شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢
الجزء ١ الجزء ٢

وقول أبي حيان : لا يجوز فصل الضمير المحصور بـ «إنما» وإن الفصل في البيت الأول ضرورة واستدلاله بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) [سبأ : ٤٦] ، (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) [يوسف : ٨٦] ، (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ١٨٥] ، وهم ، لأن الحصر فيهنّ في جانب الظّرف لا الفاعل ، ألا ترى أنّ المعنى : ما أعظكم إلا بواحدة ، وكذا الباقي.

والثالث : الكافة عن عمل الجرّ ، وتتّصل بأحرف وظروف.

فالأحرف أحدها «ربّ» ، وأكثر ما تدخل حينئذ على الماضي ، كقوله [من المديد] :

٣٣٨ ـ ربّما أوفيت في علم

ترفعن ثوبي شمالات (١)

لأنّ التّكير والتّقليل إنما يكونان فيما عرف حدّه ، والمستقبل مجهول ، ومن ثمّ قال الرمّاني في (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الحجر : ٢] إنما جاز لأن المستقبل معلوم عند الله تعالى كالماضي ، وقيل : هو على حكاية حال ماضية مجازا مثل (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) [الكهف : ٩٩ ، ويس : ٥١] ، وقيل : التّقدير : ربما كان يودّ ، وتكون «كان» هذه شأنية ، وليس حذف «كان» بدون «إن» و «لو» الشرطيّتين سهلا ، ثم الخبر حينئذ ـ وهو «يودّ» ـ مخرّج على حكاية الحال الماضية فلا حاجة إلى تقدير «كان».

ولا يمتنع دخولها على الجملة الاسمية ، خلافا للفارسيّ ، ولهذا قال في قول أبي دؤاد [من الخفيف] :

٣٣٩ ـ ربما الجامل المؤبّل فيهم

[وعناجيج بينهنّ المهار](٢)

«ما» : نكرة موصوفة بجملة حذف مبتدؤها ، أي : ربّ شيء هو الجامل. الثاني :

الكاف ، نحو : «كن كما أنت» ، وقوله [من الطويل] :

٣٤٠ ـ [أخ ماجد لم يخزني يوم مشهد]

كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه (٣)

قيل : ومنه : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] ، وقيل : «ما» موصولة ،

__________________

(١) البيت من المديد ، وهو لجذيمة الأبرش في الأزهية ص ٩٤ ـ ٢٦٥ ، والأغاني ١٥ / ٢٥٧ ، وخزانة الأدب ١١ / ٤٠٤ ، والدرر ٤ / ٣٠ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢١٩.

(٢) البيت من الخفيف ، وهو لأبي دواد الإيادي في ديوانه ص ٣١٦ ، والأزهية ص ٩٤ ، وخزانة الأدب ٩ / ٥٨٦ ، والدرر ٤ / ١٢٤.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لنهشل بن حري في الدرر ٤ / ٢٠٩ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٢ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ٦٨.

٢٢١

والتقدير : كالذي هو آلهة لهم ، وقيل : لا تكفّ الكاف بـ «ما» ، وإنّ «ما» في ذلك مصدريّة موصولة بالجملة الاسمية.

الثالث : الباء ، كقوله [من الخفيف] :

٣٤١ ـ فلئن صرت لا تحير جوابا

لبما قد ترى وأنت خطيب (١)

ذكره ابن مالك ، وأن «ما» الكافة أحدثت مع الباء معنى التقليل ، كما أحدثت مع الكاف معنى التّعليل في نحو : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة : ١٩٨] ، والظاهر أن الباء والكاف للتعليل ، وأن «ما» معها مصدريّة ، وقد سلّم أن كلّا من الكاف والباء يأتي للتعليل مع عدم «ما» ، كقوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء : ١٦٠] ، (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [القصص : ٨٢] وأن التقدير : أعجب لعدم فلاح الكافرين ؛ ثم المناسب في البيت معنى التّكثير لا التقليل.

الرابع : «من» ، كقول أبي حيّة [من الطويل] :

٣٤٢ ـ وإنّا لممّا نضرب الكبش ضربة

[على رأسه تلقي اللّسان من الفم](٢)

قاله ابن الشجري ، والظاهر أن «ما» مصدريّة ، وأن المعنى مثله في (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء : ٣٧] ، وقوله [من الطويل] :

٣٤٣ ـ [ألا أصبحت أسماء جاذمة الحبل]

وضنّت علينا ، والضّنين من البخل (٣)

فجعل الإنسان والبخيل مخلوقين من العجل والبخل مبالغة.

وأما الظروف فأحدها «بعد» ، كقوله [من الكامل] :

٣٤٤ ـ أعلاقة أمّ الوليد بعد ما

أفنان رأسك كالثّغام المخلس (٤)

المخلس ـ بكسر اللام ـ المختلط رطبه بيابسه.

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو لصالح بن عبد القدوس في خزانة الأدب ١٠ / ٢٢١ ، والدرر ٤ / ٢٠٣ ، ولميطع بن إياس في أمالي القالي ١ / ٢٧١.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لأبي حيّة النميري في ديوانه ص ١٧٤ ، والأزهية ص ٩١ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٢١٥ ـ ٢١٦ ، والدرر ٤ / ١٨١ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ٢٦٠.

(٣) البيت من الطويل ، وهو للبعيث (خدش بن بشر) في لسان العرب ١٢ / ٨٧ مادة / جذم / ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٣٨٥ ، والخصائص ٢ / ٢٠٢.

(٤) البيت من الكامل ، وهو للمرار الأسدي في ديوانه ص ٤٦١ ، والأزهية ص ٨٩ ، وأصلاح المنطق ص ٤٥ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٣٢ ـ ٢٣٤ ، وبلا نسبة في الأضداد ص ٩٧ ، ورصف المباني ص ٣١٤.

٢٢٢

وقيل : «ما» مصدريّة ، وهو الظاهر ؛ لأن فيه إبقاء «بعد» على أصلها من الإضافة ، ولأنها لو لم تكن مضافة لنوّنت.

والثاني «بين» ، كقوله [من الخفيف] :

٣٤٥ ـ بينما نحن بالأراك معا

إذ أتى راكب على جمله (١)

وقيل : «ما» زائدة ، و «بين» مضافة إلى الجملة ، وقيل : زائدة ، و «بين» مضافة إلى زمن محذوف مضاف إلى الجملة ، أي : بين أوقات نحن بالأراك ، والأقوال الثلاثة تجري في «بين» مع الألف في نحو قوله [من الطويل] :

٣٤٦ ـ فبينا نسوس النّاس والأمر أمرنا ،

إذا نحن فيهم سوقة ليس ننصف (٢)

والثالث والرابع «حيث» ، و «إذ» ويضمّنان حينئذ معنى «إن» الشرطيّة فيجزمان فعلين.

وغير الكافة نوعان : عوض ، وغير عوض.

فالعوض في موضعين :

أحدهما : في نحو قولهم : «أمّا أنت منطلقا انطلقت» والأصل : انطلقت لأن كنت منطلقا ، فقدّم المفعول له للاختصاص ، وحذف الجار وكان للاختصار ، وجيء بـ «ما» للتعويض ، وأدغمت النون للتّقارب ، والعمل عند الفارسي وابن جنّي لـ «ما» ، لا لـ «كان».

والثاني : في نحو قولهم : «افعل هذا إمّا لا» وأصله : إن كنت لا تفعل غيره.

وغير العوض تقع بعد الرّفع ، كقولك : «شتّان ما زيد وعمرو» ، وقول مهلهل [من المنسرح] :

٣٤٧ ـ لو بأبانين جاء يخطبها

زمّل ما أنف خاطب بدم (٣)

وقد مضى البحث في قوله [من الوافر] :

__________________

(١) البيت من البحر الخفيف ، وهو لجميل بثينة في الأغاني ٨ / ٩٩.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لحرقة بنت النعمان في الجنى الداني ص ٣٧٦ ، وخزانة الأدب ٧ / ٥٩ والدرر ٣ / ١١٩.

(٣) البيت من المنسرح ، وهو للمهلهل في شعراء النصرانية ص ١٧٩ ، والأغاني ٥ / ٤٣ ، والدرر ٦ / ٢٥٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٢٤ ، بلا نسبة في جمهرة اللغة ص ١٠٢٨.

٢٢٣

٣٤٨ ـ أنورا سرع ما ذا يا فروق

[وحبل الوصل منتكث حذيق](١)

وأن التقدير : أنفارا سرع هذا ، وبعد الناصب الرافع ، نحو : «ليتما زيدا قائم» ، وبعد الجازم نحو : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) [الأعراف : ٢٠٠] ، (أَيًّا ما تَدْعُوا) [الإسراء : ١١٠] ، (أَيْنَ ما تَكُونُوا) [البقرة : ١٤٨] ، وقول الأعشى [من الطويل] :

٣٤٩ ـ متى ما تناخي عند باب ابن هاشم

تراحي وتلقي من فواضله ندى (٢)

وبعد الخافض حرفا كان ، نحو : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩] ، (عَمَّا قَلِيلٍ) [المؤمنون : ٤٠] ، (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) [نوح : ٢٥] ، وقوله [من الخفيف] :

٣٥٠ ـ ربما ضربة بسيف صقيل

بين بصرى وطعنة نجلاء (٣)

وقوله [من الطويل] :

٣٥١ ـ وننصر مولانا ، ونعلم أنه ،

كما النّاس ، مجروم عليه وجارم (٤)

أو اسما ، كقوله تعالى : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) [القصص : ٢٨] ، وقول الشاعر [من الكامل] :

٣٥٢ ـ نام الخليّ ، وما أحسّ رقادي

والهمّ محتضر لديّ وسادي

٣٥٣ ـ من غير ما سقم ، ولكن شفّني

همّ أراه قد أصاب فؤادي (٥)

وقوله [من الطويل] :

٣٥٤ ـ [ألا ربّ يوم صالح لك منهما]

ولا سيّما يوم بدارة جلجل (٦)

أي : ولا مثل يوم ، وقوله : «بدارة» صفة لـ «يوم» ، وخبر «لا» محذوف. ومن رفع «يوم» فالتّقدير : ولا مثل الذي هو يوم ، ثم إن المشهور أن «ما» مخفوضة ، وخبر «لا»

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لمالك بن زغبة الباهلي في لسان العرب مادة / نور /.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للأعشى في ديوانه ص ١٨٥ ، وشرح شواهد المغني ص ٥٧٧ ـ ٧٣٥.

(٣) البيت من الخفيف ، وهو لعدي بن الرعلاء في الأزهية ص ٨٢ ـ ٩٤ ، والاشتقاق ص ٤٨٦ ، وخزانة الأدب ٩ / ٥٨٣ ، والدرر ٤ / ٢٠٥ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٤٩٢ ، وأوضح المسالك ٣ / ٦٥.

(٤) البيت من البحر الطويل ، وهي لعمرو بن براقة ، انظر : شرح ابن عقيل ٣ / ٣٥ ، واتفاق المباني واقتران المعاني ص ٢٣٧.

(٥) البيتان من الكامل ، وهما للأسود بن يعفر في ديوانه ص ٢٥ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٠٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٥٣ ـ ٧٢٦.

(٦) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١٠ ، والجنى الداني ص ٣٣٤ ، وخزانة الأدب ٣ / ٤٤٤ ، والدرر ٣ / ١٨٣ ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ١٩٣ ، وشرح الأشموني.

٢٢٤

محذوف ، وقال الأخفش : «ما» معرفة ، وجوابه أنه قد يقدر «ما» نكرة موصوفة ، أو يكون قد رجع إلى قول سيبويه في «لا رجل قائم» إن ارتفاع الخبر بما كان مرتفعا به ، لا بـ «لا» النافية ؛ وفي الهيتيات للفارسي «إذا قيل : «قاموا لا سيما زيد» ، فـ «لا» مهمل ، و «سي» حال ، أي : قاموا غير مماثلين لزيد في القيام» ، ويردّه صحّة دخول الواو ، وهي لا تدخل على الحال المفردة ، وعدم تكرار «لا» ، وذلك واجب مع الحال المفردة ، وأما من نصبه فهو تمييز ثم قيل : «ما» نكرة تامة مخفوضة بالإضافة ، فكأنه قيل : ولا مثل شيء ، ثم جيء بالتمييز ، وقال الفارسي : «ما» حرف كافّ لـ «سيّ» عن الإضافة ، فأشبهت الإضافة في «على التّمرة مثلها زيدا» ؛ وإذا قلت : «لا سيّما زيد» ، جاز جرّ «زيد» ورفعه ، وامتنع نصبه.

وزيدت قبل الخافض كما في قول بعضهم : «ما خلا زيد ، وما عدا عمرو» بالخفض ، وهو نادر.

وتزاد بعد أداة الشرط ، جازمة كانت ، نحو : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) [النساء : ٧٨] ، (وَإِمَّا تَخافَنَ) [الأنفال : ٥٨] ، أو غير جازمة ، نحو : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ) [فصلت : ٢٠] ، وبين المتبوع وتابعه في نحو : (مَثَلاً ما بَعُوضَةً) [البقرة : ٢٦]. قال الزجّاج : «ما» حرف زائد للتوكيد عند جميع البصريين ، ا ه ، ويؤيّده سقوطها في قراءة ابن مسعود و «بعوضة» بدل ؛ وقيل : «ما» اسم نكرة صفة لـ «مثلا» أو بدل منه ، و «بعوضة» عطف بيان على «ما». وقرأ رؤبة برفع «بعوضة» ، والأكثرون على أن «ما» موصولة ، أي : الذي هو بعوضة ، وذلك عند البصريّين والكوفيّين على حذف العائد مع عدم طول الصلة ، وهو شاذّ عند البصريّين قياس عند الكوفيّين. واختار الزمخشري كون «ما» استفهامية مبتدأ ، و «بعوضة» خبرها ، والمعنى : أي شيء البعوضة فما فوقها في الحقارة.

وزادها الأعشى مرّتين في قوله [من البسيط] :

٣٥٥ ـ إمّا ترينا حفاة لا نعال لنا ،

إنّا كذلك ما نخفى وننتعل (١)

وأمية بن أبي الصلت ثلاث مرات في قوله [من الخفيف] :

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للأعمش في ديوانه ص ١٠٩ ، والأزهية ص ٨٠ ـ ١٤٣ ، وخزانة الأدب ١١ / ٣٥١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٢٦.

٢٢٥

٣٥٦ ـ سلع ما ، ومثله عشر ما

عائل ما ، وعالت البيقورا (١)

وهذا البيت قال عيسى بن عمر : لا أدري ما معناه ، ولا رأيت أحدا يعرفه ، وقال غيره : كانوا إذا أرادوا الاستسقاء في سنة الجدب عقدوا في أذناب البقر وبين عراقيبها السّلع بفتحتين والعشر بضمة ففتحة ، وهما ضربان من الشجر ، ثم أوقدوا فيها النار وصعدوا بها الجبال ، ورفعوا أصواتهم بالدعاء قال [من البسيط] :

٣٥٧ ـ أجاعل أنت بيقورا مسلّعة

ذريعة لك بين الله والمطر (٢)

ومعنى «عالت البيقورا» أن السنة أثقلت البقر بما حمّلتها من السّلع والعشر.

* * *

وهذا فصل عقدته للتدريب في «ما»

قوله تعالى : (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) (٢) [المسد : ٢] تحتمل «ما» الأولى النافية ، أي : لم يغن والاستفهاميّة فتكون مفعولا مطلقا ، والتقدير أيّ إغناء أغنى عنه ماله ، ويضعف كونه مبتدأ بحذف المفعول المضمر حينئذ ، إذ تقديره : أيّ إغناء أغناه عنه ماله. وهو نظير «زيد ضربت» إلا أن الهاء المحذوفة في الآية مفعول مطلق ، وفي المثال مفعول به. وأما «ما» الثانية فموصول اسمي أو حرفيّ ، أي : والذي كسبه ، لزم التكرار لتقدّم ذكر المال ، ويجاب بأنه يجوز أن يراد به الولد ؛ ففي الحديث : «أحقّ ما أكل الرّجل من كسبه وإنّ ولده من كسبه» ؛ والآية حينئذ نظير (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) [آل عمران : ١٠] ، وأمّا (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) (١١) [الليل : ١١] ، (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) [الحاقة : ٢٨] ، فـ «ما» فيهما محتملة للاستفهاميّة وللنافية ، ويرجّحها تعيّنها في (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ) [الأحقاف : ٢٦] ، والأرجح في (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) [البقرة : ١٠٢] أنّها موصولة عطف على «السحر». وقيل : نافية فالوقف على «السحر» ؛ والأرجح في (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) [يس : ٦] أنّها النافية بدليل (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) [سبأ : ٤٤] ، وتحتمل الموصولة. والأظهر في (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر : ٩٤] المصدريّة ، وقيل : موصولة ، قال ابن الشجري : ففيه خمسة حذوف ؛ والأصل : بما تؤمر

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص ٣٦ ، والأزهية ص ١٨ ، والأشباه والنظائر ٦ / ١٠١ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٠٥ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٣٣٢ ولسان العرب مادة / بقر /.

(٢) البيت من البسيط ، وهو للورل الطائي في لسان العرب ٤ / ٧٣ ، / بقر / ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ٨٧ ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ٢ / ٩٩ ، ومجمل اللغة ١ / ٢٨٢.

٢٢٦

بالصدع به ، فحذفت الباء فصار بالصّدعه فحذفت «أل» لامتناع جمعها مع الإضافة فصار بصدعه ، ثم حذف المضاف كما في (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] فصار به ، ثم حذف الجارّ كما قال عمرو بن معد يكرب [من البسيط] :

٣٥٨ ـ أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

[فقد تركتك ذا مال وذا نشب](١)

فصار : تؤمره ، ثم حذفت الهاء كما حذفت في (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان : ٤١] وهذا تقرير ابن جنّي.

وأما (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦] فـ «ما» شرطيّة ، ولهذا جزمت ، ومحلّها النصب بننسخ وانتصابها إمّا على أنها مفعول به مثل (أَيًّا ما تَدْعُوا) [الإسراء : ١١٠] فالتقدير : أيّ شيء ننسخ ، لا أيّ آيةننسخ ؛ لأن ذلك لا يجتمع مع (مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦] وإما على أنها مفعول مطلق ؛ فالتّقدير : أيّ نسخ ننسخ ، فـ «آية» مفعول «ننسخ» ، و «من» زائدة ، وردّ هذا أبو البقاء بأن «ما» المصدريّة لا تعمل ، وهذا سهو منه ، فإنه نفسه نقل عن صاحب هذا الوجه أن ما مصدر بمعنى أنها مفعول مطلق ، ولم ينقل عنه أنها مصدريّة.

وأما قوله تعالى : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) [الأنعام : ٦] فـ «ما» محتملة للموصوفة أي شيئا لم نمكنه لكم ، فحذف العائد ، وللمصدريّة الظرفية ، أي أن مدّة تمكّنهم أطول ، وانتصابها في الأول على المصدر ، وقيل على المفعول به على تضمين «مكنّا» معنى «أعطينا» ، وفيه تكلّف.

وأما قوله تعالى : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٨٨] فـ «ما» محتملة لثلاثة أوجه : أحدها : الزّيادة ، فتكون إمّا لمجرد تقوية الكلام مثلها في (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩] فتكون حرفا باتفاق ، وقليلا في معنى النفي مثلها في قوله [من الطويل] :

٣٥٩ ـ [أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة]

قليل بها الأصوات إلّا بغامها (٢)

وإما لإفادة التّقليل مثلها في «أكلت أكلا مّا» ، وعلى هذا فيكون تقليلا بعد تقليل ، ويكون التقليل على معناه. ويزعم قوم أن «ما» هذه اسم كما قدّمناه في (مَثَلاً ما بَعُوضَةً)

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لعمرو بن معدي كرب في ديوانه ص ٦٣ ، وخزانة الأدب ٩ / ١٢٤ ، والدرر ٥ / ١٨٦ ، وشرح شواهد المغني ص ٧٢٧ ، ولخفاف بن ندبة في ديوانه ص ١٢٦ ، وللعباس بن مرداس في ديوانه ص ٣١ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٤ / ١٦.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو لذي الرمة في ديوانه ص ١٠٠٤ ، وخزانة الأدب ٣ / ٤١٨ ، والدرر ٣ / ١٦٨ ، ولسان العرب مادة (بلد) ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ٢٣٤ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢١٨.

٢٢٧

[البقرة : ٢٦]. والوجه الثاني : النفي ، و «قليلا» : نعت لمصدر محذوف أو لظرف محذوف ، أي : إيمانا قليلا أو زمنا قليلا ، أجاز ذلك بعضهم ، ويردّه أمران : أحدهما أن «ما» النافية لها الصّدر فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، ويسهل ذلك شيئا ما على تقدير «قليلا» نعتا للظرف ؛ لأنهم يتّسعون في الظرف ، وقد قال [من الرجز] :

ونحن عن فضلك ما استغنينا

والثاني : أنهم لا يجمعون بين مجازين ، ولهذا لم يجيزوا «دخلت الأمر» لئلا يجمعوا بين حذف «في» وتعليق الدخول باسم المعنى ، بخلاف «دخلت في الأمر» و «دخلت الدار». واستقبحوا «سير عليه طويل» لئلا يجمعوا بين جعل الحدث أو الزمان مسيرا وبين حذف الموصوف ، بخلاف «سير عليه طويلا» و «سير عليه سير طويل ، أو زمن طويل».

والثالث : أن تكون مصدريّة ، وهي وصلتها فاعل بـ «قليلا» ، و «قليلا» حال معمول لمحذوف دلّ عليه المعنى ، أي : لعنهم الله ، فأخّروا قليلا إيمانهم ، أجازه ابن الحاجب ، ورجّح معناه على غيره.

وقوله تعالى : (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) [يوسف : ٨٠] «ما» إمّا زائدة ، فـ «من» متعلّقة بـ «فرطتم» ، وإمّا مصدرية فقيل : موضعها هي وصلتها رفع بالابتداء ، وخبره «من قبل» ، وردّ بأن الغايات لا تقع أخبارا ولا صلات ولا صفات ولا أحوالا ، نصّ على ذلك سيبويه وجماعة من المحقّقين ؛ ويشكل عليهم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) [الروم : ٤٢] ؛ وقيل : نصب عطفا على «أنّ» وصلتها ، أي : ألم تعلموا أخذ أبيكم الموثق وتفريطكم ، ويلزم على هذا الإعراب الفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف وهو ممتنع ؛ فإن قيل : قد جاء (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) [يس : ٩] ، (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١] قلنا : ليس هذا من ذلك كما توهّم ابن مالك ، بل المعطوف شيئان على شيئين.

وقوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) [البقرة : ٢٣٦] «ما» ظرفيّة ، وقيل : بدل من «النساء» ، وهو بعيد. وتقول : «اصنع ما صنعت» فـ «ما» موصولة أو شرطيّة ، وعلى هذا فتحتاج إلى تقدير جواب ، فإن قلت : «اصنع ما تصنع» امتنعت الشرطيّة ، لأن شرط حذف الجواب مضيّ فعل الشرط.

وتقول : «ما أحسن ما كان زيد» ، فـ «ما» الثانية مصدريّة ، و «كان زيد» صلتها ،

٢٢٨

والجملة مفعول ، ويجوز عند من جوّز إطلاق «ما» على آحاد من يعلم أن تقدّرها بمعنى «الذي» ، وتقدّر «كان» ناقصة رافعة لضميرها وتنصب «زيدا» على الخبريّة ، ويجوز على قوله أيضا أن تكون بمعنى «الذي» مع رفع «زيد» ، على أن يكون الخبر ضمير «ما» ، ثم حذف والمعنى : ما أحسن الذي كانه زيد! إلا أن حذف خبر «كان» ضعيف.

وممّا يسأل عنه قول الشاعر في صفة فرس صافن : أي ثان في وقوفه إحدى قوائمه [من الكامل] :

٣٦٠ ـ ألف الصّفون فما يزال كأنّه

ممّا يقوم على الثّلاث كسيرا (١)

فيقال : كان الظاهر رفع «كسيرا» خبرا لـ «كأنّ».

والجواب أنه خبر لـ «يزال» ، ومعناه كاسر ، أي : ثان ، كـ «رحيم» و «قدير» ، لا مكسور ضد الصحيح كـ «جريح» و «قتيل» ، و «ما» : مصدرية ، وهي وصلتها خبر «كأنّ» ، أي ألف القيام على الثلاث فلا يزال ثانيا إحدى قوائمه حتى كأنّه مخلوق من قيامه على الثلاث. وقيل : «ما» بمعنى «الذي» وضمير «يقوم» عائد إليها ؛ و «كسيرا» : حال من الضمير ، وهو بمعنى مكسور ؛ و «كأنّ» ومعمولاها خبر «يزال» ، أي : كأنه من الجنس الذي يقوم على الثلاث ، والمعنى الأول أولى.

* * * *

(من) : تأتي على خمسة عشر وجها :

أحدها : ابتدءا الغاية ،وهو الغالب عليها ، حتى ادّعى جماعة أن سائر معانيها راجعة إليه ، وتقع لهذا المعنى في غير الزمان ، نحو : (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الإسراء : ١] ، (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) [النمل : ٣٠]. قال الكوفيّون والأخفش والمبرّد وابن درستويه : وفي الزمان أيضا ؛ بدليل (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) [التوبة : ١٠٨] ، وفي الحديث «فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة» ، وقال النابغة [من الطويل] :

٣٦١ ـ تخيّرن من أزمان يوم حليمة

إلى اليوم ، قد جرّبن كلّ التّجارب (٢)

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في الأزهية ص ٨٧. وأمالي ابن الحاجب ٢ / ٦٣٥ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٢٧٩ ، ولسان العرب ١٣ / ٢٤٨ مادة / صفى /.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص ٤٥ ، وخزانة الأدب ٣ / ٣٣١ ، ولسان العرب مادة (جرب) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ٢٢ ، وشرح الأشموني ٢ / ٢٨٧.

٢٢٩

وقيل : التّقدير : من مضيّ أزمان يوم حليمة ، ومن تأسيس أول يوم ، وردّه السهيليّ بأنه لو قيل هكذا لاحتيج إلى تقدير الزمان.

الثاني : التبعيض ،نحو : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) [البقرة : ٢٥٣] ، وعلامتها إمكان سد «بعض» مسدّها ، كقراءة ابن مسعود حتى تنفقوا بعض ما تحبون [آل عمران : ٩٢].

الثالث : بيان الجنس ، وكثيرا ما تقع بعد «ما» و «مهما» ، وهما بها أولى ؛ لإفراط إبهامهما ، نحو : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) [فاطر : ٢] ، (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦] ، (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ) [الأعراف : ١٣٢] ، وهي ومخفوضها في ذلك في موضع نصب على الحال ؛ ومن قوعها بعد غيرهما (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) [الكهف : ٣١] ، الشّاهد في غير الأولى فإن تلك للابتداء ؛ وقيل : زائدة ، ونحو : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠]. وأنكر مجيء «من» لبيان الجنس قوم ، وقالوا : هي في (مِنْ ذَهَبٍ) و (مِنْ سُنْدُسٍ) للتبعيض ، وفي (مِنَ الْأَوْثانِ) للابتداء. والمعنى فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو عبادتها ، وهذا تكلّف.

وفي كتاب المصاحف لابن الأنباري أن بعض الزنادقة تمسّك بقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) [الفتح : ٢٩] في الطعن على بعض الصحابة ، والحق أن «من» فيها للتّبيين لا للتبعيض ، أي : الذين آمنوا هم هؤلاء ، ومثله (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٧٢) [آل عمران : ١٧٢] ، وكلّهم محسن ومتّق ، (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [المائدة : ٧٣] فالمقول فيهم ذلك كلهم كفّار.

الرابع : التعليل ،نحو : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) [نوح : ٢٥] ، وقوله [من المتقارب] :

٣٦٢ ـ [تطاول ليلك بالإثمد

وبات الخليّ ولم ترقد (١)

٣٦٣ ـ وبات وباتت له ليلة

كليلة ذي العائر الأرمد](٢)

٣٦٤ ـ وذلك من نبإ جاءني

[وخبّرته عن أبي الأسود]

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١٨٥ ، والمستقصى ٢ / ٥٠ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٨٠ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٧٧٥ ، وباج العروس مادة / ثمد /.

(٢) البيتان من المتقارب ، وهما لامرىء القيس في ديوانه ١٨٥ ، ولعمر بن معد يكرب في ديوانه ص ٢٠٠ ، ولعمرو أو لامرىء القيس في سمط اللآلي ص ٥٣١ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ٢٥٤ ، وجمهرة اللغة ص ٧٧٥.

٢٣٠

وقول الفرزدق في علي بن الحسين [من البسيط] :

٣٦٥ ـ يغضي حياء ويغضى من مهابته ،

[فما يكلّم إلّا حين يبتسم](١)

الخامس : البدل : نحو : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) [التوبة : ٣٨] ، (لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) [الزخرف : ٦٠] ، لأن الملائكة لا تكون من الإنس (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [آل عمران : ١٠] ، أي بدل طاعة الله ، أو بدل رحمة الله ، «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» أي : لا ينفع ذا الحظ من الدنيا حظه بذلك ، أي بدل طاعتك أو بدل حظك ، أي بدل حظه منك ؛ وقيل : ضمّن «ينفع» معنى «يمنع» ؛ ومتى علّقت «من» بالجد انعكس المعنى ، وأما (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) [آل عمران : ٢٨] فليس من هذا خلافا لبعضهم ، بل «من» للبيان أو للابتداء ، والمعنى : فليس في شيء من ولاية الله ، وقال ابن مالك في قول أبي نخيلة [من الرجز] :

٣٦٦ ـ [جارية لم تأكل المرقّقا]

ولم تذق من البقول الفستقا (٢)

المراد بدل البقول ؛ وقال غيره : توهّم الشاعر أن الفستق من البقول ، وقال الجوهري : الرواية «النّقول» ـ بالنون ـ و «من» عليهما للتبعيض ، والمعنى على قول الجوهري أنها تأكل النقول إلّا الفستق ، وإنّما المراد أنها لا تأكل إلا البقول ، لأنها بدويّة.

وقال الآخر يصف عامل الزّكاة بالجور [من الكامل] :

٣٦٧ ـ أخذوا المخاض من الفصيل غلبّة

ظلما ، ويكتب للأمير أفيلا (٣)

أي : بدل الفصيل ؛ و «الأفيل» : الصغير لأنه يأفل بين الإبل : أي يغيب. وانتصاب «أفيلا» على الحكاية ؛ لأنهم يكتبون «أدّى فلان أفيلا». وأنكر قوم مجيء «من» للبدل ، فقالوا : التقدير في (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) [التوبة : ٣٨] أي : بدلا منها ؛ فالمفيد للبدليّة متعلّقها المحذوف ، وأما هي فللابتداء ، وكذا الباقي.

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للحزين بن الكناني (عمرو بن عبد وهيب) في الأغاني ١٥ / ٢٦٣ ، ولسان العرب ١٣ / ١١٤ مادة / حزن / ، وللفرزدق في ديوانه ٢ / ١٧٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٣٢ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٥١٣.

(٢) البيت من الرجز ، وهو لرؤبة في ديوانه ص ١٨٠ ، ولأبي نخيلة في شرح شواهد المغني ٢ / ٧٣٥ ، ولسان العرب مادة (فستق) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ١٣٢٩ ، والجنى الداني ص ٣١١.

(٣) البيت من الكامل ، وهو للراعي النميري في ديوانه ص ٢٤٢ ، وتذكرة النحاة ص ٣١١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٣٦ ، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ٢٧٣ ، وشرح الأشموني ٢ / ٢٨٨.

٢٣١

السادس : مرادفة «عن» ، نحو : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) [الزمر : ٢٢] ، (يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) [الأنبياء : ٩٧] ، وقيل : هي في هذه الآية للابتداء ، لتفيد أن ما بعد ذلك من العذاب أشدّ ، وكأنّ هذا القائل يعلق معناها بـ «ويل» ، مثل : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص : ٢٧] ، ولا يصحّ كونه تعليقا صناعيّا للفصل بالخبر ، وقيل : هي فيهما للابتداء ، أو هي في الأوّل للتعليل ، أي من أجل ذكر الله ؛ لأنّه إذا ذكر قست قلوبهم.

وزعم ابن مالك أنّ «من» في نحو : «زيد أفضل من عمرو» للمجاوزة ، وكأنه قيل : جاوز زيد عمرا في الفضل ، قال : وهو أولى من قول سيبويه وغيره : إنها لابتداء الارتفاع في نحو : «أفضل منه» ، وابتداء الانحطاط في نحو : «شرّ منه» إذ لا يقع بعدها «إلى» ، ا ه.

وقد يقال : ولو كانت للمجاوزة لصحّ في موضعها «عن».

السابع : مرادفة الباء ، نحو : (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) [الشورى : ٤٥] قاله يونس ، والظاهر أنها للابتداء.

الثامن : مرادفة «في» ، نحو : (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) [فاطر : ٤٠] ، (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) [الجمعة : ٩] ، والظاهر أنها في الأولى لبيان الجنس مثلها في (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦].

التاسع : موافقة «عند» ، نحو : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [آل عمران : ١٠] قاله أبو عبيدة ، وقد مضى القول بأنها في ذلك للبدل.

العاشر : مرادفة «ربّما» ، وذلك إذا اتّصلت بـ «ما» كقوله [من الطويل] :

٣٦٨ ـ وإنّا لممّا نضرب الكبش ضربة

على رأسه تلقي اللّسان من الفم (١)

قاله السيرافي وابن خروف وابن طاهر والأعلم ، وخرّجوا عليه قول سيبويه : واعلم أنهم مما يحذفون كذا ، والظاهر أن «من» فيهما ابتدائيّة و «ما» مصدريّة ، وأنهم جعلوا كأنهم خلقوا من الضرب والحذف مثل (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء : ٣٧].

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأبي حية في ديوانه ص ١٧٤ ، والأزهية ص ٩١ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٢١٥ ـ ٢١٦ ، والدرر ٤ / ١٨١ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ٢٦٠ وشرح شواهد الإيضاح ٢١٩.

٢٣٢

الحادي عشر : مرادفة «على» ، نحو : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) [الأنبياء : ٧٧] ، وقيل : على التّضمين ، أي : منعناه منهم بالنّصر.

الثاني عشر : الفصل ،وهي الدّاخلة على ثاني المتضادّين ، نحو : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة : ٢٢٠] ، (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران : ١٧٩] قاله ابن مالك ، وفيه نظر ؛ لأن الفصل مستفاد من العامل ، فإنّ «ماز» و «ميّز» بمعنى «فصل» ، والعلم صفة توجب التّمييز ، والظاهر أنّ «من» في الآيتين للابتداء ، أو بمعنى «عن».

الثالث عشر : الغاية ، قال سيبويه : «وتقول رأيته من ذلك الموضع» فجعلته غاية لرؤيتك ، أي : محلّا للابتداء والانتهاء ؛ قال : «وكذا أخذته من زيد» ؛ وزعم ابن مالك أنها في هذه للمجاوزة ، والظاهر عندي أنها للابتداء ، لأن الأخذ ابتدىء من عنده وانتهى إليك.

الرابع عشر : التّنصيص على العموم ، وهي الزّائدة في نحو : «ما جاءني من رجل» فإنه قبل دخولها يحتمل نفي الجنس ونفي الوحدة ؛ ولهذا يصحّ أن يقال : «بل رجلان» ويمتنع ذلك بعد دخول «من».

الخامس عشر : توكيد العموم ، وهي الزائدة في نحو : «ما جاءني من أحد ، أو من ديّار» فإن «أحدا» و «ديارا» صيغتا عموم.

وشرط زيادتها في النوعين ثلاثة أمور :

أحدها : تقدّم نفي أو نهي أو استفهام بهل ، نحو : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) [الأنعام : ٥٩] ، (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : ٣] ، (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) [الملك : ٣] ، وتقول : «لا يقم من أحد» ، وزاد الفارسي الشّرط ، كقوله [من الطويل] :

٣٦٩ ـ ومهما تكن عند امرىء من خليقة

وإن خالها تخفى على النّاس تعلم (١)

وسيأتي فصل «مهما».

والثاني : تنكير مجرورها.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٣٢ ، والجنى الداني ص ٦١٢ ، والدرر ٤ / ١٨٤ ، ٥ / ٨٢ ، وشرح شواهد المغني ص ٣٨٦ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ٣ / ٥٧٩ ، وهمع الهوامع ٢ / ٣٥ ـ ٥٨.

٢٣٣

والثالث : كونه فاعلا ، أو مفعولا به ، أو مبتدأ.

* * *

تنبيهات

أحدها : قد اجتمعت زيادتها في المنصوب والمرفوع في قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) [المؤمنون : ٩١] ، ولك أن تقدّر «كان» تامّة ، لأن مرفوعها فاعل ؛ وناقصة ، لأن مرفوعها شبيه بالفاعل وأصله المبتدأ.

الثاني : تقييد المفعول بقولنا به هي عبارة ابن مالك ، فتخرج بقيّة المفاعيل ، وكأنه وجه منع زيادتها في المفعول معه والمفعول لأجله والمفعول فيه أنهنّ في المعنى بمنزلة المجرور بـ «مع» وباللام بـ «في» ، ولا تجامعهنّ «من» ، ولكن لا يظهر للمنع في المفعول المطلق وجه ، وقد خرّج عليه أبو البقاء (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨] ، فقال : «من» زائدة و «شيء» في موضع المصدر ، أي تفريطا ، مثل : (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) [آل عمران : ١٢٠] ، والمعنى تفريطا وضرّا ؛ وقال : ولا يكون مفعولا به ، لأن «فرّط» إنما يتعدّى إليه بـ «في» ، وقد عدّي بها إلى الكتاب ، قال : وعلى هذا فلا حجّة في الآية لمن ظن أن الكتاب يحتوي على ذلك كلّ شيء صريحا ؛ قلت : وكذا لا حجّة فيها لو كان «شيء» مفعولا به ، لأن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ ، كما في قوله تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩] وهو رأي الزمخشريّ ، والسّياق يقتضيه.

الثالث : القياس أنها لا تزاد في ثاني مفعولي «ظنّ» ، ولا ثالث مفعولات «أعلم» ، لأنهما في الأصل خبر ؛ وشذّت قراءة بعضهم : (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) [الفرقان : ١٨] ببناء «نتخّذ» للمفعول ؛ وحملها ابن مالك على شذوذ زيادة «من» في الحال ، ويظهر لي فساده في المعنى ؛ لأنّك إذا قلت : «ما كان لك أن تتّخذ زيدا في حالة كونه خاذلا لك» فأنت مثبت لخذلانه ناه عن اتخاذه ، وعلى هذا فيلزم أن الملائكة أثبتوا لأنفسهم الولاية.

الرابع : أكثرهم أهمل هذا الشرط الثالث ؛ فيلزمهم زيادتها في الخبر ، في نحو : «ما زيد قائما» ، والتمييز في نحو : «ما طاب زيد نفسا» ، والحال في نحو : «ما جاء أحد راكبا» ، وهم لا يجيزون ذلك.

وأما قول أبي البقاء في (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦] : إنه يجوز كون (آيَةٍ)

٢٣٤

حالا و (مِنْ) زائدة كما جاءت آيةحالا في (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) [الأعراف : ٧٣] والمعنى : أيّ شيء ننسخ قليلا أو كثيرا ؛ ففيه تخريج التنزيل على شيء إن ثبت فهو شاذّ ، أعني زيادة «من» في الحال ، وتقدير ما ليس بمشتق ولا منتقل ولا يظهر فيه معنى الحال حالا ، والتّنظير بما لا يناسب ؛ فإن (آيَةً) في (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) [الأعراف : ٧٣] بمعنى علامة لا واحدة الآي ، وتفسير اللفظ بما لا يحتمله ، وهو قوله قليلا أو كثيرا ، وإنما ذلك مستفاد من اسم الشرط لعمومه لا من آية.

ولم يشترط الأخفش واحدا من الشرطين الأوّلين ، واستدلّ بنحو : (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام : ٣٤] ، (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [الأحقاف : ٣١] ، (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) [الكهف : ٣١] ، (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) [البقرة : ٢٧١].

ولم يشترط الكوفيّون الأوّل ، واستدلّوا بقولهم : «قد كان من مطر» ، وبقول عمر بن أبي ربيعة [من المتقارب] :

٣٧٠ ـ وينمي لها حبّها عندنا

فما قال من كاشح لم يضر (١)

وخرّج الكسائي على زيادتها : «إنّ من أشدّ الناس عذابا يوم القيامة المصوّرون» ، وابن جنّي قراءة بعضهم : (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) [آل عمران : ٨١] بتشديد «لمّا» ، وقال : أصله : لمن ما ، ثم أدغم ، ثم حذفت ميم «من».

وجوّز الزمخشري في (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) (٢٨) [يس : ٢٨] الآية ، كون المعنى ومن الّذي كنا منزلين ، فجوّز زيادتها مع المعرفة.

وقال الفارسيّ في (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) [النور : ٤٣] يجوز كون «من» و «من» الأخيرتين زائدتين ؛ فجوّز الزيادة في الإيجاب.

وقال المخالفون : التّقدير : قد كان هو ، أي : كائن من جنس المطر ، و «فما قال هو» أي : قائل من جنس الكاشح ، وإنه من أشد الناس أي إن الشأن ، ولقد جاءك هو أي جاء من الخبر كائنا من نبأ المرسلين ، أو ولقد جاءك نبأ المرسلين ثم حذف الموصوف ، وهذا ضعيف في العربيّة ، لأن الصفة غير مفردة ؛ فلا يحسن تخريج التنزيل عليه.

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص ١٧٥ ، والجنى الداني ص ٣١٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٣٨.

٢٣٥

واختلف في «من» الداخلة على «قبل» و «بعد» ؛ فقال الجمهور : لابتداء الغاية ، وردّ بأنها لا تدخل عندهم على الزّمان كما مر ، وأجيب بأنهما غير متأصّلين في الظرفيّة وإنما هما في الأصل صفتان للزّمان ، إذ معنى «جئت قبلك» : جئت زمنا قبل زمن مجيئك ؛ فلهذا سهل ذلك فيهما ؛ وزعم ابن مالك أنها زائدة ، وذلك مبنيّ على قول الأخفش في عدم الاشتراط لزيادتها.

* * *

مسألة

(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍ) [الحج : ٢٢] ، «من» الأولى للابتداء والثانية للتعليل ، وتعلّقها بـ «أرادوا» أو بـ «يخرجوا» ، أو للابتداء فـ «الغم» بدل اشتمال ، وأعيد الخافض ، وحذف الضمير ، أي : من غم فيها.

* * *

مسألة

(مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها) [البقرة : ٦١]

«من» الأولى للابتداء ، والثانية إمّا كذلك فالمجرور بدل بعض وأعيد الجار ، وإمّا لبيان الجنس فالظّرف حال والمنبت محذوف ، أي مما تنبته كائنا من هذا الجنس.

مسألة

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) [البقرة : ١٤٠] ، «من» الأولى مثلها في «زيد أفضل من عمرو» ، و «من» الثانية للابتداء على أنها متعلّقة باستقرار مقدّر ، أو بالاستقرار الذي تعلّقت به «عند» ، أي شهادة حاصلة عنده مما أخبر الله به ، قيل : أو بمعنى «عن» ، على أنها متعلّقة بـ «من» على جعل كتمانه على الأداء الذي أوجبه الله كتمانه عن الله ، وسيأتي أن (كَتَمَ) لا يتعدّى بـ «من».

* * *

مسألة

(لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) [الأعراف : ٨١ والنمل : ٥٥] ، «من» للابتداء والظرف صفة لـ «شهوة» ، أي : شهوة مبتدأة من دونهم ، قيل : أو للمقابلة كـ «خذ هذا

٢٣٦

من دون هذا» أي : اجعله عوضا منه ، وهذا يرجع إلى معنى البدل الذي تقدّم ، ويردّه أنه لا يصحّ التصريح به ولا بالعوض مكانها هنا.

* * *

مسألة

(ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ١٠٥] الآية ، فيها «من» ثلاث مرّات ؛ الأولى للتّبيين لأن الكافرين نوعان كتابيّون ومشركون ، والثانية زائدة ، والثالثة لابتداء الغاية.

* * *

مسألة (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) (٥٢) [الواقعة : ٥٢] ، (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ) [النمل : ٨٣]

الأولى منهما للابتداء ، والثانية للتّبيين.

* * *

مسألة

(نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) [القصص : ٣٠] ، «من» فيهما للابتداء ، ومجرور الثانية بدل من مجرور الأولى بدل اشتمال لأن الشجرة كانت نابتة بالشاطىء.

* * * *

(من) : على أربعة أوجه :

شرطية ، نحو : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء : ١٢٣].

واستفهاميّة ،نحو : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) [يس : ٥٢] ، (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) [طه : ٤٩].

وإذا قيل «من يفعل هذا إلا زيد؟» فهي «من» الاستفهاميّة أشربت معنى النفي ، ومنه : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ١٣٥] ؛ ولا يتقيّد جواز ذلك بأن يتقدّمها الواو ، خلافا لابن مالك ، بدليل : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥].

وإذا قيل : «من ذا لقيت؟» فـ «من» : مبتدأ و «ذا» : خبر موصول ، والعائد

٢٣٧

محذوف ؛ ويجوز على قول الكوفيّين في زيادة الأسماء كون «ذا» زائدة ، و «من» مفعولا ، وظاهر كلام جماعة أنه يجوز في «من ذا لقيت» أن تكون «من» و «ذا» مركّبتين كما في قولك : «ماذا صنعت» ، ومنع ذلك أبو البقاء في مواضع من إعرابه ، وثعلب في أماليه وغيرهما ، وخصوا جواز ذلك بـ «ماذا» ؛ لأن «ما» أكثر إبهاما ، فحسن أن تجعل مع غيرها كشيء واحد ؛ ليكون ذلك أظهر لمعناها ، ولأن التركيب خلاف الأصل ، وإنما دلّ عليه الدليل مع «ما» وهو قولهم : «لما جئت» بإثبات الألف.

وموصولة في نحو : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الحج : ١٨].

ونكرة موصوفة ، ولهذا دخلت عليها «ربّ» في قوله [من الرمل] :

٣٧١ ـ ربّ من أنضجت غيظا قلبه

قد تمنّى لي موتا لم يطع (١)

ووصفت بالنكرة في نحو قولهم : «مررت بمن معجب لك» ، وقال حسان رضي‌الله‌عنه [من الكامل] :

٣٧٢ ـ فكفى بنا فضلا على من غيرنا

حبّ النّبيّ محمّد إيّانا (٢)

ويروى برفع «غير» ؛ فيحتمل أن «من» على حالها ، ويحتمل الموصوليّة ، وعليهما فالتقدير : على من هو غيرنا ، والجملة صفة أو صلة ، وقال الفرزدق [من البسيط] :

٣٧٣ ـ إنّي وإيّاك ، إذ حلّت بأرحلنا ،

كمن بواديه بعد المحل ممطور (٣)

أي : كشخص ممطور بواديه.

وزعم الكسائي أنها لا تكون نكرة إلّا في موضع يخصّ النكرات ، وردّ بهذين البيتين ، فخرّجهما على الزيادة ، وذلك شيء لم يثبت كما سيأتي.

وقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ٨] فجزم جماعة بأنها موصوفة

__________________

(١) البيت من الرمل ، وهو لسويد ين أبي كاهل في الأغاني ١٣ / ٩٨ ، وخزانة الأدب ٦ / ١٢٣ ـ ١٢٥ ، والدرر ١ / ٣٠٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٤٧٠ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ٢ / ٧٠ ، وتاج العروس مادة / من /.

(٢) البيت من الكامل ، وهو لكعب بن مالك في ديوانه ص ٢٨٩ ، وخزانة الأدب ٦ / ١٢٠ ـ ١٢٣ ، والدرر ٣ / ٧ ، ولبشير بن عبد الرحمن في لسان العرب مادة / مثنى / ولحسان بن ثابت في الأزهية ص ١٠١.

(٣) البيت من البسيط ، وهو للفرزدق في الأزهية ص ١٠٢ ، وخزانة الأدب ٦ / ١٢٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٩٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٤١.

٢٣٨

وهو بعيد ، لقلّة استعمالها ؛ وآخرون بأنها موصولة ؛ وقال الزمخشري : إن قدرت «أل» في الناس للعهد فموصولة مثل : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ) [التوبة : ٦١] ، أو للجنس فموصوفة ، مثل : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ) [الأحزاب : ٢٣] ويحتاج لتأمل.

* * *

تنبيهان

الأول ـ تقول : «من يكرمني أكرمه» فتحتمل «من» الأوجه الأربعة ، فإن قدّرتها شرطيّة جزمت الفعلين ، أو موصوفة رفعتهما ، أو استفهاميّة رفعت الأوّل وجزمت الثاني لأنه جواب بغير الفاء ، و «من» فيهنّ مبتدأ ، وخبر لاستفهاميّة الجملة الأولى ، والموصولة أو الموصوفة الجملة الثانية ، والشرطية الأولى أو الثانية على خلاف في ذلك ، وتقول : «من زارني زرته» فلا تحسن الاستفهامية ، ويحسن ما عداها.

الثاني ـ زيد في أقسام «من» قسمان آخران ؛ أحدهما أن تأتي نكرة تامة ، وذلك عند أبي علي ، قاله في قوله [من البسيط] :

٣٧٤ ـ [ونعم مزكأ من ضاقت مذاهبه]

ونعم من هو في سرّ وإعلان (١)

فزعم أن الفاعل مستتر ، و «من» تمييز ، وقوله : «هو» مخصوص بالمدح ، فـ «هو» مبتدأ خبره ما قبله أو خبر لمبتدأ محذوف ، وقال غيره : «من» موصول فاعل ، وقوله «هو» مبتدأ خبره هو آخر محذوف على حد قوله [من الرجز] :

٣٧٥ ـ [أنا أبو النّجم] ، وشعري شعري،

[لله درّي ما أجنّ صدري](٢)

والظرف متعلّق بالمحذوف ، لأنّ فيه معنى الفعل ، أي : ونعم من هو الثابت في حالتي السرّ والعلانية.

قلت : ويحتاج إلى تقدير هو ثالث يكون مخصوصا بالمدح.

الثاني : التّوكيد ، وذلك فيما زعم الكسائي من أنها ترد زائدة كـ «ما» ، وذلك سهل على قاعدة الكوفيّين في أن الأسماء تزاد ، وأنشد عليه [من الكامل] :

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص ١٠٩٨ ، وخزانة الأدب ٩ / ٤١٠ ، والدرر ١ / ٣٠٣ ، وشرح الأشموني ١ / ٧٠ ، وهمع الهوامع ١ / ٩٢.

(٢) البيت من الرجز ، وهو لأبي النجم في أمالي المرتضى ١ / ٣٥٠ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٣٩ ، والخصائص ٣ / ٣٣٧ ، وبلا نسبة في الدرر ٥ / ٧٩ ، وهمع الهوامع ٢ / ٥٩.

٢٣٩

٣٧٦ ـ فكفى بنا فضلا على من غيرنا

[حبّ النبيّ محمّد إيّانا](١)

فيمن خفض «غيرنا» ، وقوله [من الكامل] :

٣٧٧ ـ يا شاة من قنص لمن حلّت له

حرمت عليّ ، وليتها لم تحرم (٢)

فيمن رواه بمن دون ما ، وهو خلاف المشهور ، وقوله [من البسيط] :

٣٧٨ ـ آل الزّبير سنام المجد ، قد علمت

ذاك القبائل والأثرون من عددا (٣)

ولنا أنّها في الأوّلين نكرة موصوفة ، أي : على قوم غيرها ؛ ويا شاة إنسان قنص ، وهذا من الوصف بالمصدر للمبالغة ؛ و «عددا» : إما صفة لـ «من» على أنه اسم وضع موضع المصدر ، وهو العدّ : أي : والأثرون قوما ذوي عدد ، أي قوما معدودين ، وإما معمول لـ «يعدّ» محذوفا صلة أو صفة لـ «من» ، و «من» بدل من «الأثرون».

* * * *

(مهما) اسم ؛ لعود الضمير إليها في : (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها) [الأعراف : ١٣٢] ، وقال الزمخشري وغيره : عاد عليها ضمير (بِهِ) وضمير (بِها) حملا على اللفظ وعلى المعنى ، ا ه. والأولى أن يعود ضمير (بِها) لآية ، وزعم السهيلي أنها تأتي حرفا ، بدليل قول زهير [من الطويل] :

٣٧٩ ـ ومهمها تكن عندأمرىء من خليقة

وان خالها تخفى على الناس تعلم

قال : فهي هنا حرف بمنزلة «إن» ، بدليل أنها لا محلّ لها ، وتبعه ابن يسعون ، واستدلّ بقوله [من البسيط] :

٣٨٠ ـ قد أوبيت كلّ ماء فهي ضاوية ،

مهما تصب أفقا من بارق تشم (٥)

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) البيت من الكامل ، وهو لعنترة في ديوانه ص ٢١٣ ، والأزهية ص ٧٩ ، ١٠٣ ، والأشباه والنظائر ٤ / ٣٠٠ ، وخزانة الأدب ٦ / ١٣٠ ـ ١٣٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٨١ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ١ / ٣٢٩.

(٣) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في الأزهية ص ١٠٣ ، وخزانة الأدب ٦ / ١٢٨ ، والدرر ١ / ٣٠٤ ، وشرح شواهد المغني ص ٧٤٢.

(٤) تقدم تخريجه.

(٥) البيت من البسيط ، وهو لساعدة بن جؤبة في خزانة الأدب ٨ / ١٦٣ ـ ١٦٦ والدرر ٥ / ٧٠ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ١٥٠ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١٥٧ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٧ / ٢٦٢.

٢٤٠