شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢
الجزء ١ الجزء ٢

ولا تدخل «ربّ» على المعارف ؛ وفي التحفة أن ابن مالك ردّ على ابن الحاجب في قوله : «ولا تفيد إلا تخفيفا» ، فقال : بل تفيد أيضا التّخصيص ، فإن «ضارب زيد» أخصّ من «ضارب» ، وهذا سهو ؛ فإن «ضارب زيد» أصله «ضارب زيدا» بالنصب ، وليس أصله ضاربا فقط ؛ فالتخصيص حاصل بالمعمول قبل أن تأتي الإضافة.

فإن لم يكن الوصف بمعنى الحال والاستقبال ، فإضافته محضة تفيد التعريف والتخصيص ؛ لأنها ليست في تقدير الانفصال.

وعلى هذا صحّ وصف اسم الله تعالى بـ «مالك يوم الدين». قال الزمخشري : أريد باسم الفاعل هنا : إما الماضي ، كقولك : «هو مالك عبيده أمس» ، أي : مالك الأمور يوم الدين ، على حد (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٤٤] ، ولهذا قرأ أبو حنيفة ملك يوم الدين [الفاتحة : ٤] ، وإما الزمان المستمرّ كقولك : «هو مالك العبيد» ، فإنه بمنزلة قولك مولى العبيد ، ا ه. ملخّصا.

وهو حسن ، إلا أنه نقض هذا المعنى الثاني عند ما تكلّم على قوله تعالى : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) [الأنعام : ٩٦] ، فقال : قرىء بجرّ الشمس والقمر عطفا على الليل ، وبنصبهما بإضمار جعل ، أو عطفا على محل الليل ، لأن اسم الفاعل هنا ليس في معنى المضيّ فتكون إضافته حقيقية ، بل هو دال على جعل مستمرّ في الأزمنة المختلفة ؛ ومثله (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) [الأنعام : ٩٥] و (فالِقُ الْإِصْباحِ) [الأنعام : ٩٦] كما تقول «زيد قادر عالم» ولا تقصد زمانا دون زمان ، ا ه.

وحاصله أن إضافة الوصف إنّما تكون حقيقة إذا كان بمعنى الماضي ، وأنه إذا كان لإفادة حدث مستمر في الأزمنة كانت إضافته غير حقيقيّة ، وكان عاملا ، وليس الأمر كذلك.

الرّابع : إزالة القبح أو التجوّز ، كـ «مررت بالرّجل الحسن الوجه» فإن الوجه إن رفع قبح الكلام ، لخلو الصّفة لفظا عن ضمير الموصوف وإن نصب حصل التجوّز بإجرائك الوصف القاصر مجرى المتعدّي.

الخامس : تذكير المؤنث كقوله [من البسيط] :

٦٥٥ ـ إنارة العقل مكسوف بطوع هوى

وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا (١)

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لبعض المولدين ، في المقاصد النحوية ٣ / ٣٩٦ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٥ / ٢٦٣ ، وخزانة الأدب ٤ / ٢٢٧ ، وأوضح المسالك ٣ / ١٠٥.

٤٠١

ويحتمل أن يكون منه (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] ، ويبعده (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى : ١٧] ، فذكّر الوصف حيث لا إضافة ، ولكن ذكر الفرّاء أنهم التزموا التّذكير في «قريب» إذا لم يرد قرب النسب قصدا للفرق ؛ وأما قول الجوهري : «إن التّذكير لكون التأنيث مجازيّا» فوهم ، لوجوب التأنيث في نحو : «الشّمس طالعة ، والموعظة نافعة» ، وإنما يفترق حكم المجازيّ والحقيقيّ الظاهرين ، لا المضمرين.

السادس : تأنيث المذكّر ،كقولهم : «قطعت بعض أصابعه» ، وقرىء (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) [يوسف : ١٠] ، ويحتمل أن يكون منه (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] ، (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) [آل عمران : ١٠٣] ، أي : من الشّفا ، ويحتمل أن الضّمير لـ «النار» ، وفيه بعد ، لأنهم ما كانوا في النار حتى ينقذوا منها ، وأن الأصل : فله عشر حسنات أمثالها ؛ فالمعدود في الحقيقة الموصوف ، وهو مؤنّث ، وقال [من الرجز] :

٦٥٦ ـ طول اللّيالي أسرعت في نقضي

نقضن كلّي ونقضن بعضي (١)

وقال [من الوافر] :

٦٥٧ ـ وما حبّ الدّيار شغفن قلبي

[ولكن حبّ من سكن الدّيارا](٢)

وأنشد سيبويه [من الطويل] :

٦٥٨ ـ وتشرق بالقول الّذي قد أذعته

كما شرقت صدر القناة من الدّم (٣)

وإلى هذا البيت يشير ابن حزم الظاهريّ في قوله [من الطويل] :

٦٥٩ ـ تجنّب صديقا مثل ما ، واحذرالّذي

يكون كعمرو بين عرب وأعجم

٦٦٠ ـ فإنّ صديق السّوء يزري، وشاهدي

كما شرقت صدر القناة من الدّم

ومراده بـ «ما» الكناية عن الرجل الناقص كنقص «ما» الموصولة ، وب «عمرو» الكناية عن الرجل المريد أخذ ما ليس له كأخذ «عمرو» الواو في الخط.

__________________

(١) البيت من بحر الرجز ، وهو بلا نسبة في الخصائص ٢ / ٤١٨ ، وأوضح المسالك ٣ / ١٠٣.

(٢) البيت من الوافر ، وهو للمجنون في ديوانه ص ١٣١ ، وخزانة الأدب ٤ / ٢٧٧ ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ١٦٩.

(٣) البيت من البحر الطويل ، وهو للأعشى في ديوانه ص ١٧٣ ، والأزهية ص ٢٣٨ ، وخزانة الأدب ٥ / ١٠٦.

٤٠٢

وشرط هذه المسألة والتي قبلها صلاحيّة المضاف للاستغناء عنه ؛ فلا يجوز «أمة زيد جاء» ، ولا «غلام هند ذهبت» ، ومن ثمّ ردّ ابن مالك في التوضيح قول أبي الفتح في توجيهه قراءة أبي العالية : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) [الأنعام : ١٥٨] بتأنيث الفعل : إنه من باب «قطعت بعض أصابعه» ، لأن المضاف لو سقط هنا لقيل : «نفسا لا تنفع» بتقديم المفعول ليرجع إليه الضمير المستتر المرفوع الذي ناب عن الإيمان في الفاعليّة ، ويلزم من ذلك تعدّي فعل المتّصل إلى ظاهره نحو قولك : «زيد ظلم» ، تريد أنه ظلم نفسه ، وذلك لا يجوز.

السابع : الظرفيّة ، نحو : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) [إبراهيم : ٢٥] ، وقوله [من الرجز] :

أنا أبو المنهال بعض الأحيان (١)

وقال المتنبّي [من الخفيف] :

٦٦١ ـ أيّ يوم سررتني بوصال

لم تسؤني ثلاثة بصدود (٢)

و «أيّ» في البيت استفهاميّة يراد بها النفي ، لا شرطيّة ؛ لأنه لو قيل مكان ذلك : «إن سررتني» انعكس المعنى ، لا يقال : يدلّ على أنها شرطيّة أنّ الجملة المنفيّة إن استؤنفت ولم تربط بالأولى فسد المعنى ؛ لأنا نقول : الرّبط حاصل بتقديرها صفة لـ «وصال» ، والرابط محذوف ، أي : لم ترعني بعده ، ثم حذفا دفعة أو على التدريج ؛ أو حالا من تاء المخاطب ، والرابط فاعلها ، وهي حال مقدّرة ، أو معطوفة بفاء محذوفة فلا موضع لها ، أي : ما سررتني غير مقدّر أنك تروعني ، ومن روى ثلاثة بالرّفع فالحالية ممتنعة ، لعدم الرابط.

الثامن : المصدريّة ، نحو : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء : ٢٢٧] ، فـ «أي» : مفعول مطلق ناصبه «ينقلبون» ؛ و «يعلم» : معلقة عن العمل بالاستفهام ؛ وقال [من الطويل] :

٦٦٢ ـ ستعلم ليلى أيّ دين تداينت

وأيّ غريم للتّقاضي غريمها (٣)

«أيّ» الأولى واجبة النصب بما بعدها كما في الآية ، إلا أنها هنا مفعول به ،

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) البيت من البحر الخفيف ، انظر : خزانة الأدب للحموي ١ / ١٩٧.

(٣) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٤.

٤٠٣

كقولك : «تداينت مالا» لا مفعول مطلق ؛ لأنها لم تضف لمصدر ؛ والثانية واجبة الرفع بالابتداء مثلها في (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) [الكهف : ١٢] ، (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً) [طه : ٧١].

التاسع : وجوب التصدير ، ولهذا وجب تقديم المبتدأ في نحو : «غلام من عندك» ، والخبر في نحو : «صبيحة أيّ يوم سفرك» ، والمفعول في نحو : «غلام أيّهم أكرمت» ، ومن ومجرورها في نحو : «من غلام أيّهم أنت أفضل» ؛ ووجب الرفع في نحو : «علمت أبو من زيد» ، وإلى هذا يشير قول بعض الفضلاء [من الطويل] :

٦٦٣ ـ عليك بأرباب الصّدور ، فمن غدا

مضافا لأرباب الصّدور تصدّرا

٦٦٤ ـ وإيّاك أن ترضى صحابة ناقص

فتنحطّ قدرا من علاك وتحقرا

٦٦٥ ـ فرفع أبو من ثم خفض مزمّل

يبيّن قولي مغريا ومحذّرا (١)

والإشارة بقوله : «ثم خفض مزمّل» إلى قول امرىء القيس [من الطويل] :

٦٦٦ ـ كأنّ أبانا في عرانين وبله

كبير أناس في بجاد مزمّل (٢)

وذلك أن «مزمّل» صفة لـ «كبير» ، فكان حقه الرفع ، ولكنه خفض لمجاورته المخفوض.

والعاشر : الإعراب ، نحو : «هذه خمسة عشر زيد» فيمن أعربه ، والأكثر البناء.

والحادي عشر : البناء ، وذلك في ثلاثة أبواب :

أحدها : أن يكون المضاف مبهما كـ «غير» و «مثل» و «دون» ، وقد استدلّ على ذلك بأمور : منها قوله تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) [سبأ : ٥٤] ، (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) [الجن : ١١] قاله الأخفش ، وخولف ، وأجيب عن الأول بأن نائب الفاعل ضمير المصدر ، أي : وحيل هو ، أي : الحول ، كما في قوله [من الطويل] :

٦٦٧ ـ وقالت : متى يبخل عليك ويعتلل

يسؤك ، وإن يكشف غرامك تدرب (٣)

أي : ويعتلل هو ، أي : الاعتلال ، ولا بدّ عندي من تقدير «عليك» مدلولا عليها

__________________

(١) الأبيات من البحر الطويل ، انظر : نفح الطيب ٥ / ١٩٠.

(٢) الأبيات من البحر الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٢٥ ، وخزانة الأدب ٥ / ٩٨ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ١٠.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٤٢ ، وشرح شواهد المغني ص ٩٢ ، لعلقمة في ديوانه ص ٨٣ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ١٤٢.

٤٠٤

بالمذكورة ، وتكون حالا من المضمر ، ليتقيّد بها فتقيد ما لم يفده الفعل ؛ وعن الثاني بأنه على حذف الموصوف ، أي : ومنا قوم دون ذلك ، كقولهم : «منّا ظعن ومنّا أقام» ، أي : منا فريق ظعن ومنا فريق أقام ، ومنها قوله تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] فيمن فتح «بين» ، قاله الأخفش ، ويؤيّده قراءة الرّفع ؛ وقيل : «بين» ظرف ، والفاعل ضمير مستتر راجع إلى مصدر الفعل ، أي : لقد وقع التقطع ، أو إلى الوصل ؛ لأن (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) [الأنعام : ٩٤] يدلّ على التهاجر ، وهو يستلزم عدم التواصل ، أو إلى (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام : ٩٤] على أن الفعلين تنازعاه ، ويؤيّد التأويل قوله [من الطويل] :

٦٦٨ ـ أهم بأمر الحزم لو أستطيعه

وقد حيل بين العير والنّزوان (١)

بفتح «بين» مع إضافته لمعرب ، ومنها قوله تعالى : (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات : ٢٣] فيمن فتح «مثلا» ؛ وقراءة بعض السلف (أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ) [هود : ٨٩] بالفتح ، وقول الفرزدق [من البسيط] :

٦٦٩ ـ [فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم]

إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر (٢)

وزعم ابن مالك أن ذلك لا يكون في «مثل» لمخالفتها للمبهمات ؛ فإنها تثنّى وتجمع كقوله تعالى : (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) [الأنعام : ٣٨] ، وقول الشاعر [من البسيط] :

٦٧٠ ـ [من يفعل الحسنات الله يشكرها]

والشّرّ بالشر عند الله مثلان (٣)

وزعم أنّ «حقا» اسم فاعل من «حقّ يحق» ، وأصله : «حاقّ» فقصر ، كما قيل : «برّ» و «سرّ» ؛ ففيه ضمير مستتر ، ومثل : حال منه ، وأن فاعل «يصيبكم» ضميره تعالى لتقدّمه في (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) [هود : ٨٨] ومثل : مصدر.

وأما بيت الفرزدق ففيه أجوبة مشهورة ، ومنها قوله [من البسيط] :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لصخر بن عمرو السلمي ، في الأصمعيات ص ١٤٦ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٣٨ ، ولسان العرب ١٥ / ٣١٩ ، مادة / نزا /.

(٢) البيت من البسيط ، وهو للفرزدق في ديوانه ١ / ١٨٥ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٢٠٩ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٣٣ ، والدرر ٢ / ١٠٣ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٣٧.

(٣) تقدم تخريجه.

٤٠٥

٦٧١ ـ لم يمنع الشّرب منها غير أن نطقت

حمامة في غصون ذات أو قال (١)

فغير : فاعل لـ «يمنع» وقد جاء مفتوحا ، ولا يأتي فيه بحث ابن مالك ؛ لأن قولهم :«غيران وأغيار» ليس بعربي.

ولو كان المضاف غير مبهم لم يبن ، وأما قول الجرجاني وموافقيه إن «غلامي» ونحوه مبنيّ فمردود ، ويلزمهم بناء «غلامك» ، و «غلامه» ولا قائل بذلك.

الباب الثاني : أن يكون المضاف زمانا مبهما ، والمضاف إليه «إذ» ، نحو : (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) [هود : ٦٦] ، و (مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ) [المعارج : ١١] يقرآن بجرّ «يوم» وفتحه.

الثالث : أن يكون زمانا مبهما والمضاف إليه فعل مبني ، بناء أصليّا كان البناء ، كقوله [من الطويل] :

٦٧٢ ـ على حين عاتبت المشيب على الصّبا

وقلت : ألمّا أصح والشّيب وازع؟ (٢)

أو بناء عارضا ، كقوله [من الطويل] :

٦٧٣ ـ لأجتذبن منهنّ قلبي تحلّما

على حين يستصبين كلّ حليم (٣)

رويا بالفتح ، وهو أرجح من الإعراب عند ابن مالك ، ومرجوح عند ابن عصفور.

فإن كان المضاف إليه فعلا معربا أو جملة اسمية ، فقال البصريّون : يجب الإعراب ، والصّحيح جواز البناء ، ومنه قراءة نافع : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ) [المائدة : ١١٩] بفتح «يوم» ، وقراءة غير أبي عمرو وابن كثير (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ) [الانفطار : ١٩] بالفتح ، وقال [من الطويل] :

٦٧٤ ـ إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني

نسيم الصّبا من حيث يطّلع الفجر (٤)

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لأبي قيس بن الأسلت في ديوانه ص ٨٥ ، وجمهرة اللغة ص ١٣١٦ وخزانة الأدب ٣ / ٤٠٦ ، والدرر ٣ / ١٥٠ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٥٨.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص ٣٢ ، وجمهرة اللغة ص ١٣١٥ ، وخزانة الأدب ٢ / ٤٥٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨١٦ ، والدرر ٣ / ١٤٤.

(٣) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ١٣٥ ، وخزانة الأدب ٣ / ٣٠٧ والدرر ٣ / ١٤٥ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٣.

(٤) البيتان من البحر الطويل ، وهما لبشر بن هذيل في ديوان المعاني ١ / ٨٩ ، ولموبال بن جهنم المذحجي في شرح المغني ٢ / ٨٨٤ ، وبلا نسبة في الدرر ٣ / ١٤٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٢١٨.

٤٠٦

وقال آخر [من الطويل] :

٦٧٥ ـ ألم تعلمي ـ يا عمرك الله ـ أنّني

كريم على حين الكرام قليل

٦٧٦ ـ وإنّي لا أخزى إذا قيل : مملق

سخيّ ، وأخزى أن يقال : بخيل (١)

رويا بالفتح.

ويحكى أن ابن الأخضر سئل بحضرة ابن الأبرش عن وجه النصب في قول النابغة [من الطويل] :

٦٧٧ ـ أتاني ـ أبيت اللّعن ـ أنّك لمتني

وتلك الّتي تستكّ منها المسامع

٦٧٨ ـ مقالة أن قد قلت : سوف أناله ،

وذلك من تلقاء مثلك رائع (٢)

فقال [من الطويل] :

٦٧٩ ـ [إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم

ولا تصحب الأردى فتردى مع الرّدي (٣)

فقيل له : الجواب ، فقال ابن الأبرش : قد أجاب ، يريد أنه لما أضيف إلى المبنيّ اكتسب منه البناء ؛ فهو مفتوح لا منصوب ، ومحلّه الرفع بدلا من «أنك لمتني» ، وقد روي بالرفع. وهذا الجواب عندي غير جيّد ، لعدم إبهام المضاف ، ولو صحّ لصحّ البناء في نحو : «غلامك ، وفرسه» ونحو هذا مما لا قائل به ؛ وقد مضى أن ابن مالك منع البناء في «مثل» مع إبهامها لكونها تثنّى وتجمع ، فما ظنّك بهذا؟ وإنما هو منصوب على إسقاط الباء ، أو بإضمار «أعني» أو على المصدريّة. وفي البيت إشكال لو سأل السائل عنه لكان أولى ، وهو إضافة «مقالة» إلى «أن قد قلت» فإنه في التقدير : مقالة قولك ، ولا يضاف الشيء إلى نفسه ؛ وجوابه أن الأصل : «مقالة» فحذف التنوين للضرورة لا للإضافة ، و «أن» وصلتها بدل من مقالة ، أو من «أنك لمتني» ، أو خبر لمحذوف ، وقد يكون الشاعر إنما قاله : «مقالة أن» بإثبات التنوين ونقل حركة الهمزة ، فأنشده الناس بتحقيقها ، فاضطرّوا إلى حذف التنوين ؛ ويروى «ملامة» وهو مصدر لـ «لمتني» المذكورة ، أو لأخرى محذوفة.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لمبشر بن هذيل ، في ديوان المعني ١ / ٨٩ ، ولموبال بن جهم المذحجي في شرح المغني ٢ / ٨٨٤ ، وبلا نسبة في الدرر ٣ / ١٤٧ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣١٥.

(٢) البيتان من الطويل ، وهما للنابغة الذبياني في ديوانه ص ٣٤ ، ولسان العرب ١٠ / ٤٤٠ مادة / سكك /.

(٣) البيت من البحر الطويل ، وهو لعدي بن زيد ، انظر : نفح الطيب ٥ / ١٩١.

٤٠٧

الأمور التي لا يكون الفعل معها إلّا قاصرا

وهي عشرون :

أحدها : كونه على «فعل» بالضّم كـ «ظرف» و «شرف» ، لأنه وقف على أفعال السّجايا وما أشبهها مما يقوم بفاعله ولا يتجاوزه ، ولهذا يتحوّل المتعدّي قاصرا إذا حوّل وزنه إلى «فعل» لغرض المبالغة والتعجّب ، نحو «ضرب» الرجل و «فهم» بمعنى : ما أضربه وأفهمه! وسمع «رحبتكم الطّاعة» ، و «أن بشرا طلع اليمن» ، ولا ثالث لهما ، ووجههما أنهما ضمّنا معنى : «وسع» و «بلغ».

والثاني والثالث : كونه على «فعل» بالفتح أو «فعل» بالكسر ووصفهما على «فعيل» ، نحو : «ذلّ» و «قوي».

الرابع : كونه على «أفعل» بمعنى : صار ذا كذا ، ونحو : «أغدّ البعير» ، و «أحصد الزرع» إذا صارا ذوي غدّة وحصاد.

والخامس : كونه على «افعللّ» كـ «اقشعرّ» و «اشمأزّ».

السادس : كونه على «افوعلّ» كـ «اكوهدّ» الفرخ إذا ارتعد.

السابع : كونه على «افعنلل» بأصالة اللامين كـ «احرنجم» بمعنى : اجتمع.

الثامن : كونه على «افعنلل» بزيادة أحد اللامين كـ «اقعنسس الجمل» إذا أبى أن ينقاد.

التاسع : كونه على «افعنلى» كـ «احرنبى الديك» إذا انتفش ، وشذّ قوله [من الرجز] :

٦٨٠ ـ قد جعل النّعاس يغرنديني

أطرده عنّي ويسرنديني (١)

ولا ثالث لهما ، و «يغرنديني» ـ بالغين المعجمة ـ يعلوني ويغلبني ، وبمعناه «يسرنديني».

العاشر : كونه على «استفعل» ، وهو دالّ على التحوّل كـ «استحجر الطين» ، وقولهم : «إن البغاث بأرضنا يستنسر».

الحادي عشر : كونه على وزن «انفعل» ، نحو : «انطلق» و «انكسر».

__________________

(١) البيت من الرجز ، وهو بلا نسبة في لسان العرب مادة (سرد) ، وجمهرة اللغة ص ١٢١٥ ، والخصائص ٢ / ٢٥٨ ، وشرح الأشموني ١ / ١٩٦.

٤٠٨

الثاني عشر : كونه مطاوعا لمتعدّ إلى واحد ، نحو : «كسرته فانكسر» ، و «أزعجته فانزعج».

فإن قلت : قد مضى عدّ «انفعل».

قلت : نعم ، لكن تلك علامة لفظيّة وهذه معنوية ، وأيضا فالمطاوع لا يلزم وزن «انفعل» ، تقول : «ضاعفت الحسنات فتضاعفت» ، و «علّمته فتعلّم» ، و «ثلمته فتثلّم» ، وأصله أن المطاوع ينقص عن المطاوع درجة كـ «ألبسته الثوب فلبسه» ، و «أقمته فقام» ؛ وزعم ابن برّي أن الفعل ومطاوعه قد يتّفقان في التعدّي لاثنين ، نحو : «استخبرته الخبر فأخبرني الخبر» ، و «استفهمته الحديث فأفهمني الحديث» ، و «استعطيته درهما فأعطاني درهما» ؛ وفي التعدّي لواحد ، نحو : «استفتيته فأفتاني» ، و «استنصحته فنصحني» ؛ والصّواب ما قدّمته لك ، وهو قول النحويّين ، وما ذكره ليس من باب المطاوعة ، بل من باب الطلب والإجابة ، وإنما حقيقة المطاوعة أن يدل أحد الفعلين على تأثير ويدل الآخر على قبول فاعله لذلك التأثير.

الثالث عشر : أن يكون رباعيّا مزيدا فيه ، نحو : «تدحرج» ، و «احرنجم» و «اقشعرّ» و «اطمأنّ».

الرابع عشر : أن يضمّن معنى فعل قاصر ، نحو قوله تعالى : (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) [الكهف : ٢٨] ، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [النور : ٦٣] ، (أَذاعُوا بِهِ) [النساء : ٨٣] ، (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) [الأحقاف : ١٥] ، (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) [الصافات : ٨] ، وقولهم : «سمع الله لمن حمده» ، وقوله [من الطويل] :

٦٨١[وإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها

إلى الضّيف] يجرح في عراقيبها نصلي (١)

فإنها ضمّنت معنى و «لا تنب» ، و «يخرجون» ، و «تحدثوا» ، و «بارك» ، و «لا يصغون» ، و «استجاب» ، و «يعث» أو «يفسد».

والستة الباقية أن يدل على سجية كـ «لؤم» ، و «جبن» ، و «شجع» ، أو على عرض كـ «فرح» و «بطر» ، و «أشر» ، و «حزن» ، و «كسل» ، أو على نظافة كـ «طهر» و «وضؤ» ، أو

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لذي الرمة في ديوانه ص ١٥٦ ، وأساس البلاغة ص ٢٩٦ مادة / عذر / وخزانة الأدب ٢ / ١٢٨ ، وشرح شواهد المفصل ٢ / ٣٩ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ١٠ / ٢٣٣.

٤٠٩

دنس كـ «نجس» ، و «رجس» و «أجنب» ، أو على لون كـ «احمرّ» ، و «اخضرّ» و «أدم» ، و «احمارّ» ، و «اسوادّ» ، أو حلية كـ «دعج» ، و «كحل» ، و «شنب» ، و «سمن» ، و «هزل».

تنبيه ـ في فصيح ثعلب في باب المشدّد : «فلان يتعهّد ضيعته» ، قال ابن درستويه : ولا يجوز عنده «يتعاهد» ؛ لأنه لا يكون عند أصحابه إلا من اثنين ، ولا يكون متعدّيا ، ويردّه قوله [من الطويل] :

٦٨٢ ـ تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا

[عليّ حراصا لو يسرّون مقتلي](١)

وأجاز الخليل يتعاهد ، وهو قليل ، وسأل الحكم بن قنبر أبا زيد عنها فمنعها ؛ وسأل يونس فأجازها ، فجمع بينهما ، وكان عنده ستة من فصحاء العرب ، فسئلوا عنها فامتنعوا من «يتعاهد» ، فقال يونس : يا أبا زيد كم من علم استفدناه كنت أنت سببه. ونقل ابن عصفور عن ابن السيّد أنه قال في قول أبي ذؤيب [من الكامل] :

٦٨٣ ـ بينا تعانقه الكماة وروغه

يوما أتيح له جريء سلفع (٢)

إن من رواه بجر «التعانق» مخطىء ؛ لأن ت «تفاعل» لا يتعدّى ثم رد عليه بأنه إن كان قبل دخول التاء متعدّيا إلى اثنين ، فإنه يبقى بعد دخولها متعدّيا إلى واحد ، نحو : «عاطيته الدراهم» و «تعاطينا الدّراهم» ؛ وإن كان متعدّيا إلى واحد ، فإنه يصير قاصرا ، نحو : «تضارب زيد وعمرو» ، إلّا قليلا ، نحو : «جاوزت زيدا وتجاوزته» ، و «عانقته وتعانقته» ، ا ه. وإنما ذكر ابن السيد أن «تعانق» لا يتعدّى ، ولم يذكر أن «تفاعل» لا يكون متعدّيا ؛ وأيضا فلم يخصّ الردّ برواية الجرّ ، ولا معنى لذلك.

الأمور التي يتعدّى بها الفعل القاصر

وهي سبعة :

أحدها : همزة «أفعل» ، نحو : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) [الأحقاف : ٢٠] ، (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [غافر : ١١] ، (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١٣ ، وجمهرة اللغة ص ٧٣٦ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٣٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٥١.

(٢) البيت من الكامل ، وهو لأبي ذؤيب في الأشباه والنظائر ٢ / ٤٨ ، وخزانة الأدب ٥ / ٢٥٨ ، والدرر ٣ / ١٢٠ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٢٥ ، وشرح أشعار الهذليين ١ / ٣٧.

٤١٠

(١٨) [نوح : ١٧ ـ ١٨] ، وقد ينقل المتعدّي إلى واحد بالهمزة إلى التعدي إلى اثنين ، نحو : «ألبست زيدا ثوبا ، وأعطيته دينارا» ، ولم ينقل متعدّ إلى اثنين بالهمزة إلى التعدي إلى ثلاثة إلا في «رأى» ، و «علم» ، وقاسه الأخفش في أخواتهما الثلاثة القلبيّة ، نحو : «ظنّ» ، و «حسب» ، و «زعم» ؛ وقيل : النقل بالهمزة كلّه سماعيّ ؛ وقيل : قياسي في القاصر والمتعدّي إلى واحد ؛ والحقّ أنه قياسيّ في القاصر ، سماعيّ في غيره ، وهو ظاهر مذهب سيبويه.

الثاني : ألف المفاعلة ، تقول في «جلس زيد ومشى وسار» : «جالست زيدا ، وماشيته ، وسايرته».

الثّالث : صوغه على فعلت بالفتح «افعل» بالضم لإفادة الغلبة ، تقول : «كرمت زيدا» ، بالفتح ـ أي : غلبته في الكرم.

الرابع : صوغه على «استفعل» للطّلب أو النسبة إلى الشيء ، كـ «استخرجت المال» ، و «استحسنت زيدا» ، و «استقبحت الظلم» ، وقد ينقل ذو المفعول الواحد إلى اثنين ، نحو : «استكتبته الكتاب» ، و «استغفرت الله الذنب» ، وإنما جاز «استغفرت الله من الذنب» لتضمّنه معنى «استتبت» ؛ ولو استعمل على أصله لم يجز فيه ذلك ؛ وهذا قول ابن الطراوة وابن عصفور ، وأما قول أكثرهم : إن «استغفر» من باب «اختار» فمردود.

الخامس : تضعيف العين ، تقول في «فرح زيد» : «فرحته» ومنه (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) (٩) [الشمس : ٩] ، (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) [يونس : ٢٢] ، وزعم أبو علي أن التضعيف في هذا للمبالغة لا للتّعدية ، لقوله : «سرت زيدا» ، وقوله [من الطويل] :

٦٨٤ ـ [فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها]

فأوّل راض سنّة من يسيرها (١)

وفيه نظر ؛ لأن «سرته» قليل ، و «سيّرته» كثير ، بل قيل : إنه لا يجوز «سرته» ، وإنه في البيت على إسقاط الباء توسّعا ، وقد اجتمعت التّعدية بالباء والتضعيف في قوله تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) [آل عمران : ٣] ؛ وزعم الزمخشري أن بين التّعديتين فرقا ؛ فقال : لما نزّل القرآن

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو بلا نسبة في خزانة الأدب ، الشاهد / ٣٤٨ /.

٤١١

منجّما والكتابان جملة واحدة جيء بـ «نزّل» في الأول و «أنزل» في الثاني ، وإنما قال هو في خطبة الكشاف «الحمد لله الذي أنزل القرآن كلاما مؤلفا منظما ، ونزّله بحسب المصالح منجّما» لأنه أراد بالأول أنزله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدّنيا وهو الإنزال المذكور في (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (١) [القدر : ١] ، وفي قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٥]. وأما قول القفال : إن المعنى الذي أنزل في وجوب صومه ، أو الذي أنزل في شأنه ، فتكلّف لا داعي إليه ، وبالثاني تنزيله من السماء الدنيا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة.

ويشكل على الزمخشري قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] ، فقرن نزل بجملة واحدة ، وقوله تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها) [النساء : ١٤٠] ، وذلك إشارة إلى قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) [الأنعام : ٦٨] الآية ، وهي آيةواحدة.

والنقل بالتّضعيف سماعيّ في القاصر كما مثّلنا ، وفي المتعدي لواحد ، نحو : «علّمته الحساب» ، و «فهّمته المسألة» ، ولم يسمع في المتعدّي لاثنين. وزعم الحريري أنه يجوز في «علم» المتعدّية لاثنين أن ينقل بالتضعيف إلى ثلاثة ، ولا يشهد له سماع ولا قياس ، وظاهر قول سيبويه أنه سماعيّ مطلقا ؛ وقيل : قياسي في القاصر والمتعدّي إلى واحد.

السادس : التضمين ؛ فلذلك عدّي «رحب» و «طلع» إلى مفعول لمّا تضمّنا معنى «وسع» و «بلغ» ، وقالوا : «فرقت زيدا» ، و (سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة : ١٣٠] لتضمّنهما معنى «خاف» و «امتهن» أو «أهلك».

ويختص التضمين عن غيره من المعدّيات بأنه قد ينقل الفعل إلى أكثر من درجة ، ولذلك عدّي «ألوت» بقصر الهمزة بمعنى «قصرت» إلى مفعولين بعد ما كان قاصرا ، وذلك في قولهم : «لا آلوك نصحا» ، و «لا آلوك جهدا» لما ضمّن معنى : لا أمنعك ؛ ومنه قوله تعالى : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) [آل عمران : ١١٨]. وعدّي «أخبر» ، و «خبّر» ، و «حدّث» ، و «نبّأ» إلى ثلاثة لما ضمّنت معنى «أعلم» و «أرى» بعد ما كانت متعدّية إلى واحد بنفسها وإلى آخر بالجارّ ، نحو : (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) [البقرة : ٣٣] ، (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) [الأنعام : ١٤٣].

السابع : إسقاط الجارّ توسّعا ، نحو : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) [البقرة : ٢٣٥] ، أي :

٤١٢

على سرّ ، أي : نكاح ، (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٥٠] ، أي : عن أمره ، (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) [التوبة : ٥] ، أي : عليه ؛ وقول الزجّاج : «إنه ظرف» ، ردّه الفارسيّ بأنه مختصّ بالمكان الذي يرصد فيه ؛ فليس مبهما ، وقوله [من الكامل] :

٦٨٥ ـ [لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه

فيه] كما عسل الطّريق الثّعلب (١)

أي : في الطريق ، وقول ابن الطراوة : «إنه ظرف» مردود أيضا بأنه غير مبهم ؛ وقوله : إنه اسم لكل ما يقبل الاستطراق فهو مبهم لصلاحيّته لكل موضع منازع فيه ، بل هو اسم لما هو مستطرق.

ولا يحذف الجار قياسا إلا مع «أنّ» و «أن» ؛ وأهمل النحويون هنا ذكر «كي» مع تجويزهم في نحو : «جئت كي تكرمني» أن تكون «كي» مصدرية ، واللام مقدّرة والمعنى : لكي تكرمني. وأجازوا أيضا كونها تعليليّة و «أن» مضمرة بعدها. ولا يحذف مع «كي» إلّا لام العلة ؛ لأنها لا يدخل عليها جارّ غيرها ، بخلاف أختيها. قال الله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) [البقرة : ٢٥] ، (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : ١٨] ، أي : بأنّ لهم ، وبأنه (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) [النساء : ١٢٧] ، أي : في أن ، أو : عن ، على خلاف في ذلك بين المفسّرين ، ومما يحتملهما قوله [من الطويل] :

٦٨٦ ـ ويرغب أن يبني المعالي خالد

ويرغب أن يرضى صنيع الألائم (٢)

أنشده ابن السيّد ، فإن قدّر «في» أولا و «عن» ثانيا فمدح ، وإن عكس فذمّ ، ولا يجوز أن يقدّر فيهما معا «في» أو «عن» ، للتناقض.

ومحلّ «أنّ» و «أن» وصلتهما بعد حذف الجارّ نصب عند الخليل وأكثر النحويين ، حملا على الغالب فيما ظهر فيه الإعراب مما حذف منه ؛ وجوّز سيبويه أن يكون المحلّ جرّا ، فقال بعد ما حكى قول الخليل : ولو قال إنسان إنه جرّ لكان قولا قويا ، وله نظائر نحو قولهم : «لاه أبوك» ، وأما نقل جماعة منهم ابن مالك أن الخليل يرى أن الموضع جرّ وأن سيبويه يرى أنه نصب فسهو.

ومما يشهد لمدّعي الجر قوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (١٨)

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لساعدة بن جؤبة الذلي في تخليص الشواهد ص ٥٠٣ ، وخزانة الأدب ٣ / ٨٣ ، والدرر ٣ / ٨٦ ، وشرح أشعار الهذليين ص ١١٢٠ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٨٥.

(٢) البيت من الطويل ، ولم أجده.

٤١٣

[الجن : ١٨] ، (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٩٢] ، أصلهما : لا تدعو مع الله أحدا لأن المساجد لله ، وفاعبدون لأن هذه.

ولا يجوز تقديم منصوب الفعل عليه إذا كان «أنّ» وصلتها ، لا تقول «أنك فاضل وعرفت» وقوله [من الطويل] :

٦٨٧ ـ وما زرت ليلى أن تكون حبيبة

إليّ ، ولا دين بها أنا طالبه (١)

رووه بخفض «دين» عطفا على محل «أن تكون» ؛ إذ أصله : لأن تكون ؛ وقد يجاب بأنه عطف على توهّم دخول اللام ؛ وقد يعترض بأنّ الحمل على العطف على المحل أظهر من الحمل على العطف على التوهّم ، ويجاب بأن القواعد لا تثبت بالمحتملات.

وهنا معدّ ثامن ذكره الكوفيّون ، وهو تحويل حركة العين ، يقال : «كسي زيد» ، بوزن «فرح» ، فيكون قاصرا ، قال [من الوافر] :

٦٨٨ ـ وأن يعرين إن كسي الجواري

فتنبو العين عن كرم عجاف (٢)

فإذا فتحت السّين صار بمعنى «ستر» و «غطّى» ، وتعدّى إلى واحد كقوله [من المتقارب] :

٦٨٩ ـ وأركب في الرّوع خيفانة

كسا وجهها سعف منتشر (٣)

أو بمعنى : أعطى كسوة وهو الغالب ، فيتعدّى إلى اثنتين ، نحو : «كسوت زيدا جبّة» ؛ قالوا : وكذلك «شترت عينه» ، بكسر التاء ، قاصر بمعنى : انقلب جفنها ، و «شتر الله عينه» بفتحها متعدّ بمعنى : قلبها ، وهذا عندنا من باب المطاوعة ، يقال : «شتره فشتر» ، كما يقال : «ثرمه وثلمه فثلم» ، ومنه : «كسوته الثوب فكسيه» ، ومنه البيت ، ولكن حذف فيه المفعول.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ١ / ٨٤ ، والإنصاف ص ٣٩٥ ، وتخليص الشواهد ص ٥١١ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٨٥ ، والدرر ٥ / ١٨٣ ، والدرر ٥ / ١٨٣ ، ولسان العرب ١ / ٣٣٦ مادة / حنطب /.

(٢) البيت من البحر الوافر ، وهو لعمران بن حطان أو لعيسى بن الحبطى في الأغاني ١٨ / ٤٩ ، ولأبي خالد القناني في شرح شواهد المغني ٢ / ٨٨٦ ، ولسان العرب مادة (كرم) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ٢٧٠.

(٣) البيت من التقارب ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١٦٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٣٦ ، ولسان العرب ٩ / ١٠٢ مادة / خيف /.

٤١٤

الباب الخامس من الكتاب

في ذكر الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها

[الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها]

وهي عشرة :

الجهة الأولى : أن يراعي ما يقتضيه ظاهر الصناعة ولا يراعي المعنى ، وكثيرا ما تزلّ الأقدام بسبب ذلك.

وأول واجب على المعرب أن يفهم معنى ما يعربه ، مفردا أو مركّبا ، ولهذا لا يجوز إعراب فواتح السّور على القول بأنه من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه.

ولقد حكي لي أنّ بعض مشايخ الإقراء أعرب لتلميذ له بيت المفصّل [من السريع] :

٦٩٠ ـ لا يبعد الله التلبّب وال

غارات إذ قال الخميس : نعم (١)

فقال : «نعم» حرف جواب ، ثم طلبا محلّ الشاهد في البيت ، فلم يجداه ، فظهر لي حينئذ حسن لغة كنانة في «نعم» الجوابية وهي «نعم» بكسر العين ، وإنما «نعم» هنا واحد الأنعام ، وهو خبر لمحذوف ، أي : هذه نعم ، وهو محل الشاهد.

وسألني أبو حيّان ـ وقد عرض اجتماعنا ـ علام عطف «بحقلّد» من قول زهير [من الطويل] :

٦٩١ ـ تقيّ نقيّ لم يكثّر غنيمة

بنهكة ذي قربى ولا بحقلّد (٢)

فقلت : حتى أعرف ما «الحقلّد» ، فنظرناه فإذا هي سيّىء الخلق ، فقلت : هو معطوف على شيء متوهّم ؛ إذ المعنى ليس بمكثر غنيمة ، فاستعظم ذلك.

وقال الشلوبين : حكي لي أن نحويا من كبار طلبة الجزولي سئل عن إعراب

__________________

(١) البيت من السريع ، وهو للمرقش الأكبر في إصلاح المنطق ص ٦٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٨٩ ، وشرح المفصل ١ / ٩٤ ، ولسان العرب ١٢ / ٤٢٧ مادة / عم /.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٢٣٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٤٢ ، ولسان العرب ٣ / ١٥٤ مادة / حفلد /.

٤١٥

(كَلالَةً) من قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ) [النساء : ١٢] فقال : أخبروني ما «الكلالة» ، فقالوا له : الورثة إذا لم يكن فيهم أب فما علا ولا ابن فما سفل ؛ فقال : فهي إذا تمييز ؛ وتوجيه قوله أن يكون الأصل : وإن كان رجل يرثه كلالة ، ثم حذف الفاعل وبني الفعل للمفعول ، فارتفع الضّمير واستتر ، ثم جيء بـ «كلالة» تمييزا ، ولقد أصاب هذا النحويّ في سؤاله ، وأخطأ في جوابه ؛ فإن التمييز بالفاعل بعد حذفه نقض للغرض الذي حذف لأجله ، وتراجع عمّا بنيت الجملة عليه من طيّ ذكر الفاعل فيها ؛ ولهذا لا يوجد في كلامهم مثل : «ضرب أخوك رجلا» ، وأما قراءة من قرأ (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ) [النور : ٣٦ ـ ٣٧] بفتح الباء ـ فالذي سوّغ فيها أن يذكر الفاعل بعد ما حذف أنه إنما ذكر في جملة أخرى غير التي حذف فيها.

وكإعراب هذا المعرب «كلالة» تمييزا قول بعضهم في هذا البيت [من الرجز] :

٦٩٢ ـ يبسط للأضياف وجها رحبا

بسط ذراعيه لعظم كلبا (١)

إنّ الأصل : كما بسط كلب ذراعيه ، ثم جيء بالمصدر وأسند للمفعول فرفع ، ثم أضيف إليه ، ثم جيء بالفاعل تمييزا.

والصّواب في الآية أنّ (كَلالَةً) بتقدير مضاف ، أي : ذا كلالة ، وهو إمّا حال من ضمير (يُورَثُ) فـ «كان» ناقصة ، و «يورث» خبر ، أو تامّة فـ «يورث» صفة ؛ وإما خبر فـ «يورث» صفة ؛ ومن فسّر «الكلالة» بالميت الذي لم يترك ولدا ولا والدا فهي أيضا حال أو خبر ، ولكن لا يحتاج إلى تقدير مضاف ؛ ومن فسّرها بالقرابة فهي مفعول لأجله.

أما البيت فتخريجه على القلب ، وأصله : كما بسط ذراعه كلبا ، ثم جيء بالمصدر وأضيف للفاعل المقلوب عن المفعول ، وانتصب كلبا على المفعول المقلوب عن الفاعل.

وها أنا مورد بعون الله أمثلة متى بني فيها على ظاهر اللّفظ ولم ينظر في موجب المعنى حصل فساد ، وبعض هذه الأمثلة وقع للمعربين فيه وهم بهذا السبب ، وسترى ذلك معيّنا.

فأحدها : قوله تعالى : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي

__________________

(١) البيت من الرجز ، وهو بلا نسبة في لسان العرب مادة (صفح) ، وكتاب العين ٥ / ٢٧ ، وتاج العروس مادة (صفح).

٤١٦

أَمْوالِنا ما نَشؤُا) [هود : ٨٧] فإنه يتبادر إلى الذّهن عطف (أَنْ نَفْعَلَ) على (أَنْ نَتْرُكَ ،) وذلك باطل ؛ لأنه لم يأمرهم أن يفعلوا في أموالهم ما يشاؤون ، وإنما هو عطف على «ما» ؛ فهو معمول لـ «الترك» والمعنى : أن نترك أن نفعل ، نعم من قرأ «تفعل» و «تشاء» ـ بالتاء لا بالنون ـ فالعطف على (أَنْ نَتْرُكَ.)

وموجب الوهم المذكور أن المعرب يرى «أن» والفعل مرّتين ، وبينهما حرف العطف.

ونظير هذا سواء أن يتوهم في قوله [من الكامل] :

٦٩٣ ـ لن ما رأيت أبا يزيد مقاتلا

أدع القتال وأشهد الهيجاء (١)

أن الفعلين متعاطفان ، حين يرى فعلين مضارعين منصوبين ، وقد بيّنت في فصل «لمّا» أن ذلك خطأ ، وأنّ «أدع» منصوب بـ «لن» ، وأشهد معطوف على القتال.

الثاني : قوله تعالى : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) [مريم : ٥] فإن المتبادر تعلّق «من» بـ «خفت» ، وهو فاسد في المعنى ، والصواب تعلّقه بالموالي ، لما فيه من معنى الولاية ، أي : خفت ولايتهم من بعدي وسوء خلافتهم ، أو بمحذوف هو حال من «الموالي» أو مضاف إليهم ، أي : كائنين من ورائي ، أو فعل الموالي من ورائي ؛ وأما من قرأ (خِفْتُ) بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء ـ فـ «من» متعلّقة بالفعل المذكور.

الثالث : قوله تعالى : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) [البقرة : ٢٨٢] فإن المتبادر تعلّق «إلى» بـ «تكتبوه» ، وهو فاسد ؛ لاقتضائه استمرار الكتابة إلى أجل الدّين ، وإنما هو حال ، أي : مستقرّا في الذمّة إلى أجله.

ونظيره قوله تعالى : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) [البقرة : ٢٥٩] فإن المتبادر انتصاب «مائة» بـ «أماته» ، وذلك ممتنع مع بقائه على معناه الوضعيّ ، لأن الإماتة سلب الحياة وهي لا تمتدّ ، والصواب أن يضمّن «أماته» معنى «ألبثه» ، فكأنه قيل : فألبثه الله بالموت مائة عام ، وحينئذ يتعلّق به الظرف بما فيه من المعنى العارض بالتّضمين ، أي : معنى اللبث لا معنى الإلباث ، لأنه كالإماتة في عدم الامتداد ؛ فلو صحّ ذلك لعلّقناه بما فيه من معناه

__________________

(١) البيت من البحر الكامل ، وهو بلا نسبة في الاشباه والنظائر ٢ / ٢٣٣ ، والخصائص ٢ / ٤١١ وشرح الاشموني ٣ / ٥٥٢.

٤١٧

الوضعيّ ، ويصير هذا التعلّق بمنزلته في قوله تعالى : (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) [البقرة : ٢٥٩].

وفائدة التّضمين : أن يدلّ بكلمة واحدة على معنى كلمتين ، يدلّك على ذلك أسماء الشرط والاستفهام.

ونظيره أيضا قوله عليه الصلاة والسّلام : «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه هما اللّذان يهوّدانه وينصّرانه» لا يجوز أن يعلق «حتى» بـ «يولد» ، لأنّ الولادة لا تستمر إلى هذه الغاية ، بل الذي يستمر إليها كونه على الفطرة ؛ فالصواب تعليقها بما تعلقت به «على» ، وأن «على» متعلّقة بكائن محذوف منصوب على الحال من الضمير في «يولد» ، و «يولد» خبر «كلّ».

الرابع : قول الشاعر [من الطويل] :

٦٩٤ ـ تركت بنا لوحا ، ولو شئت جادنا

بعيد الكرى ثلج بكرمان ناصح (١)

فإن المتبادر تعلّق «بعيد الكرى» بـ «جاد» ، والصواب تعلقه بما في «ثلج» من معنى «بارد» ، إذ المراد وصفها بأن ريقها يوجد عقب الكرى باردا ، فما الظنّ به في غير ذلك الوقت؟ لا أنه يتمنّى أن تجود له به بعيد الكرى دون ما عداه من الأوقات ، و «اللّوح» ـ بفتح اللام ـ العطش.

الخامس : قوله تعالى : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) [الصافات : ١٠٢] فإن المتبادر تعلّق «مع» بـ «بلغ» ؛ قال الزمخشري : أي فلمّا بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه ، قال : ولا يتعلّق «مع» بـ «بلغ» لاقتضائه أنهما بلغا معا حدّ السعي ؛ ولا بـ «السعي» ، لأن صلة المصدر لا تتقدّم عليه ، وإنما هي متعلّقة بمحذوف على أن يكون بيانا ، كأنه قيل : فلما بلغ الحدّ الذي يقدر فيه على السعي ، فقيل : مع من؟ فقيل : مع أعطف الناس عليه وهو أبوه ، أي : أنه لم يستحكم قوته بحيث يسعى مع غير مشفق.

السادس : قوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] فإن المتبادر أن حيث ظرف مكان ، لأنه المعروف في استعمالها ؛ ويردّه أن المراد أنه تعالى يعلم المكان المستحقّ للرسالة ، لا أن علمه في المكان ؛ فهو مفعول به ، لا مفعول فيه ،

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لجرير في ديوانه ص ٢٦٦ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٩٠ ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ١٦٦.

٤١٨

وحينئذ لا ينتصب بـ «أعلم» على قول بعضهم بشرط تأويله بـ «عالم» ، والصواب انتصابه بـ «يعلم» محذوفا دلّ عليه «أعلم».

السابع : قوله تعالى : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) [البقرة : ٢٦٠] فإن المتبادر تعلّق «إلى» بـ «صرهنّ» ، وهذا لا يصحّ إذا فسّر «صرهنّ» بـ «قطّعهنّ» ، وإنما تعلّقه بـ «خذ» ؛ وأما إن فسّر بأملهنّ فالتعلّق به ؛ وعلى الوجهين يجب تقدير مضاف ، أي : إلى نفسك ؛ لأنه لا يتعدّى فعل المضمر المتّصل إلى ضميره المتّصل إلا في باب «ظنّ» ، نحو : (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (٧) [العلق : ٧]. (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ) [آل عمران : ١٨٨] فيمن ضمّ الباء ، ويجب تقدير هذا المضاف في نحو : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) [مريم : ٢٥] ، (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) [القصص : ٣٢] ، (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) [الأحزاب : ٣٧] ، وقوله [من المتقارب] :

٦٩٥ ـ هوّن عليك فإنّ الأمور

بكفّ الإله مقاديرها (١)

وقوله [من الطويل] :

٦٩٦ ـ ودع عنك نهبا صيح في حجراته

[ولكن حديثا ما حديث القواعل](٢)

قوله : «حجراته» بفتحتين أي : نواحيه ، وقول ابن عصفور إن «عن» و «على» في ذلك اسمان كما في قوله [من الطويل] :

٦٩٧ ـ غدت من عليه بعد ما تمّ ظمؤها

[تصلّ ، وعن قيض بزيزاء مجهل](٣)

وقوله [من الكامل] :

٦٩٨ ـ فلقد أراني للرّماح دريئة

من عن يميني مرّة وأمامي (٤)

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو للأعور الشني في الدرر ٤ / ١٣٩ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٣٨ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٢٧ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٧ / ٦٢ وخزانة الأدب ١٠ / ١٤٨.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو لامرىء القيس ، انظر : الجمل في النحو ص ٨٧ ، والأغاني ٩ / ١١٣ ، ومجمع الأمثال ١ / ٢٦٨.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لمزاحم العقيلي في ديوانه ص ١١ ، وأدب الكاتب ص ٥٠٤ ، والأزهية ص ١٩٤ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٤٧ ، والدرر ٤ / ١٨٧ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٣٣٠ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٢٥.

(٤) البيت من البحر الكامل ، وهو لقطري بن فجاءة في ديوانه ص ١٧١ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٥٨ ، والدرر ٢ / ٢٦٩ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ٢٥٥ ، والأشباه والنظائر ٣ / ١٣.

٤١٩

دفعا للمحذور المذكور وهم ؛ لأن معنى «على» الاسمية : «فوق» ، ومعنى «عن» الاسمية : «جانب» ، ولا يتأتّيان هنا ، ولأن ذلك لا يتأتّى مع «إلى» ، لأنها لا تكون اسما.

الثامن : وقوله تعالى : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) [البقرة : ٢٧٣] فإن المتبادر تعلّق «من» بـ «أغنياء» لمجاورته له ، ويفسده أنهم متى ظنّهم ظانّ قد استغنوا من تعفّفهم علم أنهم فقراء من المال ؛ فلا يكون جاهلا بحالهم ، وإنما هي متعلقة بـ «يحسب» ، وهي للتعليل.

التاسع : قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا) [البقرة : ٢٤٦] ، فإن المتبادر تعلّق «إذ» بفعل الرؤية ، ويفسده أنه لم ينته علمه أو نظره إليهم في ذلك الوقت ، وإنما العامل مضاف محذوف ، أي : ألم تر إلى قصّتهم أو خبرهم ، إذ التعجّب إنما هو من ذلك ، لا من ذواتهم.

العاشر : قوله تعالى : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً) [البقرة : ٢٤٩] ، فإن المتبادر تعلّق الاستثناء بالجملة الثانية ، وذلك فاسد ، لاقتضائه أن من اغترف غرفة بيده ليس منه ، وليس كذلك ، بل ذلك مباح لهم ، وإنما هو مستثنى من الأولى ؛ ووهم أبو البقاء في تجويزه كونه مستثنّى من الثانية ؛ وإنما سهل الفصل بالجملة الثانية لأنها مفهومة من الأولى المفصولة ، لأنه إذا ذكر أن الشّارب ليس منه اقتضى مفهومه أن من لم يطعمه منه ، فكان الفصل به كلا فصل.

الحادى عشر : قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) [المائدة : ٦] ، فإن المتبادر تعلّق «إلى» بـ «اغسلوا» ، وقد ردّه بعضهم بأن ما قبل الغاية لا بدّ أن يتكرر قبل الوصول إليها ، تقول : «ضربته إلى أن مات» ويمتنع «قتلته إلى أن أمات» ، وغسل اليد لا يتكرر قبل الوصول إلى المرفق ، لأن «اليد» شاملة لرؤوس الأنامل والمناكب وما بينهما ؛ قال : فالصواب تعلّق «إلى» بـ «أسقطوا» محذوفا ، ويستفاد من ذلك دخول المرافق في الغسل ، لأن الإسقاط قام الإجماع على أنه ليس من الأنامل ، بل من المناكب ، وقد انتهى إلى المرافق ، والغالب أن ما بعد إلى أن يكون غير داخل ، بخلاف «حتّى» ، وإذا لم يدخل في الإسقاط بقي داخلا في المأمور بغسله.

وقال بعضهم : الأيدي في عرف الشرع اسم للأكفّ فقط ، بدليل آيةالسّرقة ؛ وقد صحّ الخبر باقتصاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التيمّم على مسح الكفين ، فكان ذلك تفسيرا للمراد بالأيدي في آيةالتيمم. قال : وعلى هذا فـ «إلى» غاية للغسل ، لا للإسقاط ؛ قلت : وهذا إن سلّم

٤٢٠