شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢
الجزء ١ الجزء ٢

الفصل وهو الخبر ، بخلاف فاعل الفعل. ومما يقطع به على بطلان مذهبهم قوله تعالى : (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي) [مريم : ٤٦] ، وقول الشاعر [من الطويل] :

٧٢١ ـ خليليّ ما واف بعهدي أنتما

[إذا لم تكونا لي على من أقاطع](١)

فإن القول بأنّ الضمير مبتدأ كما زعم الزمخشريّ في الآية مؤدّ إلى فصل العامل من معموله بالأجنبيّ ، والقول بذلك في البيت مؤدّ إلى الإخبار عن الاثنين بالواحد.

ويجوز في نحو : «ما في الدار زيد» وجه ثالث عند ابن عصفور ، ونقله عن أكثر البصريين ، وهو أن يكون المرفوع اسما لـ «ما» الحجازيّة ، والظرف في موضع نصب على الخبريّة ، والمشهور وجوب بطلان العمل عند تقدّم الخبر ولو ظرفا.

مسألة ـ يجوز في نحو : «أخوه» من قولك : «زيد ضرب في الدار أخوه» أن يكون فاعلا بالظرف ، لاعتماده على ذي الحال وهو ضمير «زيد» المقدّر في «ضرب» ، وأن يكون نائبا عن فاعل «ضرب» على تقديره خاليا من الضمير ، وأن يكون مبتدأ خبره الظرف والجملة حال. والفرّاء والزمخشريّ يريان هذا الوجه شاذّا رديئا ، لخلوّ الجملة الاسمية الحاليّة من الواو ، ويوجبان الفاعلية في نحو : «جاء زيد عليه جبّة» ، وليس كما زعما ؛ والأوجه الثلاثة في قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) [آل عمران :

١٤٦] قيل : وإذا قرىء بتشديد «قتل» لزم ارتفاع «ربّيون» بالفعل ، يعني لأن التكثير لا ينصرف إلى الواحد ، وليس بشيء ؛ لأن «النبي» هنا متعدّد لا واحد ، بدليل «كأين» ، وإنما أفرد الضمير بحسب لفظها.

مسألة ـ «زيد نعم الرجل» يتعيّن في «زيد» الابتداء ؛ و «نعم الرّجل زيد» قيل : كذلك ؛ وعليهما فالرّابط العموم ، أو إعادة المبتدأ بمعناه ، على الخلاف في الألف واللام أللجنس هي أم للعهد ؛ وقيل : يجوز أن يكون خبرا لمحذوف وجوبا ، أي : الممدوح زيد. وقال ابن عصفور : يجوز فيه وجه ثالث وهو أن يكون حذف خبره وجوبا ، أي : زيد الممدوح ، وردّ بأنه لم يسدّ شيء مسدّه.

مسألة ـ «حبّذا زيد» يحتمل ـ على القول بأن «حبّ» فعل و «ذا» فاعل ـ أن يكون مبتدأ مخبرا عنه بـ «حبّذا» ، والرابط الإشارة ، وأن يكون خبرا لمحذوف ؛ ويجوز على

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ١٨٩ ، وتخليص الشواهد ص ١٨١ ، والدرر ٢ / ٦٥ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٩٨.

٤٤١

قول ابن عصفور السابق أن يكون مبتدأ حذف خبره ، ولم يقل به هنا ، لأنه يرى أن «حبّذا» اسم. وقيل : بدل من «ذا» ، ويردّه أنه لا يحلّ محل الأول ، وأنه لا يجوز الاستغناء عنه ؛ وقيل : عطف ، ويردّه قوله [من البسيط] :

٧٢٢ ـ وحبّذا نفحات من يمانية

[تأتيك من قبل الرّيّان أحيانا](١)

ولا تبيّن المعرفة بالنكرة باتفاق ، وإذا قيل «حبّذا» اسم للمحبوب فهو مبتدأ و «زيد» خبر ، أو بالعكس عند من يجيز في قولك : «زيد الفاضل» وجهين ؛ وإذا قيل بأن «حبذا» كلّه فعل فـ «زيد» فاعل ، وهذا أضعف ما قيل ، لجواز حذف المخصوص ، كقوله [من الطويل] :

٧٢٣ ـ ألا حبّذا ـ لولا الحياء ـ وربّما

منحت الهوى ما ليس بالمتقارب (٢)

والفاعل لا يحذف.

مسألة ـ يجوز في نحو (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف : ١٨ ، ٨٣] ابتدائيّة كل منهما وخبريّة الآخر ، أي : شأني صبر جميل ، أو صبر جميل ، أو صبر جميل أمثل من غيره.

باب «كان» وما جرى مجراها

مسألة ـ يجوز في «كان» من نحو : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : ٣٧] ، ونحو : «زيد كان له مال» نقصان «كان» ، وتمامها ، وزيادتها هو أضعفها. قال ابن عصفور : باب زيادتها الشّعر ، والظرف متعلّق بها على التّمام ، وباستقرار محذوف مرفوع على الزيادة ، ومنصوب على النّقصان ، إلا أن قدّرت الناقصة شأنية فالاستقرار مرفوع لأنه خبر المبتدأ.

* * *

مسألة ـ (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ) [النمل : ٥١] يحتمل في «كان» الأوجه الثلاثة ، إلا أن الناقصة لا تكون شأنية ، لأجل الاستفهام ، ولتقدم الخبر ، و «كيف» : حال على التمام ، وخبر لـ «كان» على النّقصان ، وللمبتدأ على الزّيادة.

__________________

(١) البيت من البسيط وهو لجرير في ديوانه ص ١٦٥ ، والدرر ٥ / ٢٢٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧١٣ ، ولسان العرب ١ / ٢٩١ مادة / حبب /.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لمرار بن هماس في الدرر ٥ / ٢٢٣ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٩٨ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٤ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ٢ / ٣٨٢.

٤٤٢

مسألة ـ (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) [الشورى : ٥١] تحتمل «كان» الأوجه الثلاثة ؛ فعلى الناقصة الخبر إما لـ «بشر» و «وحيا» استثناء مفرّغ من الأحوال ؛ فمعناه : موحيا أو موحى ، أو من وراء حجاب ، بتقدير : أو إرسالا ، أي : أو ذا إرسال ، وإما وحيا والتفريغ في الأخبار ، أي : ما كان تكليمهم إلا إيحاء أو إيصالا من وراء حجاب أو إرسالا ، وجعل ذلك تكليما على حذف مضاف ، ولبشر على هذا تبيين ، وعلى التّمام والزيادة فالتفريغ في الأحوال المقدّرة في الضمير المستتر في البشر.

* * *

مسألة ـ «أين كان زيد قائما» يحتمل الأوجه الثلاثة ، وعلى النقصان ، فالخبر إما قائما و «أين» ظرف له ، أو «أين» فيتعلّق بمحذوف و «قائما» حال ، وعلى الزيادة والتمام فـ «قائما» حال ، و «أين» ظرف له ، ويجوز كونه ظرفا لـ «كان» إن قدّرت تامّة.

* * *

مسألة ـ يجوز في نحو : «زيد عسى أن يقوم» نقصان «عسى» فاسمها مستتر ، وتمامها فـ «أن» والفعل مرفوع المحل بها.

* * *

مسألة ـ يجوز الوجهان في «عسى أن يقوم زيد» ، فعلى النّقصان «زيد» اسمها وفي «يقوم» ضميره ؛ وعلى التمام لا إضمار ، وكل شيء في محله ؛ ويتعيّن التمام في نحو: «عسى أن يقوم زيد في الدار» و (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] لئلّا يلزم فصل صلة «أن» من معمولها بالأجنبي وهو اسم «عسى».

مسألة ـ (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ) [الأنعام : ١٣٢] تحتمل «ما» الحجازيّة والتميمية ؛ وأوجب الفارسيّ والزمخشريّ الحجازيّة ظنّا أن المقتضي لزيادة الباء نصب الخبر ، وإنما المقتضي نفيه ؛ لامتناع الباء في «كان زيد قائما» وجوازها في [من الطويل] :

٧٢٤ ـ [وإن مدت الأيدي إلى الزّاد]لم أكن

بأعجلهم [إذ أجشع القوم أعجل](١)

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو للشنفرى في ديوانه ص ٥٩ ، وتخليص الشواهد ص ٢٨٥ ، وخزانة الأدب ٣ / ٣٤٠ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ١٢٤.

٤٤٣

وفي «ما إن زيد بقائم».

* * *

مسألة ـ «لا رجل ولا امرأة في الدّار» إن رفعت الاسمين فهما مبتدآن على الأرجح ، أو اسمان لـ «لا» الحجازيّة ؛ فإن قلت : «لا زيد ولا عمرو في الدار» تعيّن الأول ؛ لأن «لا» إنما تعمل في النكرات ؛ فإن قلت «لا رجل في الدار» تعيّن الثاني ، لأن «لا» إذا لم تتكرّر يجب أن تعمل ؛ ونحو : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة : ١٩٧] إن فتحت الثلاثة فالظرف للجميع عند سيبويه ، ولواحد عند غيره ؛ ويقدّر للآخرين ظرفان ، لأن «لا» المركبة عند غيره عاملة في الخبر ، ولا يتوارد عاملان على معمول واحد ، فكيف عوامل؟ وإن رفعت الأوّلين فإن قدّرت «لا» معهما حجازيّة تعيّن عند الجميع إضمار خبرين إن قدرت «لا» الثانية كالأولى ، وخبرا واحدا إن قدرتها مؤكّدة لها وقدرت الرفع بالعطف ، وإنما وجب التقدير في الوجهين لاختلاف خبري الحجازية والتّبرئة ، بالنصب والرفع ؛ فلا يكون خبر واحد لهما ، وإن قدرت الرفع بالابتداء فيهما ـ على أنهما مهملتان ـ قدرت عند غير سيبويه خبرا واحدا للأوّلين أو للثالث كما تقدّر في «زيد وعمرو قائم» خبرا للأول أو للثاني ، ولم يحتج لذلك عند سيبويه.

باب المنصوبات المتشابهة

ما يحتمل المصدرية والمفعوليّة ـ من ذلك نحو : (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء : ٧٧] ، (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) [النساء : ١٢٤] ، أي : ظلما ما أو خيرا ما ، أي : لا تنقصونه مثل (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف : ٣٣] ، ومن ذلك (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) [التوبة : ٤] ، أي : نقصا أو خيرا ؛ وأما (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) [التوبة : ٣٩] فمصدر ، لاستيفاء «ضرّ» مفعوله ؛ وأما (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) [البقرة : ١٧٨] فـ «شيء» قبل ارتفاعه مصدر أيضا ، لا مفعول به ، لأن «عفا» لا يتعدّى.

ما يحتمل المصدريّة والظرفيّة والحاليّة ـ من ذلك «سرت طويلا» أي : سيرا طويلا ، أو زمنا طويلا ؛ أو سرته طويلا ، ومنه (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) (٣١) [ق : ٣١] أي : إزلافا غير بعيد ، أو زمنا غير بعيد ، أو أزلفته الجنة ـ أي : الإزلاف ـ في حالة كونه غير بعيد ، إلّا أن هذه الحال مؤكّدة ؛ وقد يجعل حالا من «الجنة» فالأصل غير بعيدة ؛ وهي أيضا حال مؤكّدة ، ويكون التذكير على هذا مثله في (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى : ١٧].

٤٤٤

ما يحتمل المصدريّة والحاليّة ـ «جاء زيد ركضا» ، أي : يركض ركضا ، أو عامله «جاء» على حدّ «قعدت جلوسا» ، أو التقدير : جاء راكضا ، وقول سيبويه ، ويؤيده قوله تعالى : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] فجاءت الحال في موضع المصدر السابق ذكره.

ما يحتمل المصدريّة والحاليّة والمفعول لأجله ـ من ذلك (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) [الرعد : ١٢] أي : فتخافون خوفا وتطمعون طمعا ؛ وابن مالك يمنع حذف عامل المصدر المؤكّد إلا فيما استثني ، أو : خائفين وطامعين ، أو لأجل الخوف والطمع ؛ فإن قلنا : «لا يشترط اتّحاد فاعلي الفعل والمصدر المعلّل» وهو اختيار ابن خروف فواضح ؛ وإن قيل باشتراطه فوجهه أنّ (يُرِيكُمُ) بمعنى : يجعلكم ترون ، والتعليل باعتبار الرؤية لا الإراءة ، أو الأصل إخافة وإطماعا ، وحذفت الزوائد.

وتقول : «جاء زيد رغبة» أي : يرغب رغبة ، أو : مجيء رغبة ، أو راغبا ، أو للرغبة ؛ وابن مالك يمنع الأوّل ، لما مرّ ؛ وابن الحاجب يمنع الثاني ، لأنه يؤدّي إلى إخراج الأبواب عن حقائقها ، إذ يصح في «ضربته يوم الجمعة» أن يقدر «ضرب» يوم الجمعة ؛ قلت : وهو حذف بلا دليل ، إذ لم تدع إليه ضرورة ، وقال المتنبي [من البسيط] :

٧٢٥ ـ أبلى الهوى أسفا يوم النّوى بدني

[وفرّق الهجر بين الجفن والوسن](١)

والتقدير : آسف أسفا ، ثم اعترض بذلك بين الفاعل والمفعول به ، أو إبلاء أسف أو لأجل الأسف ؛ فمن لم يشترط اتّحاد الفاعل فلا إشكال ؛ وأما من اشترطه فهو على إسقاط لام العلّة توسّعا ، كما في قوله تعالى : (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) [الأعراف : ٤٥ ، هود ١٩] ، أو الاتّحاد موجود تقديرا : إما على أنّ الفعل المعلّل مطاوع «أبلى» محذوفا ، أي : فبليت أسفا ، ولا تقدير : فبلي بدني ؛ لأن الاختلاف حاصل ؛ إذ الأسف فعل النفس لا البدن ، أو لأن الهوى لما حصل بتسبّبه كان كأنه قال : «أبليت الهوى بدني».

ما يحتمل المفعول به والمفعول معه ، نحو : «أكرمتك وزيدا» يجوز كونه عطفا على المفعول وكونه مفعولا معه ، ونحو : «أكرمتك وهذا» يحتملهما وكونه معطوفا على الفاعل ، لحصول الفصل بالمفعول ؛ وقد أجيز في «حسبك وزيدا درهم» كون «زيد» مفعولا معه ، وكونه مفعولا به بإضمار «يحسب» ، وهو الصحيح ؛ لأنه لا يعمل في

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للمتنبي ، في ديوانه ٤ / ٣١٧ ، وأمالي الحاجب ص ٦٤٨.

٤٤٥

المفعول معه إلا ما كان من جنس ما يعمل في المفعول به ، ويجوز جرّه ؛ فقيل : بالعطف ، وقيل : بإضمار «حسب» أخرى وهو الصّواب ؛ ورفعه بتقدير «حسب» ، فحذفت وخلفها المضاف إليه ، ورووا بالأوجه الثلاثة قوله [من الطويل] :

٧٢٦ ـ إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا

فحسبك والضحّاك سيف مهنّد (١)

باب الاستثناء

يجوز في نحو : «ما ضربت أحدا إلّا زيدا» كون «زيد» بدلا من المستثنى منه ، وهو أرجحها ، وكونه منصوبا على الاستثناء ، وكون «إلّا» وما بعدها نعتا ، وهو أضعفها ، ومثله «ليس زيد شيئا إلا شيئا لا يعبأ به» ، فإن جئت بـ «ما» مكان «ليس» بطل كونه بدلا ، لأنها لا تعمل في الموجب.

* * *

مسألة ـ يجوز في نحو : «قام القوم حاشاك ، وحاشاه» كون الضمير منصوبا ، وكونه مجرورا ، فإن قلت : «حاشاي» تعيّن الجر ، أو «حاشاني» تعيّن النصب ، وكذا القول في «خلا» و «عدا».

* * *

مسألة ـ يجوز في نحو : «ما أحد يقول ذلك إلّا زيد» كون «زيد» بدلا من «أحد» وهو المختار ، وكونه بدلا من ضميره ، وأن ينصب على الاستثناء ؛ فارتفاعه من وجهين ، وانتصابه من وجه ؛ فإن قلت : «ما رأيت أحدا يقول ذلك إلا زيد» فبالعكس ، ومن مجيئه مرفوعا قوله [من المنسرح] :

٧٢٧ ـ في ليلة لا نرى بها أحدا

يحكي علينا إلّا كواكبها (٢)

و «على» هنا بمعنى «عن» ، أو ضمّن «يحكي» معنى «يتمّ» أو «يشنع».

ما يحتمل الحالية والتمييز ، من ذلك «كرم زيد ضيفا» إن قدرت أنّ «الضيف» غير

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لجرير في ذيل الأمالي ص ١٤٠ ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٧ / ٥٨١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٠٠ ، وشرح شواهد الإيضاح.

(٢) البيت من المنسرح ، وهو لعدي بن زيد في ملحق ديوانه ص ١٩٤ ، والدرر ٣ / ١٦٤ ، وشرح شواهد المغني ص ٤١٧ ، وخزانة الأدب ٣ / ٣٤٨.

٤٤٦

«زيد» ، فهو تمييز محوّل عن الفاعل ، يمتنع أن تدخل عليه «من» ؛ وإن قدّر نفسه احتمل الحال والتمييز ؛ وعند قصد التمييز فالأحسن إدخال «من» ؛ ومن ذلك : «هذا خاتم حديدا» ، والأرجح التمييز للسلامة به من جمود الحال ، ولزومها ، أي : عدم انتقالها ، ووقوعها من نكرة ، وخير منهما الخفض بالإضافة.

من الحال ما يحتمل كونه من الفاعل وكونه من المفعول ، نحو : «ضربت زيدا ضاحكا» ، ونحو : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦] ، وتجويز الزمخشري الوجهين في (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) [البقرة : ٢٠٨] وهم ، لأن «كافّة» مختصّ بمن يعقل ، ووهمه في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) [سبأ : ٢٨] إذ قدّر (كافة) نعتا لمصدر محذوف ـ أي : إرسالة كافة ـ أشدّ ، لأنه أضاف إلى استعماله فيما لا يعقل إخراجه عما التزم فيه من الحاليّة ، ووهمه من خطبة المفصل إذ قال «محيط بكافّة الأبواب» أشدّ وأشدّ لإخراجه إياه عن النصب ألبتة.

من الحال ما يحتمل باعتبار عامله وجهين ، نحو : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] يحتمل أن عامله معنى التنبيه أو معنى الإشارة ، وعلى الأول فيجوز «قائما ذا زيد» قال [من البسيط] :

٧٢٨ ـ ها بيّنا ذا صريح النّصح فاصغ له

[وطع فطاعة مهد نصحه رشد](١)

وعلى الثاني يمتنع ؛ وأما التّقديم عليهما معا فيمتنع على كلّ تقدير.

من الحال ما يحتمل التعدّد والتّداخل ، نحو : «جاء زيد راكبا ضاحكا» ، فالتعدّد على أن يكون عاملهما «جاء» ، وصاحبهما «زيد» ؛ والتداخل على أن الأولى من «زيد» وعاملها «جاء» ، والثّانية من ضمير الأولى وهي العامل ؛ وذلك واجب عند من منع تعدّد الحال ؛ وأما «لقيته مصعدا منحدرا» فمن التعدّد ، لكن مع اختلاف الصاحب ؛ ويستحيل التداخل ، ويجب كون الأولى من المفعول والثّانية من الفاعل تقليلا للفصل ، ولا يحمل على العكس إلا بدليل كقوله [من الطويل] :

٧٢٩ ـ خرجت بها أمشي تجرّ وراءنا

على أثرينا ذيل مرط مرحّل (٢)

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٩٠١ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٣٤.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١٤ ، وخزانة ١١ / ٤٢٧ ، والدرر ٤ / ١٠ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ٣٣٩ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٤٤.

٤٤٧

ومن الأول قوله [من الوافر] :

٧٣٠ ـ عهدت سعاد ذات هوى معنّى

فزدت ، وعاد سلوانا هواها (١)

باب إعراب الفعل

مسألة ـ «ما تأتينا فتحدّثنا» لك رفع «تحدّث» على العطف ، فيكون شريكا في النفي ؛ أو الاستئناف فيكون مثبتا ، أي : فأنت تحدّثنا الآن بدلا عن ذلك ؛ ونصبه بإضمار أن وله معنيان : نفي السّبب فينتفي المسّبب ، ونفي الثّاني فقط ؛ فإن جئت بـ «لن» مكان «ما» ، فللنصب وجهان : إضمار «أن» والعطف ، وللرفع وجه وهو القطع ؛ وإن جئت بـ «لم» فللنصب وجه وهو إضمار «أن» ، وللرفع وجه وهو الاستئناف ، ولك الجزم بالعطف ؛ فإن قلت : «ما أنت آت فتحدّثنا» فلا جزم ولا رفع بالعطف ، لعدم تقدّم الفعل ، وإنما هو على القطع.

* * *

مسألة ـ «هل تأتيني فأكرمك» الرّفع على وجهين ، والنصب على الإضمار ؛و «هل زيد أخوك فتكرمه» لا يرفع على العطف ، بل على الاستئناف ؛ و «هل لك التفات إليه فتكرمه» الرّفع على الاستئناف ، والنصب إمّا على الجواب أو على العطف على التفات ؛ وإضمار «أن» واجب على الأوّل وجائز على الثاني ؛ وكالمثال سواء (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ) [الشعراء : ١٠٢] إن سلّم كون «لو» للتمنّي.

* * *

مسألة ـ «ليتني أجد مالا فأنفق منه» الرّفع على وجهين ، والنصب على إضمار «أن» ؛ و «ليت لي مالا فأنفق منه» يمتنع الرفع على العطف.

* * *

مسألة ـ «ليقم زيد فنكرمه» الرفع على القطع ، والجزم بالعطف ، والنصب على الإضمار.

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ٣٣٧ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٩٠١ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٨٠.

٤٤٨

مسألة ـ نحو : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) [يوسف : ١٠٩ ، غافر : ٨٢] يحتمل الجزم بالعطف ، والنصب على الإضمار ، مثل (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ) [الحج : ٤٦] ، ونحو : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) [محمد : ٣٦] يحتمل (تتقوا) الجزم بالعطف ، وهو الراجح ، والنصب بإضمار «أن» على حد قوله [من الطويل] :

٧٣١ ـ ومن يقترب منّا ويخضع نؤوه

[ولا يخش ظلما ما أقام ولا هضما](١)

باب الموصول

مسألة ـ يجوز في نحو : «ماذا صنعت ، وما ذا صنعته» ما مضى شرحه وقوله تعالى : (ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٦٥] ، «ماذا» : مفعول مطلق ، لا مفعول به ؛ لأن «أجاب» لا يتعدّى إلى الثاني بنفسه ، بل بالباء ؛ وإسقاط الجارّ ليس بقياس ، ولا يكون «ماذا» مبتدأ وخبرا ، لأن التقدير حينئذ : ما الذي أجبتم به ، ثم حذف العائد المجرور من غير شرط حذفه ؛ والأكثر في نحو : «من ذا لقيت» كون «ذا» للإشارة خبرا ، و «لقيت» : جملة حالية. ويقلّ كون «ذا» موصولة ، و «لقيت» صلة ، وبعضهم لا يجيزه ، ومن الكثير (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ) [البقرة : ٢٥٥] إذ لا يدخل موصول على موصول إلا شاذّا كقراءة زيد بن علي (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١] بفتح الميم واللام.

* * *

مسألة ـ (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر : ٩٤] «ما» مصدريّة : أي : بالأمر ، أو موصول اسمي : أي بالذي تؤمره ، على حدّ قولهم : «أمرتك الخير» ؛ وأمّا من قال «أمرتك بكذا» وهو الأكثر فيشكل ؛ لأن شرط حذف العائد المجرور بالحرف أن يكون الموصول مخفوضا بمثله معنى ومتعلقا نحو : (وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) [المؤمنون : ٣٣] أي : منه ؛ وقد يقال : إن (فَاصْدَعْ) بمعنى : اؤمر ؛ وأما (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا) [الأعراف : ١٠١] في الأعراف فيحتمل أن يكون الأصل بما كذبوه فلا إشكال ، أو بما كذبوا به ، ويؤيّده التصريح به في سورةيونس ؛ وإنّما جاز مع اختلاف المتعلّق ، لأن ما (كانُوا لِيُؤْمِنُوا) [يونس : ٧٤] بمنزلة «كذبوا» في المعنى ؛ وأما (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) [الشورى : ٢٣] فقيل :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ٢١٤ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٩١ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٥١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٤٠١.

٤٤٩

«الذي» مصدريّة أي : ذلك تبشير الله ؛ وقيل : الأصل يبشّر به ، ثم حذف الجار توسّعا فانتصب الضمير ثم حذف.

مسألة ـ يجوز في نحو : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) [الأنعام : ١٥٤] كون الذي موصولا اسميّا ، فيحتاج إلى تقدير عائد ، أي : زيادة على العلم الذي أحسنه ؛ وكونه موصولا حرفيّا فلا يحتاج لعائد ، أي : تماما على إحسانه ؛ وكونه نكرة موصوفة فلا يحتاج إلى صلة ، ويكون أحسن حينئذ اسم تفضيل ، لا فعلا ماضيا ، وفتحته إعراب لا بناء ، وهي علامة الجرّ ؛ وهذان الوجهان كوفيّان ، وبعض البصريّين يوافق على الثّاني.

* * *

مسألة ـ نحو : «أعجبني ما صنعت» يجوز فيه كون «ما» بمعنى «الذي» ، وكونها نكرة موصوفة ؛ وعليهما فالعائد محذوف ؛ وكونها مصدريّة فلا عائد ؛ ونحو : (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢] يحتمل الموصولة والموصوفة ، دون المصدريّة ، لأن المعاني لا ينفق منها ؛ وكذا (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣] فإن ذهبت إلى تأويل (ما تحبون) و (مِمَّا رَزَقْناهُمْ) بالحب والرزق ، وتأويل هذين بالمحبوب والمرزوق ، فقد تعسّفت من غير محوج إلى ذلك. وقال أبو حيان : لم يثبت مجيء «ما» نكرة موصوفة ؛ ولا دليل في «مررت بما معجب لك» لاحتمال الزيادة ؛ ولو ثبت نحو : «سرّني ما معجب لك» لثبت ذلك ، انتهى. ولا أعلمهم زادوا ما بعد الباء إلا ومعناها السببيّة ، نحو : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) [المائدة : ١٣] ، (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩].

* * *

مسألة ـ إذا قلت : «أعجبني من جاءك» احتمل كون «من» موصولة أو موصوفة ، وقد جوّزوا في (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) [البقرة : ٨] ، وضعّف أبو البقاء الموصولة ، لأنها تتناول قوما بأعيانهم ، والمعنى على الإبهام ، وأجيب بأنها نزلت في عبد الله بن أبيّ وأصحابه.

باب التوابع

مسألة ـ نحو : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) [الأعراف : ١٢١ ـ ١١٢ ؛ والشعراء : ٤٧ ـ ٤٨] يحتمل بدل الكل من الكلّ ، وعطف البيان ؛ ومثله (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ

٤٥٠

وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [البقرة : ١٣٣] ، (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) [النمل : ٥١] فيمن فتح الهمزة ؛ ويحتمل هذا تقدير مبتدأ أيضا ، أي : هي أنّا دمّرناهم.

* * *

مسألة ـ نحو : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) [الأعلى : ١] يجوز فيه كون (الْأَعْلَى) صفة لـ «الاسم» أو صفة لـ «الربّ» ؛ وأمّا نحو : «جاءني غلام زيد الظّريف» فالصفة للمضاف ، ولا تكون للمضاف إليه بدليل ، لأن المضاف إليه إنّما جيء به لغرض التّخصيص ، ولم يؤت به لذاته ، وعكسه [من المتقارب] :

وكلّ فتى يتّقي فائز (١)

فالصّفة للمضاف إليه ، لأن المضاف إنما جيء به لقصد التّعميم ، لا للحكم عليه ، ولذلك ضعف قوله [من الوافر] :

٧٣٢ ـ وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلّا الفرقدان (٢)

مسألة ـ نحو : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٢ ـ ٣] و «مررت بالرجل الذي فعل» يجوز في الموصول أن يكون تابعا بإضمار أعني أو أمدح أو هو ، وعلى التبعيّة فهو نعت لا بدل إلا إذا تعذّر ، نحو : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مالاً) [الهمزة : ١ ـ ٢] لأن النكرة لا توصف بالمعرفة.

باب حروف الجر

مسألة ـ نحو : «زيد كعمرو» تحتمل الكاف فيه عند المعربين الحرفيّة فتتعلّق باستقرار ؛ وقيل : لا تتعلّق ، والاسمية فتكون مرفوعة المحلّ وما بعدها جرّ بالإضافة ، ولا تقدير بالاتّفاق ؛ ونحو : «جاء الّذي كزيد» يتعيّن الحرفية ، لأن الوصل بالمتضايفين ممتنع.

* * *

مسألة ـ «زيد على السّطح» يحتمل «على» الوجهين ، وعليهما فهي متعلقة باستقرار محذوف.

__________________

(١) البيت من المتقارب ، لم أجده.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لعمرو بن معد يكرب في ديوانه ص ١٧٨ ، ولسان العرب ١٥ / ٤٣٢ مادة / ألا / ، ولحضري بن عامر في تذكرة النحاة ص ٩٠ ، وحماسة البحتري ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٨ / ١٨٠ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣٢١ ، ورصف المباني ص ٩٢.

٤٥١

مسألة ـ قيل في نحو : (وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ) [الضحى : ١ ـ ٢] : إن الواو تحتمل العاطفة والقسمية ، والصواب الأول ، وإلا لاحتاج كلّ إلى الجواب ، ومما يوضحه مجيء الفاء في أوائل سورتي المرسلات والنازعات.

باب في مسائل مفردة

مسألة ـ نحو : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [النور : ٣٦] فيمن فتح الباء يحتمل كون النائب عن الفاعل الظرف الأوّل ـ وهو الأولى ـ أو الثاني أو الثّالث ؛ ونحو : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) [الزمر : ٦٨] النائب الظرف أو الوصف ، وفي هذا ضعف ، لضعف قولهم «سير عليه طويل».

* * *

مسألة ـ «تجلّى الشّمس» يحتمل كون «تجلّى» ماضيا تركت التاء من آخره لمجازيّة التأنيث ، وكونه مضارعا أصله : «تتجلّى» ثم حذفت إحدى التاءين على حدّ قوله تعالى : (ناراً تَلَظَّى) [الليل : ١٤] ، ولا يجوز في هذا كونه ماضيا ، وإلا لقيل : «تلظّت» ، لأن التأنيث واجب مع المجازي إذا كان ضميرا متّصلا. وبما ذكرنا من الوجهين في المثال الأول تعلم فساد قول من استدلّ على جواز نحو : «قام هند» في الشعر بقوله [من الطويل] :

٧٣٣ ـ تمنّى ابنتاي أن يعيش أبوهما

[وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر](١)

لجواز أن يكون أصله : تتمّنى.

* * *

الجهة السادسة : أن لا يراعي الشّروط المختلفة بحسب الأبواب ؛ فإن العرب يشترطون في باب شيئا ، ويشترطون في آخر نقيض ذلك الشيء ، على ما اقتضته حكمة لغتهم وصحيح أقيستهم ؛ فإذا لم يتأمّل المعرب اختلطت عليه الأبواب والشرائط.

فلنورد أنواعا من ذلك مشيرين إلى بعض ما وقع فيه الوهم للمعربين :

النوع الأول : اشتراطهم الجمود لعطف البيان ، والاشتقاق للنعت.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ٢١٣ ، والأزهية ص ١٧٧ ، والأغاني ١٥ / ٣٠٥ ، وخزانة الأدب ٤ / ٣٤٠ ، والدرر ٦ / ٢٧٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٠٢.

٤٥٢

ومن الوهم في الأول قول الزمخشري في (مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ) [الناس : ٢ ـ ٣] إنهما عطفا بيان ، والصّواب أنهما نعتان ، وقد يجاب بأنهما أجريا مجرى الجوامد ؛ إذ يستعملان غير جاريين على موصوف وتجري عليهما الصفات ، نحو قولنا : «إله واحد» ، و «ملك عظيم».

ومن الخطأ في الثاني قول كثير من النحويّين في نحو : «مررت بهذا الرّجل» : إن «الرجل» نعت ، قال ابن مالك : أكثر المتأخّرين يقلّد بعضهم بعضا في ذلك ، والحامل لهم عليه توهّمهم أن عطف البيان لا يكون إلا أخصّ من متبوعه ، وليس كذلك ؛ فإنه في الجوامد بمنزلة النعت في المشتقّ ، ولا يمتنع كون المنعوت أخصّ من النعت ؛ وقد هدي ابن السيّد إلى الحق في المسألة ، فجعل ذلك عطفا لا نعتا ، وكذا ابن جني ، ا ه.

قلت : وكذا الزجّاج والسّهيلي ، قال السهيلي : وأمّا تسمية سيبويه له نعتا فتسامح ، كما سمّي التوكيد وعطف البيان صفة.

وزعم ابن عصفور أن النحويين أجازوا في ذلك الصفة والبيان ، ثم استشكله بأن البيان أعرف من المبين وهو جامد ، والنعت دون المنعوت أو مساو له وهو مشتق أو في تأويله ، فكيف يجتمع في الشيء أن يكون بيانا ونعتا؟ وأجاب بأنه إذا قدّر نعتا فاللام فيه للعهد والاسم مؤوّل بقولك : الحاضر أو المشار إليه ؛ وإذا قدّر بيانا فاللام لتعريف الحضور ؛ فيساوي الإشارة بذلك ويزيد بإفادته الجنس المعين فكان أخص ؛ قال : وهذا معنى قول سيبويه ا ه.

وفيما قاله نظر ؛ لأن الذي يؤوّله النحويون بالحاضر والمشار إليه إنما هو اسم الإشارة نفسه إذا وقع نعتا ، كـ «مررت بزيد هذا» ، فأما نعت اسم الإشارة فليس ذلك معناه ، وإنما هو معنى ما قبله ، فكيف يجعل معنى ما قبله تفسيرا له؟

وقال الزمخشريّ في (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) [الأنعام : ١٠٢] : يجوز كون اسم الله تعالى صفة للإشارة أو بيانا ، و «ربّكم» الخبر ، فجوّز في الشيء الواحد البيان والصفة ، وجوّز كون العلم نعتا ، وإنما العلم ينعت ولا ينعت به ، وجوّز نعت الإشارة بما ليس معرفا بلام الجنس ، وذلك مما أجمعوا على بطلانه.

النوع الثاني : اشتراطهم التعريف لعطف البيان ولنعت المعرفة ، والتنكير للحال ، والتمييز ؛ وأفعل «من» ، ونعت النكرة.

ومن الوهم في الأوّل قول جماعة في صديد من (ماءٍ صَدِيدٍ) [إبراهيم : ١٦] ، وفي

٤٥٣

(طَعامُ مِسْكِينٍ) من (كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) [المائدة : ٩٥] فيمن نوّن «كفارة» : إنهما عطفا بيان ، وهذا إنما هو معترض على قول البصريّين ومن وافقهم ؛ فيجب عندهم في ذلك أن يكون بدلا ، وأما الكوفيّون فيرون أن عطف البيان في الجوامد كالنعت في المشتقّات ، فيكون في المعارف والنكرات ، وقول بعضهم في «ناقع» من قول النابغة [من الطويل]:

٧٣٤ ـ [فبتّ كأني ساورتني ضئيلة]

من الرّقش في أنيابها السّمّ ناقع (١)

إنه نعت لـ «السمّ» ، والصواب أنه خبر لـ «السمّ» ، والظرف متعلّق به ، أو خبر ثان.

وليس من ذلك قول الزمخشريّ في (شَدِيدُ الْعِقابِ) [البقرة : ١٩٦ ، غافر : ٣] : إنه يجوز كونه صفة لاسم الله تعالى في أوائل سورةالمؤمن ، وإن كان من باب الصّفة المشبهة ، وإضافتها لا تكون إلا في تقدير الانفصال ، ألا ترى أن (شَدِيدُ الْعِقابِ) معناه : شديد عقابه ، ولهذا قالوا : كلّ شيء إضافته غير محضة فإنه يجوز أن تصير إضافته محضة ، إلا الصفة المشبّهة ، لأنه جعله على تقدير «أل» ، وجعل سبب حذفها إرادة الازدواج ؛ وأجاز وصفيّته أيضا أبو البقاء ، لكن على أن «شديدا» بمعنى «مشدّد» كما أن «الأذين» في معنى «المؤذّن» ، أخرجه بالتأويل من باب الصفة المشبّهة إلى باب اسم الفاعل ؛ والذي قدّمه الزمخشريّ أنه وجميع ما قبله أبدال ؛ أمّا أنه بدل فلتنكيره ؛ وكذا المضافان قبله وإن كانا من باب اسم الفاعل ؛ لأنّ المراد بهما المستقبل ، وأما البواقي فللتناسب ؛ وردّ على الزجّاج في جعله (شَدِيدُ الْعِقابِ) [البقرة : ١٩٦ ، غافر : ٣] بدلا وما قبله صفات ، وقال : في جعله بدلا وحده من بين الصفات نبوّ ظاهر.

ومن ذلك قول الجاحظ في بيت الأعشى [من السريع] :

٧٣٥ ـ ولست بالأكثر منهم حصى

[وإنّما العزّة للكاثر](٢)

إنه يبطل قول النحويين «لا تجتمع «أل» و «من» في اسم التفضيل» ، فجعل كلّا من «أل» و «من» معتدّا به جاريا على ظاهره ؛ والصّواب أن تقدر «أل» زائدة ، أو معرفة و «من» متعلّقة بـ «أكثر» منكرا محذوفا مبدلا من المذكور ، أو بالمذكور على أنّها بمنزلتها في قولك : «أنت منهم الفارس البطل» ، أي : أنت من بينهم ؛ وقول بعضهم : «إنها متعلقة

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص ٣٣ ، وخزانة الأدب ٢ / ٤٥٧ ، والدرر ٦ / ٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٠٢ ، ولسان العرب ٤ / ٥٠٧ مادة / طور /.

(٢) البيت من السريع ، وهو للأعشى في ديوانه ص ١٩٣ ، وأوضح المسالك ٣ / ٢٩٥ ، وخزانة الأدب ١ / ١٨٥ ، والخصائص ١ / ١٨٥ ، ٣ / ٢٣٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٠٢ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٤٢٢.

٤٥٤

بليس» قد يردّ بأنها لا تدلّ على الحدث عند من قال في أخواتها إنها تدلّ عليه ، ولأن فيه فصلا بين أفعل وتمييزه بالأجنبيّ ، وقد يجاب بأن الظّرف يتعلّق بالوهم ، وفي «ليس» رائحة قولك : انتفى ، وبأن فصل التمييز قد جاء في الضرورة في قوله [من المتقارب] :

٧٣٦ ـ على أنّني بعد ما قد مضى

ثلاثون للهجر حولا كميلا (١)

و «أفعل» أقوى في العمل من «ثلاثون».

ومن الوهم في الثاني قول مكي في قراءة ابن أبي عبلة (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة : ٢٨٣] بالنصب : إن (قَلْبُهُ) تمييز ، والصواب أنّه مشبه بالمفعول به كـ «حسن وجهه» ، أو بدل من اسم «إن». وقول الخليل والأخفش والمازني في «إياي» و «إيّاك» ، و «إياه» : إن «إيّا» ضمير أضيف إلى ضمير ؛ فحكموا للضمير بالحكم الذي لا يكون إلا للنكرات وهو الإضافة ؛ وقول بعضهم في «لا إله إلا الله» إن اسم الله تعالى خبر «لا» التبرئة ، ويردّه أنها لا تعمل إلا في نكرة منفيّة ، واسم الله تعالى معرفة موجبة ؛ نعم يصحّ أن يقال : إنه خبر لـ «لا» مع اسمها ، فإنّهما في موضع رفع بالابتداء عند سيبويه ؛ وزعم أن المركبّة لا تعمل في الخبر ، لضعفها بالتركيب عن أن تعمل فيما تباعد منها وهو الخبر ، كذا قال ابن مالك.

والذي عندي أن سيبويه يرى أن المركّبة لا تعمل في الاسم أيضا ؛ لأن جزء الشيء لا يعمل فيه ، وأما «لا رجل ظريفا» بالنصب فإنه عند سيبويه مثل «يا زيد الفاضل» بالرّفع ؛ وكذا البحث في «لا إله إلا هو» للتعريف والإيجاب أيضا ، وفي «لا إله إلا إله واحد» للإيجاب ؛ وإذا قيل : «لا مستحقا للعبادة إلا إله واحد ، أو إلا الله» لم يتّجه الاعتذار المتقدّم ، لأن «لا» في ذلك عاملة في الاسم والخبر لعدم التّركيب. وزعم الأكثرون أن المرتفع بعد «إلا» في ذلك كله بدل من محلّ اسم «لا» ، كما في قولك : «ما جاءني من أحد إلّا زيد». ويشكل على ذلك أن البدل لا يصلح هنا لحلوله محلّ الأول ، وقد يجاب بأنه بدل من الاسم مع «لا» ، فإنهما كالشّيء الواحد ، ويصحّ أن يخلفهما ، ولكن يذكر الخبر ، حينئذ ، فيقال : «الله موجود». وقيل : هو بدل من ضمير الخبر المحذوف ، ولم يتكلّم الزّمخشريّ في كشّافه على المسألة اكتفاء بتأليف مفرد له فيها ، وزعم فيه أن الأصل «الله إله» المعرفة مبتدأ ، والنكرة خبر ، على القاعدة ، ثم قدّم الخبر ، ثم أدخل النفي على

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو للعباس بن مرداس في ديوانه ص ١٣٦ ، وأساس البلاغة ص ٣٩٨ مادة / كمل / ، وخزانة الأدب ٣ / ٢٩٩ ، والدرر ٤ / ٤٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٠٨.

٤٥٥

الخبر والإيجاب على المبتدأ ، وركّبت «لا» مع الخبر ، فيقال له : فما تقول في نحو «لا طالعا جبلا إلا زيد» لم انتصب خبر المبتدأ؟ فإن قال : إن «لا» عاملة عمل «ليس» ، فذلك ممتنع ، لتقدّم الخبر ، ولانتقاض النفي ، ولتعريف أحد الجزأين ؛ فأما قوله : «يجب كون المعرفة المبتدأ» فقد مر أن الإخبار عن النكرة المخصّصة المقدّمة بالمعرفة جائز ، نحو :

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) [آل عمران : ٩٦].

ومن ذلك قول الفارسي في «مررت برجل ما شئت من رجل» : إن «ما» مصدرية ، وإنها وصلتها صفة لـ «رجل» ، وتبعه على ذلك صاحب التّرشيح ، قال : ومثله قوله تعالى : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٨) [الانفطار : ٨] أي : في أي صورة مشيئته أي يشاؤها ؛ وقول أبي البقاء في (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) [آل عمران : ٦٤] إنّ «أن» وصلتها بدل من «سواء» ، وبدل الصّفة صفة ، والحرف المصدريّ وصلته في نحو ذلك معرفة ، فلا يقع صفة للنكرة. وقول بعضهم في (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ) [الهمزة : ١ ـ ٢] إن «الذي» صفة.

والصواب أن «ما» في المثال شرطيّة حذف جوابها ، أي : فهو كذلك ، والصفة الجملتان معا.

وأما الآية الأولى فقال أبو البقاء : «ما» شرطيّة أو زائدة ، وعليهما فالجملة صفة لـ «صورة» ، والعائد محذوف ، أي : عليها ، و «في» متعلقة بركبك ، ا ه. كلامه.

وكان حقه إذ علّق «في» بـ «ركبك» وقال الجملة صفة أن يقطع بأن «ما» زائدة ، إذ لا يتعلّق الشرط الجازم بجوابه ، ولا تكون جملة الشرط وحدها صفة ، والصواب أن يقال : إن قدّرت «ما» زائدة ، فالصفة جملة «شاء» وحدها ، والتقدير شاءها» ، و «في» متعلّقة بـ «ركبك» ، أو باستقرار محذوف هو حال من مفعوله ، أو بـ «عدّلك» ، أي : وضعك في صورة أي صورة ؛ وإن قدّرت «ما» شرطية فالصفة مجموع الجملتين ، والعائد محذوف أيضا ، وتقديره : عليها ، وتكون «في» حينئذ متعلقة بـ «عدّلك» ، أي : عدّلك في صورة أي صورة ، ثم استؤنف ما بعده.

والصواب في الآية الثانية أنها على تقدير مبتدأ.

وفي الثالث أن (الذى) بدل ، أو صفة مقطوعة بتقدير «هو» أو «أذمّ» أو «أعني».

هذا هو الصواب ، خلافا لمن أجاز وصف النكرة بالمعرفة مطلقا ، ولمن أجازه بشرط وصف النكرة أو لا بنكرة ، وهو قول الأخفش ، زعم أن (الأولين) صفة ل

٤٥٦

(آخران) في (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) [المائدة : ١٠٧] الآية ، لوصفهما بيقومان ، وكذا قال بعضهم في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) [النساء : ٣٦ ـ ٣٧].

ومن ذلك قول الزمخشري في (إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ) [سبأ : ٤٦] : إن (أَنْ تَقُومُوا) عطف بيان على «واحدة» ؛ وفي (مَقامُ إِبْراهِيمَ) [آل عمران : ٩٧] : إنه عطف بيان على (آياتٌ بَيِّناتٌ) [آل عمران : ٩٧] ، مع اتّفاق النحويين على أن البيان والمبّين لا يتخالفان تعريفا وتنكيرا ، وقد يكون عبّر عن البدل بعطف البيان لتآخيهما ؛ ويؤيّده قوله في (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) [الطلاق : ٦] : إن (مِنْ وُجْدِكُمْ) عطف بيان لقوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) وتفسير له ؛ قال : و «من» : تبعيضيّة حذف مبعضها ، أي : أسكنوهنّ مكانا من مساكنكم مما تطيقون ، ا ه. وإنما يريد البدل لأن الخافض لا يعاد إلا معه ، وهذا إمام الصناعة سيبويه يسمّي التوكيد صفة ، وعطف البيان صفة كما مرّ.

النوع الثالث : اشتراطهم في بعض ما التعريف شرطه تعريفا خاصّا ، كمنع الصرف اشترطوا له تعريف العلمية أو شبهه ، كما في «أجمع» ، وكنعت الإشارة و «أيّ» في النداء ، اشترطوا لهما تعريف اللام الجنسية ، وكذا تعريف فاعلي «نعم» و «بئس» ، ولكنها تكون مباشرة له أو لما أضيف إليه ، بخلاف ما تقدّم فشرطها المباشرة له.

ومن الوهم في ذلك قول الزمخشري في قراءة أبي ابن عبلة (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (٦٤) [ص : ٦٤] بنصب «تخاصم» : إنه صفة للإشارة ؛ وقد مضى أن جماعة من المحقّقين اشترطوا في نعت الإشارة اشتقاق كما اشترطوه في غيره من النعوت ، ولا يكون التخاصم أيضا عطف بيان ، لأن البيان يشبه الصفة ، فكما لا توصف الإشارة إلّا بما فيه «أل» كذلك ما يعطف عليها ؛ ولهذا منع أبو الفتح في (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] في قراءة ابن مسعود برفع (شَيْخاً) كون (بَعْلِي) عطف بيان ، وأوجب كونه خبرا ، و «شيخ» : إما خبر ثان ، أو خبر لمحذوف ، أو بدل من «بعلي» ، أو «بعلي» بدل و «شيخ» الخبر ؛ ونظير منع أبي الفتح ما ذكرنا منع ابن السيّد في كتاب المسائل والأجوبة وابن مالك في التسهيل كون عطف البيان تابعا للمضمر ، لامتناع ذلك في النعت ؛ ولكن أجاز سيبويه «يا هذان زيد وعمرو» على عطف البيان ، وتبعه الزيادي ، فأجاز «مررت بهذين الطّويل والقصير» على البيان ، وأجازه على البدل أيضا ، ولم يجزه على النعت ، لأن نعت الإشارة لا يكون إلا طبقها في اللفظ ، وممّن نصّ على منع النعت في هذا سيبويه والمبرد والزجّاج ، وهو مقتضى القياس ، ومنع سيبويه فيها مخالف لإجازته في النداء.

٤٥٧

النوع الرابع : اشتراط الإبهام في بعض الألفاظ كظروف المكان ، والاختصاص في بعضها كالمبتدآت وأصحاب الأحوال.

ومن الوهم في الأوّل قول الزمخشري في (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) [يس : ٦٦] ، وفي (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) [طه : ٢١] وقول ابن الطراوة في قوله [من الكامل] :

٧٣٧ ـ [لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه

فيه] كما عسل الطّريق الثّعلب (١)

وقول جماعة في «دخلت الدار ، أو المسجد ، أو السّوق» إن هذه المنصوبات ظروف ، وإنّما يكون ظرفا مكانيّا ما كان مبهما ، ويعرف بكونه صالحا لكل بقعة كـ «مكان» و «ناحية» ، و «جهة» ، و «جانب» و «أمام» ، و «خلف».

والصواب أن هذه المواضع على إسقاط الجارّ توسعا ، والجار المقدر «إلى» في (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) [طه : ٢١] و «في» في البيت ، و «في» أو «إلى» في الباقي ؛ ويحتمل أن (استبقوا) ضمّن معنى «تبادروا» ، وقد أجيز الوجهان في (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) [البقرة : ١٤٨ ، المائدة : ٤٨] ويحتمل (سِيرَتَهَا) أن يكون بدلا من ضمير المفعول بدل اشتمال ، أي : سنعيدها طريقتها.

ومن ذلك قول الزجّاج في (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) [التوبة : ٥] إن «كلّ» ظرف ، وردّه أبو علي في «الأغفال» بما ذكرنا ؛ وأجاب أبو حيان بأن (اقْعُدُوا) ليس على حقيقته ، بل معناه ارصدوهم كلّ مرصد ، ويصح : ارصدوهم كل مرصد ، فكذا يصحّ: قعدت كل مرصد ، قال : ويجوز : قعدت مجلس زيد ، كما يجوز : قعدت مقعده ، ا ه.

وهذا مخالف لكلامهم ، إذ اشترطوا توافق مادّتي الظرف وعامله ، ولم يكتفوا بالتوافق المعنوي كما في المصدر ، والفرق أن انتصاب هذا النوع على الظرفية على خلاف القياس لكونه مختصا ، فينبغي أن لا يتجاوز به محل السماع ؛ وأما نحو : «قعدت جلوسا» فلا دافع له من القياس ؛ وقيل : التّقدير : اقعدوا لهم على كل مرصد فحذفت «على» ، كما قال [من الطويل] :

٧٣٨ ـ [تحنّ فتبدي ما بها من صبابة]

وأخفي الّذي لو لا الأسى لقضاني (٢)

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لساعد بن جؤبة الهذلي في تخليص الشواهد ٥٠٣ ، وخزانة الأدب ٣ / ٨٣ ، والدرر ٣ / ٨٦ ، وشرح شواهد أشعار الهذليين ص ١١٢٠ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٨٥.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لعروة بن حزام ، في خزانة الأدب ٨ / ١٣٠ ، والدرر ٤ / ١٣٦ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤١٤ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٥٥٢.

٤٥٨

أي : لقضى عليّ ، وقياس الزجّاج أن يقول في (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف :١٦] مثل قوله في (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) [التوبة : ٥] ، والصواب في الموضوعين أنهما على تقدير «على» ، كقولهم : «ضرب زيد الظهر والبطن» فيمن نصبهما ، أو أنّ «لأقعدنّ» و «اقعدوا» ضمّنا معنى «لألزمنّ» و «الزموا».

ومن الوهم في الثاني قول الحوفي في (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) [النور : ٤٠]. إن (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) جملة مخبر بها عن «ظلمات» ، و «ظلمات» غير مختصّ ؛ فالصواب قول الجماعة إنه خبر لمحذوف ، أي : تلك ظلمات ؛ نعم إن قدّر أن المعنى : ظلمات أيّ ظلمات بمعنى ظلمات عظام أو متكاثفة ، وتركت الصفة لدلالة المقام عليها ، كما قال [من الطويل] :

٧٣٩ ـ له حاجب في كلّ أمر يشينه

[وليس له عن طالب العرف حاجب](١)

صحّ ، وقول الفارسي في (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) [الحديد : ٢٧] : إنه من باب «زيدا ضربته» ، واعترضه ابن الشجري بأنّ المنصوب في هذا الباب شرطه أن يكون مختصّا ليصحّ رفعه بالابتداء ، والمشهور أنه عطف على ما قبله ، و «ابتدعوها» : صفة ؛ ولا بدّ من تقدير مضاف ، أي : وحبّ رهبانية ، وإنما لم يحمل أبو علي الآية على ذلك لاعتزاله ، فقال : لأن ما يبتدعونه لا يخلقه الله عزوجل ؛ وقد يتخيّل ورود اعتراض ابن الشجري على أبي البقاء في تجويزه في (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) [الصف : ١٣] كونه كـ «زيدا ضربته» ، ويجاب بأن الأصل «وصفة أخرى» ، ويجوز كون (تُحِبُّونَها) صفة ، والخبر إما «نصر» ، وإما محذوف ، أي : ولكم نعمة أخرى ، و «نصر» : بدل أو خبر لمحذوف ، وقول ابن ابن مالك بدر الدين في قول الحماسي [من الرمل] :

٧٤٠ ـ فارسا ما غادروه ملحما

[غير زمّيل ولا نكس وكل](٢)

إنه من باب الاشتغال كقول أبي علي في الآية ، والظاهر أنه نصب على المدح لما قدمنا ، و «ما» في البيت زائدة ؛ ولهذا أمكن أن يدّعى أنه من باب الاشتغال.

النوع الخامس : اشتراطهم الإضمار في بعض المعمولات ، والإظهار في بعض ؛

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في لسان العرب ١ / ٣٨٩ مادة / ذنب / ، وأساس البلاغة ص ٤١٤ مادة / لمظ / ، وتاج العروس ٢ / ٤٣٧ مادة / ذنب /.

(٢) البيت من الرمل ، وهو لعلقمة الفحل في ديوانه ص ١٣٣ ، وله أو لامرأة من بني الحارث في شرح شواهد المغني ٢ / ٦٦٤ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٥٣٩ ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ٥٠١.

٤٥٩

فمن الأول مجرور «لولا» ومجرور «وحد» ، ولا يختصّان بضمير خطاب ولا غيره ، تقول : «لولاي» ، و «لولاك» ، و «لولاه» و «وحدي» ، و «وحدك» ، و «وحده» ، ومجرور «لبّي» ، و «سعدي» ، و «جناني» ، ويشترط لهنّ ضمير الخطاب ، وشذ نحو قوله [من الطويل] :

٧٤١ ـ [دعوني] فيا لبّيّ إذ هدرت لهم

[شقاشق أقوام فأسكتها هدري](١)

وقول آخر [من الرجز] :

٧٤٢ ـ إنّك لو دعوتني ودوني

[زوراء ذات مترع بيون (٢)

لقلت لبّيه لمن يدعوني]

كما شذت إضافتها إلى الظاهر في قوله [من المتقارب] :

٧٤٣ ـ [دعوت لما نابني مسورا]

فلبّى فلبّي يدي مسور (٣)

ومن ذلك مرفوع خبر «كاد» وأخواتها إلّا «عسى» ؛ فتقول : «كاد زيد يموت» ، ولا تقول : يموت أبوه ؛ ويجوز «عسى زيد أن يقوم أبوه» فيرفع السببيّ ، ولا يجوز رفعه الأجنبيّ ، نحو : «عسى زيد أن يقوم عمرو عنده».

ومن ذلك مرفوع اسم التفضيل في غير مسألة الكحل ، وهذا شرطه مع الإضمار الاستتار ، وكذا مرفوع نحو : «قم» ، و «أقوم» ، و «نقوم» ، و «تقوم».

ومن الثاني تأكيد الاسم المظهر ، والنعت ، والمنعوت ، وعطف البيان ، والمبين.

ومن الوهم في الأول قول بعضهم في «لولاي وموسى» : إن «موسى» يحتمل الجرّ ، وهذا خطأ ؛ لأنه لا يعطف على الضمير المجرور إلّا بإعادة الجار ، ولأن «لولا» لا تجرّ الظاهر ؛ فلو أعيدت لم تعمل الجرّ ، فكيف ولم تعد؟ هذه مسألة يحاجى بها فيقال : ضمير مجرور لا يصحّ أن يعطف عليه اسم مجرور أعدت الجارّ أم لم تعده ، وقولي «مجرور» لأنه يصحّ أن تعطف عليه اسما مرفوعا ؛ لأن «لولا» محكوم لها بحكم الحروف الزائدة ، والزائد لا يقدح في كون الاسم مجرّدا من العوامل اللفظيّة ؛ فكذا ما أشبه الزائد ؛ وقول جماعة في قول هدبة [من الوافر] :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٩٠٩.

(٢) البيت من البحر المتقارب ، وهو لرجل من بني أسد في الدرر ٣ / ٦٨ ، وخزانة الأدب ٢ / ٩٢.

(٣) البيت من المتقارب ، وهو لرجل من بني أسد في الدرر ٣ / ٦٨ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٨ ، وشرح شواهد المغني ، ولسان العرب ١٥ / ٢٣٩ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ١٢٣ ، وخزانة الأدب ٢ / ٩٢.

٤٦٠