شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢
الجزء ١ الجزء ٢

ومتى أريد به المعرفة كان مبنيّا على الضم تشبيها له بالغايات كما في هذا البيت ؛ إذ المراد فوقيّة نفسه ، لا فوقيّة مطلقة ، والمعنى أنه تصيبه الرّمضاء من تحته وحرّ الشمس من فوقه.

ومثله قول الآخر يصف فرسا [من الرجز] :

أقبّ من تحت عريض من عل

ومتى أريد به النكرة كان معربا كقوله [من الطويل] :

٣٧ ـ مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطّه السّيل من عل

إذ المراد تشبيه الفرس في سرعته بجلمود انحط من مكان ما عال ، لا من علوّ مخصوص.

______________________________________________________

(ومتى أريد به المعرفة كان مبنيا على الضم تشبيها بالغايات كما في هذا البيت ؛ إذ المراد فوقية نفسه لا فوقية مطلقة) حتى يعرب (والمعنى أنه تصيبه الرمضاء) أي : الأرض التي اشتد حرها (من تحته و) يصيبه (حر الشمس من فوقه ، ومثله قول الآخر يصف فرسا :

أقب من تحت عريض من عل) (١)

الأقب من القبب وهو دقة الخصر وضمور البطن كذا في «القاموس» (ومتى أريد به النكرة كان معربا) لفقد موجب البناء (كقوله :

مكر مفر مقبل مدبر معا

(كجلمود صخر حطه السيل من عل (٢)

إذ المراد تشبيه الفرس في سرعته بجلمود انحط من مكان ماء عال لا من علو مخصوص) والمكر مفعل بكسر الميم وفتح العين من كر يكر ، إذا عطف والمفر كذلك من الفرار والجلمود بضم الجيم الحجر العظيم الصلب ، والصخر الحجارة واحدها صخرة والحط إلقاء الشيء من علو إلى سفل ، يقول : هذا الفرس يكر إذا أريد منه الكر ويفر إذا أريد منه الفرار ومقبل إذا أريد

__________________

(١) شطر من الرجز لأبي النجم العجلي في الطرائف الأدبية ص ٦٨ ، والأزهية ص ٢٢ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٩٧ ، وبلا نسبة في شرح ابن عقيل ص ٣٩٧. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ١١ / ٤٣٨.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١٩ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٩٧ ، وبلا نسبة في لسان العرب ٧ / ٢٧٤ (حطط) ، وأوضح المسالك ٣ / ١٦٥. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ٦ / ٥٢٥.

٦١

* (علّ) بلام مشددة مفتوحة أو مكسورة : لغة في «لعلّ» ، وهي أصلها عند من زعم زيادة اللام ، قال [من المنسرح] :

٣٨ ـ لا تهين الفقير علّك أن

تركع يوما والدّهر قد رفعه

وهما بمنزلة «عسى» في المعنى ، وبمنزلة «أنّ» المشدّدة في العمل ، وعقيل تخفض بهما ، وتجيز في لامهما الفتح تخفيفا ، ...

______________________________________________________

منه إقباله ، ومدبر إذا أريد منه إدباره هذه الصفات فيه معا أي : جميعا بمعنى أنها مجتمعة في قوته لا في فعله في حالة واحدة لما بينها من التضاد.

(عل)

(بلام مشددة مفتوحة أو مكسورةلغة في لعل وهي) : أي : عل (أصلها) : أي : أصل لعل (عند من زعم زيادة اللام) في أولها (قال :

لا تهين الفقير علك أن

تركع يوما والدهر قد رفعه) (١)

وفي هذا البيت من جهة العروض استعمال الخرم بالراء في مستفعلن بعد خبنه ، وذلك أن هذا البيت من البحر المسمى بالمنسرح ، وأول أجزائه مستفعلن ذات الوتد المجموع ، وقوله : لا تهين على زنة فاعلن فحذفت سينه بالخبن ، ثم ميمه بالخرم فصار تفعلن على زنة فاعلن ، ومثله شاذ عندهم كقوله :

قاتلوا القوم يا خزاع ولا

يأخذكم في قتالهم فشل (٢)

وفيه من جهة العربية حذف نون التوكيد الخفيفة لالتقاء الساكنين على ما هو معروف (وهما) أي لعل وفرعها عل (بمنزلة عسى في المعنى) وهو الترجي (وبمنزلة إن) المكسورة (المشددة في العمل) نصبا للاسم ورفعا للخبر (وعقيل) بضم العين على التصغير ، وهي قبيلة من العرب (تخفض بهما) الاسم فتقول : لعل أبي عبد الله قائم وعل أبي حفص ذاهب (وتجيز في لامهما الفتح تخفيفا) فتقول : لعل بفتح الآخر ، وكذا عل والكسر على أصل التقاء الساكنين

__________________

(١) البيت من البحر المنسرح ، وهو للأضبط بن قريح في الأغاني ١٨ / ٦٨ ، وخزانة الأدب ١١ / ٤٥٠ ، وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ٢٢١ ، وأوضح المسالك ٤ / ١١١. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ٤ / ٢٢٢.

(٢) البيت من البحر الخفيف ، وهو للشداح بن يعمر الكناني في ديوان الحماسة ١ / ٦٠ ، وبلا نسبة في الخصائص ١ / ٢٨٨.

٦٢

والكسر على أصل التقاء الساكنين ؛ ويصحّ النصب في جوابهما عند الكوفيّين تمسكا بقراءة حفص : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ) [غافر : ٣٦] بالنصب ، وقوله [من الرجز] :

٣٩ ـ علّ صروف الدّهر أو دولاتها

تدلننا اللمّة من لمّاتها

فتستريح النّفس من زفراتها

وسيأتي البحث في ذلك.

وذكر ابن مالك في شرح العمدة أن الفعل قد يجزم بعد «لعلّ» عند سقوط الفاء ، وأنشد [من الطويل] :

______________________________________________________

(ويصح النصب في جوابهما عند الكوفيين تمسكا بقراءة حفص (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ) [غافر : ٣٦ ـ ٣٧] بالنصب) وقراءة الجماعة الباقين بالرفع (وقوله :

عل صروف الدهر أو دولاتها

تدلننا اللمة من لماتها

فتستريح النفس من زفراتها) (١)

صروف الدهر حوادثه ونوائبه واحدها صرف بفتح الصاد ، والدولة بفتح الدال المهملة وضمها بمعنى تكون في الحرب وغيره على ما قاله عيسى بن عمر ، وبعضهم يفرق فيقول هي بالفتح في الحرب بمعنى غلبة إحدى الطائفتين للأخرى ، وبالضم في المال يقال : صار الفيء بينهم دولة يتداولونه أي : يكون لهؤلاء مرة ولهؤلاء أخرى ، واللمة الشدة كذا قال الفراء ، وأنشد هذا البيت شاهدا عليه وقد عداه فيه إلى مفعولين ، فكأن المعنى لعل الحوادث تجعل لنا الشدة دولة فنستريح مما نحن فيه فانظره ، فلست على وثوق من صحته ، والزفرات جمع زفرة وهي اسم لإدخال النفس والزفير مصدر زفر يزفر إذا أدخل نفسه ، والشهيق إخراجه قال تعالى : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) [هود : ١٠٦] وسكن الشاعر الفاء وحقها الفتح كثمرات جمع ثمرة إذ هو ثلاثي صحيح العين ساكنة غير مضعف ولا صفة (وسيأتي البحث في ذلك) وفي الباب الرابع في أقسام العطف ، وقد ألم المصنف بشيء في حرف اللام عند الكلام على لعل (وذكر ابن مالك في شرح «العمدة») والأصل والشرح من تصانيفه رحمه‌الله تعالى (أن الفعل قد يجزم بعد لعل عند سقوط الفاء ، وأنشد) شاهدا على ذلك قول الشاعر :

__________________

(١) الرجز بلا نسبة في لسان العرب ٤ / ٣٢٥ (زفر) ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٥٤ ، والجنى الداني ص ٥٨٤. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ٩ / ١٧٥.

٦٣

٤٠ ـ لعلّ التفاتا منك نحوي مقدّر

يمل بك من بعد القساوة للرّحم

وهو غريب.

* (عند) : * اسم للحضور الحسّيّ ، نحو : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) [النمل : ٤٠] ، والمعنويّ ، نحو : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) [النمل : ٤٠] ، وللقرب كذلك نحو : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) [النجم : ١٤ ـ ١٥] ، ونحو : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) (٤٧) [ص : ٤٧] ؛ وكسر فائها أكثر من ضمّها وفتحها ، ولا تقع إلا ظرفا أو مجرورة بـ «من» ؛ وقول العامة : ...

______________________________________________________

(لعل التفاتا منك نحوي مقدر

يمل بك من بعد القساوة للرحم (١)

وهو غريب) لا يعرف لغيره ودلالة البيت على ذلك ظاهرة ، والرحم بضم الراء الرحمة قال الله تعالى : (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) (٨١) [الكهف : ٨١].

(عند)

(اسم للحضور) أي : لمكان الحضور (الحسي) أي : المدرك بالحس (نحو : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) [النمل : ٤٠]) إذ استقرار العرش عند سليمان عليه الصلاة والسّلام مدرك له بحاسة البصر (والحضور المعنوي نحو (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) [النمل : ٤٠]) فحضور العلم من الكتاب عند ذلك القائل ليس أمرا حسيا يدرك بالحاسة ، وإنما هو أمر معنوي يدرك بالعقل (وللقرب كذلك) أي : ولمكان القرب مماثلا للحضور في انقسامه إلى حسي ومعنوي (نحو : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (١٥)) [النجم : ١٤ ـ ١٥] وكلاهما مثال للقرب الحسي إذ قرب المنزلة الأخرى من سدرة المنتهى ؛ وقرب الجنة من السدرة كلاهما من الأمور التي تدرك بالحس (ونحو : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) (٤٧) [ص : ٤٧]) وهذا مثال للقرب المعنوي ، والمراد به علو القدر لاستحالة القرب الحسي بالنسبة إلى الله عزوجل ؛ لأنه سبحانه وتعالى منزه عن الكون في مكان (وكسر فائها) وهي العين (أكثر من ضمها وفتحها) وهذا يقتضي أن كلا من الضم والفتح كثير ، وفي التسهيل وربما فتحت عينها أو ضمت فأشعر بالقلة ، وحكى يعقوب ابن السكيت في إصلاح المنطق تثليث عينها ولا أذكر الآن هل تعرض إلى قلة بعض الثلاثة أو لا (ولا تقع إلا ظرفا) نحو : جلست عندك (أو مجرورة بمن) نحو جئت من عند زيد (وقول العامة :

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني ١ / ٤٥٤ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٣٤٧.

ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ٧ / ٣٣٢.

٦٤

«ذهبت إلى عنده» لحن ، وقول بعض المولدين [من مجزوء الرمل] :

٤١ ـ كلّ عند لك عندي

لا يساوي نصف عند

قال الحريريّ : لحن ، وليس كذلك ؛ بل كلّ كلمة ذكرت مرادا بها لفظها فسائغ أن تتصرّف تصرّف الأسماء وأن تعرب ويحكى أصلها.

تنبيهان ـ الأول : قولنا : «عند اسم للحضور» موافق لعبارة ابن مالك ، والصواب اسم لمكان الحضور ؛ فإنها ظرف لا مصدر ، ...

______________________________________________________

ذهبت إلى عنده لحن) لاستعمالهم إياها مجرورة بغير من ، ذكر ذلك الحريري في «درة الغواص» وغيرها (وقول بعض المولدين) بفتح اللام المشددة أي : الشعراء الحادثين بعد العرب (كل عند لك عندي لا يساوي نصف عندي قال الحريري :) هو (لحن) لجره بغير من (وليس كذلك بل كل كلمة ذكرت مرادا بها لفظها) سواء كانت في الأصل اسما أو فعلا أو حرفا (فسائغ أن تتصرف تصرف الأسماء) وإن كان اللفظ الذي أريد بها لا يتصرف ، ومن هنا خرج الجواب عن قول هذا الشاعر المولد كل عند حيث حرفها بجرها بغير من مع أن مسماها غير منصرف ولا يجر بمن (وأن تعرب) فتقول : ضرب فعل ماض ، وليت حرف ينصب ويرفع ، لكن إن أولته بالمذكر كاللفظ فهو منصرف مطلقا أي : سواء كان ثلاثيا ساكن الوسط أو لا وإن أولته بالكلمة ؛ فإن كان ثلاثيا متحرك الوسط فهو غير منصرف قطعا ، وعلى الجملة فيعتبر عند الإعراب أحكام منع الصرف فتصرف عند فقدان ما يقتضي المنع ، ويمنع عند وجود المقتضي له (ويحكى أصلها) على ما هو عليه فتقول مثلا فعل ماض بفتح الباء ، قال الرضي والأكثر الحكاية ، قلت : يرد على المصنف الكلمة الثنائية إذا جعلت علما للفظ ، وقصد الإعراب ؛ وذلك أن يجيب تضعيف ثانيها إذا كان حرفا صحيحا نحو من وكم بخلاف ما إذا جعلت علما لغير اللفظ ، فإن ثانيها لا يضعف بل يقال : جاءني كم ورأيت منا بالتخفيف فيهما ، جعلوه من باب ما حذف لامه نسيا وهو حرف علة كيد ودم فلم تصدق حينئذ تلك الكلية ؛ لخروج ما ذكرناه عنها باعتبار مخالفته لغيره من الأسماء في التصرف.

(تنبيهان :

الأول قولنا اسم للحضور موافق لعبارة ابن مالك) في «التسهيل» وليس بصواب (والصواب اسم لمكان الحضور ، فإنها ظرف لا مصدر) وغاية ما فعله ابن مالك رحمه‌الله حذف المضاف لقرينة ، وهو جائز بالإجماع والكتاب والسنة وكلام العرب مما يشهد لذلك ، فأي خطأ ارتكبه حتى يقال الصواب خلافه ، فإن قلت : ما القرينة قلت : كونه عد هذه الكلمة من الظروف المكانية

٦٥

وتأتي أيضا لزمانه نحو «الصّبر عند الصّدمة الأولى» وجئتك عند طلوع الشّمس.

الثاني : تعاقب «عند» كلمتان : لدى مطلقا ، نحو : (لَدَى الْحَناجِرِ) [غافر : ١٨] ، (لَدَى الْبابِ) [يوسف : ٢٥] ، (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [آل عمران : ٤٤] ، و «لدن» إذا كان المحلّ محلّ ابتداء غاية ، نحو : «جئت من لدنه» ...

______________________________________________________

وجعلها منها ، وإنما تكون منها إذا كان مدلولها مكانا لا مصدرا.

(وتأتي) عند (أيضا لزمانه) أي : لزمان الحضور (نحو) قوله عليه الصلاة والسّلام («الصبر عند الصدمة الأولى») (١) أي : عند زمان الصدمة ، وليس المراد مكانها (ونحو) قولك : (جئتك عند طلوع الشمس) وإرادة الزمان أوضح من الشمس.

التنبيه (الثاني تعاقب عند كلمتان) إحداهما (لدى مطلقا) أي : سواء كان المحل محل ابتداء غاية ، أو لم يكن (نحو) (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) [غافر : ١٨] أي : ممسكين بحناجرهم من كظم القربة شد رأسها ، وهو حال من ضمير القلوب ، وإنما جمع الكاظم جمع سلامة ؛ لأنها وصفت بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء ، أو هو محمول على أصحابها (ونحو (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) [يوسف : ٢٥] ونحو ((وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [آل عمران : ٤٤].

و) الثانية (لدن) فتعاقب عند (إذا كان المحل محل ابتداء غاية ، نحو : خرجت من عنده ومن لدنه) وفي لدن هذه لغات بفتح اللام وضم الدال ، ولدن بفتحهما ولدن بضمهما ولدن بفتح اللام وكسر الدال ، والنون فيهن مفتوحة ولدن بفتح اللام وسكون الدال وكسر النون ، ولدن بفتح اللام وتثليث الدال مع حذف النون ، فهذه ثماني لغات.

قال ابن الحاجب : والوجه في بناء لدن وأخوانه أن منها ما وضعه وضع الحروف فحمل البقية عليه ، ولو لا ذلك لم يكن لبنائها وجه ؛ لأنها مثل عند وهو معرب بالاتفاق ، وقال الرضي : الوجه في بناء لدن أن يقال إنه زاد على سائر الظروف غير المتصرفة في عدم التصرف بكونه لازما لمعنى الابتداء ، فتوغل في مشابهة الحرف ، وأما لدى ذات الألف فلا دليل على بنائها فينبغي أن تكون معربة ، كعند وقد مر في حتى عد ابن الحاجب للدى من الأسماء غير المتمكنة

__________________

(١) أخرجه البخاري ، كتاب الجنائز ، باب الصبر عند الصدمة الأولى (١٣٠٢) ، ومسلم ، كتاب الجنائز ، باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى (٩٢٦) ، والترمذي ، كتاب الجنائز عند رسول الله ، باب ما جاء أن الصبر في الصدمة الأولى (٩٨٨).

٦٦

وقد اجتمعتا في قوله تعالى : (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥] ولو جيء بـ «عند» فيهما أو بـ «لدن» لصلح ، ولكن ترك دفعا للتكرار ، وإنما حسن تكرار «لدى» في (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) [آل عمران : ٤٤] لتباعد ما بينهما ، ولا تصلح «لدن» هنا ، لأنه ليس محلّ ابتداء.

ويفترقن من وجه ثان ، وهو أنّ «لدن» لا تكون إلّا فضلة ، بخلافهما بدليل : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) [المؤمنون : ٦٢] ، (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) [ق : ٤].

وثالث ، وهو أن جرّها بـ «من» أكثر من نصبها ؛ حتى إنها لم تجىء في التنزيل منصوبة ؛ وجرّ «عند» كثير ، وجرّ «لدى» ممتنع.

ورابع ، وهو أنهما معربان ، ...

______________________________________________________

فتأمله (وقد اجتمعتا) أي : كلمة عند وكلمة لدن ذات النون (في قوله تعالى : (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥] ولو جيء بعند فيهما أو بلدن) فيهما أيضا (لصح) إذ هما بمعنى (ولكن ترك) المجيء بهما (دفعا للتكرار ، وإنما حسن تكرار لدى في وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [آل عمران : ٤٤] (لتباعد ما بينهما ولا تصلح لدن هنا) أي : في آيةآل عمران (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) (؛ لأنه ليس محل الابتداء) ولدن ذات النون لا تدخل إلا في محل ابتداء الغاية كما عرفت (ويفترقن) أي : عند ولدى ولدن (من وجه ثان) غير الأول الذي مضى (وهو أن لدن) ذات النون (لا تكون إلا فضلة) فلا تقع إلا في محل نصب على المفعولية ، فإن قلت : يجوز أن يقال علم من لدن زيد ببناء علم للمفعول ونيابة الظرف عن الفاعل ، فيكون في محل رفع فانتقض ما ذكره ، قلت : إنما يجيز نيابة الظرف غير المتصرف الأخفش ، والجمهور على خلافه وعليه فلا نقض (بخلافهما) أي : بخلاف عند ولدى فإنهما قد يقعان فضلة نحو : جلست عندك ولديك ، وقد يقعان عمدة (بدليل) قوله تعالى : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) [المؤمنون : ٦٢] وقوله تعالى : (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) [ق : ٤] فالظرف وقع فيهما خبرا للمبتدأ فهو عمدة ، فإن قلت : إنما خبر المبتدأ في الحقيقة متعلق الظرف ، وهو كان أو كائن ، وعند ذلك يكون الظرف فضلة قلت : لما حذف الخبر وجوبا وقام الظرف مقامه أعطي حكمه.

(و) يفترقن أيضا من وجه (ثالث وهو أن جرها) أي : جر لدن ذات النون (بمن أكثر من نصبها) وسياق الاستشهاد على وقوعها منصوبة (حتى أنها لم تجيء في التنزيل منصوبة) البتة ، وإنما جاءت فيه مجرورة بمن ، وانظر موقع هذه الغاية هنا (وجر عند كثير ، وجر لدى ممتنع.

و) يفترقن أيضا من وجه رابع وهو أنهما أي : عند ولدى ذات الألف (معربان) وقد نبهناك

٦٧

وهي مبنيّة في لغة الأكثرين.

وخامس ، وهو أنها قد تضاف للجملة كقوله [من الطويل] :

٤٢ ـ [صريع غوان راقهنّ ورقنه]

لدن شبّ حتّى شاب سود الذّوائب

وسادس ، وهو أنها قد لا تضاف ، وذلك أنهم حكوا في «غدوة» الواقعة بعدها الجرّ بالإضافة ، والنصب على التمييز ، ...

______________________________________________________

على ما في كلام ابن الحاجب مما يقتضي بناء لدى ، حيث صرح بأنها اسم غير متمكن (وهي) أي : لدن (مبنية في لغة الأكثرين) وإعرابها لغة قيسية ، وعليها جاءت قراءة من قرأ (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) [الكهف : ٢] بسكون الدال وكسر النون غير أنه أشم سكون الدال ضمة تنبيها على أن أصلها الضم ، ونقل بعضهم عن الفارسي أن الكسرة في قراءة أبي بكر هذه ليست إعرابا ، بل هي لالتقاء الساكنين ، وذلك أنه أسكن الدال تخفيفا كتسكين ضاد عضد والنون ساكنة فالتقيا فكسر.

(و) يفترقن أيضا من وجه (خامس ، وهو أنها) أي : لدن ذات النون (قد تضاف للجملة كقوله) :

صريع غوان رافهن ورقنه

(لدن شب حتى شاب سود الذوائب) (١)

بخلاف عند ولدى ذات الألف فإن شيئا منهما لا يضاف إلى الجملة ، والصريع المصروع أي : المطروح على الأرض غلبة وغوان جمع غانية ، وهي الجارية التي غنيت بزوجها أو بحسنها أو جمالها ، وراقهن ورقنه أي : أعجبهن وأعجبنه ، والذوائب جمع ذؤابة من الشعر بهمزة بعد الذال المعجمة في المفرد ، وكان حقها أن تثبت في الجمع لكنهم استثقلوا وقوع ألفه بين همزتين ، فأبدلوا الأولى واوا.

(و) يفترقن أيضا من وجه (سادس وهو أنها) أي : أن لدن ذات النون (قد لا تضاف ، وذلك أنهم قد حكوا في غدوة الواقعة بعدها الجر بالإضافة) وهو ظاهر لا إشكال فيه (والنصب على التمييز) وظاهره أنه تمييز عن لدن نفسها ، وكأن وجهه أن مدلوله مبتدأ وقت مبهم ، ففسر ذلك المبهم بغدوة.

وفي شرح «الكافية» للرضي غير هذا ، وذلك أنه قال دال لدن قبل نون ساكنة بفتح وبضم

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو للقطان في ديوانه ص ٤٤ ، وخزانة الأدب ٧ / ٨٦ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٤ / ٤٧ ، وأوضح المسالك ٣ / ١٤٥. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ١ / ٣٥٠.

٦٨

والرّفع بإضمار «كان» تامّة.

ثم اعلم أن «عند» أمكن من «لدى» من وجهين :

أحدهما : أنها تكون ظرفا للأعيان والمعاني ، تقول : «هذا القول عندي صواب ، وعند فلان علم به» ، ويمتنع ذلك في «لدى» ، ذكره ابن الشجري في أماليه ومبرمان في حواشيه.

والثاني : أنك تقول «عندي مال» وإن كان غائبا ، ولا تقول : «لديّ مال» إلا إذا كان حاضرا. قاله الحريري وأبو هلال العسكري وابن الشجري ، وزعم المعري أنه لا فرق بين «لدى» و «عند» وقول غيره أولى.

وقد أغناني هذا البحث عن عقد فصل لـ «لدن» ول «لدى» في باب اللّام.

______________________________________________________

وبكسر كما هو معروف في لغاتها ، ثم قد تحذف نونه فشابهت حركات الدال الإعراب من جهة تبدلها ، وشابهت النون التنوين من جهة جواز الحذف ، فصار لدن غدوة في اللفظ كرافود خلا فنصب غدوة تشبيها بالتمييز أو تشبيها بالمفعول في نحو ضارب زيدا ، وغدوة بعد لدن لا تكون إلا منونة وإن كانت معرفة أيضا ، إما تشبيها بالتمييز فإنه لا يكون إلا نكرة وإما لأنا لو حذفنا التنوين لم يدر أمنصوبة هي أم مجرورة؟ (والرفع بإضمار كان تامة) تقول : أنا ببابك من لدن غدوة أي : من لدن كانت غدوة (ثم إن عند أمكن من لدى) أي : لها مكنة في التصرف أكثر من لدى فتستعمل في كل موضع تقع فيه لدى ، ولا تستعمل لدى في كل موضع تقع فيه عند وذلك (من وجهين :

أحدهما أنها تكون ظرفا للأعيان) نحو زيد عندي (والمعاني تقول هذا القول عندي صواب ، وعند فلان علم ويمتنع ذلك في لدى) فلا تكون ظرفا للأعيان نحو زيد لدي (ذكره ابن الشجري في «أماليه» ومبرمان) بفتح الراء والميمين وإسكان الموحدة لقب واسمه أبو بكر (في حواشيه.

والثاني أنك تقول : عندي مال وإن كان غائبا ولا تقول لدي مال إلا إن كان حاضرا قاله الحريري) صاحب «المقامات» (وأبو هلال العسكري) بفتح المهملة (وابن الشجري وزعم) أبو العلاء (المعري أنه لا فرق بين لدى وعند ، وقول غيره أولى وقد أغناني هذا البحث) المذكور في هذا المحل المتعلق بلدن ولدى (عن فصل آخر) أعقده (للدن ولدى في باب اللام) والله الموفق للصواب.

٦٩

ـ حرف الغين المعجمة ـ

* (غير) : اسم ملازم للإضافة في المعنى ، ويجوز أن يقطع عنها لفظا إن فهم المعنى وتقدّمت عليها كلمة «ليس» ، وقولهم : «لا غير» لحن ؛ ويقال : «قبضت عشرة ليس غيرها» برفع «غير» على حذف الخبر ، أي : مقبوضا ، وبنصبها على إضمار الاسم : أي : ليس المقبوض غيرها ؛ و «ليس غير» بالفتح من غير تنوين على إضمار الاسم أيضا وحذف المضاف إليه لفظا ونيّة ثبوته كقراءة بعضهم : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ...

______________________________________________________

(حرف الغين المعجمة)

(غير اسم ملازم للإضافة في المعنى) ويكون ذلك مع وجود إضافته بحسب اللفظ نحو غير لا يجرد (ويجوز أن يقطع عنها لفظا إن فهم معناه) أي : معنى المضاف إليه (وتقدمت عليها) أي : على كلمة غير (كلمة ليس ، وقولهم : لا غير لحن) ونحن لا نسلم ذلك ، فقد حكى ابن الحاجب لا غير ، وتابعه على ذلك شارحو كلامه ومنهم جماعة من المحققين كالرضي وغيره ، وفي «المفصل» أيضا حكاية لا غير وليس غير قال الأندلسي : وأما لا غير فإن أبا العباس كان يقول : إنه مبني على الضم مثل قبل وبعد ، وأما ليس غير فكذلك إلا أن غيرا في موضع المنصوب على خبر ليس ، واسم ليس مضمر لا يظهر ؛ لأنها هنا للاستثناء ، وأنشد ابن مالك في باب القسم من شرح «التسهيل».

جوابا به تنجو اعتمد فوربنا

لعن عمل أسلفت لا غير تسئل (١)

والظاهر أنه شاهد غريب ، وقد اشتمل على ما منعه المصنف كما تراه ، والعجب أنه رحمه‌الله يبوح هنا بأن هذا التركيب لحن ثم يستعمله في كثير من كلامه في هذا الكتاب كما ستقف عليه ، وكأن مستند المصنف فيما ادعاه هنا من التلحين قول السيرافي فيما حكاه عنه صاحب «القاموس» الحذف إنما يستعمل إذا كانت غير بعد ليس ، وإن كان مكانها غيرها من ألفاظ الجحد لم يجز الحذف ، ولا يتجاوز بذلك مورد السماع. ا ه ، وقد عرفت أنه سمع فيعمل به من غير توقف (ويقال : قبضت عشرة ليس غيرها برفع غير على حذف الخبر أي : مقبوضا وبنصبها على إضمار الاسم أي : ليس المقبوض غيرها ، وليس غير بالفتح أي : من غير تنوين على إضمار الاسم وحذف المضاف لفظا ونية ثبوته ، كقراءة بعضهم (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو بلا نسبة في الدر ٣ / ١١٦ ، وهمع الهوامع ١ / ١٢٠. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ٦ / ١٦٣.

٧٠

بَعْدُ) [الروم : ٤] بالكسر من غير تنوين ، أي : من قبل الغلب ومن بعده ؛ و «ليس غير» بالضم من غير تنوين ، فقال المبرّد والمتأخرون : إنها ضمّة بناء ، لا إعراب ، وإن «غير» شبّهت بالغايات كـ «قبل» و «بعد» ، فعلى هذا يحتمل أن يكون اسما وأن يكون خبرا. وقال الأخفش : ضمّة إعراب لا بناء ؛ لأنه ليس باسم زمان كـ «قبل» و «بعد» ، ولا مكان كـ «فوق» و «تحت» ، وإنما هو بمنزلة «كلّ» و «بعض» ؛ وعلى هذا فهو الاسم ، وحذف الخبر. وقال ابن خروف : يحتمل الوجهين ، و «ليس غيرا» بالفتح والتنوين ، و «ليس غير» بالضم والتنوين. وعليهما فالحركة إعرابية ، لأن التنوين إما للتّمكين فلا يلحق إلا المعربات ، وإما للتعويض فكأنّ المضاف إليه مذكور.

______________________________________________________

(بَعْدُ) [الروم : ٤] بالكسر من غير تنوين أي : من قبل الغلب ومن بعده) وسيأتي من كلامه أن غير يجوز أن تضاف لمبني فتبنى ، فمع الفتح في قولك : قبضت عشرة ليس غيرها لا يتعين خبرا لجواز أن يكون هذا هو الاسم والفتحة فتحة بناء ، ولذلك إذا قطعت عن الإضافة لفظا وبقيت فتحتها لا يزال الاحتمال باقيا ، كما إذا ذكر المضاف إليه (وليس غير بالضم من غير تنوين) هذا قد اختلف فيه (فقال المبرد والمتأخرون : إنها ضمة بناء) أي : إن الضمة التي على راء غير ضمة بناء (لا إعراب ، وإن غيرا شبهت بالغايات كقبل وبعد) لشدة الإبهام الذي فيها كما في الغايات ؛ لكونها جهات غير محصورة (فعلى هذا يحتمل أن يكون) غير (اسما) أي : ليس غيرها مقبوضا وأن يكون خبرا أي : ليس المقبوض شيئا غيرها (وقال الأخفش) ضمة غير (ضمة إعراب لا بناء) ؛ فإنه لا موجب للبناء (لأنه ليس باسم زمان كقبل وبعد ، ولا مكان كفوق وتحت ، وإنما هو بمنزلة كل وبعض) فلا يبنى عند حذف المضاف إليه (و) إذا بنينا (على هذا فهو الاسم وحذف الخبر) أي : ليس غيرها مقبوضا لكن حذف المضاف لفظا ونوي ثبوته ؛ فلذلك لم تنون غير (وقال ابن خروف : يحتمل) في قولك : ليس غير بالضم (الوجهين) البناء كما قال المبرد والمتأخرون ، والإعراب كما قال الأخفش فلكل من القولين وجه يمكن اعتباره (وليس غيرا بالفتح والتنوين ، وليس غير بالضم والتنوين و) إذا بنينا (عليهما فالحركة إعرابية) ولا يجوز أن تكون بنائية (؛ لأن التنوين إما للتمكين فلا يلحق المعربات ، وإما للتعويض) عن المضاف إليه المحذوف (فكأن المضاف إليه مذكور) ومع ذكره يتعين الإعراب ، فإن قلت : قد مر لك الاعتراض عليه بأن غير قد تضاف لمبني فتبنى ، والمضاف إليه المحذوف هنا ضمير العشرة أي : ليس غيرها ؛ فإذا كان التصريح بالمضاف إليه الذي هو مبني لا يوجب الإعراب فكذا يكون الأمر مع حذفه ، والإتيان بتنوين التعويض ، فهلا أجريت ذلك الاعتراض هنا فإنه ممكن؟ قلت : ليس كذلك.

٧١

ولا تتعرّف «غير» بالإضافة ، لشدة إبهامها ، وتستعمل «غير» المضافة لفظا على وجهين :

أحدهما ـ وهو الأصل ـ : أن تكون صفة للنكرة ، نحو : (نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [فاطر : ٣٧] ، أو لمعرفة قريبة منها ، نحو : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧] الآية ، لأن المعرّف الجنسيّ قريب من النكرة ، ولأن «غيرا» إذا وقعت بين ضدين ضعف إبهامها ، حتى زعم ابن السرّاج أنها حينئذ تتعرّف ، ويردّه الآية الأولى.

______________________________________________________

أما أولا فلأنه لا يلزم من تأثير الإضافة إلى المبني المذكور للبناء تأثيرها له عند كونه محذوفا.

وأما ثانيا فلأنه قد علم بالاستقرار أن تنوين التعويض عن المفرد لا يكون إلا في معرب (ولا تتعرف غير بالإضافة) المعنوية (لشدة إبهامها) نحو رأيت رجلا غيرك ، وذلك لأن مغايرة المخاطب ليست صفة تخص ذاتا دون أخرى ؛ إذ كل ما في الوجود ليس إلا ذاتا موصوفة بهذه الصفة (وتستعمل غير المضافة) بالرفع صفة لغير المرفوعة على النيابة عن الفاعل (لفظا على وجهين :

أحدهما وهو الأصل أن تكون صفة للنكرة نحو) قوله تعالى : (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [فاطر : ٣٧] أو المعرفة قريبة منها أي : من النكرة (نحو (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) الآية) يريد بقيتها وهو : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة : ٧] وإنما جاز وقوع غير الذي هو نكرة صفة للموصول الذي هو معرفة (، لأن المعرف الجنسي قريب من النكرة) وذلك لأن المعرف باللام قد تقصد به الحقيقة من حيث الوجود في ضمن الأفراد ، وتدل القرينة على أن المراد به البعض فيصير في المعنى كالنكرة ، وكذلك الاسم الموصول فيجوز حينئذ أن يعامل معاملة النكرة فيوصف بالنكرة (ولأن غير إذا وقعت بين ضدين) كما في هذه الآية ؛ إذا المنعم عليهم ضد المغضوب عليهم والضالين (ضعف إبهامها) فقربت من المعرفة ، فجاز أن يوصف بها ما ليس متمكنا في التعريف (حتى زعم ابن السراج أنها حينئذ تتعرف ، ويرده الآية الأولى) (نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [فاطر : ٣٧] وإنما يتم الرد عليه إذا اعترف بأن غير الذي صفة لقوله صالحا ، وإلا فمن الجائز أن يقول : هو بدل فلا يتم الرد والذي يظهر من كلام صاحب «الكشاف» أنه مال إلى قول ابن السراج في المسألة ، وذلك أنه قال : فإن قلت : كيف صح أن يقع غير صفة للمعرفة وهو لا يتعرف وإن أضيف إلى المعارف؟ قلت : الذين أنعمت عليهم لا توقيت فيه فهو كقوله :

٧٢

والثاني : أن تكون استثناء ، فتعرب بإعراب الاسم التالي «إلّا» في ذلك الكلام ، فتقول : «جاء القوم غير زيد» بالنصب ، و «ما جاءني أحد غير زيد» بالنصب ...

______________________________________________________

ولقد أمر على اللئيم يسبني (١)

ولأن المغضوب عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم ، فليس في غير إذن الإبهام الذي يأبى عليه أن تتعرف ا ه.

وحاصل جوابه أنا لا نسلم أن غير المغضوب على تقدير الوصفية صفة للمعرف بل هو صفة لما هو في المعنى كالنكرة ؛ لأن الذين أنعمت عليهم لا توقيت فيه ، ولو سلم أن الموصوف معرفة لا نسلم أن غيرا هنا نكرة ، بناء على اشتهار المنعم عليه بمغايرة المغضوب عليه كما في قولنا : عليك بالحركة غير السكون لزوال ما يمنع تعرفه بالإضافة ، وهو التوغل في الإبهام وهذا غير ما قرره المصنف فتأمله.

(والثاني أن يكون استثناء) ولكن لا بطريق الأصالة بل بطريق الحمل على إلا وتقرير ذلك كما ذكره الرضي أن أصل غير الصفة المفيدة لمغايرة مجرورها لموصوفها ، إما بالذات نحو : مررت برجل غير زيد وإما بالصفات نحو قولك : لشخص دخلت بوجه غير الذي خرجت به ، وقد علم أن ما بعد الأداة الاستثنائية مغاير لما قبلها نفيا وإثباتا فلما اجتمع ما بعد غير وما بعد أداة الاستثناء في معنى المغايرة لما قبلها حملت أم أدوات الاستثناء ، وهي إلا في بعض المواضع على غير في الصفة كما مر في محله ، وحملت غير على إلا في بعض المواضع ومعنى الحمل أنه صار ما بعد إلا مغايرا لما قبلها ذاتا أو صفة كما بعد غير ، ولا تعتبر مغايرته له نفيا وإثباتا كما كان في أصلها وصار ما بعد غير مغايرا لما قبلها إثباتا ونفيا كما بعد إلا ولا تعتبر مغايرته له ذاتا أو صفة كما كانت في الأصل إلا أن حمل إلا على غير أكثر من العكس ؛ لأن غير اسم والتصرف في الأسماء أكثر منه في الحروف فتقع غير في جميع مواضع إلا (فتعرب بإعراب الاسم التالي لإلا في ذلك الكلام) وذلك لأن أصل غير من حيث كونه اسما جواز تحمل الإعراب وما بعده الذي صار مستثنى بتطفل غير على إلا مشغول بالجر ، لكونه مضافا إليه في الأصل جعل إعرابه الذي كان يستحقه ، لولا المانع المذكور وهو اشتغاله بالجر على نفس غير بطريق العارية لا بطريق الأصالة (فتقول : جاءني القوم غير زيد) بالنصب لغير كما تقول : جاءني القوم إلا زيدا بالنصب حتما ؛ لأنه استثناء في كلام موجب بعد تمامه (وما جاءني أحد غير زيد بالنصب) على الاستثناء

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٧٣

والرفع. وقال تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) [النساء : ٩٥] يقرأ برفع «غير» : إما على أنّه صفة لـ «القاعدون» لأنهم جنس ، وإما على أنه استثناء وأبدل على حد (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء : ٦٦] ، ويؤيّده قراءة النصب وأن حسن الوصف في (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧] إنما كان لاجتماع أمرين : الجنسيّة والوقوع بين الضدّين ؛ والثاني مفقود هنا ، ولهذا لم يقرأ بالخفض صفة لـ «المؤمنين» إلا خارج السبع ، لأنه لا وجه لها إلّا الوصف ؛ وقرىء : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف : ٥٩ وغيرها] بالجر صفة على

______________________________________________________

مرجوحا لأن الكلام التام غير موجب (والرفع) على البدل راجحا كما علم في موضعه (وقد قال الله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) [النساء : ٩٥] يقرأ برفع غير إما على أنه صفة للقاعدون ؛ لأنهم جنس) ولم يقصد بذلك قوم بأعيانهم فصار كالنكرة فوصف بغير الذي هو نكرة (وإما على أنه استثناء ، وأبدل على حد (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء : ٦٦]) وهذه القراءة لمن عدا نافعا وابن عامر والكسائي (ويؤيده) أي : القول بأن الرفع على البدل أمران :

أحدهما (قراءة النصب) التي قرأ بها أولئك المستثنون نافع وابن عامر والكسائي ؛ فإن النصب فيها على الاستثناء فيوافق في المعنى الرفع على البدل ، ولقائل أن يقول : إنما يكون النصب مؤيدا للبدل أن لو تعين كونه على الاستثناء ، وهو ممنوع لجواز كونه على الحال فيؤيد حينئذ جعل الرفع على الوصف ، إذ الحال في المعنى صفة لذي الحال.

(و) الأمر الثاني (أن حسن الوصف في غير المغضوب إنما كان لاجتماع أمرين : الجنسية والوقوع بين الضدين ، والثاني مفقود هنا) والثاني صريح في أن العلة مجموع الأمرين فيكون كل واحد منهما جزء علة ، وما تقدم له من قوله ؛ لأن المعرف الجنسي قريب من النكرة ولأن غير إذا وقعت بين ضدين ضعف إبهامها ظاهر في أن كلا من الأمرين علة مستقلة ، ففي الكلام تعارض وجوابه أن ما تقدم تعليل لجواز الوصف ، وما ذكره هنا تعليل لجنسيته ، فالمعلل متغاير فلا تعارض (ولهذا) أي : لكون الأمر الثاني وهو الوقوع بين الضدين مفقودا هنا لم يقرأ بالخفض صفة للمؤمنين إلا خارج القراآت (السبع) وفي بعض النسخ السبعة بهاء التأنيث ، والمعنى عليها إلا خارج قراءة الأئمة السبعة بحذف المضاف ، وجعل السبعة صفة للأئمة ؛ (لأنه لا وجه لها إلا الوصف) والمحسن له مفقود كما عرفت وفي «المدارك» لمولانا حافظ الدين النسفي ما نصه : غير أولي الضرر بالنصب مدني وشامي وعلى لأنه استثناء من القاعدين ، أو حال منهم وبالجر عن حمزة صفة للمؤمنين ، وبالرفع غيرهم صفة للقاعدون هذا نصه ، ونسبة الجر إلى حمزة أحد السبعة إما سهوا أو اعتمادا على رواية غير مشهورة عنه ، وقول قائل : لعل المراد بحمزة قارىء آخر غير حمزة المشهور فيه مالا يخفى (وقرىء «مال لكم من إله غيره» بالجر صفة على

٧٤

اللفظ ، وبالرفع على الموضع ، وبالنصب على الاستثناء على أنه إبدال على المحلّ مثل : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [الصافات : ٣٥].

وانتصاب «غير» في الاستثناء عن تمام الكلام عند المغاربة كانتصاب الاسم بعد «إلّا» عندهم ، واختاره ابن عصفور ؛ وعلى الحاليّة عند الفارسيّ ، واختاره ابن مالك ؛ وعلى التشبيه بظرف المكان عند جماعة ، واختاره ابن الباذش.

ويجوز بناؤها على الفتح إذا أضيفت إلى مبني كقوله [من البسيط] :

٤٣ ـ لم يمنع الشّرب منها غير أن نطقت

حمامة في غصون ذات أو قال

______________________________________________________

اللفظ ، وبالرفع) صفة (على الموضع) فإن إله المجرور بمن الزائدة مبتدأ فهو مرفوع بحسب الموضع (وبالنصب على الاستثناء) وهو مرجوح ، لأن الكلام تام غير موجب (وهي) أي : قراءة النصب (شاذة وتحتمل قراءة الرفع الاستثناء على أنه إبدال على المحل مثل لا إله إلا الله) وهو ظاهر (وانتصاب غير في الاستثناء عن تمام الكلام عند المغاربة كانتصاب الاسم بعد إلا عندهم ، واختاره ابن عصفور) منهم لكن بينهما فرق من حيث إن النصب بعد إلا بطريق الأصالة ، ونصب غير بطريق العارية لا الأصالة كما مر (وعلى الحالية عند الفارسي ، واختاره ابن مالك) فإذا قلت : قام القوم غير زيد فالمعنى أنهم قاموا في حالة كونهم مغايرين لزيد في ثبوت القيام لهم وانتفاءه عنه (وعلى التشبيه بظرف المكان عند جماعة) لمشاركته إياها في الإبهام ، ولا حاجة إلى هذا العذر لما تقدم من أن حركة غير لما بعدها على الحقيقة ، وهي عليها عارية ، ويدل عليه جواز العطف على المحل نحو ما جاءني غير زيد وعمرو بالرفع عطفا على محل زيد ؛ لأن المعنى ما جاءني إلا زيد (واختاره ابن الباذش) أبو عبد الله من نحاة المغرب بموحدة فألف فذال وشين معجمتين والذال مكسورةذكره في «القاموس» (ويجوز بناؤها على الفتح إذا أضيفت لمبني كقوله :

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت

حمامة في غصون ذات أو قال) (١)

ففتح غير مع كونه فاعلا بيمنع وضمير منها عائد على الناقة الموصوفة بما تقدم ذكره في قوله قبل هذا البيت.

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، وهو لأبي قيس بن الأسلت في ديوانه ص ٨٥ ، وجمهرة اللغة ص ١٣١٦ ، وخزانة الأدب ٣ / ٤٠٦ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٤ / ٦٥. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ٦ / ٤١٦.

٧٥

وقوله [من الرمل] :

٤٤ ـ لذ بقيس حين يأبى غيره

تلفه بحرا مفيضا خيره

وذلك في البيت الأول أقوى ، لأنه انضمّ فيه إلى الإبهام والإضافة لمبني تضمّن غير معنى «إلّا».

______________________________________________________

ثم ارعويت وقد طال الوقوف بنا

فيها فصرت إلى وجناء شملال

والوجناء الناقة الشديدة وقيل : العظيمة الوجنتين والشملال الخفيفة السريعة ، والأوقال بواو وقاف إما جمع وقل بفتح الواو وهو الحجارة ، أو بإسكانها وهو شجر المقل أو ثمرة ، فيكون المعنى على الأول في غصون ذات حجارة في أرض نبتت فيها ، وعلى الثاني في غصون ذات مقل نبتت هي في أرض تلك الشجرة ، وعلى الثالث في غصون ذات ثمر مقل فتكون هذه الغصون نفسها من شجر المقل ، ومعنى البيت أنه لم يمنع الناقة من الشرب إلا سماعها لصوت حمامة في تلك الغصون ، فتفرقت يريد أنها حديدة الحس وهو محمود ، أو أنها لما سمعت صوت الحمامة حنت إلى عطنها واشتاقت إلى وطنها ، فلم تشرب ، وكأن بعض الناس سأل فقال : كيف يقال إن غير أضيفت في البيت لمبني مع أن هذا المضاف إليه في تقدير معرب ، وهو النطق فلم تضف في الحقيقة إلا لمعرب ، فقلت : المعرب إنما هو الاسم الذي يؤول به ، وأما الحرف المصدري وصلته فمبني ألا تراهم يقولون المجموع في موضع كذا ، ومما يدل على ذلك أن هذا المضاف إليه وهو مجموع أن نطقت حمامة إذا قيل بأنه معرب ، لم يخل أن يكون إعرابه لفظيا أو تقديريا وكلاهما باطل.

أما الأوّل فظاهر وأما الثاني فلأن تقدير الإعراب إنما يكون في آخر المعرب ، وهنا ليس كذلك قطعا (وقوله :

لذ بقيس حين يأبى غيره

تلفه بحرا مفيضا خيره) (١)

يأبى يمتنع وفي بعض النسخ ينأى من النأي وهو البعد وتلفه بالفاء : أي تجده (وذلك) أي : البناء (في البيت الأول أقوى) منه في البيت الثاني ؛ (لأنه انضم فيه إلى الإضافة لمبني تضمن غير معنى إلا) ؛ إذ المعنى لم يمنع الشرب منها إلا أن نطقت حمامة ، وتضمن الحرف من مقتضيات البناء وهو مفقود في البيت الثاني ، ولقائل أن يقول : التعليل بذلك غير صحيح لإفضائه إلى إفساد الحكم ، وذلك لأن تضمن الحرف موجب للبناء لا مجوز ، فلو اعتبر في البيت لوجب

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٧٦

تنبيهان ـ الأول : من مشكل التراكيب التي وقعت فيها كلمة «غير» قول الحكميّ [من الرمل] :

٤٥ ـ غير مأسوف على زمن

ينقضي بالهمّ والحزن

وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن «غير» مبتدأ لا خبر له ، بل لما أضيف إليه مرفوع يغني عن الخبر ، وذلك لأنه في معنى النفي ، والوصف بعده مخفوض لفظا وهو في قوّة المرفوع بالابتداء ، فكأنه قيل : ما مأسوف على زمن ينقضي مصاحبا للهمّ والحزن ، فهو نظير «ما مضروب الزيدان» ، والنائب عن الفاعل والظرف ، قاله ابن الشجري وتبعه ابن مالك.

______________________________________________________

بناء غير ، وليس كذلك ؛ إذ بناؤها من قبيل الجائز لا الواجب فتأمله.

(تنبيهان :

الأول من مشكل التراكيب التي وقعت فيها كلمة غير قول) أبي نواس (الحكمي) بفتح الحاء المهملة والكاف.

(غير مأسوف على زمن

ينقضي بالهم والحزن (١)

وفيه ثلاثة أعاريب :

أحدها أن غيرا مبتدأ لا خبر له بل لما أضيف إليه) وهو المبتدأ في الحقيقة (مرفوع يغني عن الخبر) وهذا كقولهم : يسد مسد الخبر ، وفيه نظر نقرره إن شاء الله تعالى في محله من الباب الرابع (وذلك ؛ لأنه) أي : لأن غيرا في معنى النفي والوصف الواقع (بعده مخفوض لفظا) بإضافة غير إليه (وهو في قوّة المرفوع بالابتداء) فحركة الرفع التي على غير هي التي يستحقها هذا الاسم بالأصالة ، لكنه لما كان مشغولا بحركة الجر لأجل الإضافة جعلت حركته التي كانت له بطريق الأصالة من حيث هو مبتدأ على غير بطريق العارية ، كما مر في غير الاستثنائية (وكأنه قيل : ما مأسوف على زمن ينقضي مصاحبا للهم والحزن) وهما مترادفان ، وقد مر الكلام على فائدة مثل هذا العطف في أول الشرح (فهو نظير ما مضروب الزيدان والنائب عن الفاعل الظرف قاله ابن الشجري ، وتبعه ابن مالك) فقال في «التسهيل» : وأجري في ذلك غير قائم ونحوه مجرى ما قائم وهذا الوجه ذكره ابن الحاجب ، لكنه جعله محتملا وصرح بأن الثاني أحسن.

__________________

(١) البيت من البحر المديد ، وهو لأبي نواس في الدرر ٢ / ٦ ، وأمالي ابن الحاجب ص ٦٣٧ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٤٥ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ٩٤. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ٨ / ٢١٩.

٧٧

والثاني : أن «غير» خبر مقدّم ، والأصل زمن ينقضي بالهم والحزن غير مأسوف عليه ، ثم قدّمت «غير» وما بعدها ، ثم حذف «زمن» دون صفته ، فعاد الضمير المجرور بـ «على» على غير مذكور فأتي بالاسم الظاهر مكانه ، قاله ابن جني ، وتبعه ابن الحاجب.

فإن قيل : فيه حذف الموصوف مع أن الصفة غير مفردة وهو في مثل هذا ممتنع.

قلنا : في النثر ، وهذا شعر فيجوز فيه ، كقوله [من الوافر] :

٤٦ ـ أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا

[متى أضع العمامة تعرفوني]

أي أنا ابن رجل جلا الأمور ، وقوله [من الرجز] :

______________________________________________________

(والثاني أن غير خبر مقدم ، والأصل زمن ينقضي بالهم والحزن غير مأسوف عليه ، ثم قدمت غير وما بعدها ثم حذف زمن دون صفته ، فعاد الضمير المجرور بعلى على غير مذكور فأتي بالاسم الظاهر مكانه ، قال ابن جني وتبعه ابن الحاجب) فإن قلت : يلزم على هذا الإعراب محذور وهو نيابة المجرور عن الفاعل مع كونه غير مختص ، فهو كقولك : مر برجل وهو ممتنع قلت : المجرور هنا قائم مقام ضمير يعود على زمن المتقدم المحذوف : أي : زمن ينقضي بالهم والحزن غير مأسوف عليه ، ولا شك أن مفاد هذا الضمير زمن مختص بصفته المذكورة وهي قوله ينقضي بالهم والحزن ، فكذا ما قام مقامه (فإن قيل : فيه حذف الموصوف مع أن الصفة غير مفردة وهو في مثل هذا) المحل (ممتنع) وذلك أن الموصوف هنا ليس بعض ما قبله من مجرور بمن أو في (قلنا) : هذا الذي ذكرته من الامتناع عند فقد الشرط المذكور إنما هو (في النثر وهذا) الذي وقع الكلام فيه وهو بيت أبي نواس (شعر فيجوز فيه كقوله :

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني) (١)

(أي : أنا ابن رجل جلا الأمور) أي : كشفها وأوضحها فالفعل متعد ، ويحتمل أن يكون المعنى جلا أمره أي : اتضح فالفعل لازم ، والطلاع الكثير الطلوع والثنايا جمع ثنية ، وهي العقبة أي : أنا رجل مقتحم الأمور العظيمة لست بمجهول ولا خامل ، وسيأتي كلام في هذا البيت (وقوله) :

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وهو لسحيم بن وثيل في الاشتقاق ص ٢٢٤ ، والأصمعيات ص ١٧ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٥٥ ، وبلا نسبة في الاشتقاق ص ٣١٤ ، وأوضح المسالك ٤ / ١٢٧. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ٨ / ٢٤٣.

٧٨

٤٧ ـ [ما لك عندي غير سهم وحجر

وغير كبداء شديدة الوتر

ترمي بكفّي كان من أرمى البشر

أي : بكفّي رجل كان.

والثالث : أنه خبر لمحذوف ، و «مأسوف» : مصدر جاء على مفعول كـ «المعسور» و «الميسور» ، والمراد به اسم الفاعل ، والمعنى : أنا غير آسف على زمن هذه صفته ، قاله ابن الخشّاب ، وهو ظاهر التعسّف.

التنبيه الثاني : من مشكل أبيات المعاني قول حسّان [من الطويل] :

٤٨ ـ أتانا ، فلم نعدل سواه بغيره ،

نبيّ بدا في ظلمة اللّيل هاديا

______________________________________________________

مالك عندي غير سهم وحجر

وغير كبداء شديد الوتر (١)

(ترمي بكفي كان من أرمى البشر

أي : بكفي رجل كان) والكبداء قوس يملأ مقبضها الكف ، ويروى مكان ترمي جادت أي : صارت جيدة.

(والثالث) من الأعاريب (أنه) أي : أن غير (خبر لمحذوف ومأسوف مصدر جاء على مفعول كالمعسور والميسور ، والمراد به اسم الفاعل والمعنى أنا غير آسف على زمن هذه صفته قاله ابن الخشاب ، وهو ظاهر التعسف) أي الأخذ على غير الطريق من جهة جعل مأسوف مصدرا وهو قليل ، وأنا أقول : إن ثبت بطريق معتبر مجيء هذا المصدر المعين من كلام العرب فلا نزاع في قبوله ولا تعسف حينئذ ؛ إذ ليس في ذلك إلا حذف المبتدأ لقرينة وهو كثير مقيس ، وجعل المصدر بمعنى اسم الفاعل وهو مسموع أيضا كزيد عدل وعمرو صوم ، وإن لم يثبت عن العرب استعمال المأسوف مصدرا فهذا الإعراب غير مقبول البتة والله أعلم.

(التنبيه الثاني من أبيات المعاني قول حسان رضي الله تعالى عنه) يمدح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(أتانا فلم نعدل سواه بغيره

نبي بدا في ظلمة الليل هاديا) (٢)

__________________

(١) البيت من البحر الرجز ، وهو بلا نسبة في الخصائص ٢ / ٣٦٧ ، والإنصاف في مسائل الخلاف ١ / ١١٤.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٤٦١. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ٨ / ٣٢٧.

٧٩

فيقال : سواه هو غيره؟ فكأنه لم نعدل غيره بغيره.

والجواب أن الهاء في «بغيره» للسّوى ، فكأنه قال : لم نعدل سواه بغير السوى ، وغير السوى هو نفسه عليه الصلاة والسّلام ، فالمعنى فلم نعدل سواه به.

ـ حرف الفاء ـ

الفاء المفردة : حرف مهمل ؛ خلافا لبعض الكوفيّين في قولهم : إنها ناصبة في نحو : «ما تأتينا فتحدّثنا» ، وللمبرّد في قوله : إنها خافضة في نحو :

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع

[فألهيتها عن ذي تمائم محول]

فيمن جرّ «مثلا» والمعطوف ، والصحيح أن النّصب بـ «أن» مضمرة كما سيأتي ،

______________________________________________________

والمراد أن هذا البيت من المشكلات باعتبار معناه ، ولذلك قال من أبيات المعاني أي :من الأبيات التي يسأل عن معناها لإشكالها ، وغير في بيت أبي نواس الحكمي من التراكيب المشكلة بحسب الإعراب فإشكاله باعتبار أمر لفظي يتعلق بالتركيب لا بالمعنى ، فقال : إن ذلك من مشكل التراكيب وهذا من أبيات المعاني (فيقال : سواه هو غير فكأنه قال : فلم نعدل غيره بغيره) وهو مشكل (والجواب أن الهاء في بغيره للسوى) فاختلف معاد الضميرين ، والإشكال إنما نشأ من اتحاد المعاد (فكأنه قال : لم نعدل سواه بغير السوى وغير سواه هو نفسه عليه الصلاة والسّلام ، والمعنى لم نعدل سواه به) ويظهر لي وجه آخر حسن في الجواب مع القول باتحاد معاد الضميرين ، وهو أن يقال : المراد بالسوى العدل والإنصاف لا معنى غير ، وهو أمر ثابت في اللغة صرح به الجوهري وغيره ، فالمعنى حينئذ لم يعدل عدله شيء غيره ولا غبار عليه ، والله الموفق للصواب.

(حرف الفاء)

(الفاء المفردة حرف مهمل خلافا لبعض الكوفيين في قولهم : إنها ناصبة) بنفسها للفعل المضارع (في نحو ما تأتينا فتحدثنا وللمبرد في قوله : إنها خافضة في نحو) قول امرىء القيس :

(فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع (١)

في من جر مثلا والمعطوف) كما تقدم في رب (والصحيح أن النصب بأن مضمرة كما

__________________

(١) صدر بيت من الطويل ، وهو لأمرىء القيس ، عجزه : فألهيتها عن ذي تمائم محول ، انظر خزانة الأدب ٢ / ٢٧٤ ، طبقات تحول الشعراء ١ / ٤٢.

٨٠