شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢
الجزء ١ الجزء ٢

أقسام الحال

تنقسم باعتبارات :

الأول : انقسامها باعتبار انتقال معناها ولزومه إلى قسمين : متنقّلة وهو الغالب ، وملازمة ، وذلك واجب في ثلاث مسائل :

إحداها : الجامدة غير المؤوّلة بالمشتق ، نحو : «هذا مالك ذهبا» ، و «هذه جبّتك خزّا» بخلاف نحو : «بعته يدا بيد» فإنه بمعنى : متقابضين ، وهو وصف منتقل ، وإنما لم يؤوّل في الأول لأنها مستعملة في معناها الوضعي ، بخلافها في الثاني ، وكثير يتوهّم أن الحال الجامدة لا تكون إلّا مؤوّلة بالمشتق ، وليس كذلك.

الثانية : المؤكّدة ، نحو : (وَلَّى مُدْبِراً) [النمل : ١٠] ، قالوا : ومنه (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) [فاطر : ٣١] لأن «الحق» لا يكون إلّا مصدّقا ، والصواب أنه يكون مصدّقا ومكذبا ، وغيرهما ، نعم إذا قيل : «هو الحقّ صادقا» ، فهي مؤكّدة.

الثالثة : التي دلّ عاملها على تجدّد صاحبها ، نحو : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء : ٢٨] ، ونحو : «خلق الله الزّرافة يديها أطول من رجليها» الحال «أطول» ، و «يديها» : بدل بعض ، قال ابن مالك بدر الدين : ومنه (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) [الأنعام : ١١٤] وهذا سهو منه لأن «الكتاب» قديم.

وتقع الملازمة في غير ذلك بالسماع ، ومنه : (قائِماً بِالْقِسْطِ) [آل عمران : ١٨] إذا أعرب حالا ، وقول جماعة إنها مؤكّدة وهم ، لأن معناها غير مستفاد ممّا قبلها.

الثاني : انقسامها ـ بحسب قصدها لذاتها وللتّوطئة بها ـ إلى قسمين : مقصودة وهو الغالب ، وموطّئة وهي الجامدة الموصوفة ، نحو : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [مريم : ١٧] ، فإنما ذكر «بشرا» توطئة لذكر «سويّا» ، وتقول : «جاءني زيد رجلا محسنا».

الثالث : انقسامها ـ بحسب الزمان ـ إلى ثلاثة : مقارنة ، وهو الغالب ، نحو : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] ، ومقدّرة ، وهي المستقبلة كـ «مررت برجل معه صقر صائدا به غدا» أي : مقدّرا ذلك ، ومنه (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣] ، (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) [الفتح : ٢٧] ، ومحكيّة ، وهي الماضية نحو : «جاء زيد أمس راكبا».

الرابع : انقسامها ـ بحسب التّبيين والتوكيد ـ إلى قمسين : مبيّنة ، وهو الغالب ،

٣٦١

وتسمّى مؤسّسة أيضا ، ومؤكّدة ، وهي التي يستفاد معناها بدونها ، وهي ثلاثة : مؤكّدة لعاملها ، نحو : (وَلَّى مُدْبِراً) [النمل : ١٠] ، ومؤكّدة لصاحبها ، نحو : «جاء القوم طرّا» ، ونحو : (لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩] ، ومؤكّدة لمضمون الجملة ، نحو : «زيد أبوك عطوفا». وأهمل النحويون المؤكّدة لصاحبها ، ومثّل ابن مالك ، وولده بتلك الأمثلة للمؤكّدة لعاملها ، وهو سهو.

ومما يشكل قولهم في نحو : «جاء زيد والشمس طالعة» أنّ الجملة الاسميّة حال ، مع أنها لا تنحلّ إلى مفرد ، ولا تبيّن هيئة فاعل ولا مفعول ، ولا هي حال مؤكّدة ؛ فقال ابن جنّي : تأويلها : جاء زيد طالعة الشمس عند مجيئه ، يعني فهي كالحال والنعت السببيّين ، كـ «مررت بالدار قائما سكّانها ، وبرجل قائم غلمانه» ، وقال ابن عمرون : هي مؤوّلة بقولك : مبكّرا ، ونحوه ؛ وقال صدر الأفاضل تلميذ الزمخشري : إنما الجملة مفعول معه ؛ وأثبت مجيء المفعول معه جملة ؛ وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) [لقمان : ٢٧] في قراءة من رفع «البحر» : وهو كقوله [من الطويل] :

٦٠٢ ـ وقد أغتدي ، والطّير في وكناتها ،

بمنجرد قيد الأوابد هيكل (١)

و «جئت والجيش مصطف» ، ونحوهما من الأحوال التي حكمها حكم الظرف ، فلذلك عريت عن ضمير ذي المحال ؛ ويجوز أن يقدر و «بحرها» : أي وبحر الأرض.

إعراب أسماء الشرط والاستفهام ونحوها

اعلم أنها إن دخل عليها جار أو مضاف فمحلّها الجرّ ، نحو : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) (١) [النبأ : ١] ، ونحو : «صبيحة أيّ يوم سفرك» ، و «غلام من جاءك» ، وإلّا فإن وقعت على زمان ، نحو : (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النحل : ٢١] أو مكان ، نحو : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (٢٦) [التكوير : ٢٦] أو حدث ، نحو : (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء : ٢٢٧] ، فهي منصوبة مفعولا فيه ومفعولا مطلقا ؛ وإلّا فإن وقع بعدها اسم نكرة ، نحو : «من أب لك» ، فهي مبتدأ ، أو اسم معرفة ، نحو : «من زيد» ، فهي خبر أو مبتدأ على الخلاف السابق ، ولا يقع هذان النوعان في أسماء الشرط ؛ وإلّا فإن وقع بعدها فعل قاصر فهي مبتدأة ، نحو : «من قام» ، ونحو : «من

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١٩ ، وإصلاح المنطق ٣٧٧ ، وخزانة الأدب ٣ / ١٥٦ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٤١٠ ، وخزانة الأدب ٤ / ٢٥٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٦٢.

٣٦٢

يقم أقم معه» ، والأصحّ أنّ الخبر فعل الشرط لا فعل الجواب ؛ وإن وقع بعدها فعل متعدّ فإن كان واقعا عليها فهي مفعول به ، نحو : (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) [غافر : ٨١] ، ونحو : (أَيًّا ما تَدْعُوا) [الإسراء : ١١٠] ، ونحو : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) [الأعراف : ١٨٦] ، وإن كان واقعا على ضميرها ، نحو : «من رأيته» ، أو متعلّقها ، نحو : «من رأيت أخاه» فهي مبتدأة أو منصوبة بمحذوف مقدّر بعدها يفسّر المذكور.

تنبيه ـ إذا وقع اسم الشّرط مبتدأ ، فهل خبره فعل الشرط وحده لأنه اسم تام ، وفعل الشرط مشتمل على ضميره ، فقولك : «من يقم» لو لم يكن فيه معنى الشرط لكان بمنزلة قولك : «كلّ من النّاس يقوم» ، أو فعل الجواب لأن الفائدة به تمّت ، ولالتزامهم عود ضمير منه إليه على الأصحّ ، ولأن نظيره وهو الخبر في قولك : «الذي يأتيني فله درهم» ، أو مجموعها لأنّ قولك : «من يقم أقم معه» بمنزلة قولك : «كل من الناس إن يقم أقم معه»؟ والصّحيح الأول ، وإنما توقّفت الفائدة على الجواب من حيث التعلّق فقط ، لا من حيث الخبرية.

مسوعات الابتداء بالنكرة

لم يعوّل المتقدمون في ضابط ذلك إلّا على حصول الفائدة ، ورأى المتأخّرون أنه ليس كلّ أحد يهتدي إلى مواطن الفائدة ، فتتبّعوها ، فمن مقلّ مخلّ ، ومن مكثر مورد ما لا يصلح أو معدّد لأمور متداخلة. والذي يظهر لي أنها منحصرة في عشرة أمور :

أحدها : أن تكون موصوفة لفظا أو تقديرا أو معنى ؛ فالأول نحو : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [الأنعام : ٢] ، (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) [البقرة : ٢٢١] ، وقولك : «رجل صالح جاءني». ومن ذلك قولهم : «ضعيف عاذ بقرملة» إذ الأصل : رجل ضعيف ، فالمبتدأ في الحقيقة هو المحذوف ، وهو موصوف ، والنحويون يقولون : يبتدأ بالنكرة إذا كانت موصوفة أو خلفا من موصوف والصواب ما بيّنت. وليست كل صفة تحصّل الفائدة ؛ فلو قلت : «رجل من الناس جاءني» لم يجز ؛ والثاني نحو قولهم : «السّمن منوان بدرهم» ، أي منوان منه ، وقولهم : «شرّ أهرّ ذا ناب». و [من الكامل]:

٦٠٣ ـ قدر أحلّك ذا المجاز وقد أرى

وأبيّ ما لك ذو المجاز بدار (١)

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو للمؤرخ السلمي في خزانة الأدب ٤ / ٤٦٧ ، ومعجم ما استعجم ص ٦٣٥ ، وبلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٨٦٢ ، ولسان الغرب ٥ / ٧٤ مادة / قدر /.

٣٦٣

إذ المعنى : شرّ أيّ شرّ ، وقدر لا يغالب ، والثالث نحو : «رجيل جاءني» ، لأنه في معنى : رجل صغير ، وقولهم : «ما أحسن زيدا» لأنه في معنى : شيء عظيم حسّن زيدا ؛ وليس في هذين النوعين صفة مقدّرة فيكونان من القسم الثاني.

والثاني : أن تكون عاملة : إما رفعا ، نحو : «قائم الزّيدان» عند من أجازه ، أو نصبا ، نحو : «أمر بمعروف صدقة» ، و «أفضل منك جاءني» ، إذ الظرف منصوب المحل بالمصدر والوصف ؛ أو جرّا ، نحو : «غلام امرأة جاءني» ، و «خمس صلوات كتبهنّ الله» ؛ وشرط هذه : أن يكون المضاف إليه نكرة كما مثّلنا ، أو معرفة والمضاف مما لا يتعرّف بالإضافة ، نحو : «مثلك لا يبخل» ، و «غيرك لا يجود». وأما ما عدا ذلك فإن المضاف إليه فيه معرفة لا نكرة.

والثالث : العطف بشرط كون المعطوف أو المعطوف عليه مما يسوغ الابتداء به ، نحو : (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) [محمد : ٢١] ، أي : أمثل من غيرهما ، ونحو : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) [البقرة : ٢٦٣] ؛ وكثير منهم أطلق العطف وأهمل الشرط ، منهم ابن مالك ، وليس من أمثلة المسألة ما أنشده من قوله [من الطويل] :

٦٠٤ ـ عندي اصطبار وشكوى عند قاتلتي

فهل بأعجب من هذا امرؤ سمعا (١)

إذ يحتمل أن الواو هنا للحال ، وسيأتي أن ذلك مسوّغ ؛ وإن سلّم العطف فثمّ صفة مقدّرة يقتضيها المقام ، أي : وشكوى عظيمة ، على أنّا لا نحتاج إلى شيء من هذا كله ؛ فإن الخبر هنا ظرف مختص ، وهذا بمجرده مسوّغ كما قدّمنا ، وكأنه توهّم أن التسويغ مشروط بتقدّمه على النكرة ؛ وقد أسلفنا أن التّقديم إنما كان لدفع توهّم الصفة ، وإنما لم يجب هنا لحصول الاختصاص بدونه ، وهو ما قدّمناه من الصفة المقدّرة ، أو الوقوع بعد واو الحال ؛ فلذلك جاز تأخّر الظرف كما في قوله تعالى : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [الأنعام : ٢].

فإن قلت : لعلّ الواو للعطف ، ولا صفة مقدّرة ؛ فيكون العطف هو المسوّغ.

قلت : لا يسوغ ذلك ، لأن المسوغ عطف النكرة ، والمعطوف في البيت الجملة لا النكرة.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ١١٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٦٣.

٣٦٤

فإن قيل : يحتمل أنّ الواو عطف اسما وظرفا على مثليهما ، فيكون من عطف المفردات.

قلنا : يلزم العطف على معمولي عاملين مختلفين ، إذ «الاصطبار» معمول للابتداء ، والظرف معمول للاستقرار.

فإن قيل : قدّر لكلّ من الظّرفين استقرارا ، واجعل التّعاطف بين الاستقرارين لا بين الظرفين.

قلنا : الاستقرار الأوّل خبر ، وهو معمول للمبتدأ نفسه عند سيبويه ، واختاره ابن مالك ؛ فرجع الأمر إلى العطف على معمولي عاملين.

والرابع : أن يكون خبرها ظرفا أو مجرورا ، قال ابن مالك : أو جملة ، نحو : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) [ق : ٣٥] ، و (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [الرعد : ٣٨] ، و «قصدك غلامه رجل».

وشرط الخبر فيهنّ الاختصاص ، فلو قيل : «في دار رجل رجل» لم يجز ، لأن الوقت لا يخلو عن أن يكون فيه رجل ما في دار رجل ؛ فلا فائدة في الإخبار بذلك ، قالوا : والتقديم ، فلا يجوز «رجل في الدار» ، وأقول : إنما وجب التقديم هنا لدفع توهّم الصفة ، واشتراطه هنا يوهم أن له مدخلا في التّخصيص ، وقد ذكروا المسألة فيما يجب فيه تقديم الخبر ، وذاك موضعها.

والخامس : أن تكون عامّة : إما بذاتها كأسماء الشّرط وأسماء الاستفهام ، أو بغيرها نحو : «ما رجل في الدار» ، و «هل رجل في الدار؟» و (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) [النمل : ٦٠ ، ٦١ ، ٦٢ ، ٦٣]. وفي شرح منظومة ابن الحاجب له أن الاستفهام المسوّغ للابتداء هو الهمزة المعادلة بـ «أم» ، نحو : «أرجل في الدّار أم امرأة؟» كما مثّل في الكافية ، وليس كما قال.

والسادس : أن تكون مرادا بها صاحب الحقيقة من حيث هي ، نحو : «رجل خير من امرأة» ، و «تمرة خير من جرادة».

والسابع : أن تكون في معنى الفعل ، وهذا شامل لنحو : «عجب لزيد» وضبطوه بأن يراد بها التعجّب ، ولنحو : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) [الصافات : ١٣٠] ، و (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١) [المطففين : ١] ، وضبطوه بأن يراد بها الدعاء ؛ ولنحو : «قائم الزيدان» عند من جوّزها ؛ وعلى هذا ففي نحو : «ما قائم الزيدان» مسوّغان كما في قوله تعالى : (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) [ق : ٤] مسوّغان ؛ وأمّا منع الجمهور لنحو : «قائم الزيدان» فليس لأنه لا مسوّغ فيه

٣٦٥

للابتداء ، بل إمّا لفوات شرط العمل وهو الاعتماد ، أو لفوات شرط الاكتفاء بالفاعل عن الخبر وهو تقدّم النفي أو الاستفهام ، وهذا أظهر لوجهين :

أحدهما : أنه لا يكفي مطلق الاعتماد ، فلا يجوز في نحو : «زيد قائم أبوه» كون «قائم» مبتدأ وإن وجد الاعتماد على المخبر عنه.

والثاني : أن اشتراط الاعتماد وكون الوصف بمعنى الحال أو الاستقبال إنما هو للعمل في المنصوب ، لا لمطلق العمل ، بدليلين : أحدهما أنه يصحّ «زيد قائم أبوه أمس» ، والثاني : أنهم لم يشترطوا لصحّة نحو : «أقائم الزّيدان» كون الوصف بمعنى الحال أو الاستقبال.

والثامن : أن يكون ثبوت ذلك الخبر للنّكرة من خوارق العادة ؛ نحو : «شجرة سجدت» ، و «بقرة تكلّمت» ، إذ وقوع ذلك من أفراد هذا الجنس غير معتاد ؛ ففي الإخبار به عنها فائدة بخلاف نحو : «رجل مات» ونحوه.

والتاسع : أن تقع بعد «إذا» الفجائية ، نحو : «خرجت فإذا أسد» ، أو «رجل بالباب» ، إذ لا توجب العادة أن لا يخلو الحال من أن يفاجئك عند خروجك أسد أو رجل.

والعاشر : أن تقع في أول جملة حالية ، كقوله [من الطويل] :

٦٠٥ ـ سرينا ونجم قد أضاء ، فمذ بدا

محيّاك أخفى ضوؤه كلّ شارق (١)

وعلّة الجواز ما ذكرناه في المسألة قبلها ، ومن ذلك قوله [من البسيط] :

٦٠٦ ـ الذّئب يطرقها في الدّهر واحدة

وكلّ يوم تراني مدية بيدي (٢)

وبهذا يعلم أن اشتراط النحويين وقوع النكرة بعد واو الحال ليس بلازم.

ونظير هذا الموضع قول ابن عصفور في شرح الجمل : تكسر «إنّ» إذا وقعت بعد واو الحال ، وإنما الضابط أن تقع في أول جملة حالية ، بدليل قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ) [الفرقان : ٢٠]. ومن روى «مدية» بالنّصب

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ٩٨ ، وتخليص الشواهد ص ١٩٣ ، والدرر ٢ / ٢٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٦٣ ، وشرح الأشموني ١ / ٩٧.

(٢) البيت من البسيط ، وهو للحماسي في تخليص الشواهد ص ١٩٦ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ٩٨ ، وشرح الأشموني ١ / ٩٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٥٧.

٣٦٦

فمفعول لحال محذوفة ، أي : حاملا أو ممسكا ، ولا يحسن أن يكون بدلا من الياء ، ومثّل ابن مالك بقوله تعالى : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) [آل عمران : ١٥٤] ، وقول الشاعر [من الطويل] :

٦٠٧ ـ عرضنا فسلّمنا فسلّم كارها

علينا ، وتبريح من الوجد خانقه (١)

ولا دليل فيهما ؛ لأن النّكرة موصوفة بصفة مذكورة في البيت ومقدّرة في الآية ، أي : وطائفة من غيركم ، بدليل (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) [آل عمران : ١٥٤].

ومما ذكروا من المسوّغات : أن تكون النكرة محصورة ، نحو : «إنما في الدار رجل» ، أو للتّفصيل ، نحو : «الناس رجلان رجل أكرمته ورجل أهنته» ، وقوله [من المتقارب]:

٦٠٨ ـ فأقبلت زحفا على الرّكبتين

فثوب لبست وثوب أجر (٢)

وقولهم : «شهر ثرى وشهر ترى وشهر مرعى» ، أو بعد فاء الجزاء ، نحو : «إن مضى عير فعير في الرّباط».

وفيهنّ نظر ؛ أما الأول فلأن الابتداء فيها بالنكرة صحيح قبل مجيء «إنما» ، وأما الثانية فلاحتمال «رجل» الأول للبدليّة والثاني عطف عليه ، كقوله [من الطويل] :

٦٠٩ ـ وكنت كذي رجلين رجل صحيحة

ورجل رمى فيها الزّمان فشلّت (٣)

ويسمى بدل التفصيل ، ولاحتمال «شهر» الأول الخبرية ، والتقدير : أشهر الأرض الممطورة شهر ذو ثرى ، أي ذو تراب ند ، وشهر ترى فيه الزرع ، وشهر ذو مرعى ؛ ولاحتمال «نسيت» و «أجرّ» للوصفيّة والخبر محذوف ، أي : فمنها ثوب نسيته وثوب

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لابن الدمينة في ديوانه ص ٥٣ ، وأمالي القالي ١ / ١٥٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٦٥ ، والشعر والشعراء ٢ / ٧٣٥.

(٢) البيت من المتقارب ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١٥٩ ، والأشباه والنظائر ٣ / ١١٠ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٧٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٦٦ ، والمقاصد النحوية ١ / ٥٤٥.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لكثير عزة في ديوانه ص ٩٩ ، وأمالي المرتضى ١ / ٤٦ ، وخزانة الأدب ٥ / ٢١١ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٠٤ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ٢ / ٤٣٨.

٣٦٧

أجرّه ؛ ويحتمل أنهما خبران وثمّ صفتان مقدّرتان ، أي : فثوب لي نسيته وثوب لي أجرّه ، وإنما نسي ثوبه لشغل قلبه كما قال [من الطويل] :

٦١٠ ـ [ومثلك بيضاء العوارض طفلة]

لعوب تنسّيني ، إذا قمت ، سربالي (١)

وإنما جر الآخر ليعفي الآثر عن القافة ، ولهذا زحف على ركبتيه ؛ وأما الثالثة فلأن المعنى فعير آخر ، ثم حذفت الصفة ؛ ورأيت في كلام محمد بن حبيب ـ وحبيب ممنوع من الصرف لأنه اسم أمه ـ قال يونس : قال رؤبة : المطر شهر ثرى إلخ ، وهذا دليل على أنه خبر ، ولا بد من تقدير مضاف قبل المبتدأ لتصحيح الإخبار عنه بالزمان.

أقسام العطف

وهي ثلاثة :

أحدها : العطف على اللفظ ، وهو الأصل ، نحو : «ليس زيد بقائم ولا قاعد» بالخفض ، وشرطه إمكان توجّه العامل إلى المعطوف ، فلا يجوز في نحو : «ما جاءني من امرأة ولا زيد» إلا الرفع عطفا على الموضع ، لأن «من» الزائدة لا تعمل في المعارف.

وقد يمتنع العطف على اللفظ وعلى المحلّ جميعا ، نحو : «ما زيد قائما لكن ـ أو بل ـ قاعد» ، لأنّ في العطف على اللفظ إعمال «ما» في الموجب ، وفي العطف على المحل اعتبار الابتداء مع زواله بدخول الناسخ ، والصواب الرفع على إضمار مبتدأ.

والثاني : العطف على المحل ، نحو : «ليس زيد بقائم ولا قاعدا» ، بالنصب ، وله عند المحقّقين ثلاثة شروط :

أحدها : إمكان ظهوره في الفصيح ، ألا ترى أنه يجوز في «ليس زيد بقائم» ، و «ما جاءني من امرأة» أن تسقط الباء فتنصب ؛ و «من» فترفع ، فعلى هذا فلا يجوز «مررت بزيد وعمرا» خلافا لابن جنّي ، لأنه لا يجوز «مررت زيدا» ؛ وأما قوله [من الوافر] :

٦١١ ـ تمرّون الدّيار ولم تعوجوا

[كلامكم عليّ إذن حرام](٢)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٣٠ ، والأزهية ص ٢٣٢ ، وخزانة الأدب ١ / ٦٦ ، ولسان العرب ١٥ / ٣٢٤ مادة / نسا /.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لجرير في ديوانه ص ٢٧٨ ، والأغاني ٢ / ١٧٩ ، وتلخيص الشواهد ص ٥٠٣ ، وخزانة الأدب ٩ / ١١٨ ، والدرر ٥ / ١٨٩ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣١١.

٣٦٨

فضرورة.

ولا تختص مراعاة الموضع بأن يكون العامل في اللفظ زائدا كما مثّلنا ، بدليل قوله [من الطويل] :

٦١٢ ـ فإن لم تجد من دون عدنان والدا

ودون معدّ فلتزعك العواذل (١)

وأجاز الفارسيّ في قوله تعالى : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) [هود : ٦٠] أن يكون (يَوْمَ الْقِيامَةِ) عطفا على محل (هذِهِ) لأن محلّه النصب.

الثاني : أن يكون الموضع بحقّ الأصالة ؛ فلا يجوز «هذا ضارب زيدا وأخيه» لأن الوصف المستوفي لشروط العمل الأصل إعماله لا إضافته لالتحاقه بالفعل ، وأجازه البغداديّون تمسكا بقوله [من الطويل] :

٦١٣ ـ [فظلّ طهاة اللّحم ما بين] منضج

صفيف شواء أو قدير معجّل (٢)

وقد مرّ جوابه.

والثالث : وجود المحرز ، أي الطّالب لذلك المحل ، وابتني على هذا امتناع مسائل : إحداها : «إن زيدا وعمرو قائمان» وذلك لأنّ الطالب لرفع «زيد» هو الابتداء والابتداء هو التجرّد ، والتجرّد قد زال بدخول «إنّ».

والثانية : «إنّ زيدا قائم وعمرو» إذا قدرت «عمرا» معطوفا على المحل ، لا مبتدأ ؛ وأجاز هذه بعض البصريين ، لأنهم لم يشترطوا المحرز ، وإنما منعوا الأولى لمانع آخر ، وهو توارد عاملين «إن» والابتداء على معمول واحد وهو الخبر ؛ وأجازهما الكوفيّون ، لأنهم لا يشترطون المحرز ، ولأن «أنّ» لم تعمل عندهم في الخبر شيئا ، بل هو مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها ؛ ولكن شرط الفراء لصحّة الرفع قبل مجيء الخبر خفاء إعراب الاسم ، لئلا يتنافر اللفظ ؛ ولم يشترطه الكسائي ، كما أنه ليس بشرط بالاتّفاق في سائر مواضع العطف على اللفظ ؛ وحجّتهما قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) [المائدة : ٦٩] الآية ، وقولهم : «إنّك وزيد ذاهبان». وأجيب عن الآية بأمرين :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ٢٥٥ ، وأمالي المرتضى ١ / ١٧١ ، وخزانة الأدب ٢ / ٢٥٢ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ١٣١ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١٥١.

(٢) تقدم تخريجه.

٣٦٩

أحدهما : أن خبر «إن» محذوف أي مأجورون أو آمنون أو فرحون ، والصابئون مبتدأ ، وما بعده الخبر ويشهد له قوله [من الطويل] :

٦١٤ ـ خليليّ هل طبّ ، فإنّي وأنتما

وإن لم تبوحا بالهوى دنفان؟ (١)

ويضعفه أنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، وإنّما الكثير العكس.

والثاني : أن الخبر المذكور لـ «إنّ» ، وخبر (وَالصَّابِئُونَ) محذوف ، أي كذلك ، ويشهد له قوله [من الطويل] :

٦١٥ ـ فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنّي وقيّار بها لغريب (٢)

إذ لا تدخل اللام في خبر المبتدأ حتى يقدّم ، نحو : «لقائم زيد» ويضعفه تقديم الجملة المعطوفة على بعض الجملة المعطوف عليها ، وعن المثال بأمرين : أحدهما أنه عطف على توهّم عدم ذكر «إنّ» ، والثاني أنه تابع لمبتدأ محذوف ، أي : إنك أنت وزيد ذاهبان ، وعليهما خرج قولهم : «إنّهم أجمعون ذاهبون».

المسألة الثالثة : «هذا ضارب زيد وعمرا» بالنصب.

المسألة الرابعة : «أعجبني ضرب زيد وعمرو» بالرفع أو «وعمرا» بالنصّب ، منعهما الحذّاق ، لأن الاسم المشبه للفعل لا يعمل في اللفظ حتى يكون بـ «أل» أو منوّنا أو مضافا ، وأجازهما قوم تمسّكا بظاهر قوله تعالى : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) [الأنعام : ٩٦] ، وقول الشاعر [من الطويل] :

٦١٦ ـ [هويت ثناء مستطابا مجدّدا]

فلا تخل من تمهيد مجد وسؤددا (٣)

وأجيب بأنّ ذلك على إضمار عامل يدلّ عليه المذكور ، أي : وجعل الشمس ، ومهدت سؤددا ، أو يكون سؤددا مفعولا معه ، ويشهد للتقدير في الآية أو الوصف فيها بمعنى الماضي ، والماضي المجرّد من «أل» لا يعمل النصب ، ويوضح لك مضيّه قوله

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ٣٦٢ ، وتخليص الشواهد ص ٣٧٤ ، وشرح الأشموني ١ / ١٤٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٦٦.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لضابىء بن الحارث البرجمي في الأصمعيات ص ١٨٤ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣٢٦ ، والدرر ٦ / ١٨٢ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٦٧.

(٣) البيت من الطويل ، ولم أجده.

٣٧٠

تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) [القصص : ٧٣] الآية ، وجوّز الزّمخشريّ كون (الشَّمْسَ) معطوفا على محلّ (اللَّيْلَ ،) وزعم مع ذلك أن الجعل مراد منه فعل مستمرّ في الأزمنة لا في الزمن الماضي بخصوصيّته مع نصه في (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) [الفاتحة : ٤] على أنه إذا حمل على الزمن المستمرّ كان بمنزلته إذا حمل على الماضي في أن إضافته محضة ، وأما قوله [من الرجز] :

٦١٧ ـ قد كنت داينت بها حسّانا

مخافة الإفلاس واللّيانا

[يحسن بيع الأصل والقيانا](١)

فيجوز أن يكون «اللّيّانا» مفعولا معه ، وأن يكون معطوفا على «مخافة» على حذف مضاف ، أي : ومخافة الليان ؛ ولو لم يقدر المضاف لم يصح ، لأن «الليان» فعل لغير المتكلّم ، إذ المراد أنه داين حسان خشية من إفلاس غيره ومطله ، ولا بدّ في المفعول له من موافقته لعامله في الفاعل.

ومن الغريب قول أبي حيان : إن من شرط العطف على الموضع أن يكون للمعطوف عليه لفظ وموضع ؛ فجعل صورة المسألة شرطا لها ، ثم إنه أسقط الشرط الأوّل الذي ذكرناه ، ولا بدّ منه.

والثالث : العطف على التوهّم ، نحو : «ليس زيد قائما ولا قاعد» بالخفض على توهّم دخول الباء في الخبر ، وشرط جوازه صحّة دخول ذلك العامل المتوهّم ، وشرط حسنه كثرة دخوله هناك ، ولهذا حسن قول زهير [من الطويل] :

٦١٨ ـ بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا (٢)

وقول الآخر [من البسيط] :

٦١٩ ـ ما الحازم الشّهم مقداما ولا بطل

إن لم يكن للهوى بالحقّ غلّابا (٣)

ولم يحسن قول الآخر [من المتقارب] :

__________________

(١) البيت من الرجز ، وهو لرؤبة في ملحق ديوانه ص ١٨٧ ، ولزياد العنبري في شرح التصريح ٢ / ٦٥ ، وله أو لرؤية في الدرر ٦ / ١٩٠ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ٣١٥ ، وخزانة الأدب ٥ / ١٠٢.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٢٨٧ ، وتخليص الشواهد ص ٥١٢ ، وخزانة الأدب ٨ / ٤٩٢ ، والدرر ٦ / ١٦٣ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٨٢.

(٣) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في الدرر ٦ / ١٦٥ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٦٩.

٣٧١

٦٢٠ ـ وما كنت ذا نيرب فيهم

ولا منمش فيهم منمل (١)

لقلّة دخول الباء على خبر «كان» ، بخلاف خبري «ليس» و «ما» ، والنّيرب :النميمة ، والمنمل : الكثير النميمة ، والمنمش : المفسد ذات البين.

وكما وقع هذا العطف في المجرور وقع في أخيه المجزوم ، ووقع أيضا في المرفوع اسما ، وفي المنصوب اسما وفعلا ، وفي المركّبات.

فأما المجزوم فقال به الخليل وسيبويه في قراءة غير أبي عمرو (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) [المنافقون : ١٠] ، فإن معنى : «لولا أخّرتني فأصدق» ، ومعنى «إن أخّرتني أصّدّق» واحد ؛ وقال السيرافي والفارسي : هو عطف على محلّ «فأصّدق» ، كقول الجميع في قراءة الأخوين (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ) [الأعراف : ١٨٦] بالجزم ؛ ويردّه أنهما يسلّمان أن الجزم في نحو : ائتني أكرمك» بإضمار الشّرط ، فليست الفاء هنا وما بعدها في موضع جزم ، لأن ما بعد الفاء منصوب بـ «أن» مضمرة ، و «أن» والفعل في تأويل مصدر معطوف على مصدر متوهّم مما تقدّم ، فكيف تكون الفاء مع ذلك في موضع الجزم؟ وليس بين المفردين المتعاطفين شرط مقدّر ؛ ويأتي القولان في قول الهذلي [من الوافر] :

٦٢١ ـ فأبلوني بليّتكم لعلّي

أصالحكم وأستدرج نويّا (٢)

أي : نواي. وكذلك اختلف في نحو : «قام القوم غير زيد وعمرا» بالنصب ، والصواب أنه على التوهّم ، وأنه مذهب سيبويه ، لقوله لأن «غير زيد» في موضع «إلّا زيدا» ومعناه ، فشبّهوه بقولهم [من الوافر] :

٦٢٢ ـ [معاوي إنّنا بشر فأسجج] ،

فلسنا بالجبال ولا الحديدا (٣)

وقد استنبط من ضعف فهمه من إنشاد هذا البيت هنا أنه يراه عطفا على المحل ولو أراد ذلك لم يقل : إنهم شبّهوه به.

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو بلا نسبة في الدرر ٦ / ١٦٥ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٦٩ ، ولسان العرب ٦ / ٣٦٠ مادة / نمش /.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لأبي دؤاد الإيادي في ديوانه ص ٣٥٠ ، والخصائص ١ / ١٧٦ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٧٠١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٩ ، وبلا نسبة في لسان العرب ١١ / ٤٧٤.

(٣) البيت من الوافر ، وهو لعقبة الأسدي في الإنصاف ١ / ٣٣٢ ، وخزانة الأدب ٢ / ٢٦٠ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ١٣١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٧٠.

٣٧٢

رجع القول إلى المجزوم ـ وقال به الفارسيّ في قراءة قنبل : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ) [يوسف : ٩٠] بإثبات الياء في (يَتَّقِي) وجزم (وَيَصْبِرْ ،) فزعم أن «من» موصولة ، فلهذا ثبتت ياء «يتّقي» ، وأنها ضمّنت معنى الشرط ، ولذلك دخلت الفاء في الخبر ؛ وإنما جزم (وَيَصْبِرْ) على توهّم معنى «من» ؛ وقيل : بل وصل (وَيَصْبِرْ) بنيّة الوقف كقراءة نافع (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) [الأنعام : ١٦٢] بسكون ياء (وَمَحْيايَ) وصلا ؛ وقيل : بل سكّن لتوالي الحركات في كلمتين كما في (يَأْمُرُكُمْ) [البقرة : ١٦٩] و (يُشْعِرُكُمْ) [الأنعام : ١٠٩] ، وقيل : «من» شرطية ، وهذه الياء إشباع ، ولام الفعل حذفت للجازم ، أو هذه الياء لام الفعل ، واكتفى بحذف الحركة المقدّرة.

وأما المرفوع فقال سيبويه : واعلم أن ناسا من العرب يغلطون فيقولون : «إنهم أجمعون ذاهبون ، وإنك وزيد ذاهبان» ، وذلك على أن معناه معنى الابتداء ، فيرى أنه قال هم ، كما قال [من الطويل] :

٦٢٣ ـ بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى ،

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا (١)

ومراده بالغلط ما عبر عنه غيره بالتوهّم ، وذلك ظاهر من كلامه ؛ ويوضحه إنشاده البيت ؛ وتوهم ابن مالك أنه أراد بالغلط الخطأ فاعترض عليه بأنا متى جوّزنا ذلك عليهم زالت الثقة بكلامهم ، وامتنع أن نثبت شيئا نادرا لإمكان أن يقال في كل نادر : إن قائله غلط.

وأما المنصوب اسما فقال الزمخشري في قوله تعالى : (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧١] فيمن فتح الباء ؛ كأنه قيل : ووهبنا له إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، على طريقة قوله [من الطويل] :

٦٢٤ ـ مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة

ولا ناعب إلّا ببين غرابها (٢)

ا ه. وقيل : على إضمار «وهبنا» ، أي : ومن وراء إسحاق وهبنا يعقوب ، بدليل (فَبَشَّرْناها) [هود : ٧١] ، لأن البشارة من الله تعالى بالشيء في معنى الهبة ، وقيل : هو

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٢٨٧ ، وتخليص الشواهد ص ٥١٢ ، وخزانة الأدب ٨ / ٤٩٢ ، والدرر ٦ / ١٦٣ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٨٢.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للأخوص (أو الأحوص) الرياحي في الإنصاف ص ١٩٣ ، والحيوان ٣ / ٤٣١ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٥٨ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٥٨٩ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٧١.

٣٧٣

مجرور عطفا على «بإسحاق» ، أو منصوب عطفا على محلّه. ويردّ الأول أنه لا يجوز الفصل بين العاطف والمعطوف على المجرور كـ «مررت بزيد واليوم عمرو». وقال بعضهم في قوله تعالى : (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) (٧) [الصافات : ٧] إنه عطف على معنى (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) [الصافات : ٦] ، وهو إنا خلقنا الكواكب في السماء الدّنيا زينة للسماء ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً) [الملك : ٥] ؛ ويحتمل أن يكون مفعولا لأجله ، أو مفعولا مطلقا ، وعليهما فالعامل محذوف : أي : وحفظا من كل شيطان زيّناها بالكواكب ، أو وحفظناها حفظا.

وأما المنصوب فعلا فكقراءة بعضهم : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم : ٩] حملا على معنى : ودوا أن تدهن ؛ وقيل في قراءة حفص (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ) [غافر : ٣٦ ـ ٣٧] بالنصب : إنه عطف على معنى (لَعَلِّي أَبْلُغُ) ، وهو : لعلّي أن أبلغ ، فإن خبر «لعلّ» يقترن بـ «أن» كثيرا ، نحو الحديث : «فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض» ؛ ويحتمل أنه عطف على الأسباب على حد [من الوافر] :

٦٢٥ ـ للبس عباءة وتقرّ عيني

[أحبّ إليّ من لبس الشّفوف](١)

ومع هذين الاحتمالين فيندفع قول الكوفي : إن هذه القراءة حجّة على جواز النصب في جواب الترجّي حملا له على التمنّي.

وأما في المركّبات فقد قيل في قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ) [الروم : ٤٦] ، إنه على تقدير : ليبشّركم وليذيقكم ، ويحتمل أن التقدير : وليذيقكم وليكون كذا وكذا أرسلها. وقيل في قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) [البقرة : ٢٥٩] إنه على معنى : أرأيت كالذي حاجّ أو كالذي مرّ ؛ ويجوز أن يكون على إضمار فعل : أي : أو أرأيت مثل الذي ، فحذف لدلالة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَ) [البقرة : ٢٥٨] عليه ؛ لأن كليهما تعجّب ؛ وهذا التأويل هنا وفيما تقدّم أولى ، لأنّ إضمار الفعل لدلالة المعنى عليه أسهل من العطف على المعنى ؛ وقيل : الكاف زائدة ، أي : ألم تر إلى الذي حاجّ أو الذي مرّ ؛ وقيل : الكاف اسم بمعنى «مثل» معطوف على «الذي» ، أي : ألم تنظر إلى الذي حاجّ أو إلى مثل الذي مرّ.

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لميسون بنت بحدل في خزانة الأدب ٨ / ٥٠٣ ، والدرر ٤ / ٩٠ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٢٧٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٥٣.

٣٧٤

تنبيه ـ من العطف على المعنى على قول البصريّين نحو : «لألزمنّك أو تقضينني حقّي» إذ النصب عندهم بإضمار «أن» و «أن» والفعل في تأويل مصدر معطوف على مصدر متوهّم ، أن ليكوننّ لزوم مني أو قضاء منك لحقي ؛ ومنه (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦] في قراءة أبيّ بحذف النون ؛ وأما قراءة الجمهور بالنّون فبالعطف على لفظ «تقاتلونهم» ، أو على القطع بتقدير : أو هم يسلمون ؛ ومثله «ما تأتينا فتحدّثنا» بالنّصب ، أي ما يكون منك إتيان فحديث ؛ ومعنى هذا نفي الإتيان فينتفي الحديث ، أي : ما تأتينا فكيف تحدّثنا ؛ أو نفي الحديث فقط حتى كأنه قيل : ما تأتينا محدّثا ، أي : بل غير محدّث ؛ وعلى المعنى الأوّل جاء قوله سبحانه وتعالى : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) [فاطر : ٣٦] أي : فكيف يموتون ؛ ويمتنع أن يكون على الثاني ، إذ يمتنع أن يقضى عليهم ولا يموتون ؛ ويجوز رفعه فيكون إمّا عطفا على «تأتينا» ؛ فيكون كلّ منهما داخلا عليه حرف النفي ، أو على القطع فيكون موجبا ، وذلك واضح في نحو «ما تأتينا فتجهل أمرنا» و «لم تقرأ فتنسى» لأن المراد إثبات جهله ونسيانه ، ولأنه لو عطف لجزم «تنسى» ، وفي قوله [من الخفيف] :

٦٢٦ ـ غير أنّا لم يأتنا بيقين

فنرجّي ونكثر التّأميلا (١)

إذ المعنى أنه لم يأت باليقين فنحن نرجو خلاف ما أتى به لانتفاء اليقين عمّا أتى به ؛ ولو جزمه أو نصبه لفسد معناه ، لأنه يصير منفيّا على حدته كالأول إذا جزم ، ومنفيّا على الجمع إذا نصب ، وإنما المراد إثباته ؛ وأمّا إجازتهم ذلك في المثال السّابق فمشكلة ، لأن الحديث لا يمكن مع عدم الإتيان ، وقد يوجّه قولهم بأن يكون معناه ما تأتينا في المستقبل فأنت تحدّثنا الآن ، عوضا عن ذلك ؛ وللاستئناف وجه آخر ، وهو أن يكون على معنى السببيّة وانتفاء الثاني لانتفاء الأوّل ، وهو أحد وجهي النصب ، وهو قليل ، وعليه قوله [من الكامل] :

٦٢٧ ـ فلقد تركت صبيّة مرحومة

لم تدر ما جزع عليك فتجزع (٢)

أي : لو عرفت الجزع لجزعت ، ولكنّها لم تعرفه فلم تجزع. وقرأ عيسى بن عمر

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو لبعض الحارثيين في خزانة الأدب ٨ / ٣٥٨ ، والرد على النحاة ص ١٢٧ ، وللعنبري في شرح المفصل ٧ / ٣٦ ، وبلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٨٧٢.

(٢) البيت من الكامل ، وهو لمويلك المزموم ، في خزانة الأدب ٨ / ٥٣١ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٩٠٣ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٩ / ٨٧.

٣٧٥

(فَيَمُوتُوا) [فاطر : ٣٦] عطفا على (يُقْضى) [فاطر : ٣٦] ، وأجاز ابن خروف فيه الاستئناف على معنى السببيّة كما قدّمنا في البيت ، وقرأ السبعة : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٣٦) [المرسلات : ٣٦] ، وقد كان النّصب ممكنا مثله في (فَيَمُوتُوا ،) ولكن عدل عنه لتناسب الفواصل ، والمشهور في توجيهه أنه لم يقصد إلى معنى السببيّة ، بل إلى مجرّد العطف على الفعل وإدخاله معه في سلك النفي ، لأن المراد : بلا يؤذن لهم نفي الإذن في الاعتذار ، وقد نهوا عنه في قوله تعالى : (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) [التحريم : ٧] فلا يتأتّى العذر منهم بعد ذلك ، وزعم ابن مالك بدر الدّين أنه مستأنف بتقدير : فهم يعتذرون ، وهو مشكل على مذهب الجماعة ، لاقتضائه ثبوت الاعتذار مع انتفاء الإذن كما في قولك «ما تؤذينا فنحبّك» بالرفع ، ولصحّة الاستئناف يحمل ثبوت الاعتذار مع مجيء (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) على اختلاف المواقف ، كما جاء (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) (٣٩) [الرحمن : ٣٩] ، (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) [الصافات : ٢٤] ، وإليه ذهب ابن الحاجب ؛ فيكون بمنزلة «ما تأتينا فتجهل أمورنا» ، ويردّه أن الفاء غير العاطفة للسببيّة ، ولا يتسّبب الاعتذار في وقت عن نفي الإذن فيه في وقت آخر ؛ وقد صحّ الاستئناف بوجه آخر يكون الاعتذار معه منفيّا ، وهو ما قدّمناه ونقلناه عن ابن خروف من أن المستأنف قد يكون على معنى السببيّة ؛ وقد صرّح به هنا الأعلم ، وأنه في المعنى مثل (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) [فاطر : ٣٦] ، وردّه ابن عصفور بأن الإذن في الاعتذار قد يحصل ولا يحصل اعتذار ، بخلاف القضاء عليهم ، فإنه يتسبّب عنه الموت جزما ، وردّ عليه ابن الضائع بأن النصب على معنى السببيّة في «ما تأتينا فتحدّثنا» جائز بإجماع ، مع أنه قد يحصل الإتيان ولا يحصل التّحديث ، والذي أقول : إن مجيء الرفع بهذا المعنى قليل جدّا ، فلا يحسن حمل التنزيل عليه.

تنبيه ـ «لا تأكل سمكا وتشرب لبنا» إن جزمت فالعطف على اللفظ والنهي عن كلّ منهما ؛ وإن نصبت فالعطف عند البصريّين على المعنى والنهي عند الجميع عن الجمع ، أي : لا يكن منك أكل سمك مع شرب لبن ؛ وإن رفعت فالمشهور أنه نهي عن الأول وإباحة للثاني ، وأن المعنى : ولك شرب اللبن ، وتوجيهه أنه مستأنف ، فلم يتوجّه إليه حرف النهي ؛ وقال بدر الدين بن مالك : إن معناه كمعنى وجه النّصب ، ولكنه على تقدير لا تأكل السّمك وأنت تشرب اللبن ، ا ه. وكأنه قدّر الواو للحال ، وفيه بعد ، لدخولها في اللفظ على المضارع المثبت ، ثم هو مخالف لقولهم ؛ إذ جعلوا لكلّ من أوجه الإعراب معنى.

٣٧٦

عطف الخبر على الإنشاء ، وبالعكس

منعه البيانيّون ، وابن مالك في شرح باب المفعول معه من كتاب التّسهيل ، وابن عصفور في شرح الإيضاح ، ونقله عن الأكثرين ، وأجازه الصفار ـ بالفاء ـ تلميذ ابن عصفور ، وجماعة ، مستدلّين بقوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [البقرة : ٢٣ ـ ٢٥] في سورةالبقرة ، (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [الصف : ١٠ ـ ١٣] في سورةالصف ، قال أبو حيان : وأجاز سيبويه «جاءني زيد ومن عمرو العاقلان» على أن يكون «العاقلان» خبرا لمحذوف ، ويؤيده قوله [من الطويل] :

٦٢٨ ـ وإنّ شفائي عبرة مهراقة

وهل عند رسم دارس من معوّل؟ (١)

وقوله [من الطويل] :

٦٢٩ ـ تناغي غزالا عند باب ابن عامر

وكحّل أماقيك الحسان بإثمد (٢)

واستدل الصفار بهذا البيت ، وقوله [من الطويل] :

٦٣٠ ـ وقائلة خولان فانكح فتاتهم

[وأكرومة الحيّين خلو كما هيا](٣)

فإن تقديره عند سيبويه : هذه خولان.

وأقول : أمّا آيةالبقرة فقال الزّمخشري : ليس المعتمد بالعطف الأمر حتى يطلب له مشاكل ، بل المراد عطف جملة ثواب المؤمنين على جملة عذاب الكافرين ، كقولك : «زيد يعاقب بالقيد وبشّر فلانا بالإطلاق» ، وجوّز عطفه على (اتقوا) ، وأتمّ من كلامه في الجواب الأول أن يقال : المعتمد بالعطف جملة الثواب كما ذكر ، ويزاد عليه فيقال : والكلام منظور فيه إلى المعنى الحاصل منه ، وكأنه قيل : والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنّات ، فبشّرهم بذلك ؛ وأما الجواب الثّاني ففيه نظر ، لأنه لا يصحّ أن يكون جوابا للشرط ؛ إذ ليس الأمر بالتبشير مشروطا بعجز الكافرين على الإتيان بمثل القرآن ، ويجاب

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ، وخزانة الأدب ٣ / ٤٤٨ ، والدرر ٥ / ١٣٩ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٢٥٧ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٧٢.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لحسان بن ثابت في ديوانه ص ١٣٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٧ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ٢ / ٤٣٤.

(٣) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في الأزهية ص ٢٤٣ ، وأوضح المسالك ٢ / ١٦٣ ، والجنى الداني ص ٧١ ، وخزانة الأدب ١ / ٣١٥ ، والدرر ٢ / ٣٦ ، والرد على النحاة ص ١٠٤.

٣٧٧

بأنه قد علم أنهم غير المؤمنين ، فكأنه قيل : فإن لم يفعلوا فبشّر غيرهم بالجنّات ، ومعنى هذا فبشّر هؤلاء المعاندين بأنه لا حظّ لهم في الجنة.

وقال في آيةالصفّ : إن العطف على (تؤمنون) لأنه بمعنى «آمنوا» ، ولا يقدح في ذلك أن المخاطب بـ «تؤمنون» المؤمنون ، وب «بشّر» النبي عليه الصلاة والسّلام ، ولا أن يقال في (تؤمنون :) إنه تفسير لـ «التجارة» لا طلب ، وإن (يغفر لكم) جواب الاستفهام تنزيلا لسبب السبب منزلة السبب كما مرّ في بحث الجمل المفسّرة ؛ لأن تخالف الفاعلين لا يقدح ، تقول : «قوموا وأقعد يا زيد» ، ولأن (تؤمنون) لا يتعيّن للتفسير ، سلّمنا ، ولكن يحتمل أنه تفسير مع كونه أمرا ، وذلك بأن يكون معنى الكلام السابق اتّجروا تجارة تنجيكم من عذاب أليم كما كان (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١] في معنى : انتهوا ، أو بأن يكون تفسيرا في المعنى دون الصناعة ؛ لأن الأمر قد يساق لإفادة المعنى الذي يتحصّل من المفسّرة ، يقول : هل أدلّك على سبب نجاتك؟ آمن بالله ، كما تقول : هو أن تؤمن بالله ، وحينئذ فيمتنع العطف ، لعدم دخول التبشير في معنى التفسير.

وقال السّكاكي : الأمران معطوفان على «قل» مقدّرة قبل (يا أيها) ، وحذف القول كثير ؛ وقيل : معطوفان على أمر محذوف تقديره في الأولى : فأنذر ، وفي الثانية : فأبشر ، كما قال الزمخشري في (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم : ٤٦] : إن التقدير : فاحذرني واهجرني ، لدلالة (لَأَرْجُمَنَّكَ) [مريم : ٤٦] على التهديد.

وأما :

«وهل عند رسم دارس من معوّل»

ف «هل» فيه نافية ، مثلها في (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) [الأحقاف : ٣٥]. وأما :

«هذه خولان»

فمعناه تنبّه لـ «خولان» أو الفاء لمجرّد السببية مثلها في جواب الشرط ، وإذ قد استدلّا بذلك فهلّا استدلّا بقوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر : ١ ـ ٢] ونحوه في التنزيل كثير.

وأما :

«وكحّل أماقيك»

٣٧٨

فيتوقّف على النظر فيما قبله من الأبيات ، وقد يكون معطوفا على أمر مقدّر يدلّ عليه المعنى ، أي : فافعل كذا وكحّل ، كما قيل في (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم : ٣٦].

وأما ما نقله أبو حيان عن سيبويه فغلط عليه ، وإنما قال : واعلم أنه لا يجوز «من عبد الله وهذا زيد الرجلين الصالحين» رفعت أو نصبت ؛ لأنك لا تثني إلا على من أثبتّه وعلمته ، ولا يجوز أن تخلط من تعلم ومن لا تعلم فتجعلهما بمنزلة واحدة ، وقال الصفار : لما منعها سيبويه من جهة النعت علم أنّ زوال النّعت يصحّحها ؛ فتصرّف أبو حيان في كلام الصفار وفهم فيه ، ولا حجّة فيما ذكر الصفار ، إذ قد يكون للشيء مانعان ويقتصر على ذلك أحدهما ، لأنه الذي اقتضاه المقام. والله أعلم.

عطف الاسمية على الفعلية ، وبالعكس

فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : الجواز مطلقا ، وهو المفهوم من قول النحويّين في باب الاشتغال في مثل «قام زيد وعمرا أكرمته» إن نصب «عمرا» أرجح ، لأن تناسب الجملتين المتعاطفتين أولى من تخالفهما.

والثاني : المنع مطلقا ، حكي عن ابن جني أنه قال في قوله [من الرمل] :

٦٣١ ـ عاضها الله غلاما بعد ما

شابت الأصداغ والضّرس نقد (١)

إن «الضّرس» فاعل بمحذوف يفسّره المذكور ، وليس بمبتدأ ، ويلزمه إيجاب النصب في مسألة الاشتغال السابقة ، إلا إن قال : أقدّر الواو للاستئناف.

والثالث : لأبي علي ، أنه يجوز في الواو فقط ، نقله عنه أبو الفتح في سر الصّناعة ، وبنى عليه منع كون الفاء في «خرجت فإذا الأسد حاضر» عاطفة.

وأضعف الثلاثة القول الثاني ، وقد لهج به الرازي في تفسيره ، وذكر في كتابه في مناقب الشافعي ، رضي‌الله‌عنه ، مجلسا جمعه وجماعة من الحنفيّة ، وأنهم زعموا أنّ قول الشافعي «يحلّ أكل متروك التّسمية» مردود بقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام : ١٢١] ، فقال : فقلت لهم : لا دليل فيها ، بل هي حجّة للشافعي ،

__________________

(١) البيت من الرمل ، وهو للهذلي في لسان العرب ٣ / ٤٢٦ مادة / نقد / ، وبلا نسبة في إصلاح المنطق ص ٤٩ ، والخصائص ٢ / ٧١ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٧٣.

٣٧٩

وذلك لأن الواو ليست للعطف ؛ لتخالف الجملتين بالاسميّة والفعليّة ، ولا للاستئناف ؛ لأن أصل الواو أن تربط ما بعدها بما قبلها ، فبقي أن تكون للحال ؛ فتكون جملة الحال مقيّدة للنهي ، والمعنى : لا تأكلوا منه في حالة كونه فسقا ومفهومه جواز الأكل إذا لم يكن فسقا ، والفسق قد فسّره الله تعالى بقوله : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [الأنعام : ١٤٥] ، فالمعنى : لا تأكلوا منه إذا سمّي عليه غير الله ، ومفهومه : كلوا منه إذا لم يسمّ عليه غير الله ، ا ه. ملخّصا موضحا. ولو أبطل العطف لتخالف الجملتين بالإنشاء والخبر لكان صوابا.

العطف على معمولي عاملين

وقولهم : «على عاملين» فيه تجوّز ، أجمعوا على جواز العطف على معمولي عامل واحد ، نحو : «إن زيدا ذاهب وعمرا جالس» ، وعلى معمولات عامل ، نحو : «أعلم زيد عمرا بكرا جالسا ، وأبو بكر خالدا سعيدا منطلقا» ، وعلى منع العطف على معمولي أكثر من عاملين ، نحو : «إنّ زيدا ضارب أبوه لعمرو وأخاك غلامه بكر» ؛ وأمّا معمولا عاملين ، فإن لم يكن أحدهما جارّا ، فقال ابن مالك : هو ممتنع إجماعا نحو : «كان آكلا طعامك عمرو وتمرك بكر» وليس كذلك ، بل نقل الفارسيّ الجواز مطلقا عن جماعة ، وقيل : إن منهم الأخفش ، وإن كان أحدهما جارّا فإن كان الجارّ مؤخّرا ، نحو : «زيد في الدار والحجرة عمرو ، أو وعمرو الحجرة» ، فنقل المهدويّ أنه ممتنع إجماعا ، وليس كذلك ، بل هو جائز عند من ذكرنا ؛ وإن كان الجارّ مقدّما نحو : «في الدار زيد والحجرة عمرو» فالمشهور عن سيبويه المنع ، وبه قال المبرّد وابن السرّاج وهشام ؛ وعن الأخفش الإجازة ، وبه قال الكسائي والفرّاء والزجّاج ؛ وفصّل قوم ـ منهم الأعلم ـ فقالوا : إن ولي المخفوض العاطف كالمثال جاز ، لأنه كذا سمع ، ولأنّ فيه تعادل المتعاطفات ، وإلا امتنع ، نحو : «في الدار زيد وعمرو الحجرة».

وقد جاءت مواضع يدلّ ظاهرها على خلاف قول سيبويه ، كقوله تعالى : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٥) [الجاثية : ٣ ـ ٥] ، آيات الأولى منصوبة إجماعا ؛ لأنها اسم «أنّ» ، والثانية والثالثة قرأهما الأخوان بالنصب ، والباقون بالرّفع ، وقد استدلّ بالقراءتين في «آيات» الثالثة على المسألة ، أما الرفع فعلى نيابة الواو مناب الابتداء و «في» ، وأما النصب فعلى نيابتها مناب «إنّ» و «في».

٣٨٠