شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢
الجزء ١ الجزء ٢

الثالث : «آية» بمعنى «علامة» ، فإنها تضاف جوازا إلى الجملة الفعليّة المتصرف فعلها مثبتا أو منفيا بما ، كقوله [من الوافر] :

٥٣٨ ـ بآية يقدمون الخيل شعثا

[كأنّ على سنابكها مداما](١)

وقوله [من الطويل] :

٥٣٩ ـ [ألكني إلى قومي السّلام رسالة]

بآية ما كانوا ضعافا ولا عزلا (٢)

وهذا قول سيبويه ، وزعم أبو الفتح إنما تضاف إلى المفرد نحو : (آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) [البقرة : ٢٤٨] ، وقال : الأصل بآية ما يقدمون ، أي بآية إقدامكم ، كما قال [من الوافر] :

٥٤٠ ـ [ألا من مبلغ عنّي تميما]

بآية ما تحبّون الطّعاما (٣)

وفيه حذف موصول حرفيّ غير «أن» وبقاء صلته ، ثم هو غير متأتّ في قوله :

بآية ما كانوا ضعافا ولا عزلا

الرابع : «ذو» في قولهم «اذهب بذي تسلم» والباء في ذلك ظرفية ، و «ذي» صفة لزمن محذوف ؛ ثمّ قال الأكثرون : هي بمعنى صاحب ، فالموصوف نكرة ، أي : اذهب في وقت صاحب سلامة ، أي : في وقت هو مظنّة السّلامة ؛ وقيل : بمعنى «الذي» فالموصوف معرفة ، والجملة صلة فلا محلّ لها ، والأصل : اذهب في الوقت الذي تسلم فيه ، ويضعفه أن استعمال «ذي» موصولة مختصّ بطيّىء ، ولم ينقل اختصاص هذا الاستعمال بهم ، وأن الغالب عليها في لغتهم البناء ، ولم يسمع هنا إلا الإعراب ، وأن حذف العائد المجرور هو والموصول بحرف متّحد المعنى مشروط باتحاد المتعلّق ، نحو : (وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) [المؤمنون : ٣٣] ، والمتعلق هنا مختلف ، وأن هذا العائد لم يذكر في وقت ؛ وبهذا الأخير يضعف قول الأخفش في (يا أَيُّهَا النَّاسُ) إن «أيا» موصولة و «الناس»

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو للأعشى في خزانة الأدب ٦ / ٥١٢ ، ٥١٥ ، ولسان العرب ١٢ / ٢٩٢ مادة / سلم / وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٢٥٠ ، والدرر ٥ / ٣٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨١١.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لعمرو بن شاس في ديوانه ص ٩٠ ، والدرر ٥ / ٣٦ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٧٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٥ ، وبلا نسبة في المنطق ٢ / ١٠٣.

(٣) البيت من الوافر ، وهو ليزيد بن عمرو بن الصعق في خزانة الأدب ٦ / ٥١٢ ، والدرر ١ / ٩٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٦ ، والشعر والشعراء ٢ / ٦٤٠.

٣٢١

خبر لمحذوف ، والجملة صلة وعائد ، أي : يا من هم الناس ، على أنه قد حذف العائد حذفا لازما في نحو :

ولا سيّما يوم

فيمن رفع ، أي : لا مثل الذي هو يوم ، ولم يسمع في نظائره ذكر العائد ، ولكنه نادر ؛ فلا يحسن الحمل عليه.

والخامس ، والسادس : «لدن» ، و «ريث» ، فإنهما يضافان جوازا إلى الجملة الفعليّة التي فعلها متصرّف ، ويشترط كونه مثبتا ، بخلافه مع «آية».

فأما «لدن» فهي اسم لمبدأ الغاية ، زمانيّة كانت أو مكانيّة ، ومن شواهدها قوله [من الطويل] :

٥٤١ ـ لزمنا لدن سألتمونا وفاقكم

فلا يك منكم للخلاف جنوح (١)

وأما «ريث» فهي مصدر «راث» إذا أبطأ ، وعوملت معاملة أسماء الزمان في الإضافة إلى الجملة ، كما عوملت المصادر معاملة أسماء الزّمان في التوقيت ، كقولك : «جئتك صلاة العصر» ، قال [من الطويل] :

٥٤٢ ـ خليليّ رفقا ريث أقضي لبانة

من العرصات المذكرات عهودا (٢)

وزعم ابن مالك في كافيته وشرحها أن الفعل بعدهما على إضمار «أن» ، والأول قوله في التسهيل وشرحه ، وقد يعذر في «ريث» ، لأنها ليست زمانا ، بخلاف «لدن» ، وقد يجاب بأنها لما كانت لمبدأ الغايات مطلقا لم تخلص للوقت ؛ وفي الغرة لابن الدهّان أن سيبويه لا يرى جواز إضافتها إلى الجملة ، ولهذا قال في قوله [من الرجز] :

من لد شولا [فإلى إتلائها]

إن تقديره : من لد أن كانت شولا ، ولم يقدّر : من لدن كانت.

والسابع والثامن : «قول» و «قائل» ، كقوله [من الخفيف] :

٥٤٣ ـ قول يا للرّجال ينهض منّا

مسرعين الكهول والشّبّانا (٣)

وقوله [من الكامل] :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني ص ٨٣٦.

(٢) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في الدرر ٣ / ١٣١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٦.

(٣) البيت من الخفيف ، وهو بلا نسبة في الدرر ٢ / ٢٧١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٢٣٧.

٣٢٢

٤٤ ـ وأجبت قائل ، كيف أنت، بصالح

حتّى مللت وملّني عوّادي (١)

* * *

والجملة الخامسة : الواقعة بعد الفاء أو «إذا» جوابا لشرط جازم ؛ لأنها لم تصدّر بمفرد يقبل الجزم لفظا كما في قولك : «إن تقم أقم» أو محلّا كما في قولك «إن جئتني أكرمتك» ، مثال المقرونة بالفاء (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ) [الأعراف : ١٨٦] ، ولهذا قرىء بجزم «يذر» عطفا على المحل ؛ ومثال المقرونة بـ «إذا» (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) [الروم : ٣٦] ، والفاء المقدّرة كالموجودة ، كقوله [من البسيط] :

٥٤٥ ـ من يفعل الحسنات الله يشكرها

[والشّرّ بالشّرّ عند الله مثلان](٢)

ومنه عند المبرد ، نحو : «إن قمت أقوم» وقول زهير [من البسيط] :

٥٤٦ ـ وإن أتاه خليل يوم مسغبة

يقول لا غائب مالي ولا حرم

وهذا أحد الوجهين عند سيبويه ، والوجه الآخر أنه على التقديم والتأخير ، فيكون دليل الجواب لا عينه ، وحينئذ فلا يجزم ما عطف عليه ؛ ويجوز أن يفسر ناصبا لما قبل الأداة ، نحو : «زيدا إن أتاني أكرمه» ، ومنع المبرد تقدير التقديم ، محتجّا بأنّ الشيء إذا حلّ في موضعه لا ينوى به غيره ، وإلا لجاز «ضرب غلامه زيدا» ، وإذا خلا الجواب الذي لم يجزم لفظه من الفاء ، وإذا نحو : «إن قام زيد قام عمرو» فمحلّ الجزم محكوم به للفعل لا للجملة ؛ وكذا القول في فعل الشرط ، قيل : ولهذا جاز نحو : «إن قام ويقعدا أخواك» على إعمال الأول ، ولو كان محلّ الجزم للجملة بأسرها لزم العطف على الجملة قبل أن تكمل.

تنبيه ـ قرأ غير أبي عمرو (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) [المنافقون : ١٠] بالجزم ؛ فقيل : عطف على ما قبله على تقدير إسقاط الفاء ، وجزم (أصدق) ويسمّى العطف على المعنى ، ويقال له في غير القرآن العطف على

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في الدرر ٢ / ٢٧١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٧.

(٢) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في الدرر ٢ / ٢٧١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٧.

(٣) البيت من البسيط ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ١٥٣ ، والإنصاف ٢ / ٦٢٥ ، وجمهرة اللغة ١٠٨ ، وخزانة الأدب ٩ / ٤٨ ، والدرر ٥ / ٨٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٨.

٣٢٣

التوهّم ؛ وقيل : عطف على محل الفاء وما بعدها وهو (أصدق) ومحله الجزم ؛ لأنه جواب التحضيض ، ويجزم بـ «إن» مقدّرة ، وإنه كالعطف على (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ) [الأعراف : ١٨٦] بالجزم ، وعلى هذا فيضاف إلى الضابط المذكور أن يقال : أو جواب طلب ؛ ولا تقيّد هذه المسألة بالفاء ، لأنّهم أنشدوا على ذلك قوله [من الوافر]:

٥٤٧ ـ فأبلوني بليّتكم لعلّي

أصالحكم وأستدرج نويّا (١)

وقال أبو علي : عطف «استدرج» على محلّ الفاء الداخلة في التقدير على «لعلّي» وما بعدها ، قلت : فكأن هذا هنا بمنزلة :

٥٤٨ ـ من يفعل الحسنات الله يشكرها

[والشّرّ بالشّرّ عند الله مثلان](٢)

في باب الشرط ، وبعد فالتّحقيق أنّ العطف في الباب من العطف على المعنى ؛ لأن المنصوب بعد الفاء في تأويل الاسم ، فكيف يكون هو والفاء في محل الجزم؟ وسأوضح ذلك في باب أقسام العطف.

* * *

الجملة السادسة : التّابعة لمفرد ، وهي ثلاثة أنواع :

أحدها : المنعوت بها ؛ فهي في موضع رفع في نحو : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) [البقرة : ٢٥٤] ، ونصب في نحو : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ) [البقرة : ٢٨١] ، وجرّ في نحو : (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) [آل عمران : ٩]. ومن مثل المنصوبة المحل (رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً) [المائدة : ١١٤] ، (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ) [التوبة : ١٠٣] الآية ؛ فجملة (تَكُونُ لَنا عِيداً) [المائدة : ١١٤] صفة لـ «مائدة» ؛ وجملة (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ) [التوبة : ١٠٣] صفة لـ «صدقة» ؛ ويحتمل أن الأولى حال من ضمير «مائدة» المستتر في (مِنَ السَّماءِ) على تقديره صفة لها لا متعلّقا بأنزل ؛ أو من (مائِدَةً) على هذا التقدير ؛ لأنها قد وصفت ، وأن الثانية حال من ضمير (خذ) ؛ ونحو : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي) [مريم : ٥ ـ ٦] ، أي : وليّا وارثا ، وذلك فيمن رفع

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لأبي دؤاد الإيادي في ديوانه ص ٣٥٠ ، والخصائص ١ / ١٧٦ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٧٠١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٩ ، وبلا نسبة في لسان العرب ١١ / ٤٧٤ مادة / علل /.

(٢) تقدم تخريجه.

٣٢٤

(وَيَرِثُ ،) وأما من جزمه فهو جواب للدعاء ، ومثل ذلك (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) [القصص : ٣٤] قرىء برفع يصدق وجزمه.

والثاني : المعطوفة بالحرف ، نحو : «زيد منطلق وأبوه ذاهب» ، إن قدّرت الواو عاطفة على الخبر ؛ فلو قدرت العطف على الجملة فلا موضع لها ، أو قدّرت الواو واو الحال فلا تبعيّة والمحل نصب.

وقال أبو البقاء في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج : ٦٣] ، والأصل : فهي تصبح ، والضمير للقصّة ، و (تصبح) خبره ، أو (تصبح) بمعنى أصبحت ، وهو معطوف على (أنزل) فلا محل له إذا ، ا ه.

وفيه إشكالان : أحدهما أنه لا محوج في الظاهر لتقدير ضمير القصة ، والثاني تقديره الفعل المعطوف على الفعل المخبر به لا محلّ له.

وجواب الأول أنه قد يكون قدّر الكلام مستأنفا ، والنحويّون يقدرون في مثل ذلك مبتدأ ، كما قالوا في «وتشرب اللّبن» فيمن رفع : إن التقدير : وأنت تشرب اللبن ، وذلك إمّا لقصدهم إيضاح الاستئناف ، أو لأنه لا يستأنف إلا على هذا التقدير ، وإلا لزم العطف الذي هو مقتضى الظاهر.

وجواب الثاني أن الفاء نزّلت الجملتين منزلة الجملة الواحدة ، ولهذا اكتفى فيهما بضمير واحد ، وحينئذ فالخبر مجموعهما كما في جملتي الشرط والجزاء الواقعتين خبرا ، والمحل لذلك المجموع ، وأما كل منهما فجزء الخبر ؛ فلا محلّ له ، فافهمه فإنه بديع.

ويجب على هذا أن يدّعى أن الفاء في ذلك وفي نظائره من نحو : «زيد يطير الذّباب فيغضب» قد أخلصت لمعنى السّببيّة ، وأخرجت عن العطف ، كما أن الفاء كذلك في جواب الشرط ، في نحو : «أحسن إليك فلان فأحسن إليه» ، ويكون ذكر أبي البقاء للعطف تجوّزا أو سهوا.

ومما يلحق بهذا البحث أنه إذا قيل : «قال زيد عبد الله منطلق وعمرو مقيم» فليست الجملة الأولى في محل نصب والثانية تابعة لها ، بل الجملتان معا في موضع نصب ، ولا محلّ لواحدة منهما ، لأن القول مجموعهما ، وكل منهما جزء للمقول ، كما أنّ جزأي الجملة الواحدة لا محلّ لواحد منهما باعتبار القول ، فتأمله.

الثالث : المبدلة ، كقوله تعالى : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) (٤٣) [فصلت : ٤٣] ، فـ «إنّ» وما عملت فيه بدل من «ما»

٣٢٥

وصلتها ، وجاز إسناد يقال إلى الجملة كما جاز في (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) [الجاثية : ٣٢] ، هذا كلّه إن كان المعنى ما يقول الله لك إلا ما قد قيل ، فأما إن كان المعنى ما يقول كل كفار قومك من الكلمات المؤذية إلا مثل ما قد قال الكفار الماضون لأنبيائهم ، وهو الوجه الذي بدأ به الزمخشري ، فالجملة استئناف.

ومن ذلك (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) [الأنبياء : ٣] ثم قال الله تعالى : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) [الأنبياء : ٣] ، قال الزمخشري : هذا في موضع نصب بدلا من «النجوى» ، ويحتمل التفسير ، وقال ابن جني في قوله [من الطويل] :

٥٤٩ ـ إلى الله أشكو بالمدينة حاجة

وبالشّأم أخرى كيف يلتقيان؟ (١)

جملة الاستفهام بدل من «حاجة» و «أخرى» ، أي : إلى الله أشكو حاجتي تعذّر التقائهما.

الجملة السابعة : التابعة لجملة لها محل ، ويقع ذلك في بابي النّسق والبدل خاصة.

فالأول نحو : «زيد قام أبوه وقعد أخوه» إذا لم تقدّر الواو للحال ، ولا قدرت العطف على الجملة الكبرى.

والثاني شرطه كون الثانية أوفى من الأولى بتأدية المعنى المراد ، نحو : (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الشعراء : ١٣٢ ـ ١٣٤] فإن دلالة الثانية على نعم الله مفصلة ، بخلاف الأولى ، وقوله [من الطويل] :

٥٥٠ ـ أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا

[وإلّا فكن في السّرّ والجهر مسلما](٢)

فإن دلالة الثانية على ما أراده من إظهار الكراهية لإقامته بالمطابقة ، بخلاف الأولى.

قيل : ومن ذلك قوله [من الطويل] :

٥٥١ ـ ذكرتك والخطّيّ يخطر بيننا

وقد نهلت منّا المثقّفة السّمر (٣)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق في خزانة الأدب ٥ / ٢٠٨ ، وشرح التصريح ٢ / ١٦٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٥٧ ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ٤٠٨.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو بلا نسبة في خزانة الأدب ٥ / ٢٠٧ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٤٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٩ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٠٠.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لأبي العطاء السندي في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٥٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٤٠ ، وبلا نسبة في شرح المفصل.

٣٢٦

فإنه أبدل «وقد نهلت» من قوله : «والخطّيّ يخطر بيننا» بدل اشتمال ، ا ه. وليس متعيّنا ، لجواز كونه من باب النسق ، على أن تقدر الواو للعطف ، ويجوز أن تقدر واو الحال ، وتكون الجملة حالا ، إما من فاعل «ذكرتك» على المذهب الصحيح في جواز ترادف الأحوال ، وإما من فاعل «يخطر» فتكون الحالان متداخلتين ، والرابط على هذا الواو ، وإعادة صاحب الحال بمعناه ، فإن «المثقفة السّمر» هي الرماح.

ومن غريب هذا الباب قولك : «قلت لهم قوموا أوّلكم وآخركم» ، زعم ابن مالك أن التقدير ، ليقم أولكم وآخركم ، وأنه من باب بدل الجملة من الجملة لا المفرد من المفرد ، كما قال في العطف في نحو : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة : ٣٥] ، و (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) [طه : ٥٨] ، و (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) [البقرة : ٢٣٣].

تنبيه ـ هذا الذي ذكرته ـ من انحصار الجمل التي لها محل في سبع ـ جار على ما قرّروا ، والحقّ أنها تسع ، والذي أهملوه : الجملة المستثناة ، والجملة المسند إليها.

أما الأولى فنحو : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ) [الغاشية : ٢٢ ـ ٢٤] قال ابن خروف : «من» مبتدأ ، و «يعذبه الله» الخبر ، والجملة في موضع نصب على الاستثناء المنقطع ؛ وقال الفراء في قراءة بعضهم (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) [البقرة : ٢٤٩] : إن (قليل) مبتدأ حذف خبره أي : لم يشربوا ؛ وقال جماعة في (إِلَّا امْرَأَتَكَ) [هود : ٨١] بالرفع : إنه مبتدأ والجملة بعده خبر ، وليس من ذلك نحو : «ما مررت بأحد إلا زيد خير منه» ، لأن الجملة هنا حال من «أحد» باتفاق ، أو صفة له عند الأخفش ، وكل منهما قد مضى ذكره ؛ وكذلك الجملة في (إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ) [الفرقان : ٢٠] فإنها حال ، وفي نحو : «ما علمت زيدا إلا يفعل الخير» فإنها مفعول ، وكلّ ذلك قد ذكر.

وأما الثانية فنحو : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) [البقرة : ٦] الآية ، إذا أعرب «سواء» خبرا ، و «أنذرتهم» مبتدأ ، ونحو : «تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه» إذا لم تقدر الأصل : أن تسمع ، بل يقدر «تسمع» قائما مقام السماع ، كما أن الجملة بعد الظرف في نحو : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) [الكهف : ٤٧] ، وفي نحو : (أَأَنْذَرْتَهُمْ) [البقرة : ٦] في تأويل المصدر ، وإن لم يكن معها حرف سابك.

واختلف في الفاعل ونائبه : هل يكونان جملة أم لا ؛ فالمشهور المنع مطلقا ،

٣٢٧

وأجازه هشام وثعلب مطلقا ، نحو : «يعجبني قام زيد» ، وفصّل الفراء وجماعة ونسبوه لسيبويه ، فقالوا : إن كان الفعل قلبيّا ووجد معلّق عن الفعل نحو : «ظهر لي أقام زيد» صحّ ، وإلّا فلا ؛ وحملوا عليه (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (٣٥) [يوسف : ٣٥] ، ومنعوا «يعجبني يقوم زيد» ، وأجازهما هشام وثعلب ، واحتجّا بقوله [من الطويل] :

٥٥٢ ـ وما راعني إلّا يسير بشرطة

[وعهدي به قينا يسير بكير](١)

ومنع الأكثرون ذلك كلّه ، وأوّلوا ما ورد مما يوهمه ، فقالوا : في «بدا» ضمير البداء ، و «تسمع» و «يسير» على إضمار «أن».

وأما قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) [البقرة : ١١] ، وقوله عليه الصلاة والسّلام : «لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة» ، وقول العرب «زعموا مطية الكذب» ، فليس من باب الإسناد إلى الجملة ؛ لما بيّنا في غير هذا الموضع.

حكم الجمل بعد المعارف وبعد النكرات

يقول المعربون على سبيل التقريب : الجمل بعد النكرات صفات ، وبعد المعارف أحوال.

وشرح المسألة مستوفاة أن يقال : الجمل الخبرية التي لم يستلزمها ما قبلها : إن كانت مرتبطة بنكرة محضة فهي صفة لها ، أو بمعرفة محضة فهي حال عنها ، أو بغير المحضة منهما فهي محتملة لهما ، وكل ذلك بشرط وجود المقتضي وانتفاء المانع.

مثال النوع الأول ـ وهو الواقع صفة لا غير لوقوعه بعد النكرات المحضة ـ قوله تعالى : (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٣] ، (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ) [الأعراف : ١٦٤] ، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) [البقرة : ٢٥٤] ، ومنه (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها) [الكهف : ٧٧] ، وإنما أعيد ذكر «الأهل» لأنه لو قيل : «استطعماهم» مع أن المراد وصف القرية لزم خلوّ الصفة من ضمير الموصوف ؛ ولو قيل : «استطعماها» كان مجازا ، ولهذا كان هذا الوجه أولى من أن تقدّر بالجملة جوابا لـ «إذا» ، لأن تكرار الظّاهر يعرى حينئذ عن هذا المعنى ، وأيضا فلأنّ الجواب في قصة الغلام (قالَ أَقَتَلْتَ) [الكهف :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في الخصائص ٢ / ٤٣٤ ، وشرح المفصل ٤ / ٢٧.

٣٢٨

٧٤] لا قوله : (فَقَتَلَهُ) [الكهف : ٧٤] لأن الماضي المقرون بـ «قد» لا يكون جوابا ؛ فليكن (قالَ) في هذه الآية أيضا جوابا.

ومثال النوع الثاني ـ وهو الواقع حالا لا غير لوقوعه بعد المعارف المحضة ـ (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (٦) [المدثر : ٦] ، (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣].

ومثال النوع الثالث ـ وهو المحتمل لهما بعد النكرة ـ (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) [الأنبياء : ٥٠] ، فلك أن تقدّر الجملة صفة للنكرة وهو الظاهر ، ولك أن تقدّرها حالا منها لأنها قد تخصّصت بالوصف ، وذلك بقربها من المعرفة ، حتى إن أبا الحسن أجاز وصفها بالمعرفة فقال في قوله تعالى : (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) [المائدة : ١٠٧] إن «الأوليان» صفة لـ «آخران» لوصفه بـ «يقومان» ، ولك أن تقدّرها حالا من المعرفة وهو الضمير في «مبارك» ، إلّا أنه قد يضعف من حيث المعنى وجها الحال ؛ أما الأول فلأن الإشارة إليه لم تقع في حالة الإنزال كما وقعت الإشارة إلى «البعل» في حالة الشيخوخة في (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] ، وأما الثاني فلاقتضائه تقييد البركة بحالة الإنزال ، وتقول «ما فيها أحد يقرأ» فيجوز الوجهان أيضا ؛ لزوال الإبهام عن النكرة بعمومها.

ومثال النوع الرابع ـ وهو المحتمل لهما بعد المعرفة ـ (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة : ٥] : فإن المعرف الجنسي يقرب في المعنى من النكرة ؛ فيصح تقدير (يحمل) حالا أو وصفا ، ومثله (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] وقوله [من الكامل] :

٥٥٣ ـ ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني

[فمضيت ثمّة قلت : لا يعنيني](١)

وقد اشتمل الضابط المذكور على قيود.

أحدها : كون الجملة خبريّة ، احترزت بذلك من نحو : «هذا عبد بعتكه» تريد بالجملة الإنشاء ، و «هذا عبدي بعتكه» كذلك ؛ فإن الجملتين مستأنفتان ، لأن الإنشاء لا يكون نعتا ولا حالا ، ويجوز أن يكونا خبرين آخرين إلا عند من منع تعدّد الخبر مطلقا ،

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لرجل من سلول في الدرر ١ / ٧٨ ، وشرح التصريح ٢ / ١١ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣١٠ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٨ ، ولشمر بن عمرو الحنفي في الأصمعيات ص ١٢٦ ، ولعميرة بن جابر الحنفي في حماسة البحتري ص ١٧١.

٣٢٩

وهو اختيار ابن عصفور ، وعند من منع تعدّده مختلفا بالإفراد والجملة ، وهو أبو علي ، وعند من منع وقوع الإنشاء خبرا ، وهم طائفة من الكوفيّين.

ومن الجمل ما يحتمل الإنشائيّة والخبريّة ، فيختلف الحكم باختلاف التقدير ، وله أمثلة :

منها : قوله تعالى : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) [المائدة : ٢٣] ، فإن جملة (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) تحتمل الدّعاء فتكون معترضة ، والإخبار فتكون صفة ثانية.

ويضعف من حيث المعنى أن تكون حالا ، ولا يضعف في الصناعة لوصفها بالظرف.

ومنها : قوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء : ٩٠] فذهب الجمهور إلى أن (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) جملة خبرية ، ثم اختلفوا ، فقال جماعة منهم الأخفش : هي حال من فاعل «جاء» على إضمار «قد» ، ويؤيده قراءة الحسن (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء : ٩٠].

وقال آخرون : هي صفة ؛ لئلّا يحتاج إلى إضمار «قد» ؛ ثم اختلفوا فقيل : الموصوف منصوب محذوف ، أي : قوما حصرت صدورهم ، ورأوا أن إضمار الاسم أسهل من إضمار حرف المعنى ؛ وقيل : مخفوض مذكور وهم قوم المتقدّم ذكرهم ؛ فلا إضمار ألبتة ، وما بينهما اعتراض ؛ ويؤيّده أنه قرىء بإسقاط (أو) ، وعلى ذلك فيكون (جاؤكم) صفة لـ «قوم» ، ويكون (حصرت) صفة ثانية ، وقيل : بدل اشتمال من (جاؤكم) لأن المجيء مشتمل على الحصر ، وفيه بعد ، لأن الحصر من صفة الجائين ؛ وقال أبو العباس المبرد : الجملة إنشائيّة معناها الدّعاء ، مثل : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [المائدة : ٦٤] فهي مستأنفة ، وردّ بأن الدعاء عليهم بضيق قلوبهم عن قتال قومهم لا يتّجه.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] فإنه يجوز أن تقدّر «لا» ناهية ونافية ، وعلى الأول فهي مقولة لقول محذوف هو الصّفة ، أي : فتنة مقولا فيها ذلك ، ويرجّحه أنّ توكيد الفعل بالنون بعد «لا» الناهية قياس ، نحو : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً) [إبراهيم : ٤٢] ، وعلى الثاني فهي صفة لـ «فتنة» ، ويرجّحه سلامته من تقدير.

القيد الثاني : صلاحيّتها للاستغناء عنها ، وخرج بذلك جملة الصّلة ، وجملة الخبر ، والجملة المحكيّة بالقول ، فإنها لا يستغنى عنها ، بمعنى أن معقوليّة القول متوقّفة عليها وأشباه ذلك.

القيد الثالث : وجود المقتضى ، واحترزت بذلك عن نحو : (فَعَلُوهُ) من قوله

٣٣٠

تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) (٥٢) [القمر : ٥٢] ، فإنه صفة لـ «كلّ» أو لـ «شيء» ، ولا يصحّ أن يكون حالا من «كل» مع جواز الوجهين في نحو : «أكرم كلّ رجل جاءك» لعدم ما يعمل في الحال ؛ ولا يكون خبرا ، لأنهم لم يفعلوا كل شيء ، ونظيره قوله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) [الأنفال : ٦٨] ، يتعيّن كون (سَبَقَ) صفة ثانية ، لا حالا من الكتاب ، لأن الابتداء لا يعمل في الحال ، ولا الضّمير المستتر في الخبر المحذوف ، لأن أبا الحسن حكى أن الحال لا يذكر بعد «لو لا» كما لا يذكر الخبر ؛ ولا يكون خبرا ، لما أشرنا إليه ، ولا ينقض الأول بقوله : «لولا رأسك مدهونا» ، ولا الثاني بقول الزبير رضي‌الله‌عنه [من الطويل] :

٥٥٤ ـ ولو لا بنوها حولها لخبطتها

[كخبطة عصفور ولم أتلعثم](١)

لندورهما ، وأما قول ابن الشجري في (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) [النور : ١٠] : إن «عليكم» خبر ، فمردود ، بل هو متعلّق بالمبتدأ ، والخبر محذوف.

القيد الرابع : انتفاء المانع ، والمانع أربعة أنواع :

أحدها : ما يمنع حاليّة كانت متعيّنة لو لا وجوده ، ويتعيّن حينئذ الاستئناف ، نحو : «زارني زيد سأكافئه» ، أو «لن أنسى له ذلك» فإن الجملة بعد المعرفة المحضة حال ، ولكن السين و «لن» مانعان ، لأن الحاليّة لا تصدّر بدليل استقبال ؛ وأما قول بعضهم في (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (٩٩) [الصافات : ٩٩] : إن (سَيَهْدِينِ) حال كما تقول «سأذهب مهديّا» فسهو.

والثاني : ما يمنع وصفيّة كانت متعيّنة لو لا وجود المانع ، ويمتنع فيه الاستئناف ، لأن المعنى على تقييد المتقدّم ؛ فتتعيّن الحاليّة بعد أن كانت ممتنعة ، وذلك نحو : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦] ، (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ) [البقرة : ٢٥٩] ، وقوله [من الطويل] :

٥٥٥ ـ مضى زمن والنّاس يستشفعون بي

[فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع](٢)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للزبير بن العوام في تخليص الشواهد ص ٢٠٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٤١ ، والمقاصد النحوية ١ / ٥٧١.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للمجنون في ديوانه ص ١٥١ ، والدرر ٤ / ٧ ، وسمط اللآلي ص ١٣٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٤١ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٦ / ١٣٥.

٣٣١

والمعارض فيهنّ الواو ، فإنها لا تعترض بين الموصوف وصفته ، خلافا للزمخشريّ ومن وافقه.

والثالث : ما يمنعهما معا ، نحو : (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ) [الصافات : ٧ ـ ٨] ، وقد مضى البحث فيها.

والرابع : ما يمتنع أحدهما دون الآخر ولو لا المانع لكانا جائزين ، وذلك نحو : «ما جاءني أحد إلّا قال خيرا» ، فإن جملة القول كانت قبل وجود «إلّا» محتملة للوصفية والحالية ، ولما جاءت «إلّا» امتنعت الوصفية. ومثله (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) (٢٠٨) [الشعراء : ٢٠٨] ، وأما (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) (٤) [الحجر : ٤] فللوصفيّة مانعان الواو و «إلّا» ؛ ولم ير الزمخشري وأبو البقاء واحدا منهما مانعا ، وكلام النحويين بخلاف ذلك ؛ وقال الأخفش : لا تفصل «إلّا» بين الموصوف وصفته ، فإن قلت : «ما جاءني رجل إلا راكب» فالتقدير : إلا رجل راكب ، يعني أن «راكبا» صفة لبدل محذوف ، قال : وفيه قبح ، لجعلك الصفة كالاسم ، يعني في إيلائك إيّاها العامل ؛ وقال الفارسيّ ؛ لا يجوز «ما مررت بأحد إلا قائم» فإن قلت : «إلا قائما» جائز ، ومثل ذلك قوله [من الطويل] :

٥٥٦ ـ وقائلة تخشى عليّ : أظنّه

سيودي به ترحاله وجعائله (١)

فإن جملة «تخشى عليّ» حال من الضمير في «قائلة» ، ولا يجوز أن يكون صفة لها ؛ لأن اسم الفاعل لا يوصف قبل العمل ، والله أعلم.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٨٤٢.

٣٣٢

الباب الثالث من الكتاب

في ذكر أحكام ما يشبه الجملة ، وهو الظرف

والجار والمجرور ذكر حكمهما في التعلق

لا بد من تعلقهما بالفعل ، أو ما يشبهه ، أو ما أوّل بما يشبهه ، أو ما يشير إلى معناه ؛ فإن لم يكن شيء من هذه الأربعة موجودا قدّر ، كما سيأتي.

وزعم الكوفيون وابنا طاهر وخروف أنه لا تقدير في نحو : «زيد عندك وعمرو في الدار» ، ثم اختلفوا ؛ فقال ابنا طاهر وخروف : الناصب المبتدأ ، وزعما أنه يرفع الخبر إذا كان عينه ، نحو : «زيد أخوك» ، وينصبه إذا كان غيره ، وأن ذلك مذهب سيبويه ، وقال الكوفيّون : الناصب أمر معنويّ ، وهو كونهما مخالفين للمبتدأ.

ولا معوّل على هذين المذهبين.

مثال التعلّق بالفعل وما يشبهه قوله تعالى : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧] ، وقول ابن دريد [من الرجز] :

٥٥٧ ـ واشتعل المبيضّ في مسودّه

مثل اشتعال النّار في جزل الغضا (١)

وقد تقدّر «في» الأولى متعلقة بـ «المبيض» ؛ فيكون تعلّق الجارين بالاسم ، ولكن تعلق الثاني بالاشتعال يرجّح تعلّق الأول بفعله ، لأنه أتمّ لمعنى التشبيه ؛ وقد يجوز تعلّق «في» الثانية بكون محذوف حالا من «النار» ، ويبعده أن الأصل عدم الحذف.

ومثال التعلّق بما أوّل بمشبه الفعل قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف : ٨٤] ، أي : وهو الذي هو إله في السماء ؛ فـ «في» متعلّقة بـ «إله» ، وهو اسم غير صفة ، بدليل أنه يوصف ، فتقول : «إله واحد» ، ولا يوصف به ، لا يقال : «شيء إله» ، وإنما صحّ التعلّق به لتأوّله بـ «معبود» ، و «إله» خبر لـ «هو» محذوفا ؛ ولا يجوز تقدير «إله» مبتدأ مخبرا عنه بالظّرف أو فاعلا بالظرف ، لأن الصلة حينئذ خالية من العائد ، ولا يحسن تقدير الظّرف صلة و «إله» بدلا من الضمير المستتر فيه ، وتقدير (وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ)

__________________

(١) البيت من بحر الرجز ، انظر : موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب ص ٧٦.

٣٣٣

معطوفا كذلك ، لتضمّنه الإبدال من ضمير العائد مرّتين ، وفيه بعد ، حتى قيل بامتناعه ، ولأن الحمل على الوجه البعيد ينبغي أن يكون سببه التخلّص به من محذور ، فأما أن يكون هو موقعا فيما يحتاج إلى تأويلين فلا ، ولا يجوز على هذا الوجه أن يكون (وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) مبتدأ وخبرا ، لئلّا يلزم فساد المعنى إن استؤنف ، وخلّو الصلة من عائد إن عطف.

ومن ذلك أيضا قوله [من الطويل] :

٥٥٨ ـ وإنّ لساني شهدة يشتفى بها ،

وهوّ على من صبّه الله علقم (١)

أصله «علقم عليه» ، فـ «على» المحذوفة متعلّقة بـ «صبه» ، والمذكورة متعلّقة بـ «علقم» ، لتأوّله بـ «صعب» ، أو «شاقّ» ، أو «شديد». ومن هنا كان الحذف شاذّا ، لاختلاف متعلقي جارّ الموصول وجارّ العائد.

ومثال التعلّق بما فيه رائحته قوله [من الرجز] :

أنا أبو المنهال بعض الأحيان (٢)

وقوله [من الرجز] :

٥٥٩ ـ أنا ابن ماويّة إذ جدّ النّقر

[وجاءت الخيل أثافيّ زمر](٣)

فتعلق «بعض» و «إذ» بالاسمين العلمين ، لا لتأوّلهما باسم يشبه الفعل ، بل لما فيهما من معنى قولك : «الشجاع» أو «الجواد». وتقول : «فلان حاتم في قومه» فتعلّق الظرف بما في «حاتم» من معنى الجود ، ومن هنا ردّ على الكسائي في استدلاله على إعمال اسم الفاعل المصغّر بقول بعضهم : «أظنّني مرتحلا وسويّرا فرسخا» ، وعلى سيبويه في استدلاله على إعمال «فعيل» بقوله [من البسيط] :

٥٦٠ ـ حتّى شآها كليل موهنا عمل

[باتت طرابا ، وبات اللّيل لم ينم](٤)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لرجل من همدان في شرح التصريح ١ / ١٤٨ ، والمقاصد النحوية ١ / ٤٥١ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ١٧٧ ، وخزانة الأدب ٥ / ٢٦٦.

(٢) صدر بيت من الرجز ، تمامة (ليس علي حسبي بضؤلان) ، وهو لأبي النهال في لسان العرب مادة (أين) وتاج العروس مادة (أين) ، وبلا نسبة في الخصائص ٣ / ٢٧٠ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٠٧.

(٣) البيت من البسيط ، وهو لساعدة بن جؤية الهذلي في خزانة الأدب ٨ / ١٥٥ وشرح أشعار الهذليين ٣ / ١١٢٩ ، ولسان العرب ١١ / ٤٧٥ مادة / عمل /

(٤) البيت من البحر البسيط ، وهو لساعدة بن جؤبة الهذلي في خزانة الأدب ٨ / ١٥٥ ، وللهذلي في لسان العرب مادة (عمل) ، وبلا نسبة في المقتضب ٢ / ١١٥.

٣٣٤

وذلك أن «فرسخا» ظرف مكان و «موهنا» ظرف زمان ، والظرف يعمل فيه روائح الفعل ، بخلاف المفعول به ، ويوضح كون «الموهن» ليس مفعولا به أنّ «كليلا» من «كلّ» ، وفعله لا يعدّى ؛ واعتذر عن سيبويه بأنّ «كليلا» بمعنى : مكلّ ، وكأن البرق يكلّ الوقت بدوامه فيه ، كما يقال : «أتعبت يومك» ، أو بأنّه إنما استشهد به على أن «فاعلا» يعدل إلى «فعيل» للمبالغة ، ولم يستدلّ به على الإعمال ، وهذا أقرب ، فإن في الأول حمل الكلام على المجاز مع إمكان حمله على الحقيقة ، وقال ابن مالك في قول الشاعر [من البسيط] :

٥٦١ ـ [ونعم مزكأ من ضاقت مذاهبه]

ونعم من هو في سرّ وإعلان (١)

يجوز كون «من» موصولة فاعلة بـ «نعم» ، و «هو» : مبتدأ خبره «هو» أخرى مقدّرة ، و «في» : متعلّقة بالمقدّرة ، لأن فيها معنى الفعل ، أي : الذي هو مشهور ، انتهى.

والأولى أن يكون المعنى الذي هو ملازم لحالة واحدة في سرّ وإعلان ؛ وقدّر أبو علي «من» هذه تمييزا ، والفاعل مستتر ، وقد أجيز في قوله تعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣] تعلّقه باسم الله تعالى وإن كان علما ، على معنى وهو المعبود ، وهو المسمّى بهذا الاسم ؛ وأجيز تعلّقه بـ «يعلم» ، وب «سرّكم» و «جهركم» ، وبخبر محذوف قدّره الزمخشري بـ «عالم» ، ورد الثاني بأن فيه تقديم معمول المصدر وتنازع عاملين في متقدّم ، وليس بشيء ، لأن المصدر هنا ليس مقدّرا بحرف مصدريّ وصلته ، ولأنه قد جاء نحو : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨] ، والظرف متعلّق بأحد الوصفين قطعا ، فكذا هنا ؛ وردّ أبو حيان الثالث بأن «في» لا تدلّ على عالم ونحوه من الأكوان الخاصة ؛ وكذا ردّ على تقديرهم (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق : ١] : مستقبلات لعدّتهن ، وليس بشيء ، لأن الدليل ما جرى في الكلام من ذكر العلم ، فإن بعده (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) [الأنعام : ٣] ، وليس الدليل حرف الجر ، ويقال له : إذا كنت تجيز الحذف للدّليل المعنوي مع عدم ما يسدّ مسدّه فكيف تمنعه مع وجود ما يسد؟ وإنما اشترطوا الكون المطلق لوجوب الحذف ، لا لجوازه.

ومثال التعلّق بالمحذوف (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) [الأعراف : ٧٣] و [هود : ٦١] ، بتقدير : وأرسلنا ، ولم يتقدم ذكر الإرسال ، ولكن ذكر النبيّ والمرسل إليهم يدلّ على

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، وهو بدون نسبة في خزانة الأدب ، الشاهد / ٧٦٧ /.

٣٣٥

ذلك ، ومثله : (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ) [النمل : ١٢] ، فـ «في» و «إلى» متعلّقان بـ «اذهب» محذوفا (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [البقرة : ٨٣] وغيرها. أي : وأحسنوا بالوالدين إحسانا ، مثل : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) [يوسف : ١٠٠] ، أو : وصيناهم بالوالدين إحسانا مثل : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) [العنكبوت : ٨] ، ومنه باء البسملة.

هل يتعلقان بالفعل الناقص؟

من زعم أنه لا يدلّ على الحدث منع من ذلك ، وهم المبرّد فالفارسي فابن جني فالجرجانيّ فابن برهان ثم الشّلوبين ، والصحيح أنها كلها دالة عليه إلا «ليس».

واستدلّ لمثبتي ذلك التعلّق بقوله تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا) [يونس : ٢] فإن اللام لا تتعلّق بـ «عجبا» ، لأنه مصدر مؤخّر ، ولا بـ «أوحينا» لفساد المعنى ، ولأنه صلة لـ «أن» ، وقد مضى عن قريب أن المصدر الذي ليس في تقدير حرف موصول ولا صلته لا يمتنع التقديم عليه ؛ ويجوز أيضا أن تكون متعلّقة بمحذوف هو حال من «عجبا» على حد قوله [من مجزوء الوافر] :

٥٦٢ ـ لميّة موحشا طلل

[يلوح كأنّه خلل](١)

هل يتعلقان بالفعل الجامد؟

زعم الفارسيّ في قوله [من البسيط] :

٥٦٣ ـ ونعم مزكأ من ضاقت مذاهبه

ونعم من هو في سرّ وإعلان (٢)

أن «من» نكرة تامة تمييز لفاعل «نعم» مستترا ، كما قال هو وطائفة في «ما» من نحو : (فَنِعِمَّا هِيَ) [البقرة : ٢٧١] إن الظرف متعلّق بـ «نعم» ؛ وزعم ابن مالك أنها موصولة فاعل ، وأن «هو» مبتدأ خبره «هو» أخرى مقدّرة على حد :

«شعري شعري»

وإن الظرف متعلّق بـ «هو» المحذوفة لتضمّنها معنى الفعل ، أي : ونعم الذي هو باق على ودّه في سرّه وإعلانه ، وإن المخصوص محذوف ، أي : بشر بن مروان ، وعندي

__________________

(١) البيت من مجزوء الوافر ، وهو لكثير عزة في ديوانه ص ٥٠٦ ، وخزانة الأدب ٣ / ٢١١ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٤٩ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ٣١٠ ، وخزانة الأدب ٦ / ٤٣.

(٢) تقدم تخريجه.

٣٣٦

أن يقدّر المخصوص «هو» ، لتقدّم ذكر «بشر» في البيت قبله ، وهو [من البسيط] :

٥٦٤ ـ وكيف أرهب أمرا أو أراع به

وقد زكأت إلى بشر بن مروان؟ (١)

فيبقى التّقدير حينئذ : هو هو هو.

هل يتعلّقان بأحرف المعاني؟

المشهور منع ذلك مطلقا ، وقيل بجوازه مطلقا ، وفصّل بعضهم فقال : إن كان نائبا عن فعل حذف ، جاز ذلك على طريق النّيابة لا الأصالة ، وإلّا فلا ، وهو قول أبي علي وأبي الفتح ، زعما في نحو : «يا لزيد» أن اللام متعلّقة بـ «يا» ، بل قالا في «يا عبد الله» : إن النّصب بـ «يا» وهو نظير قولهما في قوله [من البسيط] :

٥٦٥ ـ أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر

[فإنّ قومي لم تأكلهم الضّبع](٢)

إنّ «ما» الزائدة هي الرّافعة الناصبة ، لا «كان» المحذوفة.

وأمّا الذين قالوا بالجواز مطلقا ، فقال بعضهم في قول كعب بن زهير رضي الله تعالى عنه [من البسيط] :

٥٦٦ ـ وما سعاد غداة البين إذ رحلوا

إلّا أغنّ غضيض الطّرف مكحول (٣)

«غداة البين» : ظرف للنفي ، أي : انتفى كونها في هذا الوقت إلا كأغنّ.

وقال ابن الحاجب في : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) [الزخرف : ٣٩] «إذ» بدل من «اليوم» و «اليوم» إما ظرف للنّفع المنفيّ ، وإمّا لما في «لن» من معنى النفي ، أي : انتفى في هذا اليوم النفع ، فالمنفيّ نفع مطلق ، وعلى الأوّل نفع مقيّد باليوم. وقال أيضا : إذا قلت «ما ضربته للتأديب» فإن قصدت نفي ضرب معلّل بالتأديب فاللام متعلّقة بالفعل ، والمنفي ضرب مخصوص ، وللتأديب : تعليل للضّرب المنفي ؛ وإن قصدت نفي الضّرب على كل حال ، فاللام متعلّقة بالنفي والتّعليل له ، أي : أنّ انتفاء الضّرب كان لأجل التأديب ؛ لأنه قد يؤدّب بعض الناس بترك الضرب ، ومثله في التعلّق بحرف النفي «ما

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في لسان العرب ١ / ٩١ مادة / زكأ / ، وجمهرة اللغة ص ١٠٩٨ ـ ١٠٣٨ ، وتاج العروس ١ / ٢٥٨ مادة / زكأ /.

(٢) البيت من البسيط ، وهو لعباس بن مرادس في ديوانه ص ١٢٨ ، والأشباه والنظائر ٢ / ١١٣ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٣ ، والدرر ٢ / ٩١.

(٣) البيت من البسيط ، وهو لكعب بن زهير في ديوانه ص ٦٠ ، والدرر ٥ / ٣١١ وشرح شواهد الإيضاح ص ١٣٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٢٥ ، والشعر والشعراء ١ / ١٦٠.

٣٣٧

أكرمت المسيء لتأديبه ، وما أهنت المحسن لمكافأته» ، إذ لو علّق هذا بالفعل فسد المعنى المراد ؛ ومن ذلك قوله تعالى : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) (٢) [القلم : ٢] الباء متعلّقة بالنفي ، إذ لو علقت بـ «مجنون» لأفاد نفي جنون خاصّ ، وهو الجنون الذي يكون من نعمة الله تعالى ، وليس في الوجود جنون هو نعمة ، ولا المراد نفي جنون خاص ، ا ه ملخّصا.

وهو كلام بديع ، إلا أن جمهور النحويين لا يوافقون على صحّة التعلّق بالحرف ، فينبغي على قولهم أن يقدّر أن التعلّق بفعل دلّ عليه النافي ، أي : انتفى ذلك بنعمة ربك.

وقد ذكرت في شرحي لقصيدة كعب رضي الله تعالى عنه ، أن المختار تعلّق الظرف بمعنى التّشبيه الذي تضمّنه البيت ، وذلك على أن الأصل : «وما كسعاد إلّا ظبي أغنّ» ، على التشبيه المعكوس للمبالغة ، لئلا يكون الظّرف متقدّما في التقدير على اللفظ الحامل لمعنى التّشبيه ، وهذا الوجه هو اختيار ابن عمرون ، وإذا جاز لحرف التشبيه أن يعمل في الحال في نحو قوله [من الطويل] :

٥٦٧ ـ كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا

لدى وكرها ، العنّاب والحشف البالي (١)

مع أن الحال شبيهة بالمفعول به ، فعمله في الظرف أجدر.

فإن قلت : لا يلزم من صحّة إعمال المذكور صحة إعمال المقدّر ، لأنه أضعف.

قلت : قد قالوا : «زيد زهير شعرا وحاتم جودا» ، وقيل في المنصوب فيهما : إنه حال أو تمييز ، وهو الظّاهر ، وأيّا كان فالحجّة قائمة به ، وقد جاء أبلغ من ذلك ، وهو إعماله في الحالين ، وذلك في قوله [من المتقارب] :

٥٦٨ ـ تعيّرنا أنّنا عالة

ونحن صعاليك أنتم ملوكا (٢)

إذ المعنى : تعيّرنا أنّنا فقراء ، ونحن في حال صعلكتنا في حال ملككم.

فإن قلت : قد أوجبت في بيت كعب بن زهير ، رضي‌الله‌عنه ، أن يكون من عكس التّشبيه لئلا يتقدّم الحال على عاملها المعنويّ ، فما الذي سوّغ تقدّم «صعاليك» هنا عليه؟

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٣٨ ، وشرح التصريح ١ / ٣٨٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٤٢ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٤٤ ، ولسان العرب ١ / ٢٠٦ مادة / أدب /.

(٢) البيت من المتقارب ، وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر ٦ / ٧ ، وتذكرة النحاة ص ١٧١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٤٤ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤٣٧.

٣٣٨

قلت : سوّغه الذي سوّغ تقدّم «بسرا» في «هذا بسرا أطيب منه رطبا» ، وإن كان معمول اسم التفضيل لا يتقدّم عليه في نحو : «لهو أكفؤهم ناصرا» ، وهو خشية اختلاط المعنى ، إلا أنّ هذا مطّرد ثمّ لقوّة التّفضيل ؛ ونادر هنا لضعف حرف التشبيه.

وهذا الذي ذكرته في البيت أجود ما قيل فيه ؛ وفيه قولان آخران :

أحدهما : ذكره السّخاوي في كتابه «سفر السعادة» ، وهو أن «عالة» من «عالني الشيء» إذا أثقلني ، و «ملوكا» مفعول : أي أننا نثقل الملوك بطرح كلّنا عليهم ، و «نحن أنتم» أي : مثلكم في هذا الأمر ؛ فالإخبار هنا مثله في (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦].

والثاني قاله الحريريّ وقد سئل عن البيت ، وهو أن التقدير : إنّا عالة صعاليك نحن وأنتم ، وقد خطّىء في ذلك ؛ وقيل : إنه كلام لا معنى له ، وليس كذلك ، بل هو متّجه على بعد فيه ، وهو أن يكون «صعاليك» مفعول «عالة» ؛ أي : إنا نعول صعاليك ، ويكون «نحن» توكيدا لضمير «عالة» ، و «أنتم» توكيد لضمير مستتر في «صعاليك» ؛ وحصل في البيت تقديم وتأخير للضّرورة ؛ ولم يتعرّض لقوله «ملوكا» وكأنه عنده حال من ضمير «عالة» ، والأولى على قوله أن يكون «صعاليك» حالا من محذوف ، أي : نعولكم صعاليك ويكون الحالان بمنزلتهما في «ليته مصعدا منحدرا» ، فإنهم نصّوا على أنه يكون الأول للثّاني ، والثّاني للأول ؛ لأن فصلا أسهل من فصلين ، ويكون «أنتم» توكيدا للمحذوف ، لا لضمير «صعاليك» لأنه ضمير غيبة ؛ وإنما جوّزناه أولا لأن «الصعاليك» هم المخاطبون ، فيحتمل كونه راعى المعنى.

ذكر ما لا يتعلق من حروف الجر

يستثنى من قولنا : «لا بد لحرف الجرّ من متعلق» ستة أمور :

أحدها : الحرف الزائد كالباء و «من» في (كَفى بِاللهِ شَهِيداً) [الرعد : ٤٣] و [الإسراء : ٩٦] ، (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) [فاطر : ٣] ، وذلك لأن معنى التعلّق الارتباط المعنويّ ، والأصل أن أفعالا قصرت عن الوصول إلى الأسماء ، فأغينت على ذلك بحروف الجرّ ، والزائد إنما دخل في الكلام تقوية له وتوكيدا ، ولم يدخل للرّبط.

وقول الحوفي إن الباء في (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) (٨) [التين : ٨] متعلقة وهم.

نعم يصح في اللام المقوّية أن يقال إنها متعلّقة بالعامل المقوّى نحو : (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) [البقرة : ٩١] ، و (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] ، و (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) [يوسف : ٤٣] ، لأنّ التحقيق أنها ليست زائدة محضة ، بل لما تخيّل في العامل من الضعف الذي نزّله منزلة

٣٣٩

القاصر ، ولا معدّية محضة لاطّراد صحة إسقاطها ؛ فلها منزلة بين المنزلتين.

الثاني : «لعلّ» في لغة عقيل ؛ لأنها بمنزلة الحرف الزائد ، ألا ترى أن مجرورها في موضع رفع على الابتداء ، بدليل ارتفاع ما بعده على الخبريّة ، قال [من الطويل] :

٥٦٩[فقلت ادع أخرى وارفع الصّوت جهرة]

لعلّ أبي المغوار منك قريب (١)

ولأنها لم تدخل لتوصيل عامل ، بل لإفادة التوقّع ، كما دخلت «ليت» لإفادة معنى التمنّي ، ثم إنهم جرّوا بها منبهة على أن الأصل في الحروف المختصّة بالاسم أن تعمل الإعراب المختص به كحروف الجر.

الثالث : «لولا» فيمن قال : «لولاي» ، و «لولاك» ، و «لولاه» على قول سيبويه : إن «لولا» جارّة للضمير ؛ فإنها أيضا بمنزلة «لعلّ» في أنّ ما بعدها مرفوع المحلّ بالابتداء ؛ فإن «لولا» الامتناعيّة تستدعي جملتين كسائر أدوات التعليق. وزعم أبو الحسن أن «لولا» غير جارّة ، وأن الضمير بعدها مرفوع ، ولكنّهم استعاروا ضمير الجرّ مكان ضمير الرفع ، كما عكسوا في قولهم «ما أنا كأنت» ، وهذا كقوله في «عساي» ، ويردّهما أنّ نيابة ضمير عن ضمير يخالفه في الإعراب إنما تثبت في الكلام في المنفصل ، وإنما جاءت النيابة في المتصل بثلاثة شروط : كون المنوب عنه منفصلا ، وتوافقهما في الإعراب ، وكون ذلك في الضرورة ، كقوله [من البسيط] :

٥٧٠ ـ [وما علينا إذا ما كنت جارتنا]

أن لا يجاورنا إلّاك ديّار (٢)

وعليه خرّج أبو الفتح قوله [من المنسرح] :

٥٧١ ـ نحن بغرس الوديّ أعلمنا

منّا بركض الجياد في السّدف (٣)

فادعى أن «نا» مرفوع مؤكّد للضمير في «أعلم» ، وهو نائب عن «نحن» ؛ ليتخلّص

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لكعب بن سعد الغنوي في الأصمعيات ص ٩٦ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٤٢٦ ، والدرر ٤ / ١٧٤ ، وسر صناعة الإعراب ص ٤٠٧ ، وشرح شواهد المغني ص ٦٩١.

(٢) البيت من البسيط ، وهو بة نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ١٢٩ ، وأوضح المسالك ١ / ٨٣ ، وخزانة الأدب ٥ / ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

(٣) البيت من المنسرح ، وهو لقيس بن الحظيم في وملحق ديوانه ص ٢٣٦ ، ولسعد القرقرة في فصل المقال ص ٢١٠ ، ولسان العرب ٩ / ١٤٧.

٣٤٠