شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢
الجزء ١ الجزء ٢

الترتيب» مردود ، بل قال بإفادتها إيّاه قطرب والرّبعيّ والفرّاء وثعلب وأبو عمرو الزاهد وهشام والشافعي ، ونقل الإمام في البرهان عن بعض الحنفيّة أنها للمعية.

وتنفرد عن سائر أحرف العطف بخمسة عشر حكما :

أحدها : احتمال معطوفها للمعاني الثّلاثة السابقة.

والثاني : اقترانها بـ «إمّا» نحو : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٣].

والثالث : اقترانها بلا إن سبقت بنفي ولم تقصد المعية ، نحو : «ما قام زيد ولا عمرو» ، ولتفيد أن الفعل منفيّ عنهما في حالتي الاجتماع والافتراق ، ومنه : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) [سبأ : ٣٧] ، والعطف حينئذ من عطف الجمل عند بعضهم على إضمار العامل ، والمشهور أنه من عطف المفردات ؛ وإذا فقد أحد الشرطين امتنع دخولها ، فلا يجوز نحو : «قام زيد ولا عمرو» ، وإنّما جاز (وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة : ٧] لأن في (غَيْرِ) معنى النفي ، وإنما جاز قوله [من البسيط]:

٢٠ ـ فاذهب ، فأيّ فتى في النّاس أحرزه

من حتفه ظلم دعج ولا حيل (١)

لأن المعنى لا فتى أحرزه ، مثل : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) [الأحقاف : ٣٥] ؛ ولا يجوز «ما اختصم زيد ولا عمرو» لأنه للمعيّة لا غير ، وأمّا (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ (٢٠) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) [فاطر : ١٩ ـ ٢٢] فـ «لا» الثانية والرابعة والخامسة زوائد لأمن اللبس.

والرابع : اقترانها بـ «لكن» ، نحو : (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) [الأحزاب : ٤٠].

والخامس : عطف المفرد السّببيّ على الأجنبيّ عند الاحتجاج إلى الرّبط ، كـ «مررت برجل قائم زيد وأخوه» ، ونحو : «زيد قائم عمرو وغلامه» ، وقولك في باب الاشتغال «زيدا ضربت عمرا وأخاه».

والسادس : عطف العقد على النيّف ، نحو : «أحد وعشرون».

والسابع : عطف الصفات المفرقة مع اجتماع منعوتها ، كقوله [من الوافر] :

__________________

(١) البيت من البحر السيط ، وهو للمتنخل الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص ١٢٨٣ ، وبلا نسبة في لسان العرب مادة (قلا) ، والخصائص ٢ / ٤٣٣.

٢٦١

٤٢١ ـ بكيت ، وما بكا رجل حزين

على ربعين مسلوب وبالي؟ (١)

والثامن : عطف ما حقّه التثنية أو الجمع ، نحو قول الفرزدق [من الكامل] :

٤٢٢ ـ إنّ الرّزيّة لا زريّة مثلها

فقدان مثل محمّد ومحمّد (٢)

وقول أبي نؤاس [من الطويل] :

٤٢٣ ـ أقمنا بها يوما ويوما وثالثا ،

ويوما له يوم الترحّل خامس (٣)

وهذا البيت يتساءل عنه أهل الأدب ، فيقولون : كم أقاموا؟ والجواب : ثمانية لأن يوما الأخير رابع وقد وصف بأن يوم الترحّل خامس له ، وحينئذ فيكون يوم الترحّل هو الثامن بالنسبة إلى أول يوم.

التاسع : عطف ما لا يستغنى عنه كـ «اختصم زيد وعمرو» ، و «اشترك زيد وعمرو». وهذا من أقوى الأدلة على عدم إفادتها الترتيب ، ومن ذلك : «جلست بين زيد وعمرو» ، ولهذا كان الأصمعي يقول الصواب [من الطويل] :

٤٢٤ ـ [قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللّوى] بين الدّخول وحومل (٤)

لا «فحومل» ، وأجيب بأن التقدير : بين نواحي الدخول ، فهو كقولك : «جلست بين الزّيدين فالعمرين» ، أو بأن الدّخول مشتمل على أماكن.

وتشاركها في هذا الحكم «أم» المتصلة في نحو : «سواء أقمت أم قعدت» ، فإنها عاطفة ما لا يستغنى عنه.

والعاشر والحادي عشر : عطف العامّ على الخاصّ ، وبالعكس ؛ فالأول نحو : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [نوح : ٢٨] ؛ والثاني نحو : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب : ٧] الآية.

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لابن ميادة في ديوانه ص ٢١٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٧٤ ، ولرجل من باهلة في الكتاب ١ / ٤٣١ وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ١٦١ وأوضح المسالك ٣ / ٣١٣.

(٢) البيت من البحر الكامل ، وهو للفرزدق في ديوانه ١ / ١٦١ ، والدرر ٦ / ٧٤ ، وشرح التصريح ٢ / ١٣٨ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ٢١١.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لأبي نواس في ديوانه ٢ / ٧ وخزانة الأدب ٧ / ٤٦٢ ، والدرر ٦ / ٧٧.

(٤) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٨ ، والأزهية ص ٢٤٤ ـ ٢٤٥ ، وجمهرة اللغة ص ٥٦٧ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٣٢ ، والدرر ٦ / ٧١ ، ويلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ٣٥٩ والدرر ٦ / ٨٢.

٢٦٢

ويشاركها في هذا الحكم الأخير «حتى» كـ «مات الناس حتى العلماء ، وقدم الحجّاج حتى المشاة» ؛ فإنها عاطفة خاصّا على عام.

والثاني عشر : عطف عامل حذف وبقي معموله على عامل آخر مذكور يجمهما معنى واحد ، كقوله [من الوافر] :

٤٢٥ ـ [إذا ما الغانيات برزن يوما]

وزجّجن الحواجب والعيونا (١)

أي : وكحّلن العيون ، والجامع بينهما التّحسين ، ولو لا هذا التّقييد لورد «اشتريته بدرهم فصاعدا» إذ التقدير : فذهب الثمن صاعدا.

والثالث عشر : عطف الشيء على مرادفه ، نحو : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) [يوسف : ٨٦] ونحو : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) [البقرة : ١٥٧] ، ونحو : (عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٧] وقوله عليه الصلاة والسّلام : «ليلني منكم ذوو الأحلام والنّهى» ، وقول الشاعر [من الوافر] :

٤٢٦ ـ [وقدّدت الأديم لراهشيه]

وألفى قولها كذبا ومينا (٢)

وزعم بعضهم أن الرواية «كذبا مبينا» فلا عطف ولا تأكيد ، ولك أن تقدر «الأحلام» في الحديث جمع «حلم» بضمتين ؛ فالمعنى : ليلني البالغون العقلاء ، وزعم ابن مالك أن ذلك قد يأتي في «أو» ، وأن منه (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) [النساء : ١١٢].

والرابع عشر : عطف المقدّم على متبوعه للضرورة ، كقوله [من الوافر] :

٤٢٧ ـ ألا يا نخلة من ذات عرق ،

عليك ورحمة الله السّلام (٣)

والخامس عشر : عطف المخفوض على الجوار ، كقوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) [المائدة : ٦] ، فيمن خفض «الأرجل» ، وفيه بحث سيأتي.

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو للراعي النميري في ديوانه ص ٢٦٩ ، والدرر ٣ / ١٥٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٧٥ والمقاصد النحوية ٣ / ٩١ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ٢١٢ والإنصاف ٣ / ٦١٠.

(٢) البيت من البحر الوافر ، وهو لعدي بن زيد في ذيل ديوانه ص ١٨٣ ، والأشباه والنظائر ٣ / ٢١٣ ، ولسان العرب مادة (مين) ، وبلا نسبة في همع الهوامع ٢ / ١٢٩.

(٣) البيت من الوافر ، وهو للأحوص في ديوانه ص ٩٠ ، وخزانة الأدب في ٢ / ١٩٣ ، وبلا نسبة في لسان العرب مادة / مشيع / وتاج العروس مادة / شيع /.

٢٦٣

تنبيه

زعم قوم أن الواو قد تخرج عن إفادة مطلق الجمع ، وذلك على أوجه :

أحدها : أن تستعمل بمعنى «أو» ، وذلك على ثلاثة أقسام ؛ أحدها : أن تكون بمعناها في التقسيم كقولك : «الكلمة اسم وفعل وحرف» ، وقوله [من الطويل] :

كما النّاس مجروم عليه وجارم

وممن ذكر ذلك ابن مالك في التحفة ، والصواب أنها في ذلك على معناها الأصلي ، إذ الأنواع مجتمعة في الدخول تحت الجنس ، ولو كانت «أو» هي الأصل في التقسيم ، لكان استعمالها فيه أكثر من استعمال الواو.

والثاني : أن تكون بمعنى «أو» في الإباحة ، قاله الزمخشريّ ، وزعم أنه يقال : «جالس الحسن وابن سيرين» أي : أحدهما ، وأنه لهذا قيل : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة : ١٩٦] بعد ذلك «ثلاثة» و «سبعة» ، لئلّا يتوهّم إرادة الإباحة ، والمعروف من كلام النحويين أنه لو قال : «جالس الحسن وابن سيرين» ، كان أمرا بمجالسة كلّ منهما ، وجعلوا ذلك فرقا بين العطف بالواو والعطف بـ «أو».

والثالث : أن تكون بمعناها في التّخيير ، قاله بعضهم في قوله [من الطويل] :

٢٨ ـ وقالوا : نأت فاختر لها الصّبر والبكا

فقلت : البكا أشفى إذا لغليلي (١)

قال : معناه أو البكاء ، إذ لا يجتمع مع الصبر. ونقول : يحتمل أن يكون الأصل : فاختر من الصبر والبكاء ، أي : أحدهما ، ثم حذف «من» كما في (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥] ، ويؤيّده أن أبا علي القالي رواه بـ «من». وقال الشاطبي رحمه‌الله في باب البسملة «وصل واسكتا» ، فقال شارحو كلامه : المراد التخيير ، ثم قال محقّقوهم : ليس ذلك من قبل الواو ، بل من جهة أن المعنى : وصل إن شئت واسكتن إن شئت ؛ وقال أبو شامة : وزعم بعضهم أن الواو تأتي للتخيير مجازا.

والثاني : أن تكون بمعنى باء الجر ، كقولهم : «أنت أعلم ومالك» و «بعت الشّاء شاة ودرهما» ، قاله جماعة ، وهو ظاهر.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لكثير عزة في ديوانه ص ١١٤ ، وأمالي القالي ٢ / ٦٤ وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٨١.

٢٦٤

والثالث : أن تكون بمعنى لام التعليل ، قال الخارزنجيّ ، وحمل عليه الواوات الدّاخلة على الأفعال المنصوبة في قوله تعالى : (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ) [الشورى : ٣٤ ـ ٣٥] ، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (١٤٢) [آل عمران : ١٤٢] ، (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ) [الأنعام : ٢٧] ، والصواب أنّ الواو فيهنّ للمعيّة كما سيأتي.

والثاني والثالث من أقسام الواو : واوان يرتفع ما بعدهما.

إحداهما : واو الاستئناف ، نحو : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) [الحج : ٥] ، ونحو : «لا تأكل السّمك وتشرب اللبن» فيمن رفع ، ونحو : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ) [الأعراف : ١٨٦] فيمن رفع أيضا ، ونحو : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) [البقرة : ٢٨٢] ، إذ لو كانت واو العطف لانتصب (نُقِرُّ) ولانتصب أو انجزم «تشرب» ، ولجزم (نُقِرُّ) كما قرأ الآخرون ، وللزم عطف الخبر على الأمر ، وقال الشاعر [من الطويل] :

٤٢٩ ـ على الحكم المأتيّ يوما إذا قضى

قضيّته أن لا يجور ويقصد (١)

وهذا متعّين للاستتئناف ، لأن العطف يجعله شريكا في النفي ، فيلزم التناقض وكذلك قولهم : «دعني ولا أعود» لأنه لو نصب كان المعنى : ليجتمع تركك لعقوبتي وتركي لما تنهاني عنه ، وهذا باطل ؛ لأن طلبه لترك العقوبة إنما هو في الحال ، فإذا تقيّد ترك المنهيّ عنه بالحال لم يحصل غرض المؤدّب ، ولو جزم فإمّا بالعطف ولم يتقدّم جازم ، أو على أن تقدّر ناهية ، ويرده أن المقتضي لترك التأديب إنما هو الخبر عن نفي العود ، لا نهيه نفسه عن العود ، إذ لا تناقض بين النهي عن العود وبين العود بخلاف العود والإخبار بعدمه ، ويوضحه أنك تقول : «أنا أنهاه وهو يفعل» ولا تقول : «أنا لا أفعل وأنا أفعل معا».

والثانية : واو الحال الداخلة على الجملة الاسمية ، نحو : «جاء زيد والشّمس طالعة» وتسمّى واو الابتداء ، ويقدّرها سيبويه والأقدمون بـ «إذ» ، ولا يريدون أنها بمعناها ؛ إذ لا يرادف الحرف الاسم ، بل إنها وما بعدها قيد للفعل السابق ، كما أن «إذ» كذلك ، ولم يقدرها بـ «إذا» لأنّها لا تدخل على الجمل الاسمية ، ووهم أبو البقاء في قوله تعالى :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأبي اللحام التغلبي في خزانة الأدب ٨ / ٥٥٥ وشرح المفصل ٧ / ٣٨ ، ولعبد الرحمن بن أم الحكم في الكتاب ٣ / ٥٦ ، ولأبي اللحام أو لعبد الرحمن في لسان العرب مادة / قصد /.

٢٦٥

(وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) [آل عمران : ١٥٤] ، فقال : الواو للحال ، وقيل : بمعنى «إذ» ، وسبقه إلى ذلك مكي ، وزاد عليه فقال : الواو للابتداء ، وقيل : للحال ، وقيل : بمعنى «إذ» ، ا ه. والثلاثة بمعنى واحد ؛ فإن أراد بالابتداء الاستئناف فقولهما سواء.

ومن أمثلتها داخلة على الجملة الفعلية قوله [من الطويل] :

٤٣٠ ـ بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم

ولم تكثر القتلى بها حين سلّت (١)

ولو قدرتها عاطفة لانقلب المدح ذمّا.

وإذا سبقت بجملة حالية احتملت ـ عند من يجيز تعدد الحال ـ العاطفة والابتدائية ، نحو : (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) [الأعراف : ٢٤].

الرابع والخامس : واوان ينتصب ما بعدهما ، وهما واو المفعول معه كـ «سرت والنّيل» ، وليس النّصب بها خلافا للجرجاني ، ولم يأت في التنزيل بيقين ، فأما قوله تعالى : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) [يونس : ٧١] في قراءة السبعة (فَأَجْمِعُوا) بقطع الهمزة و (شُرَكاءَكُمْ) بالنصب ، فتحتمل الواو فيه ذلك ، وأن تكون عاطفة مفردا على مفرد بتقدير مضاف أي وأمر شركائكم ، أو جملة على جملة بتقدير فعل ، أي : واجمعوا شركاءكم بوصل الهمزة ، وموجب التقدير في الوجهين أن «أجمع» لا يتعلّق بالذوات ، بل بالمعاني ، كقولك : «أجمعوا على قول كذا» ، بخلاف «جمع» فإنه مشترك ، بدليل (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) [طه : ٦٠] ، (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) (٢) [الهمزة : ٢] ، ويقرأ (فَأَجْمِعُوا) بالوصل فلا إشكال ، ويقرأ برفع «الشركاء» عطفا على الواو للفصل بالمفعول.

والواو الداخلة على المضارع المنصوب لعطفه على اسم صريح أو مؤوّل ؛ فالأول كقوله [من الوافر] :

٤٣١ ـ ولبس عباءة وتقرّ عيني

أحبّ إليّ من لبس الشّفوف (٢)

والثاني : شرطه أن يتقدّم الواو نفي أو طلب ، وسمّى الكوفيّون هذه الواو واو الصّرف ، وليس النصب بها خلافا لهم ، ومثالها (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران : ١٤٢] ، وقوله [من الكامل] :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ص ١٣٩ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٢٢ ، وشرح المغني ص ٧٧٨ ، ولسان العرب ١٢ / ٣٣٠ مادة / شيم /.

(٢) تقدم تخريجه.

٢٦٦

٤٣٢ ـ [يا أيّها الرجل المعلّم غيره

هلّا لنفسك كان ذا التعليم

٤٣٣ ـ ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها

فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

٤٣٤ ـ فهناك يسمع ما تقول ويشتفى

بالقول منك وينفع التعليم]

٤٣٥ ـ لا تنه عن خلق وتأتي مثله

[عار عليك إذا فعلت عظيم](١)

والحقّ أن هذه واو العطف كما سيأتي.

السادس والسابع : واوان ينجرّ ما بعدهما.

إحداهما : واو القسم ، ولا تدخل إلا على مظهر ، ولا تتعلّق إلا بمحذوف ، نحو :

(وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) (٢) [يس : ٢] ، فإن تلتها واو أخرى ، نحو : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) (١) [التين : ١] فالتالية واو العطف ، وإلا لاحتاج كلّ من الاسمين إلى جواب.

الثانية : واو «ربّ» ، كقوله [من الطويل] :

٤٣٦ ـ وليل كموج البحر أرخى سدوله

[عليّ بأنواع الهموم ليبتلي](٢)

ولا تدخل إلا على منكر ، ولا تتعلق إلا بمؤخّر ، والصحيح أنها واو العطف ، وأن الجرّ بـ «ربّ» محذوفة خلافا للكوفيّين والمبرّد ، وحجّتهم افتتاح القصائد بها كقول رؤبة [من الرجز] :

وقاتم الأعماق خاوي المخترق

وأجيب بجواز تقدير العطف على شيء في نفس المتكلّم ، ويوضح كونها عاطفة أن واو العطف لا تدخل عليها كما تدخل على واو القسم ، قال [من الطويل] :

٤٣٧ ـ ووالله لو لا تمره ما حببته

[ولا كان أدنى من عبيد ومشرق](٣)

والثامن : واو دخولها كخروجها ؛ وهي الزّائدة ، أثبتها الكوفيّون والأخفش وجماعة ،

__________________

(١) الابيات من البحر الكامل ، وهي لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص ٤٠٤ ، وفي شرح شذور الذهب ص ٣١٠ ، وبلا نسبة في المستطرف ١ / ٤٨.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١٨ وخزانة الأدب ٢ / ٣٢٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٧٤ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ٧٥.

(٣) البيت من البحر الطويل ، وهو لعيلان بن شجاع النهشلي في لسان العرب مادة (حبب) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٤١٠ ، وخزانة الأدب ٩ / ٤٢٩.

٢٦٧

وحمل على ذلك (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧١] بدليل الآية الأخرى. وقيل : هي عاطفة ، والزّائدة الواو في (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) [الزمر : ٧١] وقيل : هما عاطفتان ، والجواب محذوف ، أي : كان كيت وكيت ؛ وكذا البحث في (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ) [الصافات : ١٠٣ ـ ١٠٤] ، الأولى أو الثانية زائدة على القول الأول ، أو هما عاطفتان والجواب محذوف على القول الثاني ؛ والزيادة ظاهرة في قوله [من الطويل] :

٤٣٨ ـ فما بال من أسعى لأجبر عظمه

حفاظا ، وينوي من سفاهته كسري؟ (١)

وقوله [من الكامل] :

٤٣٩ ـ ولقد رمقتك في المجالس كلّها

فإذا وأنت تعين من يبغيني (٢)

والتاسع : واو الثّمانية ، ذكرها جماعة من الأدباء كالحريري ، ومن النحويين الضّعفاء كابن خالويه ، ومن المفسرين كالثّعلبي ، وزعموا أن العرب إذا عدّوا قالوا ستة ، سبعة وثمانية ، إيذانا بأنّ السبعة عدد تام ، وأن ما بعدها عدد مستأنف واستدلّوا على ذلك بآيات.

إحداها (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢] ، إلى قوله سبحانه : (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢] ، وقيل : هي في ذلك لعطف جملة على جملة ؛ إذ التقدير : هم سبعة ، ثم قيل : الجميع كلامهم ؛ وقيل : العطف من كلام الله تعالى ، والمعنى : نعم هم سبعة وثامنهم كلبهم ، وإن هذا تصديق لهذه المقالة كما أن (رَجْماً بِالْغَيْبِ) [الكهف : ٢٢] تكذيب لتلك المقالة ، ويؤيّده قول ابن عبّاس رضي‌الله‌عنهما : حين جاءت الواو انقطعت العدّة ، أي : لم تبق عدّة عادّ يلتفت إليها.

فإن قلت : إذا كان المراد التّصديق فما وجه مجيء (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) [الكهف : ٢٢]؟

قلت : وجه الجملة الأولى توكيد صحّة التصديق بإثبات علم المصدّق ؛ ووجه الثانية الإشارة إلى أن القائلين تلك المقالة الصادقة قليل ، أو أن الذي قالها منهم عن يقين قليل ، أو لما كان التصديق في الآية خفيّا لا يستخرجه إلا مثل ابن عباس قيل ذلك ، ولهذا كان يقول : وأنا من ذلك القليل ، هم سبعة وثامنهم كلبهم.

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لعامر بن مجنون في حماسة البحتري ص ٧٥ ، ولابن الذئبة الثقفي في سمط للآلي ص ٦٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٨١ ، وللأجرد في الشعر والشعراء ٢ / ٧٣٨.

(٢) البيت من الكامل ، وهو لأبي العيال الهذلي ، وفي الأغاني ٢٣ / ٤٤٠ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٥٢.

٢٦٨

وقيل : هي واو الحال وعلى هذا فيقدّر المبتدأ اسم إشارة ، أي : هؤلاء سبعة ، ليكون في الكلام ما يعمل في الحال ؛ ويردّ ذلك أن حذف عامل الحال إذا كان معنويّا ممتنع ، ولهذا ردّوا على المبرّد قوله في بيت الفرزدق [من البسيط] :

٤٤٠ ـ فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم

إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر (١)

إن «مثلهم» حال ناصبها خبر محذوف ، أي : وإذ ما في الوجود بشر مماثلا لهم.

الثانية : آيةالزمر ، إذ قيل (فُتِحَتْ) في آيةالنار لأن أبوابها سبعة ، (وَفُتِحَتْ) [الزمر : ٧٣] في آيةالجنّة إذ أبوابها ثمانية ، وأقول : لو كان لواو الثمانية حقيقة لم تكن الآية منها ؛ إذ ليس فيها ذكر عدد ألبتة ، وإنما فيها ذكر «الأبواب» ، هي جمع لا يدلّ على عدد خاص ، ثم الواو ليست داخلة عليه ، بل على جملة هو فيها ، وقد مرّ أن الواو في (وَفُتِحَتْ) مقحمة عند قوم وعاطفة عند آخرين ؛ وقيل : هي واو الحال أي : جاؤوها مفتّحة أبوابها كما صرّح بـ «مفتحة» حالا في (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) (٥٠) [ص : ٥٠] وهذا قول المبرّد والفارسي وجماعة ؛ قيل : وإنما فتحت لهم قبل مجيئهم إكراما لهم عن أن يقفوا حتى تفتح لهم.

الثالث : (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة : ١١٢] فإنه الوصف الثامن ، والظاهر أن العطف في هذا الوصف بخصوصه إنما كان من جهة أنّ الأمر والنهي من حيث هما أمر ونهي متقابلان ، بخلاف بقيّة الصفات ، أو لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر ، وهو ترك المعروف ، والناهي عن المنكر آمر بالمعروف ؛ فأشير إلى الاعتداد بكل منهما وأنه لا يكتفى فيه بما يحصل في ضمن الآخر ؛ وذهب أبو البقاء ، على إمامته ، في هذه الآية ، مذهب الضعفاء ، فقال : إنما دخلت الواو في الصّفة الثامنة إيذانا بأن السبعة عندهم عدد تام ؛ ولذلك قالوا : سبع في ثمانية ، أي سبع أذرع في ثمانية أشبار ، وإنما دخلت الواو على ذلك لأن وضعها على مغايرة ما بعدها لما قبلها.

الرابعة : (وَأَبْكاراً) [التحريم : ٥] في آيةالتحريم ، ذكرها القاضي الفاضل ، وتبجّح باستخراجها ، وقد سبقه إلى ذكرها الثّعلبي ، والصواب أن هذه الواو وقعت بين صفتين هما تقسيم لمن اشتمل على جميع الصفات السابقة ، فلا يصحّ إسقاطها ، إذ لا تجتمع

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للفرزدق في ديوانه ١ / ١٨٥ والأشباه والنظائر ٢ / ٢٠٩ وخزانة الأدب ٤ / ١٣٣ ، والدرر ٢ / ١٠٣ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ٢٨٠.

٢٦٩

الثيوبة والبكارة ؛ وواو الثمانية عند القائل بها صالحة للسقوط ؛ وأما قول الثعلبي إن منها الواو في قوله تعالى : (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [الحاقة : ٧] فسهو بيّن ، وإنما هذه واو العطف ، وهي واجبة الذكر ، ثم إن «وأبكارا» صفة تاسعة لا ثامنة ؛ إذ أول الصفات (خَيْراً مِنْكُنَ) [التحريم : ٥] لا «مسلمت» [التحريم : ٥] ، فإن أجاب بأن «مسلمت» وما بعده تفصيل لـ (خَيْراً مِنْكُنَّ) فلهذا لم تعدّ قسيمة لها ، قلنا : وكذلك (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) [التحريم : ٥] تفصيل للصفات السابقة فلا نعدّهما منهنّ.

والعاشر : الواو الداخلة على الجملة الموصوف بها لتأكيد لصوقها بموصوفها وإفادتها أن اتّصافه بها أمر ثابت ، وهذه الواو أثبتها الزمخشريّ ومن قلّده ، وحملوا على ذلك مواضع الواو فيها كلّها واو الحال نحو : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦] الآية ، (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢] ، (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) [البقرة : ٢٥٩] ، (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) (٤) [الحجر : ٤] ؛ والمسوغ لمجيء الحال من النكرة في هذه الآية أمران : أحدهما خاصّ بها ، وهو تقدّم النفي ؛ والثاني عامّ في بقية الآيات وهو امتناع الوصفيّة ؛ إذ الحال متى امتنع كونها صفة جاز مجيئها من النّكرة ، ولهذا جاءت منها عند تقدمها عليها ، نحو : «في الدّار قائما رجل» وعند جمودها ، نحو : «هذا خاتم حديدا» ، و «مررت بماء قعدة رجل» ؛ ومانع الوصفية في هذه الآية أمران : أحدهما خاصّ بها ، وهو اقتران الجملة بـ «إلّا» ، إذ لا يجوز التفريغ في الصفات ، لا تقول : «ما مررت بأحد إلّا قائم» نصّ على ذلك أبو علي وغيره ؛ والثاني عامّ في بقيّة الآيات ، وهو اقترانها بالواو.

والحادي عشر : واو ضمير الذكور ، نحو : «الرّجال قاموا» ، وهي اسم ، وقال الأخفش والمازني : حرف ، والفاعل مستتر ، وقد تستعمل لغير العقلاء إذ نزّلوا منزلتهم ، نحو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [النمل : ١٨] ، وذلك لتوجيه الخطاب إليهم ، وشذّ قوله [من الطويل] :

٤٤١ ـ شربت بها والدّيك يدعو صباحه

إذا ما بنو نعش دانوا فتصوّبوا (١)

والذي جرّأه على ذلك قوله : «بنو» لا «بنات» ؛ والذي سوّغ ذلك أن ما فيه من تغيير نغم الواحد شبّهه بجمع التكسير ، فسهّل مجيئه لغير العاقل ، ولهذا جاز تأنيث فعله،

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للنابغة الجعدي في ديوانه ص ٤ ، وخزانة الأدب ٨ / ٧٨ وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٧٦ ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة ص ٣٧٠.

٢٧٠

نحو : (إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) [يونس : ٩٠] مع امتناع «قامت الزيدون».

الثاني عشر : واو علامة المذكّرين في لغة طيّىء أو أزد شنوءة أو بلحارث ، ومنه الحديث : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنّهار» ، وقوله [من المتقارب] :

٤٤٢ ـ يلومونني في اشتراء النّخي

ل أهلي ، فكلّهم ألوم (١)

وهي عند سيبويه حرف دالّ على الجماعة كما أن التاء في «قالت» حرف دال على التأنيث ، وقيل : هي اسم مرفوع على الفاعليّة ؛ ثم قيل : إن ما بعدها بدل منها ، وقيل : مبتدأ والجملة خبر مقدّم ؛ وكذا الخلاف في نحو «قاما أخواك» و «قمن نسوتك» ، وقد تستعمل لغير العقلاء إذا نزلوا منزلتهم ، قال أبو سعيد : نحو «أكلوني البراغيث» إذ وصفت بالأكل لا بالقرص ، وهذا سهو منه ؛ فإن الأكل من صفات الحيوانات عاقلة وغير عاقلة ؛ وقال ابن الشجري : عندي أن «الأكل» هنا بمعنى العدوان والظلم ، كقوله [من الوافر] :

٤٤٣ ـ أكلت بنيك أكل الضّبّ حتّى

وجدت مرارة الكلأ الوبيل (٢)

أي : ظلمتهم ؛ وشبّه الأكل المعنويّ بالحقيقي ؛ والأحسن في «الضبّ» في البيت أن لا يكون في موضع نصب على حذف الفاعل ؛ أي مثل أكلك الضبّ ، بل في موضع رفع على حذف المفعول : أي مثل أكل الضّب أولاده ؛ لأنّ ذلك أدخل في التشبيه ، وعلى هذا فيحتمل «الأكل» الثاني أن يكون معنويّا ، لأن الضبّ ظالم لأولاده بأكله إيّاهم ؛ وفي المثل : «أعقّ من ضبّ». وقد حمل بعضهم على هذه اللغة : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) [المائدة : ٧١] ، (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنبياء : ٣] ؛ وحملهما على غير هذه اللغة أولى لضعفها ، وقد جوّز في (الَّذِينَ ظَلَمُوا) أن يكون بدلا من الواو في (وَأَسَرُّوا ،) أو مبتدأ خبره إما (وَأَسَرُّوا) أو قول محذوف عامل في جملة الاستفهام ، أي : يقولون هل هذا ، وأن يكون خبرا لمحذوف : أي هم الذين ، أو فاعلا بـ «أسرّوا» والواو علامة كما قدّمنا ، أو بـ «يقول» محذوفا ، أو بدلا من واو (اسْتَمَعُوهُ) [الأنبياء : ٢] ، وأن يكون منصوبا على البدل من مفعول (يَأْتِيهِمْ) [الأنبياء : ٢] أو على إضمار «أذمّ» أو «أعني» ، وأن يكون مجرورا على البدل من (الناس) في (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [الأنبياء : ١] ، أو من الهاء

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص ٤٨ ، والدرر ٢ / ٢٨٣ وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٣٦٣ ، وأوضح المسالك ٢ / ١٠٠.

(٢) البيت من الوافر ، وهو للعملس بن عقيل في الحيوان ٦ / ٤٩ ، والمعاني الكبير ص ٦٤٢ وبلا نسبة في الأغاني ١٢ / ٢٧١.

٢٧١

والميم في (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) [الأنبياء : ٣]. فهذه أحد عشر وجها ، وأمّا الآية الأولى فإذا قدّرت الواوان فيها علامتين ، فالعلامتان قد تنازعا الظّاهر ؛ فيجب حينئذ أن تقدر في أحدهما ضميرا مستترا راجعا إليه ، وهذا من غرائب العربية ، أعني وجوب استتار الضّمير في فعل الغائبين ؛ ويجوز كون (كثير) مبتدأ وما قبله خبرا ، وكونه بدلا من الواو الأولى مثل «اللهم صلّ عليه الرؤوف الرّحيم» فالواو الثانية حينئذ عائدة على متقدّم رتبة ، ولا يجوز العكس ، لأن الأولى حينئذ لا مفسّر لها.

ومنع أبو حيّان أن يقال على هذه اللغة : «جاؤوني من جاءك» لأنها لم تسمع إلّا مع ما لفظه جمع ، وأقول : إذا كان سبب دخولها بيان أنّ الفاعل الآتي جمع ، كان لحاقها هنا أولى ، لأن الجمعيّة خفيّة.

وقد أوجب الجميع علامة التأنيث في «قامت هند» كما أوجبوها في «قامت امرأة» ، وأجازوها في «غلت القدر ، وانكسرت القوس» ، كما أجازوها في «طلعت الشّمس ، ونفعت الموعظة».

وجوّز الزمخشري في (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (٨٧) [مريم : ٨٧] كون (مَنِ) فاعلا والواو علامة.

وإذا قيل : «جاؤوا زيد وعمرو وبكر» لم يجز عند ابن هشام أن يكون من هذه اللغة ، وكذا تقول في «جاءا» زيد وعمرو» ، وقول غيره أولى ، لما بينّا من أن المراد بيان المعنى ، وقد ردّ عليه بقوله [من الطويل] :

٤٤٤ ـ [تولّى قتال المارقين بنفسه]

وقد أسلماه مبعد وحميم (١)

وليس بشيء ، لأنه إنما يمنع التخريج لا التّركيب ، ويجب القطع بامتناعها في نحو : «قام زيد أو عمرو» ، لأن القائم واحد ، بخلاف «قام أخواك أو غلاماك» لأنه اثنان ؛ وكذلك تمتنع في «قام أخواك أو زيد». وأمّا قوله تعالى : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) [الإسراء : ٢٣] ، فمن زعم أنه من ذلك فهو غالط ، بل الألف ضمير الوالدين في (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣] وأحدهما أو كلاهما بتقدير يبلغه أحدهما أو كلاهما ، أو أحدهما بدل بعض ، وما بعده بإضمار فعل ، ولا يكون معطوفا ، لأن بدل

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لعبيد الله بن قيس الرقيات في ديوانه ص ١٩٦ ، والدرر ٢ / ٢٨٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٨٤ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ١٠٦.

٢٧٢

الكلّ لا يعطف على بدل البعض ، لا تقول : «أعجبني زيد وجهه وأخوك» على أن «الأخ» هو «زيد» ، لأنك لا تعطف المبيّن على المخصّص.

فإن قلت : «قام أخواك وزيد» جاز «قاموا» بالواو ، إن قدّرته من عطف المفردات ، و «قاما» بالألف إن قدّرته من عطف الجمل ، كما قال السهيلي في : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥] إنّ التقدير ولا يأخذه نوم.

والثالث عشر : واو الإنكار ، نحو : «آلرجلوه» بعد قول القائل : «قام الرجل» ، والصواب أن لا تعدّ هذه ، لأنها إشباع للحركة ، بدليل «آلرّجلاه» في النصب و «آلرّجليه» في الجر ، ونظيرها الواو في «منو» في الحكاية ، وفي «أنظور» من قوله [من البسيط] :

٤٤٥ ـ [الله يعلم أنّ في تلفّتنا

يوم الفراق إلى أحبابنا صور

٤٤٦ ـ وأنّني حيثما يثني الهوى بصري]

من حيثما سلكوا أدنو فأنظور (١)

وواو القوافي ، كقوله [من الوافر] :

٤٤٧ ـ [متى كان الخيام بذي طلوح]

سقيت الغيث أيّتها الخيامو (٢)

الرابع عشر : واو التذكّر ، كقول من أراد أن يقول «يقوم زيد» ، فنسي «زيد» فأراد مدّ الصوت ليتذكّر ، إذ لم يرد قطع الكلام : «يقومو» ، والصواب أن هذه كالتي قبلها.

الخامس عشر : الواو المبدلة من همزة الاستفهام المضموم ما قبلها كقراءة قنبل إليه النشور وأمنتم [الملك : ١٥ ـ ١٦] ، (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ) [الأعراف : ١٢٣] ، والصواب أن لا تعدّ هذه أيضا ، لأنها مبدلة ، ولو صحّ عدّها لصحّ عدّ الواو من أحرف الاستفهام.

* * * *

(وا) على وجهين :

أحدهما : أن تكون حرف نداء مختصّا بباب النّدبة ، نحو : «وا زيداه» ، وأجاز بعضهم استعماله في النداء الحقيقي.

والثاني : أن تكون اسما لـ «أعجب» ، كقوله [من الرجز] :

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لابن هرمة في ملحق ديوانه ص ٢٣٩ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ٤٥ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٢٩ والدرر ٦ / ٢٠٤.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لجرير في ديوانه ص ٢٧٨ ، والأغاني ٢ / ١٧٩ ، وجمهرة اللغة ص ٥٥٠ ، وخزانة الأدب ٩ / ١٢١.

٢٧٣

٤٤٨ ـ وا ، بأبي أنت وفوك الأشنب

كأنّما ذرّ عليه الزّرنب (١)

أو زنجبيل ، وهو عندي أطيب

وقد يقال «واها» كقوله [من الرجز] :

٤٤٩ ـ واها لسلمى ثمّ واها واها

[هي المنى لو أنّنا نلناها](٢)

و «وي» ، كقوله [من الخفيف] :

٤٥٠ ـ وي ، كأن من يكن له نشب

يحبب ، ومن يفتقر يعش عيش ضرّ (٣)

وقد تلحق هذه كاف الخطاب ، كقوله [من الكامل] :

٤٥١ ـ ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها

قيل الفوارس : ويك عنتر ، أقدم (٤)

وقال الكسائي : أصل «ويك» : و «ويلك» فالكاف ضمير مجرور ، وأما (وَيْكَأَنَّ اللهَ) [القصص : ٨٢] ، فقال أبو الحسن : «وي» اسم فعل ، والكاف حرف خطاب ، و «أنّ» على إضمار اللام ، والمعنى أعجب لأن الله ، وقال الخليل : «وي» وحدها كما قال : «وي كأن من يكن» البيت ، و «كأن» للتحقيق ، كما قال [من البسيط] :

٤٥٢ ـ كأنّني حين أمسي لا تكلّمني

متيّم يشتهي ما ليس موجودا (٥)

أي : إنني حين أمسي على هذه الحالة.

ـ حرف الألف ـ

والمراد به هنا الحرف الهاوي الممتنع الابتداء به ، لكونه لا يقبل الحركة ، فأما الذي يراد به الهمزة فقد مرّ في صدر الكتاب.

__________________

(١) البيت من الرجز ، وهو لراجز من بني تميم في الدرر ٥ / ٣٠٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٨٦ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ٨٣ ، ولسان العرب مادة (زرنب).

(٢) البيت من الرجز ، وهو لأبي النجم في لسان العرب مادة (ويه) ، وتاج العروس مادة (جرر).

(٣) البيت من البحر الخفيف ، وهو لزيد بن عمرو بن نفيل في خزانة الأدب ٦ / ٤٠٤ ، والدرر ٥ / ٣٠٥ ولنبيه بن الحجاج في الأغاني ١٧ / ٢٠٥ ولسان العرب (وا ، ويا) وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٣٥٣ ، والخصائص ٣ / ٤١.

(٤) البيت من الكامل ، وهو لعنترة في ديوانه ص ٢١٩ ، والجنى الداني ص ٢٥٣ ، وخزانة الأدب ٦ / ٤٠٦ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٨٦ ، وشرح شواهد المغني ص ٤٨١.

(٥) البيت من البسيط ، وهو لعمرو بن أبي ربيعة في ديوانه ص ٣٢٠ ، والجنى الداني ص ٥٧١ والخصائص ٣ / ١٧٠.

٢٧٤

وابن جنّي يرى أن هذا الحرف اسمه «لا» ، وأنه الحرف الذي يذكر قبل الياء عند عدّ الحروف ، وأنه لمّا لم يمكن أن يتلفّظ به في أول اسمه ، كما فعل في أخواته إذ قيل : صاد جيم ، توصل إليه باللّام كما توصّل إلى اللفظ بلام التّعريف بالألف حين قيل في الابتداء «الغلام» ليتقارضا ، وأن قول المعلّمين : «لام ألف» خطأ لأن كلّا من اللام والألف قد مضى ذكره ، وليس الغرض بيان كيفية تركيب الحروف ، بل سرد أسماء الحروف البسائط.

ثم اعترض على نفسه بقول أبي النجم [من الرجز] :

٤٥٣ ـ أقبلت من عند زياد كالخرف

تخطّ رجلاي بخطّ مختلف (١)

تكتّبان في الطّريق لام الف

وأجاب بأنه لعلّه تلقّاه من أفواه العامة ، لأنّ الخط ليس له تعلّق بالفصاحة.

وقد ذكر للألف تسعة أوجه :

أحدها : أن تكون للإنكار ، نحو : «أعمراه» لمن قال : «رأيت عمرا».

والثاني : أن تكون للتذكّر كـ «رأيت الرّجلا».

وقد مضى أن التحقيق أن لا يعدّ هذان.

الثالث : أن تكون ضمير الاثنين ، نحو : «الزيدان قاما» ، وقال المازني : هي حرف ، والضّمير مستتر.

الرابع : أن تكون علامة الاثنين ، كقوله [من البسيط] :

٤٥٤ ـ ألفيتا عيناك عند القفا ،

[أولى فأولى لك ذا واقيه](٢)

وقوله [من الطويل] :

٤٥٥ ـ [تولّى قتال المارقين بنفسه]

وقد أسلماه مبعد وحميم (٣)

وعليه قول المتنبي [من الكامل] :

__________________

(١) البيت من بحر الرجز ، انظر : الخصائص ٣ / ٢٩٧ ، وسّر صناعة الإعراب ٢ / ٦٥١.

(٢) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (تمر) ، ولسان العرب ١٠ / ٢٩٠ انظر مادة / تمر /.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لعبيد الله بن قيس الرقيات في ديوانه ص ١٩٦ ، والدرر ٢ / ٢٨٢ ، وشرح التصريح ١ / ٢٧٧ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٨٤ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ١٠٦ ، والجنى الداني ص ١٧٥.

٢٧٥

٤٥٦ ـ ورمى ، وما رمتا يداه ، فصابني

سهم يعذّب ، والسّهام تريح (١)

الخامس : الألف الكافّة ، كقوله [من الطويل] :

٤٥٧ ـ فبينا نسوس النّاس والأمر أمرنا

إذا نحن فيهم سوقة ليس تنصف (٢)

وقيل : الألف بعض «ما» الكافة ، وقيل : إشباع ، و «بين» مضافة إلى الجملة ، ويؤيده أنها قد أضيفت إلى المفرد في قوله [من الكامل] :

٤٥٨ ـ بينا تعانقه الكماة وروغه

يوما أتيح له جريء سلفع (٣)

السادس : أن تكون فاصلة بين الهمزتين ، نحو : (أَأَنْذَرْتَهُمْ) [يس : ١٠] ودخولها جائز ، لا واجب ، ولا فرق بين كون الهمزة الثانية مسهلة أو محققة.

السابع : أن تكون فاصلة بين النّونين نون النسوة ونون التوكيد ، نحو : «اضربنان» ، وهذه واجبة.

الثامن : أن تكون لمدّ الصوت بالمنادى المستغاث ، أو المتعجّب منه ، أو المندوب ، كقوله [من المنسرح] :

٤٥٩ ـ يا يزيدا لآمل نيل عزّ

وغنى ، بعد فاقة وهوان (٤)

وقوله [من الرجز] :

٤٦٠ ـ يا عجبا لهذه الفليقة ،

هل تذهبنّ القوباء الرّيقه (٥)

وقوله [من البسيط] :

٤٦١ ـ حمّلت أمرا عظيما فاصطبرت له

وقمت فيه بأمر الله يا عمرا (٦)

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو للمتنبي في ديوانه ١ / ٣٦٩.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لحرقة بنت النعمان في الجنى الداني ص ٣٧٦ ، وخزانة الأدب ٧ / ٥٩ ، ٦٠ ، ٦٨ ، والدرر ٣ / ١١٩ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٢٠٣ ، وبلا نسبة في تاج العروس مادة إذا.

(٣) البيت من البحر الكامل ، وهو لأبي ذؤيب في الأشباه والنظائر ٢ / ٤٨ ، وخزانة الأدب ٥ / ٢٥٨ ، وبلا نسبة في الخصائص ٣ / ١٢٢.

(٤) البيت من الخفيف ، وهو بلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ٤٩ ، والدرر ٤ / ١٢٦ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٦٣.

(٥) البيت من الرجز ، وهو لابن قنان في لسان العرب مادة (قوب) ، وبلا نسبة في إصلاح المنطق ص ٣٤٤ ، وجمهرة اللغة ص ٩٦٥ ، والجنى الداني ص ١٧٧.

(٦) البيت من البسيط ، وهو لجرير في ديوانه ص ٧٣٦ ، والدرر ٣ / ٤٢ ، وشرح التصريح ٢ / ١٦٤ وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٩٢ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ٩.

٢٧٦

التاسع : أن تكون بدلا من نون ساكنة ، وهي إما نون التوكيد أو تنوين المنصوب ، فالأولى نحو : (لَنَسْفَعاً) [العلق : ١٥] ، (وَلَيَكُوناً) [يوسف : ٣٢] ، وقوله [من الطويل] :

٤٦٢ ـ وإيّاك والميتات لا تقربنّها

ولا تعبد الشّيطان ، والله فاعبدا (١)

ويحتمل أن تكون هذه النون من باب «يا حرسيّ اضربا عنقه».

والثاني : كـ «رأيت زيدا» ، في لغة غير ربيعة.

ولا يجوز أن تعدّ الألف المبدلة من نون «إذن» ، ولا ألف التكثير كألف «قبعثرى» ، ولا ألف التأنيث كألف «حبلى» ، ولا ألف الإلحاق كألف «أرطى» ، ولا ألف الإطلاق كالألف في قوله [من الرجز] :

٤٦٣ ـ ما هاج أشواقا وشجوا قد شجا

من طلل كالأتحميّ أنهجا (٢)

ولا ألف التّثنية كـ «الزيدان» ، ولا ألف الإشباع الواقعة في الحكاية ، نحو : «منا» أو في غيرها في الضّرورة ، كقوله [من الرجز] :

٤٦٤ ـ أعوذ بالله من العقراب

[الشّائلات عقد الأذناب](٣)

ولا الألف التي تبين بها الحركة في الوقف وهي ألف «أنا» عند البصريّين ، ولا ألف التصغير ، نحو : «ذيّا» و «اللّذيّا» ، لما قدّمنا.

ـ حرف الياء ـ

* (الياء المفردة) تأتي على ثلاثة أوجه ، وذلك أنها تكون ضميرا للمؤنّثة ، نحو : «تقومين» ، و «قومي» ، وقال الأخفش والمازني : هي حرف تأنيث والفاعل مستتر ؛ وحرف إنكار ، نحو : «أزيدنيه» ، وحرف تذكار ، نحو : «قدي» ، وقد تقدّم البحث فيهما ، والصواب أن لا يعدّا كما لا تعدّ ياء التّصغير ، وياء المضارعة ، وياء الإطلاق ، وياء الإشباع ، ونحوهنّ ، لأنهن أجزاء للكلمات ، لا كلمات.

* * *

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للأعشى في ديوانه ص ١٨٧ ، والأزهية ص ٢٧٥ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٧٧.

(٢) البيت من الرجز ، وهو للعجاج في ديوانه ٢ / ١٣ ، وتخليص الشواهد ص ٤٧ ، وتاج العروس ، مادة (بلل) ، ولرؤبة في معاهد التنصيص ١ / ١٤ وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ٣٥٤.

(٣) البيت من الرجز ، وهو بلا نسبة في لسان العرب مادة (سبسب) ، ورصف المباني ص ١٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٩٥.

٢٧٧

* (يا) : حرف موضوع لنداء البعيد حقيقة أو حكما ، وقد ينادى بها القريب توكيدا ، وقيل : هي مشتركة بين القريب والبعيد. وقيل : بينهما وبين المتوسّط ، وهي أكثر أحرف النّداء استعمالا ؛ ولهذا لا يقدّر عند الحذف سواها ، نحو : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) [يوسف : ٢٩] ، ولا ينادى اسم الله عزوجل ، والاسم المستغاث ، و «أيّها» و «أيتها» إلّا بها ، ولا المندوب إلّا بها أو بـ «وا» ، وليس نصب المنادى بها ، ولا بأخواتها أحرفا ، ولا بهنّ أسماء لـ «أدعو» متحمّلة لضمير الفاعل ، خلافا لزاعمي ذلك ، بل بـ «أدعو» محذوفا لزوما. وقول ابن الطّراوة : النّداء إنشاء ، و «أدعو» خبر ، سهو منه ، بل «أدعو» المقدّر إنشاء كـ «بعت» و «أقسمت».

وإذا ولي «يا» ما ليس بمنادى كالفعل في (أَلَّا يَسْجُدُوا) [النمل : ٢٥] ، وقوله [من الطويل] :

٤٦٥ ـ ألا يا اسقياني بعد غارة سنجال ،

[وقبل منايا عاديات وأوجال](١)

والحرف في نحو : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ) [النساء : ٧٣] ، «يا ربّ كاسية في الدّنيا عارية يوم القيامة» ، والجملة الاسمية ، كقوله [من البسيط] :

٤٦٦ ـ يا لعنة الله والأقوام كلّهم

والصّالحين على سمعان من جار (٢)

فقيل : هي للنداء والمنادى محذوف ، وقيل : هي لمجرّد التنبيه ، لئلّا يلزم الإجحاف بحذف الجملة كلّها ، وقال ابن مالك : إن وليها دعاء كهذا البيت أو أمر ، نحو : (أَلَّا يَسْجُدُوا) [النمل : ٢٥] فهي للنّداء ؛ لكثرة وقوع النداء قبلهما ، نحو : (يا آدَمُ اسْكُنْ) [البقرة : ٣٥] ، (يا نُوحُ اهْبِطْ) [هود : ٤٨] ، ونحو : (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزخرف : ٧٧] ، وإلّا فهي للتنبيه ، والله أعلم.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للشماخ في ملحق ديوانه ص ٤٥٦ ، وتذكرة النحاة ص ٦٨٧ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٩٦ ، وشرح المفصل ٨ / ١١٥ ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٣٥٦.

(٢) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ص ٤٤٨ ، والإنصاف ١ / ١١٨ ، والجنى الداني ص ٣٥٦ ، وجواهر الأدب ص ٢٩٠ ، وخزانة الأدب ١١ / ١٩٧ ، والدرر ٣ / ٢٥.

٢٧٨

الباب الثاني من الكتاب

في تفسير الجملة ، وذكر أقسامها ، وأحكامها

شرح الجملة ، وبيان أن الكلام أخصّ منها ،

ولا مرادف لها الكلام : هو القول المفيد بالقصد

والمراد بـ «المفيد» : ما دلّ على معنى يحسن السكوت عليه.

والجملة عبارة عن الفعل وفاعله ، كـ «قام زيد» ، والمبتدأ وخبره كـ «زيد قائم» ، وما كان بمنزلة أحدهما ، نحو : «ضرب اللّص» ، و «أقائم الزّيدان» ، و «كان زيد قائما» ، و «ظننته قائما».

وبهذا يظهر لك أنهما ليسا بمترادفين كما يتوهّمه كثير من الناس ، وهو ظاهر قول صاحب المفصل ، إنه بعد أن فرغ من حدّ الكلام قال : ويسمّى جملة ، والصواب أنها أعمّ منه ، إذ شرطه الإفادة ، بخلافها ، ولهذا تسمعهم يقولون : جملة الشرط ، جملة الجواب ، جملة الصلة ، وكلّ ذلك ليس مفيدا ، فليس بكلام.

وبهذا التقرير يتضح لك صحة قول ابن مالك في قوله تعالى : (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ) (٩٧) [الأعراف : ٩٥ ـ ٩٧]. إنّ الزمخشري حكم بجواز الاعتراض بسبع جمل ، إذ زعم أن (أَفَأَمِنَ) معطوف على (فَأَخَذْناهُمْ ،) وردّ عليه من ظنّ أن الجملة والكلام مترادفان ، فقال : إنما اعترض بأربع جمل ، وزعم أن من عند (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) إلى (وَالْأَرْضِ) جملة ، لأن الفائدة إنّما تتمّ بمجموعه.

وبعد ، ففي القولين نظر.

أما قول ابن مالك فلأنه كان من حقّه أن يعدّها ثمان جمل ، إحداها (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ، وأربعة في حيّز «لو» ـ وهي : «آمنوا ، واتّقوا ، وفتحنا» ، والمركّبة من «أنّ» وصلتها مع «ثبت» مقدّرا أو مع «ثابت» مقدّرا ، على الخلاف في أنها فعليّة أو اسميّة ، والسادسة (وَلكِنْ كَذَّبُوا ،) والسابعة (فَأَخَذْناهُمْ ،) والثامنة (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

٢٧٩

فإن قلت : لعله بنى ذلك على ما اختاره ونقله عن سيبويه من كون «أنّ» وصلتها مبتدأ لا خبر له ، وذلك لطوله وجريان الإسناد في ضمنه.

قلت : إنّما مراده أن يبيّن ما لزم على إعراب الزمخشري ، والزمخشري يرى أنّ «أنّ» وصلتها هنا فاعل يثبت.

وأما قول المعترض فلأنه كان من حقّه أن يعدّها ثلاث جمل ، وذلك لأنه لا يعدّ (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) جملة ؛ لأنها حال مرتبطة بعاملها ، وليست مستقلّة برأسها ، ويعدّ «لو» وما في حيّزها جملة واحدة : إما فعليّة إن قدّر : ولو ثبت أن أهل القرى آمنوا واتّقوا ، أو اسميّة إن قدّر : ولو أنّ إيمانهم وتقواهم ثابتان ، ويعدّ (وَلكِنْ كَذَّبُوا) جملة ، و (فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) كلّه جملة ، وهذا هو التّحقيق ، ولا ينافي ذلك ما قدّمناه في تفسير الجملة ، لأن الكلام هنا ليس في مطلق الجملة ، بل في الجملة بقيد كونها جملة اعتراض ، وتلك لا تكون إلا كلاما تاما.

انقسام الجملة إلى اسميّة وفعليّة وظرفية

فالاسميّة هي : التي صدرها اسم ، كـ «زيد قائم» ، و «هيهات العقيق» ، و «قائم الزيدان» ، عند من جوّزه ، وهو الأخفش والكوفيّون.

والفعليّة هي : التي صدرها فعل ، كـ «قام زيد» ، و «ضرب اللصّ» ، و «كان زيد قائما» ، و «ظننته قائما» ، و «يقوم زيد» ، و «قم».

والظرفيّة هي : المصدّرة بظرف أو مجرور ، نحو : «أعندك زيد» ، و «أفي الدار زيد» ، إذا قدرت «زيدا» فاعلا بالظرف والجارّ والمجرور ، لا بالاستقرار المحذوف ، ولا مبتدأ مخبرا عنه بهما ؛ ومثّل الزمخشريّ لذلك بـ «في الدار» من قولك : «زيد في الدار» وهو مبنيّ على أن الاستقرار المقدّر فعل لا إسم ، وعلى أنه حذف وحده وانتقل الضمير إلى الظرف بعد أن عمل فيه.

وزاد الزمخشريّ وغيره الجملة الشرطية ، والصواب أنها من قبيل الفعليّة لما سيأتي.

تنبيه ـ مرادنا بصدر الجملة المسند أو المسند إليه ، فلا عبرة بما تقدّم عليهما من الحروف ؛ فالجملة من نحو : «أقائم الزيدان» ، و «أزيد أخوك» ، و «لعلّ أباك منطلق» ، و «ما زيد قائما» اسميّة ، ومن نحو : «أقام زيد» ، و «إن قام زيد» ، و «قد قام زيد» ، و «هلّا قمت» فعليّة.

٢٨٠