوم من كلام الجزولي وابن الحاجب أن معناه رجاء دنو الخير فإذا قلت : عسى مريضي أن يشفى دل على أنك ترجو قرب شفائه ، ونازع الرضي في ذلك قائلا ليس عسى متعينا بالوضع للطمع في حصول مضمونه مطلقا سواء ترجى عن قرب أو بعد مدة مديدة تقول : عسى الله أن يدخلني الجنة وعسى النبي أن يشفع لي ، فإذا قلت : عسى زيد أن يخرج فهو بمعنى لعله يخرج ولا دنو في لعل اتفاقا (ويستعمل على أوجه :

أحدها أن يقال عسى زيد أن يقوم ، واختلف في إعرابه على أقوال :

أحدها وهو قول الجمهور أنه مثل كان زيد يقوم) فيكون عسى فعلا ناقصا ناسخا للابتداء ، وزيد مرفوع بها على أنه اسمها وأن يقوم في محل نصب بها على أنه الخبر (واستشكل بأن الخبر

__________________

(١) الشطر من بحر الرجز ، وهو لرؤبة في ملحقات ديوانه ص ١٨١ ، وخزانة الأدب ٥ / ٣٦٢ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ٣٣٦ ، والجنى الداني ص ٤٤٦. ا ه.

٥٠

في تأويل المصدر ، والمخبر عنه ذات ، ولا يكون الحدث عين الذات ؛ وأجيب بأمور ، أحدها : أنه على تقدير مضاف : إما قبل الاسم ، أي عسى أمر زيد القيام ، أو قبل الخبر أي : عسى زيد صاحب القيام ، ومثله (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ١٧٧] ، أي : ولكنّ صاحب البر من آمن بالله ، أو ولكن البرّ برّ من آمن بالله ؛ والثاني أنه من باب : «زيد عدل ، وصوم» ، ومثله : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) [يونس : ٣٧] ؛ والثالث أنّ «أن» زائدة لا مصدريّة ، وليس بشيء ، لأنها قد نصبت ، ولأنها لا تسقط إلا قليلا.

والقول الثاني : أنها فعل متعدّ بمنزلة «قارب» معنى ...

______________________________________________________

في تأويل المصدر) وهو حدث (والمخبر عنه) وهو زيد (ذات ، ولا يكون الحدث عين الذات وأجيب بأمور :

أحدها أنه على تقدير مضاف إما قبل الاسم أي : عسى أمر زيد القيام) فيكون من باب الخبر عن اسم المعنى باسم معنى فلا إشكال (أو قبل الخبر أي : عسى زيد صاحب القيام) فيكون من قبيل الإخبار عن الذات بوصف صادق عليها ، كما في زيد قائم فلا إشكال أيضا (ومثله) في حذف المضاف من الأول أو الثاني ((وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ١٧٧] أي : ولكن صاحب البر) من آمن بالله ، فحذف المضاف من الأول (أو (لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ)) فحذف المضاف من الثاني غير أن هذا الجواب فيه تكلف ، إذ لم يظهر هذا المضاف المقدر يوما من الدهر لا في الاسم ، ولا في الخبر والتنظير بالآية ليس في موقعه لأنها تركيب واحد جزئي حذف فيه المضاف للقرينة ، والمتكلم فيه تركيب كلي ينطبق على ما لا ينحصر من الجزئيات ؛ إذ ليس الكلام في عسى زيد أن يقوم بخصوصه بل فيه ، وفي أمثاله نحو : عسى عمرو أن يذهب ، وعسى خالد أن يجيء وعسى بكر أن يتوب إلى غير ذلك مما لم يدخل تحت حصر ، فإذا حذف المضاف في الجميع بحيث لا يظهر في جزء واحد من تلك الجزئيات فيه بعد.

(والثاني أنه من باب زيد عدل وصوم ، ومثله (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) [يونس : ٣٧]) وهذا إن أريد أنه من الإخبار بالمصدر عن اسم العين على جهة المبالغة ، فتخريج الآية على ذلك غير جيد ، لما يلزم عليه من تعلق النفي بالمبالغة ، فلا ينتفي أصل المعنى وقد تقدم البحث فيه.

(والثالث أن أن زائدة لا مصدرية) فيرتفع المحذور إذ الأخبار في ذلك كما في زيد يقوم (وليس بشيء ؛ لأنها قد نصبت) والزائد لا ينصب وهذا إنما يتمشى على قول غير الأخفش ، وإلا فهو يراها ناصبة كما تقدم (ولأنها لا تسقط إلا قليلا) وليس هذا شأن الزائد ، وللخصم أن يقول : كم من زائد يلزم فلم يكن عدم سقوطه مؤثرا في زيادته.

(والقول الثاني) في إعراب مثل عسى زيد أن يقوم (أنها فعل فتعد بمنزلة قارب معنى

٥١

وعملا ، أو قاصر بمنزلة «قرب من أن يفعل» ، وحذف الجارّ توسّعا ، وهذا مذهب سيبويه والمبرد.

والثالث : أنها فعل قاصر بمنزلة «قرب» ، و «أن يفعل» : بدل اشتمال من فاعلها ، وهو مذهب الكوفيّين ، ويردّه أنه حينئذ يكون بدلا لازما تتوقّف عليه فائدة الكلام ، وليس هذا شأن البدل.

والرابع : أنها فعل ناقص كما يقول الجمهور ، و «أن» والفعل بدل اشتمال كما يقول الكوفيّون ، وأنّ هذا البدل سدّ مسدّ الجزأين كما سدّ مسدّ المفعولين في قراءة حمزة رحمه‌الله ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير [آل عمران : ١٧٨] بالخطاب ، واختاره ابن مالك.

______________________________________________________

وعملا) فزيد فاعل أيضا بعسى ، وأن يقوم مفعول به كما في قولك قارب زيد القيام (أو) فعل (قاصر بمنزلة قرب من أن يفعل) فزيد فاعل أيضا بعسى ومن أن يفعل متعلق به (وحذف الجار توسعا) كما في قولك : عجبت أن يفعل أي : من أن يفعل (وهذا مذهب سيبويه والمبرد) قال الرضي : وفيه نظر إذ لم يثبت في عسى معنى المقاربة لا وضعا ولا استعمالا كما مر.

(و) القول (الثالث أنها فعل قاصر بمنزلة قرب وأن والفعل بدل اشتمال من فاعلها وهو مذهب الكوفيين ، ويردّه أنه حينئذ يكون بدلا لازما تتوقف عليه فائدة الكلام وليس هذا شأن البدل) ولهم أن يقولوا : أي مانع يمنع من أن البدل قد يكون لازما مع وقوع مثل ذلك في بعض التوابع كوصف مجرور رب إذا كان ظاهرا ، والبدل أولى بذلك ؛ لأنه المقصود قال الرضي : والذي أرى أن هذا يعني قول الكوفيين وجه قريب ، فيكون في نحو : يا زيدون عسى أن تقوموا قد جاء بما كان بدلا من الفاعل مكان الفاعل ، والمعنى أيضا يساعد ما ذهبوا إليه ، لأن عسى بمعنى يتوقع ويرجى قيامه ، وإنما غلب فيه بدل الاشتمال ؛ لأن فيه إجمالا وتفصيلا كما مر في باب البدل ، وفي إبهام الشيء ثم تفسيره وقع عظيم لذلك الشيء في النفس كما مر في ضمير الشأن ، ولم يحك عنهم أن عسى بمعنى قرب كما حكاه المصنف.

(و) القول (الرابع أنها فعل ناقص كما يقول الجمهور ، وأن والفعل بدل اشتمال كما يقول الكوفيون ، وأن هذا البدل سد مسد الجزأين) اللذين يطالبهما هذا الفعل الناقص (كما سد مسد المفعولين في قراءة حمزة رحمه‌الله تعالى ، (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ) [آل عمران : ١٧٨] بالخطاب) في تحسبن وفتح السين منه ، وقد مر الكلام عليه في أن المفتوحة المخففة (واختار ابن مالك

٥٢

الاستعمال الثاني : أن تسند إلى «أن» والفعل ، فتكون فعلا تامّا ، هذا هو المفهوم من كلامهم ، وقال ابن مالك : عندي أنها ناقصة أبدا ، ولكن سدّت «أن» وصلتها في هذه الحالة مسدّ الجزأين كما في : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) [العنكبوت : ٢] ، إذ لم يقل أحد : إن «حسب» خرجت في ذلك عن أصلها.

الثالث والرابع والخامس : أن يأتي بعدها المضارع المجرّد ، أو المقرون بالسين ، أو الاسم المفرد ، نحو : «عسى زيد يقوم» ، و «عسى زيد سيقوم» ، و «عسى زيد قائما» والأول قليل كقوله [من الوافر] :

______________________________________________________

الاستعمال الثاني) من الأوجه التي تستعمل عليها أن تسند إلى أن والفعل نحو : عسى أن يقوم زيد ، (فتكون فعلا تاما هذا المفهوم من كلامهم) قال المصنف في حواشي «التسهيل» اعلم أن ظن لم تحتج إلى المفعولين في نحو : ظننت زيدا قائما من حيث هما مفعولان ، بل من حيث إن وضعها للدلالة على التعلق بالشيء على صفة ، وذلك لا يتأتى إلا بين شيئين فتارة يكون هذان الشيآن مفعولين كالمثال ، وتارة يكون في ضمن مفعولين واحد نحو : ظننت أن زيدا قائم وبهذا تعلم صحة قول سيبويه في أنه لا يحتاج إلى تقدير شيء آخر ، وكذلك القول في عسى فإنها موضوعة لرجاء شيء على صفة ، فتارة لا يدخل عليهما عامل سواها فتؤثر في لفظ أولهما ، ومحل ثانيهما وتارة تدخل أن عليهما فتؤثر فيهما ، وتكتفي عسى بهما فإن قيل : فأجز عسى قيام زيد وظننت قيام زيد ، لما ذكرت فقد يقال : إنه لما كان المضاف إليه غير معتمد لذاته ، وإنما يؤتى به لغيره ، وكانت هذه الأفعال مستدعية في المعنى لاسمين ينعقد بينهما ما أريد بهما من المعنى شرطوا استقلال كل منهما بنفسه ، وأن لا يكون أحدهما كالتتمة للآخر فتكون كأنها إنما طلبت شيئا واحدا كما أن قام غلام زيد إنما طلب شيئا واحدا ، وجاء الآخر تتمة لذلك إلى هنا كلامه (وقال ابن مالك : عندي أنها ناقصة أبدا ، ولكنها سدت أن وصلتها في هذه الحالة مسد الجزأين كما في (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) [العنكبوت : ٢] إذ لم يقل أحد إن حسب خرجت في ذلك عن أصلها ، فكذلك عسى لا تخرج عن أصلها) في مثل وعسى أن تكرهوا بل يقال في الموضعين : سدت أن وصلتها مسد الجزأين ، ولا فرق بين الاستعمالات الباقية.

(الثالث والرابع والخامس أن يأتي بعدها) الفعل (المضارع المجرد) من أن حملا لها على كاد (أو المقرون بالسين) لمشاركتها لأن في الدلالة على الاستقبال (أو الاسم المفرد) لتضمن عسى معنى كان فأجريت في الاستعمال (نحو عسى زيد يقوم وعسى زيد سيقوم وعسى زيد قائما) وهذه الأمثلة على ترتيب ما ذكره من الاستعمالات الثلاثة الممثل لها (والأول قليل كقوله :

٥٣

٣١ ـ عسى الكرب الّذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب

والثالث أقلّ كقوله [من الرجز] :

٣٢ ـ أكثرت في اللّوم ملحّا دائما

لا تكثرن إنّي عسيت صائما

وقولهم في المثل : «عسى الغوير أبؤسا» كذا قالوا ، والصواب أنهما مما حذف فيه الخبر ، أي : «يكون أبؤسا» ، و «أكون صائما» ، لأن في ذلك إبقاء لها على الاستعمال الأصلي ، ...

______________________________________________________

عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب) (١)

الكرب بفتح الكاف وإسكان الراء الحزن يأخذ بالنفس وكذا الكربة والفرج بالجيم مع فتح الفاء والراء كشف الغم ، وينبغي أن يجعل فرج مبتدأ مخبرا عنه بقوله وراءه والجملة في محل نصب على أنها خبر يكون ، واسمها ضمير يعود إلى الكرب ولا ينبغي أن يجعل فرج اسم يكون ، ووراءه خبرها لئلا يلزم كون الفعل من جملة الخبر رافعا لأجنبي عن الاسم ، وهو وهم نبه عليه المصنف في الباب الخامس في الجهة السادسة في النوع الخامس منها.

(والثالث أقل كقوله :

أكثرت في العذل ملحا دائما

لا تكثرن إني عسيت صائما) (٢)

العذل بفتح العين وسكون الذال المعجمة الملامة ، والإلحاح الملازمة والدوام (وقولهم:

في المثل) المشهور (عسى الغوير أبؤسا) وأصله فيما قيل : إن الزباء قالت لقومها عند رجوع قصير من العراق إليها ومعه الرجال ، وكان الغوير وهو ماء لكلب على طريقه عسى الغوير بؤسا أي : لعل الشر يأتيكم من قبل الغوير ، وهو بغين معجمة وواو وراء مصغر والأبؤس جمع بؤس وهو العذاب أو الشدة في الحرب (كذا قالوا والصواب أنهما) أي : الشعر والمثل (مما حذف فيه الخبر أي : يكون أبؤسا وأكون صائما لأن في ذلك إبقاء لهما على الاستعمال الأصلي) وقضية هذا أن يقدر المحذوف أن يكون ، وأن أكون بإثبات أن ، لأن ذلك هو الاستعمال الأصلي

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وهو لهدبة بن خشرم في خزانة الأدب ٩ / ٣٢٨ ، وشرح شواهد المعني ص ٤٤٣ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ٢٨ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣١٦.

(٢) البيت من بحر الرجز ، وهو لرؤية في ملحقات ديوانه ص ١٨٥ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣١٦ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ١٧٥ ، وتخليص الشواهد ص ٣٠٩. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ١٢ / ٣٦.

٥٤

ولأن المرجو كونه صائما ، لا نفس الصائم.

والثاني نادر جدا كقوله [من الطويل] :

٣٣ ـ عسى طيّىء من طيّىء بعد هذه

ستطفىء غلّات الكلى والجوانح

و «عسى» فيهنّ فعل ناقص بلا إشكال.

والسادس : أن يقال : «عساي» ، و «عساك» ، و «عساه» وهو قليل ، وفيه ثلاثة مذاهب :.

______________________________________________________

لعسى ، واستعمال الفعل بعدها مجردا من أن قليل فإن قلت : إنما لم يقدرها فرارا من حذف الموصول وبقاء معمول الصلة قلت : لا ضير فهو كتقدير سيبويه من لد شولا بقوله من لد إن كانت شولا.

(والثاني : نادر جدا كقوله :

عسى طيء من طيء بعد هذه

ستطفىء غلات الكلى والجوانح) (١)

أي : لعل البطن المغلوب من طيء في القتال ينصر على البطن الآخر بعد هذه الواقعة ، وهذه الحرب والغلات جمع غلة بضم الغين المعجمة ، وهي حرارة العطش والكلى جمع كلية أو كلوة ، والجوانح الأضلاع وقد تقدم الكلام عليهما (وعسى فيهن) أي : هذه الاستعمالات الثلاثة الثالث والرابع والخامس (فعل ناقص بلا إشكال و) الاستعمال.

(السادس أن يقال : عساني وعساك وهو قليل) ثبت في أكثر النسخ عساني بإثبات نون الوقاية ، وثبت في بعضها بحذفها.

فأما الأولى فجريان الأقوال الثلاثة الآتية فيها ظاهر.

وأما القولان المصرحان بفعليتها فلاستدعاء كونها فعلا دخول نون الوقاية.

وأما القول بحرفيتها وهو مذهب سيبويه فيمكن جريانه فيها من حيث إن الحرفية لا تنافي دخول النون ، وقد أجراها سيبويه مجرى لعل فينبغي جواز الأمرين دخول النون كلعلني ، وعدم دخولها كلعلي ، وأما نسخة عساي بدون نون فجريان القول بالحرفية فيها ظاهر.

وأما القول بالفعلية فيأتي على ما حكاه الرضي من أنه جاء عساي حملا على لعل قال : والأكثر عساني.

(وفيه) أي : قولهم : عساني وعساك وعساه (ثلاثة مذاهب :

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٥٥

أحدها أنها أجريت مجرى «لعلّ» في نصب الاسم ورفع الخبر ، كما أجريت «لعلّ» مجراها في اقتران خبرها بـ «أن» ، قاله سيبويه. والثاني : أنها باقية على عملها عمل «كان» ولكن استعير ضمير النصب مكان ضمير الرفع ، قاله الأخفش ، ويردّه أمران : أحدهما : أن إنابة ضمير عن ضمير إنما ثبت في المنفصل ، نحو : «ما أنا كأنت ، ولا أنت كأنا» ، وأما قوله [من الرجز] :

٣٤ ـ يا ابن الزّبير طالما عصيكا

[وطالما عنّيتنا إليكا]

فالكاف بدل من التاء بدلا تصريفيا ، لا من إنابة ضمير عن ضمير كما ظن ابن مالك ؛ ...

______________________________________________________

أحدها أنها) أي : أن عسى أجريت مجرى لعل في نصب الاسم ورفع الخبر ، كما (أجريت لعل مجراها في اقتران خبرها بأن) نحو : «ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض» (١) فتعارضت الكلمتان في أن أخذت كل واحدة منهما حكما من أحكام الأخرى (قاله سيبويه.

و) المذهب (الثاني أنها) أي : أن عسى (باقية على عملها عمل كان) الناقصة في رفع الاسم ونصب الخبر (ولكن استعير ضمير النصب مكان ضمير الرفع) فمعنى عساي عسيت بضم التاء ، ومعنى عساك عسيت بفتحها ومعنى عساه عسى هو (قاله الأخفش ويرده أمران :

أحدهما أن إنابة ضمير عن ضمير إنما ثبت في الضمير المنفصل نحو ما أنا كانت ولا أنت كانا) ولم يثبت ذلك في الضمير المتصل فيكون في هذا القول خروج عما ثبت في كلامهم ، فلا يصار إليه (وأما قوله :

يا ابن الزبير طال ما عصيكا (٢)

فالكاف بدل من التاء بدلا تصريفيا) على معنى أنه أتى بحرف عوضا عن حرف آخر (لا من باب إنابة ضمير عن ضمير كما ظن ابن مالك) أي : ليست هذه ضمير نصب أنيبت عن ضمير

__________________

(١) أخرجه البخاري ، كتاب الحيل ، باب إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت (٦٩٦٧) ، ومسلم ، كتاب الأقضية ، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (١٧١٣) ، والترمذي كتاب الأحكام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، باب ما جاء في التشديد على من يقضى له بشيء ليس له (١٣٣٩).

(٢) شطر من الرجز ، وهو لرجل من حمير في خزانة الأدب ٤ / ٤٢٨ كالتالي : يا ابن الزبير طالما عصيكا وطال ما عنيتنا إليها لنضربن بسيفنا قضيكا ، وشرح شواهد المغني ٤٤٦. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ١١ / ٢٦٤.

٥٦

والثاني : أن الخبر قد ظهر مرفوعا في قوله [من الطويل] :

٣٥ ـ فقلت عساها نار كأس وعلّها

تشكّى فآتي نحوها فأعودها

والثالث : أنها باقية على إعمالها عمل «كان» ، ولكن قلب الكلام ، فجعل المخبر عنه خبرا وبالعكس ، قاله المبرّد والفارسيّ ، وردّ باستلزامه في نحو قوله [من الرجز] :

[تقول بنتي : قد أنى أناكا

يا أبتا علّك أو عساكا

الاقتصار على فعل ومنصوبه ، ولهما أن يجيبا بأن المنصوب هنا مرفوع في المعنى ، إذ مدّعاهما أن الإعراب قلب والمعنى بحاله.

______________________________________________________

رفع ، وإنما ضمير الرفع الذي هو التاء أبدل كافا على حد الإبدال المعروف عند أهل التصريف ، وحينئذ فلا دليل في البيت للأخفش.

(والثاني أن الخبر قد ظهر مرفوعا في قوله :

فقلت عساها نار كأس وعلها

تشكي فآتي نحوها وأعودها) (١)

ووجه الرد أن ضمير النصب لو كانت مستعارا لضمير الرفع لزم أن يكون الواقع بعد ذلك منصوبا ، لكونه الخبر فظهور رفعه يبطل القول بالاستعارة المذكورة ، وإنما يتأتى ذلك على ما قاله سيبويه فيكون عساها نار كأس ، مثل لعلها جارية زيد ، قلت : والبيت يحتمل وجهين :

أحدهما أن يكون نار كأس اسم عسى ، والضمير المنصوب خبرها ولا استعارة.

والثاني أن يكون ضمير النصب نائبا عن ضمير الرفع وهو مثل عسى زيد قائم ، على ما حكاه ثعلب كما سيجيء قريبا وعلى كلا الوجهين لا يتم الرد.

(و) المذهب (الثالث أنها باقية على إعمالها عمل كان) الناقصة (ولكن قلب الكلام فجعل المخبر عنه) الذي كان حقه الرفع (خبرا) فنصب (و) أتى (بالعكس) فجعل الخبر الذي كان حقه النصب مخبرا عنه فرفع (قاله المبرد والفارسي ، باستلزامه في نحو قوله :

يا أبتاه علك أو عساكا (٢)

الاقتصار على فعل ومنصوبه) وإنما يقع الاقتصار على الفعل ومرفوعه (ولهما أن يجيبا بأن المنصوب هنا مرفوع في المعنى ؛ إذ مدعاهما أن الإعراب قلب والمعنى بحاله) على أن الفارسي

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لصخر بن جعد الخضري في الدرر اللوامع ٢ / ١٥٩ ، وشرح التصريح ١ / ٢١٣ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ٣٢٩ ، والجنى الداني ص ٤٦٩ ا ه ، انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ٢ / ٢٨٦.

(٢) تقدم تخريجه.

٥٧

السابع : «عسى زيد قائم» حكاه ثعلب ، ويتخرّج هذا على أنها ناقصة ، وأنّ اسمها ضمير الشأن ، والجملة الاسمية الخبر.

* * *

تنبيه ـ إذا قيل «زيد عسى أن يقوم» احتمل نقصان «عسى» على تقدير تحمّلها الضمير ، وتمامها على تقدير خلوّها منه ؛ وإذا قلت «عسى أن يقوم زيد» احتمل الوجهين أيضا ، ولكن يكون الإضمار في «يقوم» لا في «عسى» ، ...

______________________________________________________

قال في «التذكرة» على ما نقله ابن قاسم : إن هذا البيت على حد إني عسيت صائما في أن الفاعل مضمر في الفعل ، والكاف هو الخبر كما أن صائما هو الخبر ، وإن خالفه في أنه معرفة وصائما نكرة قال ابن قاسم : وهذا تخريج غريب الاستعمال.

(السابع : عسى زيد قائم حكاه ثعلب ، ويتخرج هذا على أنها ناقصة وأن اسمها ضمير الشأن والجملة الاسمية الخبر.

تنبيه : إذا قيل زيد عسى أن يقوم احتمل) هذا التركيب (نقصان عسى على تقدير تحملها الضمير) ، إذ يكون الضمير المرفوع الذي تحملته اسمها وأن يقوم خبرها ، فتكون ناقصة (وتمامها على تقدير خلوها منه) ؛ إذ تكون حينئذ مسندة إلى أن والفعل فتكون تامة ، ويظهر أثر الاحتمالين في التأنيث والتثنية والجمع ، فتقول على تقدير الإضمار هند عست أن تفلح ، والزيدان عسيا أن يفلحا والزيدون عسوا أن يقوموا ، والهندات عسين أن يقمن وتقول على تقدير الخلو من الضمير عسى في الجميع وهو الأفصح ، قال الله تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ) [الحجرات : ١١].

(وإذا قلت : عسى أن يقوم زيد احتمل الوجهين أيضا) وهما نقصان عسى وتمامها (ولكن يكون الإضمار في يقوم لا في عسى) فإن قدرت يقوم محتملا لضمير لزم أن يكون زيد اسم عسى وأن يقوم خبرها فتكون ناقصة ، وإن قدرته خاليا من ضمير لزم أن يكون رافعا لزيدون وأن تكون عسى مسندة إلى أن يقوم زيد.

فتكون تامة فإن قلت : قد حكموا في باب المبتدأ بمنع تقديم الخبر إذا كان جملة فعلية فعلها مسند إلى ضمير مفرد عائد إلى المبتدأ ، مثل زيد قام فكيف ساغ هنا جعل أن يقوم خبرا مقدما مع أن فاعله ضمير مفرد يعود إلى اسم عسى وهو المبتدأ في الأصل قلت : المسألة مختلف في إجازتها عند دخول الفعل الناسخ ، فمنهم من منع كما منع في باب المبتدأ فلا يجيز كأن يقوم زيد على أن يكون زيد اسم كان ، ويقوم خبرها تقدم على الاسم ، ومنهم من أجاز كابن

٥٨

اللهم إلا أن تقدر العاملين تنازعا «زيدا» ؛ فيحتمل الإضمار في «عسى» على إعمال الثاني ؛ فإذا قلت : «عسى أن يضرب زيد عمرا» فلا يجوز كون «زيد» اسم «عسى» ، لئلا يلزم الفصل بين صلة «أن» ومعمولها وهو «عمرا» بالأجنبيّ وهو «زيد» ؛ ...

______________________________________________________

عصفور ومن وافقه ، قال ابن عصفور : وهو الصحيح واحتجوا بأن المانع في باب المبتدأ كون الفعل المقدم عاملا لفظيا ، والابتداء عامل معنوي والعامل اللفظي أقوى من المعنوي ، ولا شك أن النواسخ عوامل لفظية فإذا تقدم الفعل على الاسم بعد هذه الأفعال لم يكن إعمالها فيه لازما ؛ لأن العرب إذا قدمت عاملين لفظيين قبل المعمول ، فربما تعمل الأول وربما تعمل الثاني كما هو مبين في باب التنازع ، قلت : إنما علل بعضهم في باب المبتدأ بغير هذه العلة ، وهي خشية التباس المبتدأ بالفاعل لكن إجازتهم التنازع في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) [الجن : ٤] مبني على ما قاله ابن عصفور ، وهو ظاهر قول ابن مالك في «التسهيل» ولا يلزم تأخير الخبر إن كان جملة خلافا لقوم ، وفي الباب الخامس من هذا الكتاب في الترجمة التي نصها بيان مكان المقدر أن خبر كان مقدم مع كونه فعلا على الصحيح إذ لا تلتبس الجملة الاسمية بالفعلية ، وسيأتي الكلام على ذلك في محله إن شاء الله تعالى (اللهم إلا أن تقدر العاملين تنازعا زيدا) والرابط حينئذ عمل الفعل الأول في محل الفعل الثاني ، وما دخل عليه مثل : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) [الجن : ٤] (فيحتمل الإضمار في عسى على إعمال الثاني) فإن قلت : ما هذا الاستثناء ، ومن أي : شيء هو؟ قلت : هو متصل والمستثنى منه عام محذوف ، والتقدير : ولكن يكون الإضمار في يقوم لا في عسى كل وقت أن تقدر العاملين تنازعا ، فهو استثناء مفرغ في الإيجاب لصحة المعنى ، نحو قرأت إلا يوم كذا ، ثم حذف الظرف بعد إلا وأنيب المصدر عنه كما في أجيئك قدوم الحاج ، واللهم معترض وانظر موقعها هنا ؛ فقد وقع في «النهاية» إن اللهم تستعمل على ثلاثة أنحاء :

أحدها : أن يراد به النداء المحض كقولهم : اللهم ارحمنا.

والثاني : أن يذكره المجيب تمكينا للجواب في نفس السامع يقول لك القائل : أقام زيد؟ فتقول : أنت اللهم لا.

والثالث : أن تستعمل دليلا على الندوة وقلة وقوع المذكور كقولك : أنا لا أزورك اللهم إذا لم تدعني ، ألا يرى أن وقوع الزيارة مقرونة بعدم الدعاء قليل. ا ه وظاهر أن المعنى الأول والثاني لا يتأتيان هنا ، وفي تأتي الثالث في هذا المحل نظر.

(وإذا قلت عسى أن يضرب زيد عمرا فلا يجوز كون زيد اسم عسى ؛ لئلا يلزم الفصل بين صلة أن) وهي يضرب (ومعمولها وهو عمرا بالأجنبي وهو زيد) ضرورة أنه معمول لعسى لا

٥٩

ونظير هذا المثال قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩].

* (عل) بلام خفيفة ـ اسم بمعنى «فوق» ، التزموا فيه أمرين ؛ أحدهما : استعماله مجرورا بـ «من» ؛ والثاني : استعماله غير مضاف ، فلا يقال : «أخذته من عل السطح» كما يقال : «من علوه ، ومن فوقه». وقد وهم في هذا جماعة منهم الجوهريّ وابن مالك ، وأما قوله [من الرجز] :

٣٦ ـ يا ربّ يوم لي لا أظلّله

أرمض من تحت وأضحى من عله

فالهاء للسكت ، بدليل أنّه مبنيّ ، ولا وجه لبنائه لو كان مضافا.

______________________________________________________

ليضرب ، وأجنبيته ظاهرة (ونظير هذا المثال قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩]) فلا يجوز كون ربك اسم عسى للزوم المحذور المذكور ، وهو لزوم الفصل بالأجنبي بين يبعث ومعموله الذي هو مقاما كما مر سواء.

(عل)

(بلام خفيفة اسم بمعنى فوق التزموا فيه أمرين :

أحدهما استعماله مجرورا بمن.

والثاني استعماله غير مضاف فلا يقال أخذته من على السطح ، كما يقال من علوه) بضم العين وكسرها (ومن فوقه وقد وهم في هذا جماعة منهم الجوهري وابن مالك) قال في «الصحاح» ويقال أتيته من عل الدار بكسر اللام أي : من عال ، ولما كان البيت الآتي قد يستدل به لهؤلاء الجماعة من حيث أنه استعمل عل مضافا للضمير أجاب عنه المصنف بأن قال (وأما قوله :

يا رب يوم لي لا أظلله

أرمض من تحت وأضحى من عمله) (١)

أرمض فعل مضارع من قولهم رمض اليوم يرمض بكسر العين في الماضي ، وفتحها في المضارع أي : اشتد حره وأضحى أيضا مضارع أي : أبرز للشمس بفتح الحاء وماضيه ضحى بكسرها وضحى بفتحها (فالهاء) من عمله (للسكت) فهي حرف وليست ضميرا أضيف إليه على (بدليل أنه مبني) على الضم (ولا وجه لبنائه لو كان مضافا) وكان الكسر حينئذ يجب لجره بمن قلت : ويمكن أن يكون للبناء وجه وهو إضافته لمبني كما مر له في سواك وكما سيأتي في غير

__________________

(١) لم أجده.

٦٠