شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢
الجزء ١ الجزء ٢

وأجيب بثلاثة أوجه :

أحدها : أن «في» مقدّرة ؛ فالعمل لها ، ويؤيده أن في حرف عبد الله التصريح بـ «في» ، وعلى هذا الواو نائبة مناب عامل واحد ، وهو الابتداء أو «إنّ».

والثاني : أن انتصاب «آيات» على التوكيد للأولى ، ورفعها على تقدير مبتدأ ، أي : هي آيات ، وعليهما فليست «في» مقدّرة.

والثالث : يخصّ قراءة النصب ، وهو أنه على إضمار «إنّ» و «في» ، ذكره الشاطبي وغيره ، وإضمار «إنّ» بعيد.

ومما يشكل على مذهب سيبويه قوله [من المتقارب] :

٦٣٢ ـ هوّن عليك ، فإنّ الأمور

بكفّ الإله مقاديرها

٦٣٣ ـ فليس بآتيك منهيّها

ولا قاصر عنك مأمورها (١)

لأن «قاصر» عطف على مجرور الباء ، فإن كان مأمورها عطفا على مرفوع «ليس» لزم العطف على معمولي عاملين ، وإن كان فاعلا بـ «قاصر» لزم عدم الارتباط بالمخبر عنه ؛ إذ التقدير حينئذ : فليس منهيّها بقاصر عنك مأمورها.

وقد أجيب عن الثاني بأنه لما كان الضمير في «مأمورها» عائدا على الأمور كان كالعائد على المنهيّات ، لدخولها في الأمور.

واعلم أنّ الزمخشريّ ممن منع العطف المذكور ، ولهذا اتّجه له أن يسأل في قوله تعالى : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) [الشمس : ١ ـ ٢] ، فقال : فإن قلت : نصب «إذا» معضل ؛ لأنك إذا جعلت الواوات عاطفة وقعت في العطف على عاملين ، يعني أنّ «إذا» عطف على «إذا» المنصوبة بـ «أقسم» ، والمخفوضات عطف على «الشمس» المخفوضة بواو القسم ؛ قال : وإن جعلتهنّ للقسم وقعت فيما اتّفق الخليل وسيبويه على استكراهه ، يعني أنهما استكرها ذلك لئلّا يحتاج كل قسم إلى جواب يخصّه ، ثم أجاب بأن فعل القسم لما كان لا يذكر مع واو القسم بخلاف الباء صارت كأنها هي الناصبة الخافضة ، فكان العطف على معمولي عامل.

__________________

(١) البيتان من المتقارب ، وهما للأعور الشني في خزانة الأدب ٤ / ١٣٦ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٣٨ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٢٧ ، والكتاب ١ / ٦٤.

٣٨١

قال ابن الحاجب : وهذه قوة منه ، واستنباط لمعنى دقيق ، ثم اعترض عليه بقوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) [التكوير : ١٥ ـ ١٨] فإن الجارّ هنا الباء ، وقد صرّح معه بفعل القسم ؛ فلا تنزل الباء منزلة الناصبة الخافضة ، ا ه.

وبعد ، فالحقّ جواز العطف على معمولي عاملين في نحو : «في الدّار زيد والحجرة عمرو» ولا إشكال حينئذ في الآية.

وأخذ ابن الخبّاز جواب الزمخشريّ ، فجعله قولا مستقلا ، فقال في كتاب النهاية : وقيل إذا كان أحد العاملين محذوفا فهو كالمعدوم ، ولهذا جاز في نحو : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) [الليل : ١ ـ ٢] وما أظنه وقف في ذلك على كلام غير الزمخشري فينبغي له أن يقيّد الحذف بالوجوب.

المواضع التي يعود الضمير فيها على متأخرّ لفظا ورتبة

وهي سبعة : أحدها : أن يكون الضّمير مرفوعا بـ «نعم» أو «بئس» ، ولا يفسر إلا بالتّمييز ، نحو : «نعم رجلا زيد ، وبئس رجلا عمرو» ، ويلتحق بهما «فعل» الذي يراد به المدح والذمّ ، نحو : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) [الأعراف : ١٧٧] ، و (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ) [الكهف : ٥] ، و «ظرف رجلا زيد» ؛ وعن الفراء والكسائي أن المخصوص هو الفاعل ، ولا ضمير في الفعل : ويردّه «نعم رجلا كان زيد» ، ولا يدخل النّاسخ على الفاعل ، وأنه قد يحذف ، نحو : (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) [الكهف : ٥٠].

الثاني : أن يكون مرفوعا بأوّل المتنازعين المعمل ثانيهما ، نحو قوله [من الطويل] :

٦٣٤ ـ جفوني ولم أجف الأخلّاء ، إنّني

لغير جميل من خليلي مهمل (١)

والكوفيّون يمنعون من ذلك ، فقال الكسائي : بحذف الفاعل ، وقال الفرّاء : يضمر ويؤخر عن المفسّر ، فإن استوى العاملان في طلب الرّفع وكان العطف بالواو ، نحو : «قام وقعد أخواك» ، فهو عنده فاعل بهما.

الثالث : أن يكون مخبرا عنه فيفسّره خبره ، نحو : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) [الأنعام : د ٢٩]. قال الزمخشري : هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به إلّا بما يتلوه ، وأصله : إن الحياة إلا

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ٧٧ ، وأوضح المسالك ٢ / ٢٠٠ ، وتخليص الشواهد ص ٥١٥ ، والدرر ١ / ٢١٩ ، وشرح الأشموني ١ / ١٧٩.

٣٨٢

حياتنا الدنيا ، ثم وضع «هي» موضع الحياة لأنّ الخبر يدلّ عليها ويبيّنها ، قال : ومنه [من المتقارب] :

هي النّفس تحمل ما حمّلت

و «هي العرب تقول ما شاءت». قال ابن مالك : وهذا من جيّد كلامه ، ولكن في تمثيله بـ «هي النفس» و «هي العرب» ضعف ، لإمكان جعل «النفس» و «العرب» بدلين و «تحمل» و «تقول» خبرين ؛ وفي كلام ابن مالك أيضا ضعف ، لإمكان وجه ثالث في المثالين لم يذكره ، وهو كون «هي» ضمير القصّة. فإن أراد الزمخشريّ أن المثالين يمكن حملهما على ذلك لا أنه متعيّن فيهما ، فالضّعف في كلام ابن مالك وحده.

الرابع : ضمير الشأن والقصة ، نحو : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) [الإخلاص : ١] ، ونحو : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنبياء : ٩٧] ، والكوفي يسمّيه ضمير المجهول.

وهذا الضمير مخالف للقياس من خمسة أوجه :

أحدها : عوده على ما بعده لزوما ؛ إذ لا يجوز للجملة المفسرة له أن تتقدّم هي ، ولا شيء منها عليه ، وقد غلط يوسف بن السيرافي إذ قال في قوله [من الطويل] :

٦٣٥ ـ أسكران كان ابن المراغة إذ هجا

تميما بجوّ الشّام أم متساكر (١)

فيمن رفع «سكران» ، و «ابن المراغة» : إن «كان» شأنيّة ، و «ابن المراغة سكران» : مبتدأ وخبر ، والجملة خبر «كان» ؛ والصّواب أن «كان» زائدة ، والأشهر في إنشاده نصب «سكران» ورفع «ابن المراغة» ؛ فارتفاع «متساكر» على أنه خبر لـ «هو» محذوفا ، ويروى بالعكس ؛ فاسم «كان» مستتر فيها.

والثاني : أنّ مفسّره لا يكون إلا جملة ، ولا يشاركه في هذا ضمير ، وأجاز الكوفيّون والأخفش تفسيره بمفرد له مرفوع ، نحو : «كان قائما زيد» ، و «ظننته قائما عمرو» ، وهذا إن سمع خرج على أن المرفوع مبتدأ ، واسم «كان» وضمير «ظننته» راجعان إليه ، لأنه في نية التقديم ؛ ويجوز كون المرفوع بعد «كان» اسما لها ؛ وأجاز الكوفيون : «إنه قام» و «إنه

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ص ٤٨١ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٨٨ ، والكتاب ١ / ٤٩ ، ولسان العرب ٤ / ٣٧٣ مادة / سكر /.

٣٨٣

ضرب» على حذف المرفوع والتفسير بالفعل مبنيّا للفاعل أو للمفعول ، وفيه فسادان : التفسير بالمفرد ، وحذف مرفوع الفعل.

والثالث : أنه لا يتبع بتابع ؛ فلا يؤكّد ، ولا يعطف عليه ، ولا يبدل منه.

والرابع : أنه لا يعمل فيه إلا الابتداء أو أحد نواسخه.

والخامس : أنه ملازم للإفراد فلا يثنّى ولا يجمع ، وإن فسر بحديثين أو أحاديث.

وإذا تقرّر هذا علم أنه لا ينبغي الحمل عليه إذا أمكن غيره ، ومن ثمّ ضعف قول الزمخشري في (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) [الأعراف : ٢٧] إنّ اسم «إنّ» ضمير الشأن ، والأولى كونه ضمير «الشّيطان» ، ويؤيّده أنه قرىء (وَقَبِيلُهُ) بالنصب ؛ وضمير الشأن لا يعطف عليه ، وقول كثير من النحويين : إن اسم «أنّ» المفتوحة المخفّفة ضمير شأن ، والأولى أن يعاد على غيره إذا أمكن ، ويؤيّده قول سيبويه في (أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) [الصافات : ١٠٤ ـ ١٠٥] : إن تقديره أنك ، وفي «كتبت إليه أن لا يفعل» أنه يجزم على النهي ، وينصب على معنى «لئلّا» ، ويرفع على «أنك».

الخامس : أن يجر بـ «ربّ» مفسّرا بتمييز ، وحكمه حكم ضمير «نعم» و «بئس» في وجوب كون مفسّره تمييزا وكونه هو مفردا ، وقال [من الخفيف] :

٦٣٦ ـ ربّه فتية دعوت إلى ما

يورث الحمد دائما فأجابوا (١)

ولكنه يلزم أيضا التّذكير ، فيقال : «ربّه امرأة» لا «ربّها» ، ويقال : «نعمت امرأة هند» ، وأجاز الكوفيون مطابقته للتمييز في التّأنيث والتّثنية والجمع ، وليس بمسموع.

وعندي أن الزمخشري يفسّر الضمير بالتمييز في غير بابي «نعم» و «ربّ» ، وذلك أنه قال في تفسير (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [البقرة : ٢٩] الضمير في (فَسَوَّاهُنَ) ضمير مبهم ، و «سبع سموات» تفسيره ، كقولهم : «ربّه رجلا» ؛ وقيل : راجع إلى «السماء» ، و «السماء» في معنى الجنس ؛ وقيل : جمع «سماءة» ؛ والوجه العربي هو الأول ، ا ه. وتؤول على أن مراده أن «سبع سموات» بدل ، وظاهر تشبيهه بـ «ربّه رجلّا» يأباه.

السادس : أن يكون مبدلا منه الظّاهر المفسّر له ، كـ «ضربته زيدا». قال ابن عصفور : أجازه الأخفش ومنعه سيبويه ؛ وقال ابن كيسان : هو جائز بإجماع ، نقله عنه ابن

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو بلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ١٩ ، والدرر ٤ / ١٢٨ ، وشرح الأشموني ١ / ١٨٧ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٧٤.

٣٨٤

مالك ؛ ومما خرّجوا على ذلك قولهم : «اللهمّ صلّ عليه الرّؤوف الرّحيم». وقال الكسائي : هو نعت ، والجماعة يأبون نعت الضمير ، وقوله [من الرجز] :

٦٣٧ ـ قد أصبحت بقرقرى كوانسا

فلا تلمه أن ينام البائسا (١)

وقال سيبويه : هو بإضمار «أذمّ» ، وقولهم : «قاما أخواك» ، و «قاموا إخوتك» ، و «قمن نسوتك» ؛ وقيل : على التّقديم والتأخير ؛ وقيل : الألف والواو والنون أحرف كالتاء في «قامت هند» وهو المختار.

والسابع : أن يكون متّصلا بفاعل مقدّم ، ومفسّره مفعول مؤخّر ، كـ «ضرب غلامه زيدا» أجازه الأخفش وأبو الفتح وأبو عبد الله الطّوال من الكوفيّين ، ومن شواهده قول حسان [من الطويل] :

٦٣٨ ـ ولو أنّ مجدا أخلد الدّهر واحدا

من النّاس أبقى مجده الدّهر مطعما (٢)

وقوله [من الطويل] :

٦٣٩ ـ كسا حلمه ذا الحلم أثواب سؤدد

ورقّى نداه ذا النّدى في ذرى المجد (٣)

والجمهور يوجبون في ذلك في النثر تقديم المفعول ، نحو : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) [البقرة : ١٢٤] ، ويمتنع بالإجماع نحو : «صاحبها في الدار» لاتّصال الضمير بغير الفاعل ، ونحو : «ضرب غلامها عبد هند» لتفسيره بغير المفعول ؛ والواجب فيهما تقديم الخبر والمفعول ؛ ولا خلاف في جواز نحو : «ضرب غلامه زيد». وقال الزمخشري في : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) الآية ، في قراءة أبي عمرو (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) [آل عمران : ١٨٨] بالغيبة وضمّ آخر الفعل : إن الفعل مسند لـ «الذين يفرحون» واقعا على ضميرهم محذوفا ، والأصل : لا يحسبنّهم الذين يفرحون بمفازة ، أي : لا يحسبنّ أنفسهم الذين يفرحون فائزين ، و (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) توكيد ؛ وكذا قال في قراءة هشام : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) [آل عمران : ١٦٩] بالغيبة : إن التّقدير : ولا يحسبنّهم ، و «الذين» فاعل ؛ وردّه أبو حيان باستلزامه عود الضّمير على المؤخّر ، وهذا غريب جدّا ، فإن هذا المؤخّر

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لحسان بن ثابت في ديوانه ص ٢٤٣ ، والاشتقاق ص ٨٨ ، وتخليص الشواهد ص ٤٨٩ ، وتذكرة النحاة ص ٣٦٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٧٥.

(٣) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في تخليص الشواهد ص ٤٩٠ ، وتذكرة النحاة ص ٣٦٤ ، والدرر ١ / ٢١٨ ، وشرح الأشموني ١ / ١٧٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٧٥.

٣٨٥

مقدّم في الرتبة ؛ ووقع له نظير هذا في قول القائل : «مررت برجل ذاهبة فرسه مكسورا سرجها» ، فقال : تقديم الحال هنا على عاملها وهو «ذاهبة» ممتنع ، لأن فيه تقديم الضمير على مفسّره ، ولا شك أنه لو قدّم لكان كقولك : «غلامه ضرب زيد».

ووقع لابن مالك سهو في هذا المثال من وجه غير هذا ، وهو أنه منع من التّقديم لكون العامل صفة ، ولا خلاف في جواز تقديم معمول الصفة عليها بدون الموصوف ؛ ومن الغريب أن أبا حيان صاحب هذه المقالة وقع له أنه منع عود الضمير إلى ما تقدّم لفظا ، وأجاز عوده إلى ما تأخّر لفظا ورتبة ؛ أمّا الأول فإنه منع في قوله تعالى : (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ) [آل عمران : ٣٠] كون «ما» شرطيّة ، لأن «تود» حينئذ يكون دليل الجواب ، لا جوابا لكونه مرفوعا ، فيكون في نيّة التقديم ، فيكون حينئذ الضمير في «بينه» عائدا على ما تأخر لفظا ورتبة ، وهذا عجيب ، لأن الضمير الآن عائد على متقدّم لفظا ، ولو قدّم «تود» لغير التركيب ، ويلزمه أن يمنع «ضرب زيدا غلامه» ، لأن «زيدا» في نيّة التأخير ، وقد استشعر ورود ذلك ، وفرّق بينهما بما لا معوّل عليه ؛ وأما الثاني فإنه قال في قوله تعالى : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) [يوسف : ٣٥] إن فاعل «بدا» عائد على «السّجن» المفهوم من «ليسجننه».

شرح حال الضمير المسمّى فصلا وعمادا

والكلام فيه في أربع مسائل :

الأولى : في شروطه ، وهي ستة ، وذلك أنه يشترط فيما قبله أمران :

أحدهما : كونه مبتدأ في الحال أو في الأصل ، نحو : (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف : ١٥٧] ، (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) (١٦٥) [الصافات : ١٦٥] الآية ، (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [المائدة : ١١٧] ، (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) [المزمل : ٢٠] ، (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) [الكهف : ٣٩] ، وأجاز الأخفش وقوعه بين الحال وصاحبها ، كـ «جاء زيد هو ضاحكا» ، وجعل منه : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) [هود : ٧٨] ، فيمن نصب (أَطْهَرُ ،) ولحّن أبو عمرو من قرأ بذلك ، وقد خرّجت على أن (هؤُلاءِ بَناتِي) جملة ، و (هُنَ) إما توكيد لضمير مستتر في الخبر ، أو مبتدأ و (لَكُمْ) الخبر ، وعليهما فـ «أطهر» حال ، وفيها نظر ؛ أما الأول فلأن «بناتي» جامد غير مؤوّل بالمشتقّ ، فلا يتحمّل ضميرا عند البصريّين ؛ وأما الثاني فلأن الحال لا يتقدّم على عاملها الظرفي عند أكثرهم.

والثاني : كونه معرفة كما مثّلنا ، وأجاز الفرّاء وهشام ومن تابعهما من الكوفيّين كونه

٣٨٦

نكرة ، نحو : «ما ظننت أحدا هو القائم» ، و «كان رجل هو القائم» ، وحملوا عليه : (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) [النحل : ٩٢] فقدروا (أَرْبى) منصوبا.

ويشترط فيما بعده أمران : كونه خبرا لمبتدأ في الحال أو في الأصل ، وكونه معرفة أو كالمعرفة في أنه لا يقبل «أل» كما تقدّم في «خيرا» و «أقلّ» ؛ وشرط الذي كالمعرفة : أن يكون اسما كما مثّلنا ، وخالف في ذلك الجرجاني فألحق المضارع بالاسم لتشابههما ، وجعل منه (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) [البروج : ١٣] ، وهو عند غيره توكيد ، أو مبتدأ ؛ وتبع الجرجانيّ أبو البقاء ، فأجاز الفصل في (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) [فاطر : ١٠] وابن الخباز ، فقال في شرح الإيضاح : لا فرق بين كون امتناع «أل» لعارض كـ «أفعل من» والمضاف كمثلك و «غلام زيد» ، أو لذاته كالفعل المضارع ، ا ه. وهو قول السهيلي. قال في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٤٥) [النجم : ٤٣ ـ ٤٥] : وإنما أتى بضمير الفصل في الأوّلين دون الثالث ، لأن بعض الجهّال قد يثبت هذه الأفعال لغير الله كقول نمروذ : أنا أحيي وأميت ، وأما الثالث فلم يدّعه أحد من الناس ، ا ه.

وقد يستدل لقول الجرجاني بقوله تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي) [سبأ : ٦] ، فعطف (يَهْدِي) على (الْحَقَ) الواقع خبرا بعد الفصل ، ا ه.

ويشترط له في نفسه أمران :

أحدهما : أن يكون بصيغة المرفوع ، فيمتنع «زيد إيّاه الفاضل ، وأنت إيّاك العالم» ، وأما «إنّك إيّاك الفاضل» فجائز على البدل عند البصريّين ، وعلى التوكيد عند الكوفيّين.

والثاني : أن يطابق ما قبله ، فلا يجوز «كنت هو الفاضل» ، فأما قول جرير بن الخطفى [من الوافر] :

٦٤٠ ـ وكائن بالأباطح من صديق

يراني لو أصبت هو المصابا (١)

وكان قياسه «يراني أنا» مثل (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ) [الكهف : ٣٩] ، فقيل : ليس هو فصلا وإنما هو توكيد للفاعل ؛ وقيل : بل هو فصل ، فقيل لمّا كان صديقه بمنزلة نفسه حتى كان إذا أصيب كأن صديقه هو قد أصيب فجعل ضمير «الصديق» بمنزلة ضميره ،

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لجرير في خزانة الأدب ٥ / ٣٩٧ ، والدرر ١ / ٢٢٤ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٠٠ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٧٥ ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٣ / ١١٠.

٣٨٧

لأنه نفسه في المعنى ؛ وقيل : هو على تقدير مضاف إلى الياء ، أي : يرى مصابي ، والمصاب حينئذ مصدر ، كقولهم : «جبر الله مصابك» أي : مصيبتك ، أي : يرى مصابي هو المصاب العظيم ؛ ومثله في حذف الصفة : (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) [البقرة : ٧١] أي : الواضح ، وإلا لكفروا بمفهوم الظرف (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [الكهف : ١٠٥] أي : نافعا ، لأن أعمالهم توزن ، بدليل : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) [الأعراف : ٩] و [المؤمنون : ١٠٣] الآية ؛ وأجازوا «سير يزيد سير» بتقدير الصفة ، أي واحد ، وإلّا لم يفد ؛ وزعم ابن الحاجب أن الإنشاد «لو أصيب» بإسناد الفعل إلى ضمير «الصديق» ، وإنّ «هو» توكيد له ، أو لضمير «يرى» ، قال : إذ لا يقول عاقل : يراني مصابا إذا أصابتني مصيبة ، ا ه. وعلى ما قدّمناه من تقدير الصفة لا يتّجه الاعتراض ؛ ويروى «يراه» أي يرى نفسه ، و «تراه» بالخطاب ، ولا إشكال حينئذ ولا تقدير ، والمصاب حينئذ مفعول لا مصدر. ولم يطّلع على هاتين الروايتين بعضهم فقال : ولو أنه قال : «يراه» لكان حسنا ، أي : يرى الصديق نفسه مصابا إذا أصيب.

المسألة الثانية : في فائدته ، وهي ثلاثة أمور :

أحدها لفظيّ ، وهو الإعلام من أول الأمر بأن ما بعده خبر لا تابع ، ولهذا سمّي فصلا ، لأنه فصل بين الخبر والتابع ، وعمادا ، لأنه يعتمد عليه معنى الكلام. وأكثر النحويين يقتصر على ذكر هذه الفائدة ، وذكر التابع أولى من ذكر أكثرهم الصفة ، لوقوع الفصل في نحو : (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [المائدة : ١١٧] ، والضمائر لا توصف.

والثاني معنويّ ، وهو التّوكيد ، ذكره جماعة ، وبنوا عليه أنه لا يجامع التوكيد ، فلا يقال : «زيد نفسه هو الفاضل» ، وعلى ذلك سمّاه بعض الكوفيّين دعامة ، لأنه يدعم به الكلام ، أي : يقوّى ويؤكّد.

والثالث معنوي أيضا ، وهو الاختصاص ، وكثير من البيانيّين يقتصر عليه ؛ وذكر الزمخشريّ الثلاثة في تفسير (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة : ٥] وغيرها ، فقال : فائدته الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة ، والتوكيد ، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره.

المسألة الثالثة : في محله.

زعم البصريون أنه لا محلّ له ، ثم قال أكثرهم : إنه حرف ، فلا إشكال ، وقال الخليل : اسم ، ونظيره على هذا القول أسماء أفعال فيمن يراها غير معمولة لشيء ، و «أل»

٣٨٨

الموصولة. وقال الكوفيون : له محل ؛ ثم قال الكسائي : محلّه بحسب ما بعده. وقال الفراء : بحسب ما قبله ؛ فمحله بين المبتدأ والخبر رفع ، وبين معمولي «ظنّ» نصب وبين معمولي «كان» رفع عند الفرّاء ، ونصب عند الكسائي ، وبين معمولي «إنّ» بالعكس.

المسألة الرابعة : فيما يحتمل من الأوجه.

يحتمل في نحو : (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [المائدة : ١١٧] ، ونحو : (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) [الأعراف : ١١٣] الفصليّة والتوكيد ، دون الابتداء لانتصاب ما بعده ، وفي نحو : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) (١٦٥) [الصافات : ١٦٥] ، ونحو : «زيد هو العالم» ، و «إنّ عمرا هو الفاضل» الفصلية والابتداء ، دون التّوكيد لدخول اللام في الأولى ولكون ما قبله ظاهرا في الثانية ، والثالثة ، ولا يؤكّد الظاهر بالمضمر لأنه ضعيف والظاهر قويّ ؛ ووهم أبو البقاء ، فأجاز في (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (٣) [الكوثر : ٣] التوكيد ، وقد يريد أنه توكيد لضمير مستتر في (شانِئَكَ) لا لنفس شانئك. ويحتمل الثلاثة في نحو : «أنت أنت الفاضل» ، ونحو : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة : ١٠٩ ، ١١٦] ، ومن أجاز إبدال الضّمير من الظاهر أجاز في نحو : «إنّ زيدا هو الفاضل» البدليّة ؛ ووهم أبو البقاء ، فأجاز في (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) [المزمل : ٢٠] كونه بدلا من الضمير المنصوب.

ومن مسائل الكتاب «قد جرّبتك فكنت أنت أنت» الضميران مبتدأ وخبر ، والجملة خبر «كان» ، ولو قدّرت الأول فصلا أو توكيدا لقلت : «أنت إياك».

والضّمير في قوله تعالى : (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) [النحل : ٩٢] مبتدأ ، لأن ظهور ما قبله يمنع التوكيد ، وتنكيره يمنع الفصل.

وفي الحديث : «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه هما اللّذان يهوّدانه أو ينصّرانه» إن قدّر في «يكون» ضمير لـ «كلّ» فـ «أبواه» مبتدأ ، وقوله : «هما» إما مبتدأ ثان وخبره «اللذان» والجملة خبر «أبواه» ، وإما فصل ، وإما بدل من «أبواه» إذا أجزنا إبدال الضّمير من الظاهر ، و «اللذان» خبر «أبواه» ؛ وإن قدّر «يكون» خاليا من الضّمير فـ «أبواه» اسم «يكون» ، و «هما» مبتدأ أو فصل أو بدل ، وعلى الأول فـ «اللذان» بالألف ، وعلى الأخيرين هو بالياء.

٣٨٩

روابط الجملة بما هي خبر عنه

وهي عشرة :

أحدها الضمير ، وهو الأصل ، ولهذا يربط به مذكورا كـ «زيد ضربته» ، ومحذوفا مرفوعا ، نحو : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه : ٦٣] ، إن قدّر : «لهما ساحران» ، ومنصوبا كقراءة ابن عامر في سورةالحديد (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [الحديد : ١٠] ، ولم يقرأ بذلك في سورة النساء ، بل قرأ بنصب (كل) كالجماعة ، لأن قبله جملة فعلية وهي (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ) [النساء : ٩٥] فساوى بين الجملتين في الفعليّة ، بل بين الجمل ، لأن بعده و (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ) [النساء : ٩٥] وهذا مما أغفلوه ، أعني التّرجيح باعتبار ما يعطف على الجملة ، فإنهم ذكروا رجحان النّصب على الرّفع في باب الاشتغال في نحو : «قام زيد وعمرا أكرمته» للتناسب ، ولم يذكروا مثل ذلك في نحو : «زيد ضربته وأكرمت عمرا» ولا فرق بينهما ، وقول أبي النجم [من الرجز] :

٤١ ـ [قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي

عليّ ذنبا] كلّه لم أصنع (١)

ولو نصب «كل» على التوكيد لم يصحّ ؛ لأن «ذنبا» نكرة ، أو على المفعوليّة كان فاسدا معنى ، لما بينّاه في فصل «كل» ، وضعيفا صناعة ، لأن حقّ «كل» متّصلة بالضمير أن لا تستعمل إلا توكيدا أو مبتدأ ، نحو : (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [آل عمران : ١٥٤] قرىء بالنصب والرفع ؛ وقراءة جماعة (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [المائدة : ٥٠] بالرفع ، ومجرورا ، نحو : «السّمن منوان بدرهم» أي : منه ؛ وقول امرأة : «زوجي المسّ مسّ أرنب والرّيح ريح زرنب» إذا لم نقل إن «أل» نائبة عن الضمير ؛ وقوله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٤٣) [الشورى : ٤٣] أي : إن ذلك منه ، ولا بدّ من هذا التقدير ، سواء أقدّرنا اللام للابتداء و «من» موصولة أو شرطيّة ، أم قدّرنا اللام موطّئة و «من» شرطية. أما على الأول فلأن الجملة خبر ؛ وأما على الثاني فلأنه لا بدّ في جواب اسم الشرط المرتفع بالابتداء من أن يشتمل على ضمير ، سواء قلنا : إنّه الخبر أو إن الخبر فعل الشرط وهو الصّحيح ؛ وأما الثالث فلأنها جواب القسم في اللفظ ، وجواب الشّرط في المعنى. وقول أبي البقاء والحوفي : «إن الجملة جواب الشرط» مردود ، لأنّها اسمية ، وقولهما : «إنها على إضمار الفاء» مردود ، لاختصاص ذلك بالشعر ، ويجب على قولهما أن تكون اللام للابتداء ، لا للتوطئة.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٣٩٠

تنبيه ـ قد يوجد الضمير في اللفظ ولا يحصل الرّبط ، وذلك في ثلاث مسائل :

أحدها : أن يكون معطوفا بغير الواو ، نحو : «زيد قام عمرو فهو» أو «ثم هو».

والثانية : أن يعاد العامل ، نحو : زيد قام عمرو وقام هو».

والثالثة : أن يكون بدلا ، نحو : «حسن الجارية الجارية أعجبتني هو» فـ «هو» : بدل اشتمال من الضمير المستتر العائد على «الجارية» ، وهو في التقدير كأنه من جملة أخرى.

وقياس قول من جعل العامل في البدل نفس العامل في المبدل منه أن تصحّ المسألة ، ونحو ذلك مسألة الاشتغال ؛ فيجوز النصب والرّفع في نحو : «زيد ضربت عمرا وأباه» ، ويمتنع الرفع والنصب مع الفاء و «ثمّ» ومع التصريح بالعامل ؛ وإذا أبدلت «أخاه» ونحوه من «عمرو» لم يجوزا ، على ما مرّ من الاختلاف في عامل البدل ، فإن قدرته بيانا جاز باتّفاق أو بدلا لم يجز ، ويجوز بالاتّفاق «زيد ضربت رجلا يحبّه» رفعت «زيدا» أو نصبته ، لأن الصفة والموصوف كالشيء الواحد.

الثاني : الإشارة ، نحو : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) [الأعراف : ٣٦] ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٤٢] ، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٦] ، ويحتمله (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف : ٢٦]. وخصّ ابن الحاج المسألة بكون المبتدأ موصوفا والإشارة إشارة البعيد ؛ فيمتنع نحو : «زيد قام هذا» لمانعين ، و «زيد قام ذلك» لمانع ، والحجة عليه في الآية الثالثة ، ولا حجة عليه في الرابعة ؛ لاحتمال كون (ذلِكَ) فيها بدلا أو بيانا. وجوّز الفارسي كونه صفة ، وتبعه جماعة منهم أبو البقاء ، وردّه الحوفي بأن الصفة لا تكون أعرف من الموصوف.

الثالث : إعادة المبتدأ بلفظه ، وأكثر وقوع ذلك في مقام التّهويل والتّفخيم ، نحو : (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١ ـ ٢] ، (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) (٢٧) [الواقعة : ٢٧ ـ ٢٨] وقال [من الخفيف] :

٦٤٢ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (١)

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو لعدي بن زيد في ديوانه ص ٦٥ ، والأشباه والنظائر ٨ / ٣٠ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٧٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ١٧٦ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٦ / ٩٠ ، ١١ / ٣٦٦.

٣٩١

والرابع : إعادته بمعناه ، نحو : «زيد جاءني أبو عبد الله» إذا كان أبو عبد الله كنية له ، أجازه أبو الحسن مستدلّا بنحو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (١٧٠) [الأعراف : ١٧٠] ، وأجيب بمنع كون «الّذين» مبتدأ ، بل هو مجرور بالعطف على (الَّذِينَ يَتَّقُونَ ،) ولئن سلّم فالرابط العموم ، لأن المصلحين أعمّ من المذكورين ، أو ضمير محذوف ، أي : منهم ، وقال الحوفي : الخبر محذوف أي : مأجورون ؛ والجملة دليله.

والخامس : عموم يشمل المبتدأ ، نحو : «زيد نعم الرّجل» ، وقوله [من الطويل] :

٦٤٣ ـ [ألاليت شعري هل إلى أمّ جحدر

سبيل] ، فأمّا الصّبر عنها فلا صبرا (١)

كذا قالوا ، ويلزمهم أن يجيزوا «زيد مات الناس» ، و «عمرو كلّ الناس يموتون» ، و «خالد لا رجل في الدار» ، أما المثال فقيل : الربط إعادة المبتدأ بمعناه بناء على قول أبي الحسن في صحّة تلك المسألة ، وعلى القول بأن «أل» في فاعلي «نعم» و «بئس» للعهد لا للجنس ؛ وأما البيت فالرابط فيه إعادة المبتدأ بلفظه ، وليس العموم فيه مرادا ، إذ المراد أنه لا صبر له عنها ، لأنّه لا صبر له عن شيء.

والسادس : أن يعطف بفاء السببية جملة ذات ضمير على جملة خالية منه أو بالعكس ، نحو : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج : ٦٣] ، وقوله [من الطويل] :

٦٤٤ ـ وإنسان عيني يحسر الماء تارة

فيبدو ، وتارات يجمّ فيغرق (٢)

كذا قالوا ، والبيت محتمل لأن يكون أصله : يحسر الماء عنه ، أي : ينكشف عنه ، وفي المسألة تحقيق تقدّم في موضعه.

والسابع : العطف بالواو ، أجازه هشام وحده ، نحو : «زيد قامت هند وأكرمها» ، ونحو : «زيد قام وقعدت هند» ، بناء على أن الواو للجمع ؛ فالجملتان كالجملة كمسألة

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لابن ميادة في ديوانه ص ١٣٤ ، والأغاني ٢ / ٢٣٧ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٥٢ ، والدرر ٢ / ١٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٧٦ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٧ / ٢٨ ، وأوضح المسالك ١ / ١٩٩.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لذي الرمة في ديوانه ص ٤٦٠ ، وخزانة الأدب ٢ / ١٩٢ والدرر ٢ / ١٧ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ١٠٣ ، وأوضح المسالك ٣ / ٣٦٢.

٣٩٢

الفاء ، وإنما الواو للجمع في المفردات لا في الجمل ؛ بدليل جواز : «هذان قائم وقاعد» دون «هذان يقوم وقعد».

والثامن : شرط يشتمل على ضمير مدلول على جوابه بالخبر ، نحو : «زيد يقوم عمرو إن قام».

التاسع : «أل» النائبة عن الضمير ، وهو قول الكوفيّين وطائفة من البصريّين ، ومنه : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤٠ ـ ٤١] الأصل : مأواه ، وقال المانعون ، التقدير : هي المأوى له.

والعاشر : كون الجملة نفس المبتدأ في المعنى ، نحو : «هجّيرى أبي بكر لا إله إلّا الله» ومن هذا أخبار ضمير الشأن والقصّة ، نحو : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) [الإخلاص : ١] ، ونحو : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنبياء : ٩٧].

تنبيه ـ الرابط في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ) [البقرة : ٢٣٤] إمّا النون على أن الأصل : وأزواج الذين ، وإمّا كلمة «هم» مخفوضة محذوفة هي وما أضيف إليه على التّدريج ، وتقديرهما إما قبل «يتربّصن» ، أي : أزواجهم يتربّصن ، وهو قول الأخفش ؛ وإما بعده ، أي : يتربصن بعدهم ، وهو قول الفرّاء ؛ وقال الكسائي ـ وتبعه ابن مالك ـ الأصل : يتربّص أزواجهم ، ثم جيء بالضمير مكان «الأزواج» لتقدّم ذكرهنّ فامتنع ذكر الضمير ؛ لأن النون لا تضاف لكونها ضميرا ، وحصل الربط بالضمير القائم مقام الظاهر المضاف للضمير.

الأشياء التي تحتاج إلى الربط

وهي أحد عشر :

أحدها : الجملة المخبر بها ، وقد مضت ، ومن ثمّ كان مردودا قول ابن الطراوة في «لو لا زيد لأكرمتك» : إن «لأكرمتك» هو الخبر ؛ وقول ابن عطيّة في (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَ) [ص : ٨٥] إن (لَأَمْلَأَنَ) خبر «الحقّ» الأول فيمن قرأه بالرفع ، وقوله إنّ التقدير : أن أملأ مردود ، لأن «أن» تصيّر الجملة مفردا ، وجواب القسم لا يكون مفردا. بل الخبر فيهما محذوف ، أي : لولا زيد موجود ، والحق قسمي ، كما في «لعمرك لأفعلنّ».

والثاني : الجملة الموصوف بها ، ولا يربطها إلا الضّمير : إما مذكورا نحو : (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٣] ، أو مقدّرا إما مرفوعا ، كقوله [من الكامل]:

٣٩٣

٦٤٥ ـ إن يقتلوك فإنّ قتلك لم يكن

عارا عليك ، وربّ قتل عار (١)

أي : هو عار ، أو منصوبا ، كقوله [من الوافر] :

٦٤٦ ـ حميت حمى تهامة بعد نجد

وما شيء حميت بمستباح (٢)

أي حميته ، أو مجرورا ، نحو : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة : ٤٨] فإنه على تقدير فيه أربع مرات ؛ وقراءة الأعمش (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [الروم : ١٧] على تقدير فيه مرتين ؛ وهل حذف الجارّ والمجرور معا أو حذف الجارّ وحده فانتصب الضمير واتّصل بالفعل كما قال [من الطويل] :

٦٤٧ ـ ويوما شهدناه سليما وعامرا

[قليلا سوى الطّعن النّهال نوافله](٣)

أي : شهدنا فيه ، ثم حذف منصوبا؟ قولان : الأول عن سيبويه ، والثاني عن أبي الحسن ؛ وفي أمالي ابن الشّجري قال الكسائي : لا يجوز أن يكون المحذوف إلا الهاء ، أي أن الجارّ أولا ، ثم حذف الضمير ؛ وقال آخر : لا يكون المحذوف إلّا فيه ؛ وقال أكثر النحويين منهم سيبويه والأخفش : يجوز الأمران ، والأقيس عندي الأول. ا ه. وهو مخالف لما نقل غيره ؛ وزعم أبو حيان أن الأولى أن لا يقدر في الآية الأولى ضمير ، لا بل يقدر أن الأصل : يوما يوم لا تجزي ، بإبدال «يوم» الثاني من الأول ، ثم حذف المضاف ، ولا يعلم أن مضافا إلى جملة حذف ، ثم إن ادّعى أن الجملة باقية على محلّها من الجر فشاذ ، أو أنها أنيبت عن المضاف ، تكون الجملة مفعولا في مثل هذا الموضع.

الثالث : الجملة الموصول بها الأسماء ، ولا يربطها غالبا إلا الضمير : إما مذكورا نحو : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٣] ، ونحو : (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) [يس : ٣٥] ، (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) [الزخرف : ٧١] ، ونحو : (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ) [المؤمنون : ٣٣] ، وإما مقدّرا نحو : (أَيُّهُمْ أَشَدُّ) [مريم : ٦٩] ، ونحو : (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) [يس : ٣٥] ، (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لثابت بن قطنة في ديوانه ص ٤٩ ، والحماسة الشجرية ١ / ٣٣٠ ، وخزانة الأدب ٩ / ٥٦٥ ، والدرر ٢ / ١٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٨٩.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لجرير في ديوانه ١ / ٨٩ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٧٥ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٦ / ٤٢ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٤٠٢.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لرجل من بني عامر في الدرر ٣ / ٩٦ ، وشرح المفصل ٢ / ٤٦ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ٣٨ وخزانة الأدب ٧ / ١٨١.

٣٩٤

الْأَنْفُسُ) [الزخرف : ٧١] ، ونحو : (وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) [المؤمنون : ٣٣] ، والحذف من الصّلة أقوى منه من الصّفة ، ومن الصّفة أقوى منه من الخبر.

وقد يربطها ظاهر يخلف الضمير ، كقوله [من الطويل] :

٦٤٨ ـ فيا ربّ ليلى أنت في كلّ موطن

وأنت الّذي في رحمة الله أطمع (١)

وهو قليل ، قالوا : وتقديره : وأنت الذي في رحمته ، وقد كان يمكنهم أن يقدّروا : في رحمتك ، كقوله [من الطويل] :

٦٤٩ ـ وأنت الّذي أخلفتني ما وعدتني

[وأشمتّ بي من كان فيك يلوم](٢)

وكأنهم كرهوا بناء قليل على قليل ؛ إذ الغالب «أنت الّذي فعل» وقولهم : «فعلت» قليل ، ولكنه مع هذا مقيس ؛ وأما «أنت الّذي قام زيد» فقليل غير مقيس ، وعلى هذا فقول الزمخشري في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١] إنه يجوز كون العطف بـ «ثم» على الجملة الفعليّة ضعيف ؛ لأنه يلزمه أن يكون من هذا القليل ، فيكون الأصل كفروا به ، لأن المعطوف على الصّلة صلة ، فلا بدّ من رابط ، وأما إذا قدّر العطف على الحمد لله وما بعده فلا إشكال.

الرابع : الواقعة حالا ، ورابطها إمّا الواو والضّمير ، نحو : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] ، أو الواو فقط ، نحو : (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) [يوسف : ١٤] ، ونحو : «جاء زيد والشمس طالعة» ، أو الضمير فقط ، نحو : (تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر : ٦٠]. وزعم أبو الفتح في الصورة الثانية أنه لا بدّ من تقدير الضمير ، أي : طالعة وقت مجيئه ؛ وزعم الزمخشري في الثالثة أنها شاذّة نادرة ، وليس كذلك ؛ لورودها في مواضع من التنزيل ، نحو : (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [البقرة : ٣٦] ، (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) [الرعد : ٤١] ، (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ) [الفرقان : ٢٠] ، (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر : ٦٠] ، وقد يخلو منهما لفظا فيقدّر

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للمجنون في الدرر ١ / ٢٨٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٥٩ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ٦٧ ، وشرح التصريح ١ / ١٤٠.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لمعشوقة ابن الدمينة في ديوانه ص ٤٢ ، ولأميمة امرأته في الأغاني ١٧ / ٥٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٣٨١ ، وبلا نسبة في البيان والتبين.

٣٩٥

الضمير ، نحو : «مررت بالبرّ قفيز بدرهم» ، أو الواو كقوله يصف غائصا لطلب اللؤلؤ انتصف النهار وهو غائص وصاحبه لا يدري ما حاله [من الكامل] :

٦٥٠ ـ نصف النّهار الماء غامره

ورفيقه بالغيب لا يدري (١)

الخامس : المفسّرة لعامل الاسم المشتغل عنه ، نحو : «زيدا ضربته ، أو ضربت أخاه ، أو عمرا وأخاه ، أو عمرا أخاه» إذا قدرت الأخ بيانا ، فإن قدّرته بدلا لم يصحّ نصب الاسم على الاشتغال ، ولا رفعه على الابتداء ، وكذا لو عطفت بغير الواو ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) [محمد : ٨] ، «الذين» : مبتدأ ، و «تعسا» : مصدر لفعل محذوف هو الخبر ، ولا يكون الذين منصوبا بمحذوف يفسره «تعسا» كما تقول : «زيدا ضربا إيّاه» ، وكذا لا يجوز «زيدا جدعا له» ، ولا «عمرا سقيا له» ، خلافا لجماعة منهم أبو حيان ، لأن اللام متعلّقة بمحذوف ، لا بالمصدر لأنه لا يتعدّى بالحرف ، وليست لام التّقوية لأنها لازمة ، ولام التقوية غير لازمة ، وقوله تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ٢١١] إن قدّرت (مِنْ) زائدة فـ «كم» مبتدأ أو مفعول لـ «آتينا» مقدّرا بعده ، وإن قدّرتها بيانا لـ «كم» كما هي بيان لما في (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦] لم يجز واحد من الوجهين ، لعدم الراجع حينئذ إلى «كم» ، وإنما هي مفعول ثان مقدّم ، مثل : «أعشرين درهما أعطيتك». وجوّز الزمخشري في «كم» الخبرية والاستفهاميّة ، ولم يذكر النحويون أن «كم» الخبرية تعلّق العامل عن العمل ؛ وجوّز بعضهم زيادة «من» كما قدّمنا ، وإنما تزاد بعد الاستفهام بـ «هل» خاصة ، وقد يكون تجويزه ذلك على قول من لا يشترط كون الكلام غير موجب مطلقا ، أو على قول من يشترطه في غير باب التمييز ، ويرى أنها في «رطل من زيت» ، و «خاتم من حديد» زائدة ، لا مبيّنة للجنس.

السادس والسابع : بدلا البعض والاشتمال ، ولا يربطهما إلّا الضمير : ملفوظا ، نحو : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) [المائدة : ٧١] ، (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) [البقرة : ٢١٧] ، أو مقدّرا نحو : (مَنِ اسْتَطاعَ) [آل عمران : ٩٧] أي منهم ، ونحو : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ) [البروج : ٤ ـ ٥] ، أي : فيه ؛ وقيل : إن «أل» خلف عن الضمير ، أي : ناره ، وقال الأعشى [من الطويل] :

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو للمسيب بن علس في ديوانه ص ٦١٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٧٨ ، وخزانة الأدب ٣ / ٢٣٣ والدرر ٤ / ١٧ ، وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب ٢ / ٦٤٢.

٣٩٦

٦٥١ ـ لقد كان في حول ثواء ثويته

تقضّى لبانات ويسأم سائم (١)

أي : ثويته فيه ، فالهاء من «ثويته» مفعول مطلق ، وهي ضمير الثّواء ، لأن الجملة صفته ، والهاء رابط الصفة ، والضمير المقدّر رابط للبدل ـ وهو ثواء ـ بالمبدل منه وهو «حول» ، وزعم ابن سيده أنه يجوز كون الهاء في «ثويته» للحول على الاتّساع في ضمير الظرف بحذف كلمة «في» ، وليس بشيء ، لخلوّ الصفة حينئذ من ضمير الموصوف ، ولاشتراط الرابط في بدل البعض وجب في نحو قولك : «مررت بثلاثة زيد وعمرو» القطع بتقدير منهم ، لأنّه لو أتبع لكان بدل بعض من غير ضمير.

تنبيه ـ إنما لم يحتج بدل الكل إلى رابط لأنه نفس المبدل منه في المعنى ، كما أن الجملة التي هي نفس المبتدأ لا تحتاج إلى رابط لذلك.

الثامن : معمول الصفة المشبهة ، ولا يربطه أيضا إلا الضمير : إما ملفوظا به ، نحو: «زيد حسن وجهه» أو «وجها منه» ، أو مقدّرا ، نحو : «زيد حسن وجها» أي : منه ؛ واختلف في نحو : «زيد حسن الوجه» بالرفع ؛ فقيل : التّقدير منه. وقيل : «أل» خلف عن الضمير وقال تعالى : (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) [ص : ٤٩ ـ ٥٠] «جنات» بدل أو بيان ؛ والثاني يمنعه البصريون ؛ لأنه لا يجوز عندهم أن يقع عطف البيان في النكرات ؛ وقول الزمخشري إنه معرفة لأنّ «عدنا» علم على الإقامة بدليل (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ) [مريم : ٦١] لو صحّ تعيّنت البدليّة بالاتفاق ، إذ لا تبيّن المعرفة النكرة ، ولكن قوله ممنوع ، وإنما «عدن» مصدر «عدن» ، فهو نكرة ، والتي في الآية بدل لا نعت ، و (مُفَتَّحَةً) حال من «جنات» لاختصاصها بالإضافة ، أو صفة لها ، لا صفة لـ «حسن» ؛ لأنه مذكر ، ولأن البدل لا يتقدّم على النعت ، و (الْأَبْوابُ) مفعول ما لم يسمّ فاعله أو بدل من ضمير مستتر ، والأول أولى ، لضعف مثل «مررت بامرأة حسنة الوجه» ، وعليهما فلا بد من تقدير أن الأصل : الأبواب منها أو أبوابها ، ونابت «أل» عن الضمير ، وهذا البدل بدل بعض لا اشتمال خلافا للزمخشري.

التاسع : جواب اسم الشرط المرفوع بالابتداء ، ولا يربطه أيضا إلا الضمير : إما مذكورا ، نحو : (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ) [المائدة : ١١٥] ، أو مقدّرا أو منوبا عنه ،

__________________

(١) البيت من الطويل وهو للأعشى في ديوانه ص ١٢٧ ، والأغاني ٢ / ٢٠٦ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٨٧٩ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ٢٩٩ ، ورصف المباني ص ٤٢٣.

٣٩٧

نحو : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة : ١٩٧] أي : منه ، أو الأصل : في حجّة ؛ وأما قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٧٦) [آل عمران : ٧٦] ، (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٥٦) [المائدة : ٥٦] وقول الشاعر [من الوافر] :

٦٥٢ ـ فمن تكن الحضارة أعجبته

فأيّ رجال بادية ترانا؟ (١)

فقال الزمخشري في الآية الأولى : إن الرابط عموم المتّقين ، والظاهر أنه لا عموم فيها ، وأن «المتّقين» مساوون لمن تقدّم ذكره ، وإنما الجواب في الآيتين والبيت محذوف وتقديره في الآية الأولى : يحبه ، وفي الثانية : يغلب ، وفي البيت : فلسنا على صفته.

العاشر : العاملان في باب التنازع ، فلا بدّ من ارتباطهما إمّا بعاطف كما في «قام وقعد أخواك» أو عمل أوّلهما في ثانيهما ، نحو : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) (٤) [الجن : ٤] ، (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) (٧) [الجن : ٧] أو كون ثانيهما جوابا للأول ، إما جوابيّة الشرط نحو : (تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) [المنافقون : ٥] ، ونحو : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) [الكهف : ٩٦] ، أو جوابيّة السؤال ، نحو : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [النساء : ١٧٦] أو نحو ذلك من أوجه الارتباط ؛ ولا يجوز «قام قعد زيد» ، ولذلك بطل قول الكوفيّين : إن من التنازع قول امرىء القيس.

كفاني ـ ولم أطلب ـ قليل من المال

وإنه حجّة على رجحان اختيار إعمال الأول ، لأن الشاعر فصيح ، وقد ارتكبه مع لزوم حذف مفعول الثاني ، وترك إعمال الثاني مع تمكنه منه وسلامته من الحذف ، والصواب أنه ليس من التنازع في شيء ، لاختلاف مطلوبي العاملين ، فإن «كفاني» طالب لـ «القليل» ، و «أطلب» طالب لـ «الملك» محذوفا للدليل ، وليس طالبا لـ «القليل» ، لئلا يلزم فساد المعنى ، وذلك لأن التنازع يوجب تقدير قوله : ولم أطلب معطوفا على «كفاني» ، وحينئذ يلزم كونه مثبتا ، لأنه حينئذ داخل في حيّز الامتناع المفهوم من «لو» ، وإذا امتنع النفي جاء الإثبات ، فيكون قد أثبت طلبه للقليل بعد ما نفاه بقوله :

ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو للقطامي في ديوانه ص ٧٦ ، ولسان العرب ٤ / ١٩٧ مادة / حضر / ، وبلا نسبة في إصلاح المنطق ص ١١١ ، ولسان العرب ١٤ / ٦٨ مادة / بدا /.

٣٩٨

وإنما لم يجز أن يقدر مستأنفا لأنه لا ارتباط حينئذ بينه وبين «كفاني» ؛ فلا تنازع بينهما.

فإن قلت : لم لا يجوز التنازع على تقدير الواو للحال ، فإنك إذا قلت : «لو دعوته لأجابني غير متوان» أفادت «لو» انتفاء الدعاء والإجابة دون انتفاء عدم التواني حتى يلزم إثبات التواني؟

قلت : أجاز ذلك قوم منهم ابن الحاجب في شرح المفصل ، ووجّه به قول الفارسي والكوفيّين إن البيت من التنازع وإعمال الأول ، وفيه نظر ؛ لأن المعنى حينئذ لو ثبت أني أسعى لأدنى معيشة لكفاني القليل في حالة أنّي غير طالب له ؛ فيكون انتفاء كفاية القليل المقيّدة بعدم طلبه موقوفا على طلب له ؛ فيتوقّف عدم الشيء على وجوده.

ولهذه القاعدة أيضا بطل قول بعضهم في (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ٢٥٩] إن فاعل «تبيّن» ضمير راجع إلى المصدر المفهوم من «أن» وصلتها بناء على أن «تبيّن» و «أعلم» قد تنازعاه كما في «ضربني وضربت زيدا» ؛ إذ لا ارتباط بين «تبيّن» و «أعلم» ، على أنه لو صحّ لم يحسن حمل التّنزيل عليه ، لضعف الإضمار قبل الذكر في باب التنازع ، حتى إن الكوفيّين لا يجيزونه ألبتة ، وضعف حذف مفعول العامل الثاني إذا أهمل كـ «ضربني وضربت زيد» حتى إن البصريّين لا يجيزونه إلا في الضرورة.

والصواب أن مفعول «أطلب» : «الملك» محذوفا كما قدّمنا ، وأن فاعل «تبيّن» ضمير مستتر : إما للمصدر ، أي : فلما تبيّن له تبين كما قالوا في (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) [يوسف : ٣٥] أو لشيء دل عليه الكلام ، أي : فلما تبيّن له الأمر أو ما أشكل عليه ، ونظيره «إذا كان غدا فأتني» أي : إذا كان هو ، أي ما نحن عليه من سلامة.

الحادي عشر : ألفاظ التوكيد الأول ، وإنما يربطها الضمير الملفوظ به ، نحو : «جاء زيد نفسه ، والزيدان كلاهما ، والقوم كلّهم» ومن ثمّ كان مردودا قول الهروي في «الذخائر» ، تقول : «جاء القوم جميعا» على الحال ، و «جميع» على التوكيد ، وقول بعض من عاصرناه في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] : إنّ «جميعا» توكيد لـ «ما» ، ولو كان كذا لقيل : «جميعه» ، ثم التوكيد بـ «جميع» قليل ، فلا يحمل عليه التنزيل ، والصواب أنه حال ؛ وقول الفراء والزمخشري في قراءة بعضهم: (إِنَّا كُلٌّ فِيها) [غافر : ٤٨] : إن «كلا» توكيد ، والصواب أنها بدل ، وإبدال الظاهر من

٣٩٩

ضمير الحاضر بدل كلّ جائز إذا كان مفيدا للإحاطة ، نحو : «قمتم ثلاثتكم» ، وبدل الكل لا يحتاج إلى ضمير ، ويجوز لـ «كلّ» أن تلي العوامل إذا لم تتّصل بالضمير ، نحو : «جاءني كلّ القوم» فيجوز مجيئها بدلا ، بخلاف «جاءني كلهم» فلا يجوز إلّا في الضرورة ، فهذا أحسن ما قيل في هذه القراءة ؛ وخرّجها ابن مالك على أن «كلّا» حال ، وفيه ضعفان : تنكير «كلّ» بقطعها عن الإضافة لفظا ومعنى ، وهو نادر ، كقول بعضهم: «مررت بهم كلّا» أي : جميعا ، وتقديم الحال على عاملها الظرفي.

واحترزت بذكر «الأول» عن «أجمع» وأخواته ، فإنها إنما تؤكّد بعد «كل» ، نحو : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٣٠) [الحجر : ٣٠].

الأمور التي يكتسبها الاسم بالإضافة

وهي أحد عشر :

أحدها : التعريف ، نحو : «غلام زيد».

الثاني : التخصيص ، نحو : «غلام امرأة» والمراد بالتخصيص الذي لم يبلغ درجة التعريف ؛ فإن «غلام رجل» أخصّ من «غلام» ، ولكنه لم يتميز بعينه كما يتميز «غلام زيد».

الثالث : التخفيف ، كـ «ضارب زيد» ، و «ضاربا عمرو» ، و «ضاربو بكر» إذا أردت الحال أو الاستقبال ؛ فإن الأصل فيهنّ أن يعملن النصب ، ولكن الخفض أخفّ منه ؛ إذ لا تنوين معه ولا نون ، ويدلّ على أن هذه الإضافة لا تفيد التعريف قولك : «الضاربا زيد» ، و «الضاربو زيد» ، ولا يجتمع على الاسم تعريفان ، وقوله تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٩٥] ، ولا توصف النكرة بالمعرفة ، وقوله تعالى : (ثانِيَ عِطْفِهِ) [الحج : ٩] ، وقول أبي كبير [من الكامل] :

٦٥٣ ـ فأتت به حوش الفؤاد مبطّنا

[سهدا إذا ما نام ليل الهوجل](١)

ولا تنتصب المعرفة على الحال ، وقول جرير [من البسيط] :

٦٥٤ ـ يا ربّ غابطنا لو كان يطلبكم

[لاقى مباعدة منكم وحرمانا](٢)

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لأبي الكبير الهذلي في جمهرة اللغة ص ٣٦٠ ، وخزانة الأدب ٨ / ١٩٤ ، وشرح أشعار الهذليين ٣ / ١٠٧٣ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٢٧.

(٢) البيت من البسيط ، وهو لجرير في ديوانه ص ١٦٣ ، والدرر ٥ / ٩ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٤٥٧ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧١٢.

٤٠٠