شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢
الجزء ١ الجزء ٢

كافِرٍ بِهِ) [البقرة : ٤١] ، فإن (كافِرٍ) نعت لمحذوف مفرد لفظا مجموع معنى ، أي : أول فريق كافر ، ولو لا ذلك لم يقل (كافِرٍ) بالإفراد.

وأشكل من الآيتين قوله تعالى : (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ) [الصافات : ٧ ـ ٨] ولو ظفر بها أبو حيّان لم يعدل إلى الاعتراض ببيت عنترة.

والجواب عنها أنّ جملة (لا يَسَّمَّعُونَ) مستأنفة أخبر بها عن حال «المسترقين» ، لا صفة لـ «كلّ شيطان» ، ولا حال منه ؛ إذ لا معنى للحفظ من شيطان لا يسمع ، وحينئذ فلا يلزم عود الضمير إلى «كلّ» ، ولا إلى ما أضيفت إليه ، وإنما هو عائد إلى الجمع المستفاد من الكلام.

وإن كان «كلّ» مضافة إلى معرفة فقالوا : يجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها ، نحو : «كلهم قائم ، أو قائمون» ، وقد اجتمعتا في قوله تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (٩٥) [مريم : ٩٣ ـ ٩٥]. والصّواب أن الضمير لا يعود إليها من خبرها إلا مفردا مذكّرا على لفظها ، نحو : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [مريم : ٩٥] الآية ، وقوله تعالى فيما يحكيه عنه نبيه عليه الصلاة والسّلام : «يا عبادي كلّكم جائع إلّا من أطعمته» الحديث ، وقوله عليه الصلاة والسّلام : «كلّ النّاس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» ، و «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته» ، و «كلّنا لك عبد». ومن ذلك : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٦] ، وفي الآية حذف مضاف ، وإضمار لما دلّ عليه المعنى لا اللّفظ ، أي أن كلّ أفعال هذه الجوارح كان المكلف مسؤولا عنه ، وإنما قدّرنا المضاف لأن السؤال عن أفعال الحواس ، لا عن أنفسها ، وإنّما لم يقدّر ضمير (كانَ) راجعا لكلّ لئلّا يخلو (مَسْؤُلاً) عن ضمير فيكون حينئذ مسندا إلى (عَنْهُ) كما توهّم بعضهم ، ويردّه أن الفاعل ونائبه لا يتقدّمان على عاملهما ؛ وأمّا (لَقَدْ أَحْصاهُمْ) [مريم : ٩٤] فجملة أجيب بها القسم ، وليست خبرا عن كل ، وضميرها راجع لمن ، لا لكل ، ومن معناها الجمع.

فإن قطعت عن الإضافة لفظا ؛ فقال أبو حيّان : يجوز مراعاة اللفظ نحو : (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) [الإسراء : ٨٤] ، (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) [العنكبوت : ٤٠] ، ومراعاة المعنى ، نحو : (وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) [الأنفال : ٥٤]. والصواب أن المقدّر يكون مفردا نكرة ؛ فيجب الإفراد كما لو صرّح بالمفرد ، ويكون جمعا معرّفا فيجب الجمع ، وإن كانت المعرفة لو

١٢١

ذكرت لوجب الإفراد ، ولكن فعل ذلك تنبيها على حال المحذوف فيهما ، فالأوّل نحو : (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) [الإسراء : ٨٤] ، (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ٢٨٥] ، (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) [النور : ٤١] ، إذ التقدير كلّ أحد ؛ والثاني ، نحو : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) [البقرة : ١١٦] ، (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء : ٣٣] ، (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) [النمل : ٨٧] ، (وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) [الأنفال : ٥٤] ، أي : كلهم.

مسألتان ـ الأولى : قال البيانيون : إذا وقعت «كلّ» في حيّز النفي كان النفي موجّها إلى الشّمول خاصة ، وأفاد بمفهومة ثبوت الفعل لبعض الأفراد ، كقولك : «ما جاء كلّ القوم ، ولم آخذ كلّ الدراهم ، وكل الدراهم لم آخذ» وقوله [من البسيط] :

ما كلّ رأي الفتى يدعو إلى رشد

وقوله [من البسيط] :

١٢٤ ـ ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه

[تأتي الرّياح بما لا تشتهي السّفن](١)

وإن وقع النفي في حيّزها اقتضى السّلب عن كل فرد ، كقوله عليه الصلاة والسّلام ـ لما قال له ذو اليدين : «أنسيت أم قصرت الصلاة» ـ : «كلّ ذلك لم يكن» ، وقول أبي النجم [من الرجز] :

١٢٥ ـ قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي

عليّ ذنبا كلّه لم أصنع (٢)

وقد يشكل على قولهم في القسم الأوّل قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) [الحديد : ٢٣].

وقد صرح الشّلوبين وابن مالك في بيت أبي النّجم بأنه لا فرق في المعنى بين رفع «كلّ» ونصبه ؛ وردّ الشّلوبين على ابن أبي العافية إذ زعم أن بينهما فرقا ، والحقّ ما قاله البيانيّون ، والجواب عن الآية أن دلالة المفهوم إنما يعوّل عليها عند عدم المعارض ، وهو هنا موجود ؛ إذ دلّ الدليل على تحريم الاختيال والفخر مطلقا.

الثانية : «كل» في نحو : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا) [البقرة : ٢٥] ، منصوبة

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، وهو للمتنبي في ديوانه ٤ / ٣٦٦ ، وتاج العروس ١ / ١١٩ في شرح خطبة المصنف.

(٢) البيت من الرجز وهو لأبي الخيار في التبيان في إعراب القرآن ١ / ٢١٨ ، ودلائل الإعجاز ١ / ٢١٥ ، والإيضاح ١ / ٢٩ ، والدرر الكامنة ٦ / ٤٠ ، وبلا نسبة في الخصائص ٣ / ٦١.

١٢٢

على الظرفية باتّفاق ، وناصبها الفعل الذي هو جواب في المعنى مثل : (قالُوا) في الآية ، وجاءتها الظرفية من جهة «ما» ؛ فإنها محتملة لوجهين :

أحدهما : أن تكون حرفا مصدريّا والجملة بعده صلة له ؛ فلا محلّ لها ، والأصل كل رزق ، ثم عبّر عن معنى المصدر بـ «ما» والفعل ، ثم أنيبا عن الزمان ، أي كلّ وقت رزق ، كما أنيب عنه المصدر الصريح في «جئتك خفوق النّجم».

والثاني : أن تكون اسما نكرة بمعنى «وقت» ؛ فلا تحتاج على هذا إلى تقدير وقت ، والجملة بعده في موضع خفض على الصفة ؛ فتحتاج إلى تقدير عائد منها ، أي : كل وقت رزقوا فيه.

ولهذا الوجه مبعد ، وهو ادّعاء حذف الصفة وجوبا ، حيث لم يرد مصرّحا به في شيء من أمثلة هذا التركيب. ومن هنا ضعف قول أبي الحسن في نحو : «أعجبني ما قمت» : إن «ما» اسم ، والأصل : ما قمته ، أي : القيام الذي قمته ، وقوله في «يا أيها الرّجل» : إن «أيّا» موصولة والمعنى : يا من هو الرجل ، فإن هذين العائدين لم يلفظ بهما قطّ ، وهو مبعد عندي أيضا لقول سيبويه في نحو : «سرت طويلا» ، و «ضربت زيدا كثيرا» : إن «طويلا» و «كثيرا» حالان من ضمير المصدر محذوفا ، أي : سرته وضربته ، أي : «السّير» و «الضرب» ، لأن هذا العائد لم يتلفّظ به قط.

فإن قلت : فقد قالوا : «ولا سيّما زيد» بالرّفع ، ولم يقولوا قطّ : «ولا سيما هو زيد».

قلت : هي كلمة واحدة شذّوا فيها بالتزام الحذف ، ويؤنسك بذلك أن فيها شذوذين آخرين : إطلاق «ما» على الواحد ممّن يعقل ، وحذف العائد المرفوع بالابتداء مع قصر الصلة.

وللوجه الأول مقربان : كثرة مجيء الماضي بعدها نحو : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ) [النساء : ٥٦] ، (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) [البقرة : ٢٠] ، (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) [هود : ٣٨] ، (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا) [نوح : ٧] ، وأنّ «ما» المصدريّة التوقيتيّة شرط من حيث المعنى ، فمن هنا احتيج إلى جملتين إحداهما مرتّبة على الأخرى ، ولا يجوز أن تكون شرطيّة مثلها في «ما تفعل أفعل» لأمرين : أن تلك عامة فلا تدخل عليها أداة العموم ، وأنها لا ترد بمعنى الزمان على الأصح.

وإذا قلت : «كلّما استدعيتك فإن زرتني فعبدي حرّ» ، فـ «كلّ» منصوبة أيضا على

١٢٣

الظرفيّة ، ولكن ناصبها محذوف مدلول عليه بجرّ المذكور في الجواب ، وليس العامل المذكور لوقوعه بعد الفاء و «إن» ؛ ولما أشكل ذلك على ابن عصفور قال وقلّده الأبّذيّ : إن «كلّا» في ذلك مرفوعة بالابتداء ، وإن جملتي الشرط والجواب خبرها ، وإن الفاء دخلت في الخبر كما دخلت في نحو : «كلّ رجل يأتيني فله درهم» ؛ وقدّرا في الكلام حذف ضميرين ، أي : كلّما استدعيتك فيه فإن زرتني فعبدي حرّ بعده ؛ لترتبط الصفة بموصوفها والخبر بمبتدئه.

قال أبو حيان : وقولهما مدفوع بأنه لم يسمع «كل» في ذلك إلا منصوبة ، ثم تلا الآيات المذكورة ، وأنشد قوله [من الوافر] :

١٢٦ ـ أبت لي همّتي وأبى بلائي

وأخذي الحمد بالتمني الربيح

١٢٧ ـ وإقحامي على المكروه نفسي

وضربي هامة البطل المشيح

١٢٨ ـ وقولي كلّما جشأت وجاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي (١)

وليس هذا ممّا البحث فيه ، لأنه ليس فيه ما يمنع من العمل.

* (كلا ، وكلتا) : مفردان لفظا مثنّيان معنى ، مضافان أبدا لفظا ومعنى إلى كلمة واحدة معرفة دالّة على اثنين ، إما بالحقيقة والتّنصيص نحو : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ) [الكهف : ٣٣] ، ونحو : (أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) [الإسراء : ٢٣] ، وإما بالحقيقة والاشتراك ، نحو : «كلانا» فإن «نا» مشتركة بين الاثنين والجماعة ، أو بالمجاز كقوله [من الرمل] :

١٢٩ ـ إنّ للخير وللشّرّ مدى

وكلا ذلك وجه وقبل (٢)

فإنّ «ذلك» حقيقة في الواحد ، وأشير بها إلى المثنى على معنى : وكلا ما ذكر ، على حدها في قوله تعالى : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨] وقولنا: «كلمة واحدة» احتراز من قوله [من البسيط] :

١٣٠ ـ كلا أخي وخليلي واجدي عضدا

[وساعدا عند إلمام الملمّات](٣)

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وهو لعمرو بن الإطنابة في المزهر في علوم اللغة ٢ / ٢٦٦ ، والكامل ٣ / ١٨٢.

(٢) البيت من البحر الرمل ، وهو لعبد الله بن الزبعري في ديوانه ص ٤١ ، والأغاني ١٥ / ١٣٦ ، والدرر ٥ / ٢٥ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ١٣٩ وشرح الأشموني ٢ / ٣١٧.

(٣) البيت من البحر البسيط ، وهو بلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ١٤٠ ، والدرر ٣ / ١١٢ وشرح شواهد المغني ص ٥٥٢ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤١٩.

١٢٤

فإنه ضرورة نادرة ؛ وأجاز ابن الأنباري إضافتها إلى المفرد بشرط تكريرها نحو : «كلاي وكلاك محسنان» ؛ وأجاز الكوفيّون إضافتها إلى النكرة المختصّة نحو : «كلا رجلين عندك محسنان» ، فإنّ «رجلين» قد تخصّصا بوصفهما بالظرف. وحكوا «كلتا جاريتين عندك مقطوعة يدها» أي : تاركة للغزل.

ويجوز مراعاة لفظ «كلا» و «كلتا» في الإفراد نحو : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) [الكهف : ٣٣] ، ومراعاة معناهما ، وهو قليل ، وقد اجتمعا في قوله [من البسيط]:

١٣١ ـ كلاهما حين جدّ السّير بينهما

قد أقلعا ، وكلا أنفيهما رابي (١)

ومثل أبو حيان لذلك بقول الأسود بن يعفر [من الكامل] :

١٣٢ ـ إنّ المنيّة والحتوف ، كلاهما

يوفي المنيّة ، يرقبان سوادي (٢)

وليس بمتعيّن ، لجواز كون «يرقبان» خبرا عن المنية والحتوف ، ويكون ما بينهما إما خبرا أول أو اعتراضا ، ثم الصواب في إنشاده «كلاهما يوفي المخارم» ؛ إذ لا يقال إن المنية توفي نفسها.

وقد سئلت قديما عن قول القائل : «زيد وعمرو كلاهما قائم ، أو كلاهما قائمان» أيّهما الصّواب؟ فكتبت : إن قدّر كلاهما توكيدا قيل : «قائمان» ، لأنه خبر عن «زيد» و «عمرو» ؛ وإن قدر مبتدأ فالوجهان ، والمختار الإفراد ؛ وعلى هذا فإذا قيل : «إنّ زيدا وعمرا» فإن قيل «كليهما» قيل : «قائمان» أو «كلاهما» فالوجهان ؛ ويتعيّن مراعاة اللفظ في نحو : «كلاهما محبّ لصاحبه» لأن معناه كل منهما. وقوله [من الطويل] :

١٣٣ ـ كلانا غنيّ عن أخيه حياته

ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا (٣)

* (كيف) : ويقال فيه «كي» كما يقال في «سوف» : «سو» ، قال [من البسيط] :

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، وهو للفرزدق في أسرار العربية ص ٢٨٧ ، وتخليص الشواهد ص ٦٦ ، والخصائص ٣ / ٣١٤ ، والدرر ١ / ١٢٢ ، وهو للفرزدق أو لجرير في لسان العرب ٩ / ١٥٦ مادة (سكف) وبلا نسبة في الإنصاف ص ٤٤٧ ، والخزانة ٤ / ٢٩٩.

(٢) البيت من البحر الكامل ، وهو للأسود بن يعفر في ديوانه ص ٢٦ ، وخزانة الأدب ٧ / ٥٧٥ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٥٥٣.

(٣) البيت من البحر الطويل ، وهو للأبيرد الرياحي في الأغاني ١٣ / ١٢٧ ، ولعبد الله بن معاوية بن جعفر في الحماسة الشجرية ١ / ٢٥٣ وللمغيرة بن حبناء التيمي في الدرر ٥ / ٢٤ ، ولعبد الله بن معاوية أو للأبيرد الرياحي في شرح شواهد المغني ٢ / ٥٥٥ ، وبل نسبة في أوضح المسالك ٣ / ١٣٨.

١٢٥

١٣٤ ـ كي تجنحون إلى سلم وما ثئرت

قتلاكم ولظى الهيجاء تضطرم؟ (١)

وهو اسم ، لدخول الجارّ عليه بلا تأويل في قولهم : «على كيف تبيع الأحمرين» ، ولإبدال الاسم الصّريح منه نحو : «كيف أنت؟ أصحيح أم سقيم؟» وللإخبار به مع مباشرته الفعل في نحو : «كيف كنت؟» فبالإخبار به انتفت الحرفيّة ، وبمباشرة الفعل انتفت الفعليّة.

وتستعمل على وجهين :

أحدهما : أن تكون شرطا : فتقتضي فعلين متّفقي اللفظ والمعنى ، غير مجزومين ، نحو : «كيف تصنع أصنع» ، ولا يجوز : «كيف تجلس أذهب» باتّفاق ، ولا «كيف تجلس أجلس» بالجزم عند البصريين إلا قطربا ، لمخالفتها لأدوات الشرط بوجوب موافقة جوابها لشرطها كما مرّ. وقيل : يجوز مطلقا ، وإليه ذهب قطرب والكوفيّون. وقيل : يجوز بشرط اقترانها بـ «ما». قالوا : ومن ورودها شرطا (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) [المائدة : ٦٤] ، (يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) [آل عمران : ٦] ، (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) [الروم : ٤٨] ، وجوابها في ذلك كلّه محذوف لدلالة ما قبلها ، وهذا يشكل على إطلاقهم أنّ جوابها يجب مماثلته لشرطها.

والثاني ، وهو الغالب فيها : أن تكون استفهاما ، إمّا حقيقيّا نحو : «كيف زيد» أو غيره ، نحو : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) [البقرة : ٢٨] الآية ، فإنه أخرج مخرج التعجّب.

وتقع خبرا قبل ما لا يستغني ، نحو : «كيف أنت» و «كيف كنت» ومنه «كيف ظننت زيدا» ، و «كيف أعلمته فرسك» ، لأن ثاني مفعولي «ظنّ» وثالث مفعولات «أعلم» خبران في الأصل ، وحالا قبل ما يستغني ، نحو : «كيف جاء زيدا؟» أي : على أي حالة جاء زيد. وعندي أنّها تأتي في هذا النوع مفعولا مطلقا أيضا ، وأن منه : (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ) [الفيل : ١] إذ المعنى : أيّ فعل فعل ربك ، ولا يتّجه فيه أن يكون حالا من الفاعل ، ومثله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) [النساء : ٤١] أي : فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد يصنعون ، ثم حذف عاملها مؤخرا عنها وعن «إذا» ، كذا قيل ؛ والأظهر أن يقدر بين «كيف» و «إذا» ، وتقدّر «إذا» خالية عن معنى الشّرط ؛ وأما (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، وهو بلا نسبة في الجنى الداني ص ٢٦٥ ، وجواهر الأدب ص ٢٣٣ ، وخزانة الأدب ٧ / ١٠٦ ، والدرر ٣ / ١٣٥.

١٢٦

عَلَيْكُمْ) [التوبة : ٨] فالمعنى : كيف يكون لهم عهد وحالهم كذا وكذا ، فـ «كيف» : حال من «عهد» ، إما على أنّ «يكون» تامة أو ناقصة وقلنا بدلالتها على الحدث ، وجملة الشرط حال من ضمير الجمع.

وعن سيبويه أنّ «كيف» ظرف ، وعن السيرافي والأخفش أنها اسم غير ظرف. وبنوا على هذا الخلاف أمورا :

أحدها : أن موضعها عند سيبويه نصب دائما ، وعندهما رفع مع المبتدأ ، نصب مع غيره.

الثاني : أن تقديرها عند سيبويه : في أيّ حال ، أو على أي حال ، وعندهما تقديرها في نحو : «كيف زيد» : أصحيح زيد ، ونحوه ، وفي نحو «كيف جاء زيد» : أراكبا جاء زيد ، ونحوه.

والثالث : أن الجواب المطابق عند سيبويه أن يقال : «على خير» ونحوه ، ولهذا قال رؤبة ـ وقد قيل له : كيف أصبحت ـ : «خير عافاك الله» أي على خير ، فحذف الجار وأبقى عمله ؛ فإن أجيب على المعنى دون اللفظ قيل : صحيح ، أو سقيم.

وعندهما على العكس ، وقال ابن مالك ما معناه : لم يقل أحد إن «كيف» ظرف ، إذ ليست زمانا ولا مكانا ، ولكنها لما كانت تفسّر بقولك : «على أي حال» لكونها سؤالا عن الأحوال العامّة سميت ظرفا ، لأنها في تأويل الجار والمجرور ، واسم الظرف يطلق عليها مجازا ا ه.

وهو حسن ، ويؤيّده الإجماع على أنه يقال في البدل : كيف أنت؟ أصحيح أم سقيم ـ بالرفع ـ ولا يبدل المرفوع من المنصوب.

تنبيه ـ قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (١٧) [الغاشية : ١٧] لا تكون «كيف» بدلا من الإبل ، لأن دخول الجار على «كيف» شاذّ ، على أنه لم يسمع في «إلى» ؛ بل في «على» ، ولأن «إلى» متعلّقة بما قبلها ؛ فيلزم أن يعمل في الاستفهام فعل متقدّم عليه ، ولأن الجملة التي بعدها تصير حينئذ غير مرتبطة ، وإنما هي منصوبة بما بعدها على الحال ، وفعل النظر معلق ، وهي وما بعدها بدل من الإبل بدل اشتمال ، والمعنى إلى الإبل كيفيّة خلقها ؛ ومثله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) [الفرقان : ٤٥] ؛ ومثلهما في إبدال جملة فيها كيف من اسم مفرد قوله [من الطويل] :

١٢٧

١٣٥ ـ إلى الله أشكو بالمدينة حاجة ،

وبالشّام أخرى ، كيف يلتقيان (١)

أي أشكو هاتين الحاجتين تعذّر التقائهما.

مسألة ـ زعم قوم أن «كيف» تأتي عاطفة ، فمن زعم ذلك عيسى بن موهب ، ذكره في كتاب العلل ، وأنشد عليه [من الطويل] :

١٣٦ ـ إذا قلّ مال المرء لانت قناته ،

وهان على الأدنى ، فكيف الأباعد (٢)

وهذا خطأ ، لاقترانها بالفاء ، وإنما هي هنا اسم مرفوع المحل على الخبريّة ، ثم يحتمل أن «الأباعد» مجرور بإضافة مبتدأ محذوف ، أي : فكيف حال الأباعد ، فحذف المبتدأ على حد قراءة ابن جماز : (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الأنفال : ٦٧] أو بتقدير : فكيف الهوان على الأباعد ، فحذف المبتدأ والجار ، أو بالعطف بالفاء ، ثم أقحمت «كيف» بين العاطف والمعطوف لإفادة الأولويّة بالحكم.

* * *

ـ حرف اللام ـ

* (اللام المفردة) ثلاثة أقسام : عاملة للجرّ ، وعاملة للجزم ، وغير عاملة. وليس في القسمة أن تكون عاملة للنصب ، خلافا للكوفيّين ، وسيأتي.

فالعاملة للجر مكسورة مع كل ظاهر ، نحو : «لزيد» ، و «لعمرو» ، إلّا من المستغاث المباشر لـ «يا» فمفتوحة ، نحو : «يا لله». وأما قراءة بعضهم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] وغيرها كثير. بضمها فهو عارض للإتباع ، ومفتوحة مع كل مضمر نحو : «لنا» ، و «لكم» ، و «لهم» ، إلا مع ياء المتكلّم فمكسورة.

وإذا قيل : «يا لك» ، و «يا لي» احتمل كلّ منهما أن يكون مستغاثا به ، وأن يكون مستغاثا من أجله ، وقد أجازهما ابن جنّي في قوله [من الطويل] :

١٣٧ ـ فيا شوق ما أبقى ، ويا لي من النّوى

[ويا دمع ما أجرى ويا قلب ما أصبى](٣)

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو بلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ٤٠٨ ، ونفخ الطيب ١ / ٦٧.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو بلا نسبة في الدرر ٦ / ١٤٧ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٥٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٣٨.

(٣) البيت من الطويل ، وهو للمتنبي في ديوانه ١ / ١٨٥ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ٢ / ٤٦١.

١٢٨

وأوجب ابن عصفور في «يا لي» أن يكون مستغاثا من أجله ، لأنه لو كان مستغاثا به لكان التّقدير : يا أدعو لي ، وذلك غير جائز في غير باب «ظننت» و «فقدت» و «عدمت» ؛ وهذا لازم له ، لا لابن جني ، لما سأذكره بعد.

ومن العرب من يفتح اللام الدّاخلة على الفعل ويقرأ : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) [الأنفال : ٣٣] وللام الجارّة اثنان وعشرون معنى :

أحدها : الاستحقاق ، وهي الواقعة بين معنى وذات ، نحو : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] وغيرها كثير ، و «العزة لله» ، و «الملك لله» ، و «الأمر لله» ، ونحو : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١) [المطففون : ١] ، و (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) [البقرة : ١١٤ والمائدة : ٤١] ، ومنه «للكافرين النار» أي عذابها.

والثاني : الاختصاص ، نحو : «الجنة للمؤمنين» ، و «هذا الحصير للمسجد» ، و «المنبر للخطيب» ، و «السّرج للدابّة» ، و «القميص للعبد» ، ونحو (إِنَّ لَهُ أَباً) [يوسف : ٧٨] ، (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) [النساء : ١١] ، وقولك : «هذا الشعر لحبيب» ، وقولك : «أدم لك ما تدوم لي».

والثالث : الملك : نحو : (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [البقرة : ٢٥٥] وغيرها ، وبعضهم يستغني بذكر الاختصاص عن ذكر المعنيين الآخرين ، ويمثل له بالأمثلة المذكورة ونحوها ، ويرجّحه أنّ فيه تقليلا للاشتراك ، وأنه إذا قيل : «هذا المال لزيد والمسجد» لزم القول بأنها للاختصاص مع كون «زيد» قابلا للملك ، لئلا يلزم استعمال المشترك في معنييه دفعة ، وأكثرهم يمنعه.

الرابع : التمليك ، نحو : «وهبت لزيد دينارا».

الخامس : شبه التمليك ، نحو : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) [النحل : ٧٢ والشورى : ١١].

السادس : التعليل ، كقوله [من الطويل] :

١٣٨ ـ ويوم عقرت للعذارى مطيّتي

[فيا عجبا من كورها المتحمّل](١)

وقوله تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) (١) [قريش : ١] وتعلّقها بـ «فليعبدوا» ؛ وقيل : بما

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٥٨ ، وتهذيب اللغة ١ / ٢١٨ ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ٣٤٩ ـ ٤٤٧.

١٢٩

قبله ، أي : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) [الفيل : ٥ وقريش : ١] ، ورجّح بأنهما في مصحف أبيّ سورةواحدة ، وضعف بأن «جعلهم كعصف» إنما كان لكفرهم وجرأتهم على البيت ؛ وقيل : متعلّقة بمحذوف تقديره ، اعجبوا ، وكقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (٨) [العاديات : ٨] أي : وإنه من أجل حبّ المال لبخيل ، وقراءة حمزة (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) الآية [آل عمران : ٨١] ، أي : لأجل إيتائي إيّاكم بعض الكتاب والحكمة ثم لمجيء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مصدّقا لما معكم لتؤمنن به. فـ «ما» : مصدريّة فيهما ، واللام تعليليّة ، وتعلّقت بالجواب المؤخّر على الاتّساع في الظّرف ، كما قال الأعشى [من الطويل] :

١٣٩ ـ رضيعي لبان ثدي أمّ تحالفا

بأسحم داج عوض لا نتفرّق (١)

ويجوز كون «ما» موصولا اسميّا.

فإن قلت : فأين العائد في (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ؟) [آل عمران : ٨١].

قلت : إن (لِما مَعَكُمْ) [آل عمران : ٨١] هو نفس (لَما آتَيْتُكُمْ) [آل عمران : ٨١] فكأنه قيل : مصدق له ؛ وقد يضعف هذا لقلّته نحو قوله [من الطويل] :

١٤٠ ـ [فيا ربّ أنت الله في كلّ موطن]

وأنت الّذي في رحمة الله أطمع (٢)

وقد يرجّح بأن الثواني يتسامح فيها كثيرا ، وأما قراءة الباقين بالفتح فاللام لام التوطئة ، و «ما» شرطيّة ، أو اللام للابتداء ، و «ما» موصولة ، أي : الذي آتيتكموه ، وهي مفعولة على الأول ، ومبتدأ على الثاني.

ومن ذلك قراءة حمزة والكسائي : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) [السجدة : ٢٤] بكسر اللام ، ومنها اللام الثانية في نحو : «يا لزيد لعمرو» وتعلّقها بمحذوف ، وهو فعل من جملة مستقلّة ، أي : أدعوك لعمرو ، أو اسم هو حال من المنادى ، أي : مدعوّا لعمرو ، قولان ، ولم يطّلع ابن عصفور على الثاني فنقل الإجماع على الأول.

ومنها اللام الدّاخلة لفظا على المضارع في نحو : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) [النحل : ٤٤] ، وانتصاب الفعل بعدها بـ «أن» مضمرة بعينها وفاقا للجمهور ، لا ب

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو للأعمش في ديوانه ص ٢٧٥ ، والأغاني ٩ / ١١١ ، وخزانة الأدب ٧ / ١٣٨ ، وبلا نسبة في الاشتقاق ص ٢٤٠ ، وهمع الهوامع ١ / ٢١٣.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو للمجنون في الدرر ١ / ٢٨٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٥٩ ، والمقاصد النحوية ١ / ٤٩٧ وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ٦٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٨٧.

١٣٠

«أن» مضمرة أو بـ «كي» المصدريّة مضمرة خلافا للسيرافي وابن كيسان ، ولا باللّام بطريق الأصالة خلافا لأكثر الكوفيّين ، ولا بها لنيابتها عن «أن» خلافا لثعلب ؛ ولك إظهار «أن» فتقول : «جئتك لأن تكرمني» ، بل قد يجب ، وذلك إذا اقترن الفعل بـ «لا» نحو : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) [البقرة : ١٥٠] ، لئلّا يحصل الثقل بالتقاء المثلين.

فرع

أجاز أبو الحسن أن يتلقّى القسم بلام «كي» ، وجعل منه (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) [التوبة : ٦٢] ، فقال : المعنى ليرضنّكم ، قال أبو علي : وهذا عندي أولى من أن يكون متعلقا بـ «يحلفون» ، والمقسم عليه محذوف ، وأنشد أبو الحسن [من الطويل] :

١٤١ ـ إذا قلت قدني قال بالله ، حلفة

لتغني عنّي ذا إنائك أجمعا (١)

والجماعة يأبون هذا ؛ لأنّ القسم إنما يجاب بالجملة ، ويروون البيت «لتغننّ» بفتح اللام ، ونون التوكيد ، وذلك على لغة فزارة في حذف آخر الفعل لأجل النّون إن كان ياء تلي كسرة كقوله [من البسيط] :

١٤٢ ـ وابكن عيشا تقضّى بعد جدّته

طابت أصائله في ذلك البلد (٢)

وقدّروا الجواب محذوفا واللام متعلّقة به ، أي : ليكون كذا ليرضوكم ، ولتشربنّ لتغني عني.

السابع : توكيد النفي ، وهي الداخلة في اللفظ على الفعل مسبوقة بـ «ما كان» أو بـ «لم يكن» ناقصتين مسندتين لما أسند إليه الفعل المقرون باللام ، نحو : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران : ١٧٩] ، (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) [النساء : ١٣٧] ، ويسمّيها أكثرهم لام الجحود لملازمتها للجحد أي النّفي. قال النحاس : والصواب تسميتها لام النفي ، لأن الجحد في اللغة إنكار ما تعرفه ، لا مطلق الإنكار ، ا ه.

ووجه التّوكيد فيها عند الكوفيّين أن أصل «ما كان ليفعل» : ما كان يفعل ، ثمّ أدخلت اللام زيادة لتقوية النفي ، كما أدخلت الباء في «ما زيد بقائم» ، لذلك ؛ فعندهم أنّها حرف زائد مؤكّد ، غير جارّ ، ولكنّه ناصب ، ولو كان جارّا لم يتعلّق عندهم بشيء

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو بلا نسبة في أساس البلاغة مادة (ضلع).

(٢) البيت من البحر البسيط ، وهو بلا نسبة في خزانة الأدب ١١ / ٤٣٥ ، والدرر ٥ / ١٧٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٦١.

١٣١

لزيادته ، فكيف به وهو غير جارّ؟ ووجهه عند البصريّين أن الأصل ما كان قاصدا للفعل ، ونفي القصد أبلغ من نفيه ، ولهذا كان قوله [من الكامل] :

١٤٣ ـ يا عاذلاتي لا تردن ملامتي

إنّ العواذل لسن لي بأمير (١)

أبلغ من «لا تلمنني» لأنه نهي عن السّبب ، وعلى هذا فهي عندهم حرف جرّ متعلّق بخبر «كان» المحذوف ، والنصب بـ «أن» مضمرة وجوبا.

وزعم كثير من الناس في قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) [إبراهيم : ٤٦] ، في قراءة غير الكسائي بكسر اللام الأولى وفتح الثانية ، أنّها لام الجحود.

وفيه نظر ؛ لأنّ النافي على هذا غير «ما» و «لم» ، ولاختلاف فاعلي «كان» و «تزول» ، والذي يظهر لي أنها لام «كي» ، وأنّ «إن» شرطية ، أي : وعند الله جزاء مكرهم وهو مكر أعظم منه ، وإن كان مكرهم لشدّته معدّا لأجل زوال الأمور العظام المشبهة في عظمها بالجبال ، كما تقول : أنا أشجع من فلان وإن كان معدّا للنوازل.

وقد تحذف «كان» قبل لام الجحود كقوله [من الوافر] :

١٤٤ ـ فما جمع ليغلب جمع قومي

مقاومة ، ولا فرد لفرد (٢)

أي : فما كان جمع ، وقول أبي الدّرداء رضي‌الله‌عنه في الرّكعتين بعد العصر : «ما أنا لأدعهما».

والثامن : موافقة «إلى» ، نحو قوله تعالى : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) (٥) [الزلزلة : ٥] ، (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) [الرعد : ٢] ، (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨].

والتاسع : موافقة «على» في الاستعلاء الحقيقي ، نحو : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) [الإسراء : ١٠٩] ، (دَعانا لِجَنْبِهِ) [يونس : ١٢] ، (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات : ١٠٣] ، وقوله [من الطويل] :

١٤٥ ـ [ضممت إليه بالسّنان قميصه]

فخرّ صريعا لليدين وللفم (٣)

والمجازي ، نحو : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] ، ونحو قوله عليه الصلاة والسّلام

__________________

(١) البيت من البحر الكامل ، وهو بلا نسبة في الخصائص ٣ / ١٧٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٦١.

(٢) البيت من البحر الوافر ، وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر ٤ / ١١٠ ، تذكرة النحاة ص ٥٦٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٢٦.

(٣) البيت من البحر الطويل ، وهو لمالك الأشتر في فصل المقال ص ٣١٣.

١٣٢

لعائشة رضي‌الله‌عنها : «اشترطي لهم الولاء». وقال النحاس : المعنى من أجلهم ، قال : ولا نعرف في العربية «لهم» بمعنى «عليهم».

والعاشر : موافقة «في» نحو : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأنبياء : ٤٧] ، (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) [الأعراف : ١٨٧] ، وقولهم : «مضى لسبيله» ؛ قيل : ومنه (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) [الفجر : ٢٤] ، أي : في حياتي ؛ وقيل : للتعليل ، أي : لأجل حياتي في الآخرة.

والحادي عشر : أن تكون بمعنى «عند» ، كقولهم : «كتبته لخمس خلون». وجعل منه ابن جنّي قراءة الجحدري : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) [ق : ٥] بكسر اللام وتخفيف الميم.

والثاني عشر : موافقة «بعد» نحو : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] ، وفي الحديث : «صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته» ، وقال [من الطويل] :

١٤٦ ـ فلمّا تفرّقنا كأنّي ومالكا

لطول اجتماع لم نبت ليلة معا (١)

والثالث عشر : موافقة «مع» ، قاله بعضهم ، وأنشد عليه هذا البيت.

والرابع عشر : موافقة «من» ، نحو : «سمعت له صراخا» ، وقول جرير [من الطويل] :

١٤٧ ـ لنا الفضل في الدّنيا ، وأنفك راغم

ونحن لكم يوم القيامة أفضل (٢)

والخامس عشر : التبليغ ، وهي الجارّة لاسم السّامع لقول أو ما في معناه ، نحو : «قلت له» ، و «أذنت له» ، و «فسّرت له».

والسادس عشر : موافقة «عن» ، نحو قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١] قاله ابن الحاجب. وقال ابن مالك وغيره : هي لام التعليل ؛ وقيل : لام التبليغ ، والتفت عن الخطاب إلى الغيبة ؛ أو يكون اسم المقول لهم محذوفا ، أي : قالوا لطائفة من المؤمنين لما سمعوا بإسلام طائفة أخرى. وحيث دخلت

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لمتم بن نويرة في ديوانه ص ١٢٢ ، وجمهرة اللغة ص ١٣١٦ ، وخزانة الأدب ٨ / ٢٧٢ ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ٢٢٣ ، ولسان العرب ١٢ / ٥٦٤ مادة (لوم).

(٢) البيت من الطويل ، وهو لجرير في ديوانه ص ١٤٣ ، وخزانة الأدب ٩ / ٤٨٠ ، والدرر ٤ / ١٦٩ ، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ٧٥ ، وشرح الأشموني ٢ / ٢٩١.

١٣٣

اللام على غير المقول له فالتأويل على بعض ما ذكرناه ، نحو : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) [الأعراف : ٣٨] ، (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) [هود : ٣١] ، وقوله [من الكامل] :

١٤٨ ـ كضرائر الحسناء قلن لوجهها ،

حسدا وبغضا : إنّه لدميم (١)

السابع عشر : الصيرورة ، وتسمى لام العاقبة ولام المآل ، نحو : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] ، وقوله [من الطويل] :

١٤٩ ـ فللموت تغذو الوالدات سخالها ،

كما لخراب الدّور تبنى المساكن

وقوله [من المتقارب] :

١٥٠ ـ فإن يكن الموت أفناهم ،

فللموت ما تلد الوالده (٢)

ويحتمله (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) [يونس : ٨٨] ، ويحتمل أنها لام الدعاء ؛ فيكون الفعل مجزوما لا منصوبا ، ومثله في الدعاء : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) [نوح : ٢٤] ، ويؤيّده أن في آخر الآية (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا) [يونس : ٨٨].

وأنكر البصريون ومن تابعهم لام العاقبة ، قال الزمخشريّ : والتحقيق أنها لام العلّة ، وأن التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون الحقيقة ، وبيانه أنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدوّا وحزنا ، بل المحبة والتبنيّ ، غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته شبّه الداعي الذي يفعل الفعل لأجله ؛ فاللام مستعارة لما يشبه التعليل كما استعير الأسد لمن يشبه الأسد.

الثامن عشر : القسم والتعجّب معا ، وتختص باسم الله تعالى كقوله [من البسيط]:

١٥١ ـ لله يبقى على الأيّام ذو حيد

[بمشمخرّ به الظّيّان والآس](٣)

__________________

(١) البيت من البحر الكامل ، وهو لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص ٤٠٣ ، وخزانة الأدب ٨ / ٥٦٧ والدرر ٤ / ١٧٠ ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ٣٦٠ ، ولسان العرب ١٢ / ٢٠٨ مادة (مم).

(٢) البيت من البحر المتقارب ، وهو لخويلد في أساس البلاغة مادة (ملح).

(٣) البيت من البحر البسيط ، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في شرح شواهد الإيضاح ص ٥٤٤. وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٧٤ ، في لسان العرب مادة (ظين) ، وتاج العروس مادة (ظين) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٦ / ٢٣ ، والجنى الداني ص ٩٨.

١٣٤

والتاسع عشر : التعجب المجرّد عن القسم ، وتستعمل في النداء كقولهم : «يا للماء» و «يا للعشب» إذا تعجّبوا من كثرتهما ، وقوله [من الطويل] :

١٥٢ ـ فيا لك من ليل كأنّ نجومه ،

بكلّ مغار الفتل ، شدّت بيذبل (١)

وقولهم : «يا لك رجلا عالما» ، وفي غيره ، كقولهم : «لله درّه فارسا ، ولله أنت» ، وقوله [من الطويل] :

١٥٣ ـ شباب وشيب وافتقار وثروة

فلله هذا الدّهر كيف تردّدا (٢)

المتمم عشرين : التّعدية ، ذكره ابن مالك في الكافية ، ومثّل له في شرحها بقوله تعالى : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) [مريم : ٥] ، وفي الخلاصة ؛ ومثّل له ابنه بالآية ، وبقولك : «قلت له افعل كذا» ، ولم يذكره في التسهيل ولا في شرحه ، بل في شرحه أنّ اللام في الآية لشبه التّمليك ، وأنها في المثال للتبليغ ، والأولى عندي أن يمثّل للتّعدية بنحو : «ما أضرب زيدا لعمرو ، وما أحبّه لبكر».

الحادي والعشرون : التوكيد ، وهي اللام الزائدة ، وهي أنواع : منها اللام المعترضة بين الفعل المتعدّي ومفعوله ، كقوله [من الطويل] :

١٥٤ ـ ومن يك ذا عظم صليب ، رجا به

ليكسر عود الدّهر ، فالدّهر كاسره (٣)

وقوله [من الكامل] :

١٥٥ ـ وملكت ما بين العراق ويثرب

ملكا أجار لمسلم ومعاهد (٤)

وليه منه (رَدِفَ لَكُمْ) [النمل : ٧٢] خلافا للمبرّد ومن وافقه ، بل ضمّن «ردف» معنى «القرب» فهو مثل : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [الأنبياء : ١].

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١٩ ، وخزانة الأدب ٢ / ٤١٢ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٦٩ ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ٢٢٠ ، وشرح الأشموني ٢ / ٢٩١.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو للأعمش في ديوانه ص ١٨٥ ، وشرح المغني ٢ / ٥٧٥ ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٩٨ وشرح الأشموني ٢ / ٢٩١.

(٣) البيت من البحر الطويل ، وهو لنصيب في البيان والتبيين ٣ / ٧٠ وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٧٩ ، ولتوبة بن الحمير في المؤتلف والمختلف ص ٦٨ ، وبلا نسبة في البيان والتبيين ٤ / ٩١.

(٤) البيت من البحر الكامل وهو لابن ميادة في الأغاني ٢ / ٢٨٨ ، والدرر ٤ / ١٧٠ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ٢٩ ، وهمع الهوامع ٢ / ٣٢ ـ ١٥٧.

١٣٥

واختلف في اللام من نحو : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) [النساء : ٢٦] ، (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [الأنعام : ٧١] ، وقول الشاعر [من الطويل] :

١٥٦ ـ أريد لأنسى ذكرها ، فكأنّما

تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل (١)

فقيل : زائدة ، وقيل : للتّعليل ؛ ثم اختلف هؤلاء ، فقيل : المفعول محذوف ، أي : يريد الله التبيين ليبيّن لكم ويهديكم : أي ليجمع لكم بين الأمرين ، وأمرنا بما أمرنا به لنسلم ، وأريد السلوّ لأنسى. وقال الخليل وسيبويه ومن تابعهما : الفعل في ذلك كله مقدّر بمصدر مرفوع بالابتداء ، واللام وما بعدها خبر ، أي : إرادة الله للتّبيين ، وأمرنا للإسلام ، وعلى هذا فلا مفعول للفعل.

ومنها اللام المسمّاة بالمقحمة ، وهي المعترضة بين المتضايفين ، وذلك في قولهم : «يا بؤس للحرب» ، والأصل : يا بؤس الحرب ، فأقحمت تقوية للاختصاص ، قال [من مجزوء الكامل] :

١٥٧ ـ يا بؤس للحرب الّتي

وضعت أراهط فاستراحوا (٢)

وهل انجرار ما بعدها بها أو بالمضاف؟ قولان ، أرجحهما الأوّل ، لأن اللام أقرب ، ولأن الجارّ لا يعلّق.

ومن ذلك قولهم : «لا أبا لزيد ، ولا أخا له ، ولا غلامي له» على قول سيبويه إن اسم «لا» مضاف لما بعد اللام ، وأما على قول من جعل اللام وما بعدها صفة وجعل الاسم شبيها بالمضاف لأن الصفة من تمام الموصوف ، وعلى قول من جعلهما خبرا وجعل «أبا» و «أخا» على لغة من قال [من الرجز] :

١٥٨ ـ إنّ أباها وأبا أباها

[قد بلغا في المجد غايتاها](٣)

وقولهم : «مكره أخاك لا بطل» ، وجعل حذف النون على وجه الشذوذ ، كقوله [من الرجز] :

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لكثير عزة في ديوانه ص ١٠٨ ، والأغاني ٤ / ٢٦٧ ـ ٢٦٨ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٣٢٩ وبلا نسبة في رصف المباني ص ٢٤٦ واللامات ص ١٣٨.

(٢) البيت من مجزوء الكامل ، وهو لسعد بن مالك في خزانة الأدب ١ / ٤٦٨ ـ ٤٧٣ ، والمؤتلف المختلف ١٣٤ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٤ / ٣٠٧ ، وجواهر الأدب ص ٢٤٣.

(٣) البيت من الرجز ، وهو لابن الوردي في خزانة الأدب ٢ / ٣٣٦ ، وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب ٢ / ٧٠٥ ، ووفيات الأعيان ٥ / ٤١٣.

١٣٦

بيضك ثنتا وبيضي مائتا

فاللام للاختصاص ، وهي متعلّقة باستقرار محذوف.

ومنها اللام المسمّاة لام التقوية ، وهي المزيدة لتقوية عامل ضعف : إما بتأخّره نحو : (هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الأعراف : ١٥٤] ، ونحو : (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) [يوسف : ٤٣] ، أو بكونه فرعا في العمل ، نحو : (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) [البقرة : ٩١] ، (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [البروج : ١٦ ، وهود : ١٠٧] ، (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) (١٦) [المعارج : ١٦] ، وقوله [من الطويل] :

١٥٩ ـ إذا ما صنعت الزّاد فالتمسي له

أكيلا ، فإنّي لست آكلة وحدي (١)

وفيه نظر ؛ لأن «عدوا» و «أكيلا» ـ وإن كانا بمعنى «معاد» و «مؤاكل» ـ لا ينصبان المفعول ، لأنهما موضوعان للثّبوت ، وليسا مجاريين للفعل في التحرّك والسكون ، ولا محوّلان عمّا هو مجاز له ، لأن التحويل إنما هو ثابت في الصّيغ التي يراد بها المبالغة ، وإنما اللّام في البيت للتعليل ، وهي متعلّقة بـ «التمسي» ، وفي الآية متعلّقة بمستقر محذوف صفة لـ «عدو» ، وهي للاختصاص.

وقد اجتمع التأخّر والفرعيّة في : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) [الأنبياء : ٧٨] ، وأما قوله تعالى : (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) (٣٦) [المدثر : ٣٦] ، فإن كان «النذير» بمعنى «المنذر» فهو مثل (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [البروج : ١٦] ، وإن كان بمعنى «الإنذار» فاللام مثلها في «سقيا لزيد» وسيأتي.

قال ابن مالك : ولا تزاد لام التّقوية مع عامل يتعدّى لاثنين ، لأنها إن زيدت في مفعوليه فلا يتعدّى فعل إلى اثنين بحرف واحد ؛ وإن زيدت في أحدهما لزم ترجيح من غير مرجّح ، وهذا الأخير ممنوع ، لأنه إذا تقدّم أحدهما دون الآخر وزيدت اللام في المقدّم لم يلزم ذلك. وقد قال الفارسي في قراءة من قرأ : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) [البقرة : ١٤٨] بإضافة «كلّ» : إنه من هذا ، وإن المعنى : الله مولّ كلّ ذي وجهة وجهته ، والضمير على هذا للتّولية ، وإنما لم يجعل كلّا والضمير مفعولين ، ويستغني عن حذف ذي ووجهته لئلّا يتعدّى العامل إلى الضمير وظاهره معا ؛ ولهذا قالوا في الهاء من قوله [من البسيط] :

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لحاتم الطائي في ديوانه ص ٢٩٥ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٨٥ ، ولقيس بن عاصم المنقري في الأغاني ١٤ / ٦٥ ، وبلا نسبة في لسان العرب ١٤ / ٣٠١ مادة (رأي).

١٣٧

١٦٠ ـ هذا سراقة للقرآن يدرسه

يقطّع اللّيل تسبيحا وقرآنا (١)

إن الهاء مفعول مطلق لا ضمير القرآن. وقد دخلت اللّام على أحد المفعولين مع تأخّرهما في قول ليلى [من الطويل] :

١٦١ ـ أحجّاج لا تعطي العصاة مناهم ،

ولا الله يعطي للعصاة مناها (٢)

وهو شاذ ، لقوة العامل.

ومنها لام المستغاث عند المبرّد ، واختاره ابن خروف ، بدليل صحّة إسقاطها. وقال جماعة : غير زائدة ، ثم اختلفوا ؛ فقال ابن جني : متعلّقة بحرف النداء لما فيه من معنى الفعل ، وردّ بأن معنى الحرف لا يعمل في المجرور ، وفيه نظر ؛ لأنه قد عمل في الحال نحو قوله [من الطويل] :

١٦٢ ـ كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي (٣)

وقال الأكثرون : متعلّقة بفعل النداء المحذوف ، واختاره ابن الضّائع وابن عصفور ، ونسباه لسيبويه ، واعترض بأنه متعدّ بنفسه ، فأجاب ابن أبي الربيع بأنه ضمّن معنى الالتجاء في نحو : «يا لزيد» ، والتعجب في نحو : «يا للدواهي» ؛ وأجاب ابن عصفور وجماعة بأنّه ضعف بالتزام الحذف فقوي تعدّيه باللام ، واقتصر على إيراد هذا الجواب أبو حيّان ، وفيه نظر ؛ لأن اللام المقوّية زائدة كما تقدّم ، وهؤلاء لا يقولون بالزيادة.

فإن قلت : وأيضا فإن اللّام لا تدخل في نحو : «زيدا ضربته» مع أن الناصب ملتزم الحذف.

قلت : لما ذكر في اللفظ ما هو عوض منه كان بمنزلة ما لم يحذف.

فإن قلت : وكذلك حرف النّداء عوض من فعل النّداء.

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، وهو برواية صدره رواية مختلفة لحسان بن ثابت في ديوانه ص ٢١٦ ولسان العرب ١٣ / ٣٩٤ مادة (عنن) ، ولكثير بن عبد الله النهشلي في الدرر ٥ / ٢١٤ ، ولأوس بن ثغراء في خزانة الأدب ٩ / ٤١٨ ، وبلا نسبة في إصلاح المنطق ص ٢٩٠.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو لليلى الأخيلية في ديوانها ص ١٢٢ ، والدرر ٤ / ١٧٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٨٨ ، وبلا نسبة في شرح التصريح ٢ / ١١.

(٣) البيت من البحر الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٣٨ ، وشرح التصريح ١ / ٣٨٢ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٧ / ٦٤ ، وأوضح المسالك ٢ / ٣٢٩.

١٣٨

قلت : إنما هو كالعوض ، ولو كان عوضا ألبتة لم يجز حذفه ، ثم إنه ليس بلفظ المحذوف ، فلم ينزّل منزلته من كل وجه.

وزعم الكوفيّون أن اللام في المستغاث بقيّة اسم وهو «آل» ، والأصل : يا آل زيد ، ثم حذفت همزة «آل» للتّخفيف ، وإحدى الألفين لالتّقاء الساكنين ، واستدلّوا بقوله [من الوافر] :

١٦٣ ـ فخير نحن عند النّاس منكم

إذا الدّاعي المثوّب قال يا لا (١)

فإن الجار لا يقتصر عليه ، وأجيب بأن الأصل : يا قوم لا فرار ، أو لا نفرّ ، فحذف ما بعد «لا» النافية ، أو الأصل : يا لفلان ثم حذف ما بعد الحرف كما يقال : «ألا تا» ، فيقال «ألا فا» يريدون : ألا تفعلون ، وألا فافعلوا.

تنبيه ـ إذا قيل «يا لزيد» بفتح اللام فهو مستغاث ، فإن كسرت فهو مستغاث لأجله والمستغاث محذوف ، فإن قيل «يا لك» احتمل الوجهين ، فإن قيل «يا لي» فكذلك عند ابن جني ، أجازهما في قوله [من الطويل] :

١٦٤ ـ فيا شوق ما أبقى ، ويا لي من النّوى

ويا دمع ما أجرى ، ويا قلب ما أصبى (٢)

وقال ابن عصفور : الصّواب أنه مستغاث لأجله ، لأن لام المستغاث متعلّقة بـ «أدعو» ؛ فيلزم تعدّي فعل المضمر المتّصل إلى ضميره المتّصل ؛ وهذا لا يلزم ابن جني ، لأنه يرى تعلّق اللام بـ «يا» كما تقدّم ، و «يا لا» تتحمّل ضميرا كما لا تتحمّله «ها» إذا عملت في الحال في نحو (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] نعم هو لازم لابن عصفور ، لقوله في «يا لزيد لعمرو» إن لام «لعمرو» متعلّقة بفعل محذوف تقديره : أدعوك لعمرو ؛ وينبغي له هنا أن يرجع إلى قول ابن الباذش إن تعلّقها باسم محذوف تقديره : مدعوّا لعمرو ؛ وإنما ادّعيا وجوب التقدير لأن العامل الواحد لا يصل بحرف واحد مرّتين ؛ وأجاب ابن الضائع بأنهما مختلفان معنى نحو : «وهبت لك دينارا لترضى».

تنبيه ـ زادوا اللام في بعض المفاعيل المستغنية عنها كما تقدّم ، وعكسوا ذلك

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وهو لزهير بن مسعود الضبي في تخليص الشواهد ص ١٨٢ ، وخزانة الأدب ٢ / ٦ والدرر ٣ / ٤٦ ، وبلا نسبة في الخصائص ١ / ٢٧٦ ـ ٢ / ٣٧٥ ولسان العرب ١٥ / ٤٩١ مادة (يا)

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو للمتنبي في ديوانه ١ / ١٨٥ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ٢ / ٤٦١.

١٣٩

فحذفوها من بعض المفاعيل المفتقرة إليها كقوله تعالى : (تَبْغُونَها عِوَجاً) [آل عمران : ٩٩] ، (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) [يس : ٣٩] ، (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (٣) [المطففون : ٣] ؛ وقالوا : «وهبتك دينارا» ، و «صدتك ظبيا» ، و «جنيتك ثمرة» ، قال [من الكامل] :

١٦٥ ـ ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا

[ولقد نهيتك عن بنات الأوبر](١)

وقال [من الخفيف] :

١٦٦ ـ فتولّى غلامهم ثمّ نادى :

أظليما أصيدكم أم حمارا (٢)

وقال [من الوافر] :

١٦٧ ـ إذا قالت حذام فأنصتوها

[فإنّ القول ما قالت حذام](٣)

في رواية جماعة ، والمشهور «فصدّقوها».

الثاني والعشرون : «التّبيين ، ولم يوفوها حقها من الشرح ، وأقول : هي ثلاثة أقسام:

أحدها : ما تبيّن المفعول من الفاعل ، وهذه تتعلّق بمذكور ، وضابطها : أن تقع بعد فعل تعجّب أو اسم تفضيل مفهمين حبّا أو بغضا ، تقول : «ما أحبّني ، وما أبغضني» ، فإن قلت : «لفلان» فأنت فاعل الحب والبغض وهو مفعولهما ؛ وإن قلت «إلى فلان» فالأمر بالعكس ، هذا شرح ما قاله ابن مالك ، ويلزمه أن يذكر هذا المعنى في معاني «إلى» أيضا لما بينّا ، وقد مضى في موضعه.

الثاني والثالث : ما يبيّن فاعليّة غير ملتبسة بمفعوليّة ، وما يبيّن مفعوليّة غير ملتبسة بفاعليّة ، ومصحوب كلّ منهما إمّا غير معلوم ممّا قبلها ، أو معلوم ، لكن استؤنف بيانه تقوية وتوكيدا له ، واللام في ذلك كلّه متعلقة بمحذوف.

مثال المبيّنة للمفعوليّة : «سقيا لزيد ، وجدعا له» ؛ فهذه اللام ليست متعلّقة بالمصدرين ، ولا بفعليهما المقدّرين ، لأنهما متعدّيان ، ولا هي مقوّية للعامل لضعفه بالفرعيّة إن قدّر أنه المصدر ، أو بالتزام الحذف إن قدّر أنه الفعل ؛ لأن لام التقوية صالحة

__________________

(١) البيت من البحر الكامل ، وهو لأبي زيد في لسان العرب مادة (عسقل) ، وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب ١ / ٣٦٦ ، والخصائص ٣ / ٥٨ ، ومعجم العين مادة (عسقل).

(٢) البيت من البحر الخفيف ، وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٥٩٦.

(٣) البيت من البحر الوافر ، وهو للجيم بن صعب في شرح التصريح ٢٢ / ٢٢٥ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٢٩٦ ولسان العرب ٦ / ٣٠٦ مادة (رقش) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ١٣١ ، والخصائص ٢ / ١٧٨.

١٤٠