شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢
الجزء ١ الجزء ٢

والمعتبر أيضا ما هو صدر في الأصل ، فالجملة من نحو : «كيف جاء زيد» ومن نحو : (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) [غافر : ٨١] ، ومن نحو : (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) [البقرة : ٨٧] ، و (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ) [القمر : ٧] فعليّة ، لأن هذه الأسماء في نيّة التأخير ؛ وكذا الجملة في نحو : «يا عبد الله» ، ونحو : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) [التوبة : ٦] ، (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها) [النحل : ٥] ، (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) (١) [الليل : ١] فعليّة لأن صدورها في الأصل أفعال ، والتقدير : أدعو زيدا ، وإن استجارك أحد ، وخلق الأنعام ، وأقسم والليل.

٢٨١

باب ما يجب على المسؤول في المسؤول عنه

أن يفصّل فيه

لاحتماله الاسميّة والفعليّة ، لاختلاف التقدير ، أو لاختلاف النحويّين.

ولذلك أمثلة :

أحدها : صدر الكلام من نحو : «إذا قام زيد فأنا أكرمه» ، وهذا مبنيّ على الخلاف السابق في عامل «إذا» ، فإن قلنا جوابها فصدر الكلام جملة اسميّة ، و «إذا» مقدّمة من تأخير ، وما بعد «إذا» متمّم لها ؛ لأنه مضاف إليه ، ونظير ذلك قولك «يوم يسافر زيد أنا مسافر» ، وعكسه قوله [من الوافر] :

٤٦٧ ـ فبينا نحن نرقبه أتانا

معلّق وفضة وزناد راع (١)

إذا قدرّت ألف «بينا» زائدة «وبين» مضافة للجملة الاسمية ؛ فإن صدر الكلام جملة فعليّة والظّرف مضاف إلى جملة اسمية ؛ وإن قلنا العامل في «إذا» فعل الشرط ، وإذا غير مضافة ؛ فصدر الكلام جملة فعليّة قدّم ظرفها كما في قولك : «متى تقم فأنا أقوم».

الثاني : نحو : «أفي الدّار زيد» ، و «أعندك عمرو» فإنّا إن قدّرنا المرفوع مبتدأ أو مرفوعا بمبتدأ محذوف تقديره : «كائن» أو «مستقرّ» ، فالجملة اسميّة ذات خبر في الأولى ، وذات فاعل مغن عن الخبر في الثانية ؛ وإن قدّرناه فاعلا بـ «استقرّ» ففعليّة ، أو بالظّرف فظرفيّة.

الثالث : نحو «يومان» في نحو : «ما رأيته منذ يومان» ، فإن تقديره عند الأخفش والزّجّاج : بيني وبين لقائه يومان ، وعند أبي بكر وأبي علي : أمد انتفاء الرؤية يومان ، وعليهما فالجملة اسميّة لا محلّ لها ، و «منذ» خبر على الأوّل ومبتدأ على الثّاني ؛ وقال الكسائي وجماعة : المعنى : منذ كان يومان ، فـ «منذ» ظرف لما قبلها ، وما بعدها جملة فعلية فعلها ماض حذف فعلها ، وهي في محلّ خفض ؛ وقال آخرون : المعنى من الزمن الذي هو يومان ، و «منذ» مركّبة من حرف الابتداء و «ذو» الطائيّة واقعة على الزمن ، وما بعدها جملة اسمية حذف مبتدؤها ، ولا محلّ لها لأنّها صلة.

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لنصيب في ديوانه ص ١٠٤ ، ولرجل من قيس عيلان في شرح شواهد المغني ٢ / ٧٩٨ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ٣٦ ، وخزانة الأدب ٧ / ٧٤.

٢٨٢

الرابع : «ماذا صنعت» فإنّه يحتمل معنيين ؛ أحدهما : ما الذي صنعته؟ فالجملة اسميّة قدّم خبرها عند الأخفش ومبتدؤها عند سيبويه ؛ والثاني : أيّ شيء صنعت ، فهي فعليّة قدّم مفعولها ؛ فإن قلت : «ماذا صنعته» فعلى التقدير الأول الجملة بحالها ، وعلى الثاني تحتمل الاسميّة بأن تقدر «ماذا» مبتدأ ، و «صنعته» الخبر ، والفعليّة بأن تقدر مفعولا لفعل محذوف على شريطة التفسير ، ويكون تقديره بعد «ماذا» ، لأن الاستفهام له الصّدر.

الخامس : نحو : (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) [التغابن : ٦] ، فالأرجح تقدير «بشر» فاعلا لـ «يهدي» محذوفا ، والجملة فعليّة ، ويجوز تقديره مبتدأ ، وتقدير الاسمية في (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) [الواقعة : ٥٩] أرجح منه في (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) [التغابن : ٦] لمعادلتها للاسميّة ، وهي : (أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) [الواقعة : ٥٩] وتقدير الفعليّة في قوله [من البسيط] :

٤٦٨ ـ [فقمت للطّيف مرتاعا فأرّقني]

فقلت : أهي سرت أم عادني حلم؟ (١)

أكثر رجحانا من تقديرها في (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) [التغابن : ٦] لمعادلتها الفعليّة.

السادس : نحو : «قاما أخواك» فإنّ الألف ، إن قدرت حرف تثنية كما أن التاء حرف تأنيث في «قامت هند» ، أو اسما و «أخواك» بدل منها فالجملة فعليّة ، وإن قدّرت اسما وما بعدها مبتدأ فالجملة اسميّة قدّم خبرها.

السابع : نحو : «نعم الرّجل زيد» فإن قدر «نعم الرجل» خبرا عن «زيد» فاسميّة ، كما في «زيد نعم الرّجل» ، وإن قدر «زيد» خبرا لمبتدأ محذوف فجملتان فعليّة واسميّة.

الثامن : جملة البسملة ، فإن قدّر : ابتدائي باسم الله ، فاسميّة ، وهو قول البصريّين ، أو : أبدأ باسم الله ، ففعليّة ، وهو قول الكوفيّين ، وهو المشهور في التفاسير والأعاريب ؛ ولم يذكر الزمخشري غيره ، إلا أنه يقدر الفعل مؤخّرا ومناسبا لما جعلت البسملة مبتدأ له ؛ فيقدّر : باسم الله أقرأ ، باسم الله أحلّ ، باسم الله أرتحل ، ويؤيّده الحديث «باسمك ربّي وضعت جنبي».

التاسع : قولهم : «ما جاءت حاجتك» ، فإنه يروى برفع «حاجتك» فالجملة فعليّة ، وينصبها فالجملة اسمية ، وذلك لأن «جاء» بمعنى «صار» ؛ فعلى الأوّل «ما» خبرها ، و

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لزياد بن منقذ في خزانة الأدب ٥ / ٢٤٤ ، ٢٤٥ ، والدرر ١ / ١٩٠ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١٣٤ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ١٢٧ ، وأوضح المسالك ٣ / ٣٧٠.

٢٨٣

«حاجتك» اسمها ، وعلى الثاني «ما» مبتدأ واسمها ضمير «ما» ، وأنّث حملا على معنى «ما» ، و «حاجتك» خبرها.

ونظير ما هذه ما في قولك : «ما أنت وموسى» ، فإنها أيضا تحتمل الرفع والنّصب ، إلا أن الرّفع على الابتدائيّة أو الخبريّة ، على خلاف بين سيبويه والأخفش ، وذلك إذا قدرت «موسى» عطفا على «أنت» ، والنصب على الخبرية أو المفعوليّة ، وذلك إذا قدّرته مفعولا معه ؛ إذ لا بد من تقدير فعل حينئذ ، أي : ما تكون ، أو ما تصنع.

ونظير ما هذه في هذين الوجهين على اختلاف التقديرين «كيف» في نحو : «كيف أنت وموسى» ، إلا أنها لا تكون مبتدأ ولا مفعولا به ؛ فليس للرفع إلّا توجيه واحد ، وأما النصب فيجوز كونه على الخبريّة أو الحالية.

العاشر : الجملة المعطوفة من نحو : «قعد عمرو وزيد قام» ، فالأرجح الفعليّة للتناسب ، وذلك لازم عند من يوجب توافق الجملتين المتعاطفتين.

وممّا يترجّح فيه الفعلية نحو : «موسى أكرمه» ، ونحو : «زيد ليقم» ، و «عمرو لا يذهب» بالجزم ؛ لأن وقوع الجملة الطلبيّة خبرا قليل ، وأما نحو : «زيد قام» فالجملة اسميّة لا غير ؛ لعدم ما يطلب الفعل. هذا قول الجمهور ، وجوّز المبرد وابن العريف وابن مالك فعليّتها على الإضمار والتفسير ، والكوفيّون على التقديم والتأخير ، فإن قلت : «زيد قام وعمرو قعد عنده» فالأولى اسميّة عند الجمهور ، والثانية محتملة لهما على السواء عند الجميع.

انقسام الجملة إلى صغرى وكبرى

الكبرى هي : الاسمية التي خبرها جملة ، نحو : «زيد قام أبوه» ، و «زيد أبوه قائم» ،

والصغرى هي : المبنية على المبتدأ ، كالجملة المخبر بها في المثالين.

وقد تكون الجملة صغرى وكبرى باعتبارين ، نحو : «زيد أبوه غلامه منطلق» فجموع هذا الكلام جملة كبرى لا غير ، و «غلامه منطلق» صغرى لا غير ؛ لأنها خبر ، و «أبوه غلامه منطلق» كبرى باعتبار «غلامه منطلق» وصغرى باعتبار جملة الكلام ، ومثله : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) [الكهف : ٣٨] إذ الأصل : لكن أنا هو الله ربي ، ففيها أيضا ثلاث مبتدآت ، إذ لم يقدّر (هُوَ) ضميرا له سبحانه ولفظ الجلالة بدل منه أو عطف بيان عليه كما جزم به ابن الحاجب ، بل قدّر ضمير الشأن وهو الظّاهر ، ثم حذفت همزة «أنا» حذفا اعتباطيّا ، وقيل : حذفا قياسيا بأن نقلت حركتها ثم حذفت ، ثم أدغمت نون لكن في نون أنا.

٢٨٤

تنبيهان ـ الأول : ما فسّرت به الجملة الكبرى هو مقتضى كلامهم ، وقد يقال : كما تكون مصدّرة بالمبتدأ تكون مصدّرة بالفعل ، نحو : «ظننت زيدا يقوم أبوه».

الثاني : إنّما قلت : «صغرى» و «كبرى» موافقة لهم ، وإنما الوجه استعمال «فعلى أفعل» بـ «أل» أو بالإضافة ؛ ولذلك لحّن من قال [من البسيط] :

٤٦٩ ـ كأنّ صغرى وكبرى من فقاقعها

حصباء درّ على أرض من الذّهب (١)

وقول بعضهم إن «من» زائدة وإنهما مضافان على حدّ قوله [من المنسرح] :

٤٧٠ ـ [يا من رأى عارضا أسرّ به]

بين ذراعي وجبهة الأسد (٢)

يردّه أنّ الصّحيح أن «من» لا تقحم في الإيجاب ، ولا مع تعريف المجرور ، ولكن ربما استعمل أفعل التّفضيل الذي لم يرد به المفاضلة مطابقا مع كونه مجردا ، قال [من الطويل] :

٤٧١ ـ إذا غاب عنكم أسود العين كنتم

كراما ، وأنتم ما أقام ألائم (٣)

أي : لئام ، فعلى هذا يتخرّج البيت ، وقول النحويّين : جملة صغرى وكبرى وكذلك قول العروضيين : فاصلة صغرى ، وفاصلة كبرى.

وقد يحتمل الكلام الكبرى ، وغيرها. ولهذا النوع أمثلة :

أحدها : نحو (أَنَا آتِيكَ بِهِ) [النمل : ٣٩] إذ يحتمل (آتِيكَ) أن يكون فعلا مضارعا ومفعولا ، وأن يكون اسم فاعل ومضافا إليه مثل (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ) [هود : ٧٦] ، (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (٩٥) [مريم : ٩٦] ، ويؤيّده أن أصل الخبر الإفراد ، وأن حمزة يميل الألف من (آتِيكَ ،) وذلك ممتنع على تقدير انقلابها من الهمزة.

الثاني : نحو : «زيد في الدّار» إذ يحتمل تقدير «استقرّ» وتقدير «مستقرّ».

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للأخطل في ديوانه ص ١٦٩ ، ولسان العرب ١١ / ٤٥٤ مادة / عطل / وتهذيب اللغة ٢ / ١٦٧.

(٢) البيت من المنسرح ، وهو للفرزدق في ديوانه ص ٢١٥ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣١٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٩٩ ، وشرح المفصل ٣ / ٢١ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ١٠٠ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٨٧.

(٣) البيت من البحر الطويل ، وهو للفرزدق في شرح التصريح ٢ / ١٠٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٩٩ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٧ ، وليس في ديوانه ، وتاج العروس مادة (عين) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٨ / ٢٧٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٣٣.

٢٨٥

الثالث : نحو : «إنما أنت سيرا» إذ يحتمل تقدير «تسير» وتقدير «سائر» ، وينبغي أن يجري هنا الخلاف الذي في المسألة قبلها.

الرابع : «زيد قائم أبوه» إذ يحتمل أن يقدّر «أبوه» مبتدأ ، وأن يقدّر فاعلا بـ «قائم».

تنبيه ـ يتعيّن في قوله [من الطويل] :

٤٧٢ ـ ألا عمر ولّى مستطاع رجوعه

[فيرأب ما أثأت يد الغفلات](١)

تقدير «رجوعه» مبتدأ «ومستطاع» خبره ، والجملة في محل نصب على أنّها صفة ، لا في محل رفع على أنّها خبر ، لأن «ألا» التي للتمنّي لا خبر لها عند سيبويه ، لا لفظا ولا تقديرا ، فإذا قيل : «ألا ماء» ، كان ذلك كلاما مؤلّفا من حرف واسم ، وإنما تمّ الكلام بذلك حملا على معناه وهو : أتمنّى ماء ؛ وكذلك يمتنع تقدير «مستطاع» خبرا و «رجوعه» فاعلا لما ذكرنا ؛ ويمتنع أيضا تقدير «مستطاع» صفة على المحلّ ، أو تقدير «مستطاع رجوعه» جملة في موضع رفع على أنّها صفة على المحل إجراء لـ «ألا» مجرى «ليت» في امتناع مراعاة محلّ اسمها ، وهذا أيضا قول سيبويه في الوجهين ، وخالفه في المسألتين المازني والمبرّد.

انقسام الجملة الكبرى

إلى ذات وجه ، وإلى ذات وجهين

ذات الوجهين : هي اسميّة الصّدر وفعليّة العجز ، نحو : «زيد يقوم أبوه» كذا قالوا ، وينبغي أن يراد عكس ذلك في نحو : «ظننت زيدا أبوه قائم» بناء على ما قدّمنا.

وذات الوجه نحو : «زيد أبوه قائم» ، ومثله على ما قدّمنا نحو : «ظننت زيدا يقوم أبوه».

الجمل التي لا محلّ لها من الإعراب

وهي سبع ، وبدأنا بها لأنها لم تحلّ محلّ المفرد ، وذلك هو الأصل في الجمل.

فالأولى : الابتدائية ، وتسمّى أيضا المستأنفة ، وهو أوضح ، لأن الجملة الابتدائيّة تطلق أيضا على الجملة المصدّرة بالمبتدأ ، ولو كان لها محلّ ، ثم الجمل المستأنفة نوعان :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ٢٦ ، وتخليص الشواهد ص ٤١٥ ، وخزانة الأدب ٤ / ٧٠ ، وشرح الأشموني ١ / ١٥٣.

٢٨٦

أحدهما : الجملة المفتتح بها النّطق ، كقولك ابتداء : «زيد قائم» ، ومنه الجمل المفتتح بها السّور.

والثاني : الجملة المنقطعة عمّا قبلها ، نحو : «مات فلان ، رحمه‌الله» ، وقوله تعالى : (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) [الكهف : ٨٣ ـ ٨٤] ، ومنه جملة العامل الملغى لتأخّره ، نحو : «زيد قائم أظنّ» ، فأما العامل الملغى لتوسّطه نحو : «زيد أظن قائم» فجملته أيضا لا محلّ لها ، إلّا أنها من باب جمل الاعتراض.

ويخصّ البيانيّون الاستئناف بما كان جوابا لسؤال مقدّر نحو قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) [الذاريات : ٢٤ ـ ٢٥] ، فإنّ جملة القول الثّانية جواب لسؤال مقدّر تقديره : فماذا قال لهم؟ ولهذا فصلت عن الأولى فلم تعطف عليها ؛ وفي قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) [الذاريات : ٢٥] جملتان حذف خبر الأولى ومبتدأ الثانية ، إذ التقدير : سلام عليكم ، أنتم قوم منكرون ، ومثله في استئناف جملة القول الثّانية (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) [الحجر : ٥١ ـ ٥٢] ، وقد استؤنفت جملتا القول في قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) [هود : ٦٩] ؛ ومن الاستئناف البياني أيضا قوله [من الكامل] :

٤٧٣ ـ زعم العواذل أنّني في غمرة

صدقوا ، ولكن غمرتي لا تنجلي (١)

فإن قوله «صدقوا» جواب لسؤال مقدر تقديره : أصدقوا أم كذبوا؟ ومثله قوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ) [النور : ٣٦ ـ ٣٧] ، فيمن فتح باء (يُسَبِّحُ.)

تنبيهات ـ الأول : من الاستئناف ما قد يخفى ، وله أمثلة كثيرة.

أحدها : (لا يَسَّمَّعُونَ) من قوله تعالى : (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) [الصافات : ٧ ـ ٨] فإن الذي يتبادر إلى الذهن أنه صفة لكل شيطان أو حال منه ، وكلاهما باطل ، إذ لا معنى للحفظ من شيطان لا يسّمّع ، وإنما هي للاستئناف النحوي ، ولا يكون استئنافا بيانيا لفساد المعنى أيضا. وقيل : يحتمل أن الأصل «لئلا يسمعوا» ثم حذفت اللام كما في «جئتك أن تكرمني» ثم حذفت «أن» فارتفع الفعل كما في قوله [من الطويل] :

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٨٠٠ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٢٨١.

٢٨٧

٤٧٤ ـ ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى

[وأن أشهد اللّذّات هل أنت مخلدي](١)

فيمن رفع «أحضر» ، واستضعف الزمخشري الجمع بين الحذفين.

فإن قلت : اجعلها حالا مقدّرة ، أي : وحفظا من كلّ شيطان مارد مقدّرا عدم سماعه ، أي : بعد الحفظ.

قلت : الذي يقدّر وجود معنى الحال هو صاحبها ، كالمرور به في قولك : «مررت برجل معه صقر صائدا به غدا» ، أي مقدرا حال المرور به أن يصيد به غدا ، والشياطين لا يقدّرون عدم السماع ولا يريدونه.

الثاني : (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) [يس : ٧٦] بعد قوله تعالى : (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) [يس : ٧٦] فإنه ربما يتبادر إلى الذّهن أنه محكيّ بالقول ، وليس كذلك ، لأن ذلك ليس مقولا لهم.

الثالث : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [يونس : ٦٥] ، بعد قوله تعالى : (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) [يونس : ٦٥] ، وهي كالتي قبلها ، وفي جمال القراء للسخاوي أن الوقف على قولهم في الآيتين واجب ، والصواب أنه ليس في جميع القرآن وقف واجب.

الرابع : (ثُمَّ يُعِيدُهُ) [العنكبوت : ١٩] بعد (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) [العنكبوت : ١٩] ، لأنّ إعادة الخلق لم تقع بعد فيقرّروا برؤيتها ، ويؤيّد الاستئناف فيه قوله تعالى على عقب ذلك : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) [العنكبوت : ٢٠].

الخامس : زعم أبو حاتم أنّ من ذلك (تُثِيرُ الْأَرْضَ) [البقرة : ٧١] ، فقال : الوقف على (ذَلُولٌ) جيد ، ثم يتبدىء (تُثِيرُ الْأَرْضَ) على الاستئناف ، وردّه أبو البقاء بأن (وَلا) إنما تعطف على النفي ، وبأنها لو أثارت الأرض كانت ذلولا. ويردّ اعتراضه الأول صحّة «مررت برجل يصلّي ولا يلتفت» ، والثاني أنّ أبا حاتم زعم أن ذلك من عجائب هذه البقرة ، وإنما وجه الردّ أن الخبر لم يأت بأنّ ذلك من عجائبها ، وبأنهم إنّما كلّفوا بأمر موجود ، لا بأمر خارق للعادة ، وبأنه كان يجب تكرار «لا» في «ذلول» إذ لا يقال : «مررت برجل لا شاعر» حتى تقول «ولا كاتب» لا يقال : قد تكررت بقوله تعالى : (وَلا

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لطرفة بن العبد في ديوانه ص ٣٢ ، والإنصاف ٢ / ٥٦٠ ، وخزانة الأدب ١ / ١١٩ ، والدرر ١ / ٧٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٠٠ ، ولسان العرب ١٣ / ٣٢ مادة (أنن).

٢٨٨

تَسْقِي الْحَرْثَ) [البقرة : ٧١] ، لأنّ ذلك واقع بعد الاستئناف على زعمه.

التنبيه الثاني : قد يحتمل اللفظ الاستئناف وغيره ، وهو نوعان :

أحدهما : ما إذا حمل على الاستئناف احتيج إلى تقدير جزء يكون معه كلاما ، نحو : «زيد» من قولك : «نعم الرّجل زيد».

والثاني : ما لا يحتاج فيه إلى ذلك ، لكونه جملة تامّة ، وذلك كثير جدّا ، نحو الجملة المنفيّة وما بعدها في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) [آل عمران : ١١٨]. قال الزمخشريّ : الأحسن والأبلغ أن تكون مستأنفات على وجه التعليل للنهي عن اتّخاذهم بطانة من دون المسلمين ، ويجوز أن يكون «لا يألونكم» و «قد بدت» صفتين ، أي : بطانة غير مانعتكم فسادا بادية بغضاؤهم. ومنع الواحديّ هذا الوجه ، لعدم حرف العطف بين الجملتين ، وزعم أنه لا يقال : «لا تتّخذ صاحبا يؤذيك أحبّ مفارقتك».

والذي يظهر أن الصفة تتعدّد بغير عاطف وإن كانت جملة كما في الخبر ، نحو : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [الرحمن : ١ ـ ٤] ، وحصل للإمام فخر الدين في تفسير هذه الآية سهو ، فإنه سأل : ما الحكمة في تقديم «من دونكم» على «بطانة» ، وأجاب بأن محطّ النهي هو «من دونكم» لا «بطانة» ، فلذلك قدّم الأهمّ ، وليست التّلاوة كما ذكر ؛ ونظير هذا أن أبا حيان فسّر في سورةالأنبياء كلمة (زُبُراً) بعد قوله تعالى : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً) [المؤمنون : ٥٣] ، وإنما هي في سورةالمؤمنين ، وترك تفسيرها هناك ، وتبعه على هذا السّهو رجلان لخّصا من تفسيره إعرابا.

التنبيه الثالث : من الجمل ما جرى فيه خلاف ، هل هو مستأنف أم لا؟ وله أمثلة: أحدها : «أقوم» من نحو قولك : «إن قام زيد أقوم» ، وذلك لأن المبرد يرى أنّه على إضمار الفاء ، وسيبويه يرى أنه مؤخّر من تقديم ، وأن الأصل : أقوم إن قام زيد ، وأنّ جواب الشرط محذوف ، ويؤيّده التزامهم في مثل ذلك كون الشرط ماضيا.

وينبني على هذا مسألتان :

إحداهما : أنّه هل يجوز «زيدا إن أتاني أكرمه» بنصب «زيدا»؟ فسيبويه يجيزه كما تجيز «زيدا أكرمه إن أتاني» ، والقياس أن المبرّد يمنعه ، لأنه في سياق أداة الشّرط ، فلا يعمل فيما تقدّم على الشرط ، فلا يفسر عاملا فيه.

والثانية : أنه إذا جيء بعد هذا الفعل المرفوع بفعل معطوف ، هل يجزم أم لا؟ فعلى

٢٨٩

قول سيبويه لا يجوز الجزم ، وعلى قول المبرّد ينبغي أن يجوز الرفع بالعطف على لفظ الفعل ، والجزم بالعطف على محلّ الفاء المقدّرة وما بعدها.

الثاني : «مذ» و «منذ» وما بعدهما في نحو : «ما رأيته مذ يومان» ، فقال السيرافي : في موضع نصب على الحال ، وليس بشيء لعدم الرابط ؛ وقال الجمهور : مستأنفه جوابا لسؤال تقديره عند من قدّر «مذ» مبتدأ : ما أمد ذلك؟ وعند من قدّرها خبرا : ما بينك وبين لقائه؟

الثالث : جملة أفعال الاستثناء «ليس» و «لا يكون» و «خلا» و «عدا» و «حاشا» فقال السيرافي : حال ، إذ المعنى : قام القوم خالين عن زيد ، وجوّز الاستئناف ، وأوجبه ابن عصفور ، فإن قلت : «جاءني رجال ليسوا زيدا» فالجملة صفة ، ولا يمتنع عندي أن يقال «جاؤوني ليسوا زيدا» على الحال.

الرابع : الجملة بعد حتى الابتدائيّة كقوله [من الطويل] :

٤٧٥ ـ [فما زالت القتلى تمجّ دماءها]

بدجلة حتّى ماء دجلة أشكل (١)

فقال الجمهور : مستأنفة ، وعن الزجّاج وابن درستويه أنّها في موضع جرّ بـ «حتى» ، وقد تقدّم.

* * *

الجملة الثانية : المعترضة بين شيئين لإفادة الكلام تقوية وتسديدا أو تحسينا ، وقد وقعت في مواضع.

أحدها : بين الفعل ومرفوعه ، كقوله [من الوافر] :

٤٧٦ ـ شجاك ـ أظنّ ـ ربع الظاعنينا

[ولم تعبأ بعذل العاذلينا](٢)

ويروى بنصب «ربع» على أنه مفعول أول ، و «شجاك» مفعوله الثاني ، وفيه ضمير مستتر راجع إليه ، وقوله [من الطويل] :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لجرير في ديوانه ص ١٤٣ ، والأزهية ص ٢١٦ ، والجنى الداني ص ٥٥٢ ، وخزانة الأدب ٩ / ٤٧٧ ، والدرر ٤ / ٣٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٧٧.

(٢) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة في تخليص الشواهد ص ٤٤٦ ، والدرر ٢ / ٢٦١ ، وشرح شواهد الأشموني ١ / ١٦٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٠٧.

٢٩٠

٤٧٧ ـ وقد أدركتني ـ والحوادث جمّة ـ

أسنّة قوم لا ضعاف ولا عزل (١)

وهو الظاهر في قوله [من الوافر] :

٤٧٨ ـ ألم يأتيك ـ والأنباء تنمي ـ

بما لاقت لبون بني زياد (٢)

على أن الباء زائدة في الفاعل ، ويحتمل أنّ «يأتي» و «تنمي» تنازعا «ما» ، فأعمل الثاني وأضمر الفاعل في الأول ؛ فلا اعتراض ولا زيادة ، ولكنّ المعنى على الأول أوجه ، إذ الأنباء من شأنها أن تنمي بهذا وبغيره.

الثاني : بينه وبين مفعوله ، كقوله [من الرجز] :

٤٧٩ ـ وبدّلت ـ والدّهر ذو تبدّل ـ

هيفا دبورا بالصّبا والشّمأل (٣)

والثالث : بين المبتدأ وخبره كقوله [من الطويل] :

٤٨٠ ـ وفيهنّ ـ والأيّام يعثرن بالفتى

نوادب لا يمللنه ونوائح (٤)

ومنه الاعتراض بجملة الفعل الملغى في نحو : «زيد أظنّ قائم» ، وبجملة الاختصاص في نحو قوله عليه الصلاة والسّلام : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» ، وقول الشاعر [من الرجز] :

٤٨١ ـ نحن ـ بنات طارق ـ

نمشي على النّمارق (٥)

وأمّا الاعتراض بـ «كان» الزائدة في نحو قوله : «أو نبيّ كان موسى» فالصحيح أنها لا فاعل لها ، فلا جملة.

والرابع : بين ما أصله المبتدأ والخبر ، كقوله [من الطويل] :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لجويرية بن زيد الدرر ٤ / ٢٥ ، ولرجل من بني دارم في شرح شواهد المغني ٢ / ٨٠٧ ، وبلا نسبة في الخصائص ١ / ٣٣١ ، ولسان العرب ٢ / ٦٢٦ مادة / هيم /.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لقيس بن زهير في الأغاني ١٧ / ١٣١ ، وخزانة الأدب ٨ / ٣٥٩ ، والدرر ١ / ١٦٢ وشرح شواهد المغني ص ٣٢٨ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ١٠٣ ، والأشباه والنظائر ٥ / ٢٨٠.

(٣) البيت الرجز ، وهو لأبي النجم في خزانة الأدب ٢ / ٣٩١ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٥٠ ، والطرائف الأدبية ص ٥٨.

(٤) البيت من الطويل ، وهو لمعن بن أوس في ديوانه ص ٣٢ ، وخزانة الأدب ٧ / ٢٦١ ، والخصائص ١ / ٣٣٩ ، والدرر ٤ / ١٩ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٠٨.

(٥) البيت من منهوك المنسرخ ، انظر : الأغاني ١٢ / ٣٩١ ، وأدب الكاتب ٧١.

٢٩١

٤٨٢ ـ وإنّي لرام نظرة قبل التي

لعلّي ـ وإن شطّت نواها ـ أزورها (١)

وذلك على تقدير «أزورها» خبر «لعلّ» ، وتقدير الصّلة محذوفة ، أي : التي أقول : لعلّي.

وكقوله [من الطويل] :

٤٨٣ ـ لعلّك ـ والموعود حقّ لقاؤه ـ

بدا لك في تلك القلوص بداء (٢)

وقوله [من الرجز] :

٤٨٤ ـ يا ليت شعري ـ والمنى لا تنفع ـ

هل أغدون يوما وأمري مجمع (٣)

إذا قيل بأن جملة الاستفهام خبر على تأويل «شعري» بـ «مشعوري» ، لتكون الجملة نفس المبتدأ فلا تحتاج إلى رابط ؛ وأما إذا قيل بأن الخبر محذوف أي : موجود ، أو إن «ليت» لا خبر لها ههنا إذ المعنى : ليتني أشعر ، فالاعتراض بين الشّعر ومعموله الذي علق عنه بالاستفهام ، وقول الحماسي [من السريع] :

٤٨٥ ـ إنّ الثّمانين ـ وبلّغتها ـ

قد أحوجت سمعي إلى ترجمان (٤)

وقول ابن هرمة [من المنسرح] :

٤٨٦ ـ إن سليمى ـ والله يكلؤها ـ

ضنّت بشيء ما كان يرزؤها (٥)

وقول رؤبة [من الرجز] :

٤٨٧ ـ إني ـ وأسطار سطرن سطرا ـ

لقائل يا نصر نصر نصرا (٦)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ٢ / ١٠٦ ، وخزانة الأدب ٥ / ٤٦٤ ، والدرر ١ / ٢٧٧ ، وبلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٨١٠.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لمحمد بن بشير في ديوانه ص ٢٩ ، والأغاني ١٦ / ٧٧ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢١٣ ، والدرر ٤ / ٢٠ ، وشرح شواهد المغني ص ٨١٠ ، وبلا نسبة في الخصائص ١ / ٣٤٠.

(٣) البيت من الرجز ، وهو بلا نسبة في إصلاح المنطق ص ٢٦٣ ، وأمالي المرتضى ١ / ٥٥٩ والخصائص ٢ / ١٣٦ ولسان العرب مادة (جمع) ، وهمع الهوامع ١ / ٢٤٧.

(٤) البيت من السريع ، وهو لعوف بن محلم في الدرر ٤ / ٣١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٢١ ، وطبقات الشعراء ص ١٨٧ ، وبلا نسبة في شرح شذور الذهب ص ٥٩.

(٥) البيتان من المنسرح ، وهما لإبراهيم بن هرمة في ديوانه ص ٥٥ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٢٦ ، وبلا نسبة في لسان العرب ١ / ١٤٦ مادة / كلأ /.

(٦) البيت من الرجز ، انظر : الخصائص ١ / ٣٤٠ ، وشرح شذور الذهب ص ٥٦٤.

٢٩٢

وقول كثير [من الطويل] :

٤٨٨ ـ وإنّي ـ وتهيامي بعزّة بعد ما

تخلّيت ممّا بيننا وتخلّت ـ

٤٨٩ ـ لكالمرتجي ظلّ الغمامة كلّما

تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت (١)

قال أبو علي : «تهيامي بعزّة» جملة معترضة بين اسم «إنّ» وخبرها ، وقال أبو الفتح : يجوز أن تكون الواو للقسم ، كقولك : «إنّي وحبّك لضنين بك» فتكون الباء متعلّقة بالتّهيام لا بخبر محذوف.

الخامس : بين الشرط وجوابه ، نحو : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) [النحل : ١٠١] ، ونحو : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) [البقرة : ٢٤] ، ونحو : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) [النساء : ١٣٥] ، قاله جماعة منهم ابن مالك ، والظّاهر أن الجواب (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) [النساء : ١٣٥] ، ولا يردّ ذلك تثنية الضمير كما توهّموا لأن «أو» هنا للتّنويع ، وحكمها حكم الواو في وجوب المطابقة ، نصّ عليه الأبدي ، وهو الحقّ ؛ أمّا قول ابن عصفور : إن تثنية الضّمير في الآية شاذّة فباطل كبطلان قوله مثل ذلك في إفراد الضمير في (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] وفي ذلك ثلاثة أوجه :

أحدها : أن (أَحَقُ) خبر عنهما ؛ وسهّل إفراد الضّمير أمران : معنويّ وهو أن إرضاء الله سبحانه إرضاء لرسوله عليه الصّلاة والسّلام ، وبالعكس (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] ، ولفظيّ هو تقديم إفراد «أحق» ، ووجه ذلك أن اسم التّفضيل المجرّد من «أل» والإضافة واجب الإفراد نحو : (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُ) [يوسف : ٨] ، (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) [التوبة : ٢٤] إلى قوله (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ) [التوبة : ٢٤].

والثاني : أن (أَحَقُ) خبر عن اسم الله سبحانه ، وحذف مثله خبرا عن اسمه عليه الصّلاة والسّلام ، أو بالعكس.

والثالث : أن (أَنْ يُرْضُوهُ) ليس في موضع جرّ أو نصب بتقدير : بأن يرضوه ، بل

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما لكثير عزة في ديوانه ص ١٠٣ ، وخزانة الأدب ٥ / ٢١٤ ، والخصائص ١ / ٣٤٠ ، وسر صناعة الإعراب ص ١٣٩ ، وشرح شواهد المغني ص ٨١٢.

٢٩٣

في موضع رفع بدلا من أحد الاسمين ، وحذف من الآخر مثل ذلك ، والمعنى وإرضاء الله وإرضاء رسوله أحقّ من إرضاء غيرهما.

والسادس : بين القسم وجوابه ، كقوله [من الطويل] :

٤٩٠ ـ لعمري ـ وما عمري عليّ بهيّن ـ

لقد نطقت بطلا عليّ الأقارع (١)

وقوله تعالى : (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَ) [ص : ٨٤ ـ ٨٥] الأصل : أقسم بالحق لأملأن وأقول الحق ، فانتصب «الحق» الأول ـ بعد إسقاط الخافض ـ بـ «أقسم» محذوفا ، و «الحق» الثاني بأقول ، واعترض بجملة «أقول الحق» وقدم معمولها للاختصاص ، وقرىء برفعهما بتقدير : فالحقّ قسمي والحقّ أقوله ، وبجرّهما على تقدير واو القسم في الأول والثاني توكيدا ، كقولك : «والله والله لأفعلنّ» ، وقال الزمخشريّ : جرّ الثاني على أن المعنى وأقول والحق ، أي : هذا اللفظ ، فأعمل القول في لفظ واو القسم مع مجرورها على سبيل الحكاية ، قال : وهو وجه حسن دقيق جائز في الرفع والنصب ، ا ه.

وقرىء برفع الأول ونصب الثاني ، قيل : أي فالحق قسمي أو فالحق مني أو فالحقّ أنا ، والأول أولى ، ومن ذلك قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (٧٥) [الواقعة : ٧٥ ـ ٧٧] الآية.

والسابع : بين الموصوف وصفته كالآية ، فإن فيها اعتراضين : اعتراضا بين الموصوف وهو «قسم» وصفته وهو «عظيم» بجملة (لَوْ تَعْلَمُونَ) [الواقعة : ٧٦] ، واعتراضا بين (أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) [الواقعة : ٧٥] وجوابه وهو (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (٧٧) [الواقعة : ٧٧] بالكلام الذي بينهما ؛ وأمّا قول ابن عطيّة ليس فيها إلا اعتراض واحد وهو (لَوْ تَعْلَمُونَ) لأن «وإنه لقسم عظيم» توكيد لا اعتراض فمردود ؛ لأنّ التوكيد والاعتراض لا يتنافيان ، وقد مضى ذلك في حدّ جملة الاعتراض.

والثامن : بين الموصول وصلته ، كقوله [من الكامل] :

٤٩١ ـ ذاك الّذي ـ وأبيك ـ يعرف مالكا

[والحقّ يدمغ ترّهات الباطل](٢)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص ٣٤ ـ ٣٥ ، وخزانة الأدب ٢ / ٤٤٦ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٤٦ ، ولسان العرب ٨ / ٤٢ مادة / جدع /.

(٢) البيت من الكامل ، وهو لجرير في ديوانه ص ٥٨٠ ، والدرر ١ / ٢٨٧ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨١٧ ، وبلا نسبة في الخصائص ١ / ٣٣٦ ، ولسان العرب ١٣ / ٤٨٠ مادة / تره /.

٢٩٤

ويحتمله قوله [من الطويل] :

٤٩٢ ـ وإنّي لرام نظرة قبل الّتي

لعلّي ، وإن شطّت نواها ، أزورها (١)

وذلك على أن تقدّر الصلة «أزورها» وتقدر خبر «لعلّ» محذوفا ، أي : لعلّي أفعل ذلك.

والتاسع : بين أجزاء الصّلة ، نحو : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) [يونس : ٧٦ ـ ٢٧] الآيات ؛ فإن جملة (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) معطوفة على (كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) فهي من الصّلة ، وما بينهما اعتراض بيّن به قدر جزائهم ، وجملة (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) [يونس : ٢٧] خبر ، قاله ابن عصفور ، وهو بعيد ؛ لأن الظاهر أن (تَرْهَقُهُمْ) لم يؤت به لتعريف «الذين» فيعطف على صلته ، بل جيء به للإعلام بما يصيبهم جزاء على كسبهم السيّئات ؛ ثم إنه ليس بمتعيّن ، لجواز أن يكون الخبر (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) [يونس : ٢٧] فلا يكون في الآية اعتراض ؛ ويجوز أن يكون الخبر جملة النفي كما ذكر ، وما قبلها جملتان معترضتان ، وأن يكون الخبر (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ) [يونس : ٢٧] فالاعتراض بثلاث جمل ، أو (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) [يونس : ٢٧] فالاعتراض بأربع جمل ، ويحتمل ـ وهو الأظهر ـ أن (الَّذِينَ) ليس مبتدأ ، بل معطوف على (الَّذِينَ) الأولى ، أي : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ،) والذين كسبوا السيّئات جزاء سيّئة بمثلها ؛ فمثلها هنا في مقابلة الزيادة هناك ، ونظيرها في المعنى قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨٤) [القصص : ٨٤] ، وفي اللفظ قولهم «في الدّار زيد والحجرة عمرو» ، وذلك من العطف على معمولي عاملين مختلفين عند الأخفش ، وعلى إضمار الجارّ عند سيبويه والمحقّقين ؛ وممّا يرجّح هذا الوجه أن الظاهر أن الباء في (بِمِثْلِها) متعلّقة بالجزاء ، فإذا كان «جزاء سيّئة» مبتدأ احتيج إلى تقدير الخبر ، أي واقع ، قاله أبو البقاء ، أو لهم ، قاله الحوفي ، وهو أحسن ؛ لإغنائه عن تقدير رابط بين هذه الجملة ومبتدئها وهو (الَّذِينَ ؛) وعلى ما اخترناه يكون «جزاء» عطفا على «الحسنى» ، فلا يحتاج إلى تقدير آخر ؛ وأمّا قول أبي الحسن وابن كيسان إن (بِمِثْلِها) هو الخبر ، وإن الباء زيدت في الخبر كما زيدت في المبتدأ في «بحسبك درهم» فمردود عند الجمهور ، وقد يؤنس قولهما بقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠].

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ٢ / ١٠٦ ، وخزانة الأدب ٥ / ٤٦٤ ، والدرر ١ / ٢٧٧ ، وبلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٨١٠.

٢٩٥

والعاشر : بين المتضايفين ، كقولهم : «هذا غلام والله زيد» ، و «لا أخا فاعلم لزيد» ، وقيل : «الأخ» هو الاسم والظّرف الخبر ، وإن «الأخ» حينئذ جاء على لغة القصر ، كقوله «مكره أخاك لا بطل» ، فهو كقولهم : «لا عصا لك».

الحادي عشر : بين الجار والمجرور ، كقوله : «اشتريته بأرى ألف درهم».

الثاني عشر : بين الحرف الناسخ وما دخل عليه ، كقوله [من الوافر] :

٤٩٣ ـ كأنّ ، وقد أتى حول كميل ،

أثافيها حمامات مثول (١)

كذا قال قوم ، ويمكن أن تكون هذه الجملة حاليّة تقدّمت على صاحبها ، وهو اسم «كأن» ، على حد الحال في قوله [من الطويل] :

٤٩٤ ـ كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي (٢)

الثالث عشر : بين الحرف وتوكيده ، كقوله [من الرجز] :

٤٩٥ ـ ليت وهل ينفع شيئا ليت

ليت شبابا بوع فاشتريت (٣)

الرابع عشر : بين حرف التنفيس والفعل ، كقوله [من الوافر] :

٩٦ ـ وما أدري ، وسوف إخال أدري ،

أقوم آل حصن أم نساء (٤)

وهذا الاعتراض في أثناء اعتراض آخر ، فإن «سوف» وما بعدها اعتراض بين «أدري» وجملة الاستفهام.

الخامس عشر : بين «قد» والفعل ، كقوله [من الطويل] :

٤٩٧ ـ أخالد قد والله أوطأت عشوة

وما قائل المعروف فينا يعنّف (٥)

__________________

(١) البيت من الوافر ، زهو لأبي الغول الطهوي في الدرر ٤ / ٢٧ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨١٨ ، ونوادر أبي زيد ، وبلا نسبة في الخصائص ١ / ٣٣٧ ، ولسان العرب ١٤ / ١١١ مادة / ثغا /.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٣٨ ، وشرح التصريح ١ / ٣٨٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٤٢ ، ولسان العرب ١ / ٢٠٦ مادة / أدب /.

(٣) البيت من الرجز ، وهو لرؤبة في ملحق ديوانه ص ٢٥ والدرر ٤ / ٢٦ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ٩٢ ، وأوضح المسالك ٢ / ١٥٥.

(٤) البيت من الوافر ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٧٣ ، والاشتقاق ص ٤٦. وجمهرة اللغة ص ٩٧٨ ، والدرر ٢ / ٢٦١ ، وشرح شواهد المغني ص ١٣٠.

(٥) البيت من الطويل ، وهو ملفق من بيتين أولهما للفرزدق ، وثانيهما لأخي يزيد بن عبد الله الجبلي ، وهو لأخي يزيد في شرح شواهد المغني ص ٤٨٨ ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة ص ٧٦ ، والجنى الداني ص ٢٦٠ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٢٠ ـ ٤٨٨.

٢٩٦

السادس عشر : بين حرف النفي ومنفيّه ، كقوله [من المنسرح] :

٤٩٨ ـ ولا أراها تزال ظالمة

تحدث لي نكبة وتنكؤها (١)

وقوله [من الطويل] :

٤٩٩ ـ فلا ، وأبي دهماء ، زالت عزيزة

على قومها ما دام للزّند قادح (٢)

السابع عشر : بين جملتين مستقلّتين ، نحو : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢٢٢ ـ ٢٢٣] ، فإن (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) تفسير لقوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ ،) أي : إنّ المأتيّ الذي أمركم الله به هو مكان الحرث ، ودلالة على أنّ الغرض الأصليّ في الإتيان طلب النّسل لا محض الشّهوة ، وقد تضمّنت هذه الآية الاعتراض بأكثر من جملة ؛ ومثلها في ذلك قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) [لقمان : ١٤] ، وقوله تعالى : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) [آل عمران : ٣٦] فيمن قرأ بسكون تاء (وَضَعَتْ ،) إذ الجملتان المصدّرتان بـ «إني» من قولها عليها‌السلام ، وما بينهما اعتراض ، والمعنى : وليس الذكر الذي طلبته كالأنثى التي وهبت لها ، وقال الزمخشريّ : هنا جملتان معترضتان كقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (٧٦) [الواقعة : ٧٦] انتهى ، وفي التنظير نظر ، لأن الذي في الآية الثانية اعتراضان كل منهما بجملة : لا اعتراض واحد بجملتين.

وقد يعترض بأكثر من جملتين كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) [النساء : ٤٤ ـ ٤٦] إن قدّر (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) بيانا لـ «الذين أوتوا» ، وتخصيصا لهم ، إذا كان اللفظ عاما في اليهود والنّصارى ، والمراد اليهود أو بيانا لأعدائكم ، والمعترض به على هذا التقدير جملتان ، وعلى التقدير الأول ثلاث جمل ، وهي والله أعلم : وكفى بالله مرتين ، وأمّا «يشترون» و «يريدون» فجملتا تفسير لمقدّر ، إذ المعنى : ألم تر إلى قصّة الذين أوتوا ، وإن علقت «من» بـ «نصيرا» مثل : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) [الأنبياء : ٧٧] ، أو بخبر محذوف على أن (يُحَرِّفُونَ) صفة لمبتدأ

__________________

(١) البيت من المنسرخ ، وهو لابن هرمة في ديوانه ص ٥٦ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٣٧ ، والدرر ٢ / ٤٧ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٢٠ ـ ٨٢٦.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو بلا نسبة في خزانة الأدب ، الشاهد / ٧٤٣ /.

٢٩٧

محذوف ، أي : قوم يحرفون ، كقولهم : «منّا ظعن ومنّا أقام» أي : منا فريق ، فلا اعتراض ألبتة ، وقد مرّ أن الزمخشريّ أجاز في سورةالأعراف الاعتراض بسبع جمل على ما ذكر ابن مالك.

وزعم أبو علي أنّه لا يعترض بأكثر من جملة ، وذلك لأنه قال في قول الشاعر [من الطويل] :

٥٠٠ ـ أراني ولا كفران لله أيّة

لنفسي قد طالبت غير منيل (١)

إن «أيّة» وهي مصدر «أويت له» إذا رحمته ورفقت به لا ينتصب به «أويت» محذوفة ، لئلا يلزم الاعتراض بجملتين ، قال : وإنما انتصابه باسم «لا» ، أي : ولا أكفر الله رحمة مني لنفسي ، ولزمه من هذا ترك تنوين الاسم المطول ، وهو قول البغداديّين ، أجازوا «لا طالع جبلا» ، أجروه في ذلك مجرى المضاف ، كما أجري مجراه في الإعراب ؛ وعلى قولهم يتخرج الحديث «لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت» وأما على قول البصريّين فيجب تنوينه ، ولكن الرواية إنما جاءت بغير تنوين.

وقد اعتراض ابن مالك قول أبي علي بقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) [النحل : ٤٣ ـ ٤٤] ، وبقول زهير [من الوافر] :

٥٠١ ـ لعمرك ، والخطوب مغيّرات ،

وفي طول المعاشرة التّقالي (٢)

٥٠٢ ـ لقد باليت مظعن أمّ أوفى

ولكن أمّ أوفى لا تبالي (٣)

وقد يجاب عن الآية بأنّ جملة الأمر دليل الجواب عند الأكثرين ، ونفسه عند قوم : فهي مع جملة الشرط كالجملة الواحدة ، وبأنه يجب أن يقدّر للباء متعلّق محذوف ، أي : أرسلناهم بالبيّنات ، لأنه لا يستثنى بأداة واحدة شيئان ، ولا يعمل ما قبل «إلّا» فيما بعدها إلا إذا كان مستثنى ، نحو : «ما قام إلّا زيد» ، أو مستثنى منه ، نحو : «ما قام إلا زيدا أحد» ، أو تابعا له ، نحو : «ما قام أحد إلا زيدا فاضل».

* * *

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لابن الدمينة في ديوانه ص ٨٦ ، ولكثير عزة في الدرر ٢ / ٢٢٧ ، وبلا نسبة في الخصائص ١ / ٣٣٧ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٢٠.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٣٤٢ ، وكتاب العين ١ / ٢٤٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٢١.

(٣) البيت من الوافر ، وهو لزهير في ديوانه ص ٣٤٢ ، ولسان العرب ١١ / ٧٥ مادة / بول /.

٢٩٨

مسألة ـ كثيرا ما تشتبه المعترضة بالحاليّة ، ويميزها منها أمور :

أحدها : أنها تكون غير خبريّة كالأمريّة في (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) [آل عمران : ٧٣ ـ ٧٤] ، كذا مثّل ابن مالك وغيره ، بناء على أنّ (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ) متعلّق بـ «تؤمنوا» ، وأن المعنى : ولا تظهروا تصديقكم بأن أحدا يؤتى من كتب الله مثل ما أوتيتم ، وبأن ذلك الأحد يحاجّونكم عند الله يوم القيامة بالحق فيغلبونكم ، إلا لأهل دينكم لأن ذلك لا يغيّر اعتقادهم بخلاف المسلمين ، فإن ذلك يزيدهم ثباتا ، وبخلاف المشركين ، فإن ذلك يدعوهم إلى الإسلام ، ومعنى الاعتراض حينئذ أن الهدى بيد الله ، فإذا قدّره لأحد لم يضره مكرهم.

والآية محتملة لغير ذلك ، وهي أن يكون الكلام قد تمّ عند الاستثناء ، والمراد : ولا تظهروا الإيمان الكاذب الذي توقعونه وجه النهار وتنقضونه آخره إلا لمن كان منكم كعبد الله بن سلام ثم أسلم ، وذلك لأن إسلامهم كان أغيظ لهم ، ورجوعهم إلى الكفر كان عندهم أقرب ، وعلى هذا فـ (أَنْ يُؤْتى) من كلام الله تعالى ، وهو متعلّق بمحذوف مؤخّر ، أي : لكراهية أن يؤتى أحد دبّرتم هذا الكيد.

وهذا الوجه أرجح لوجهين :

أحدهما : أنه الموافق لقراءة ابن كثير (أَنْ يُؤْتى) بهمزتين ، أي : لكراهية أن يؤتى قلتم ذلك.

والثاني : أنّ في الوجه الأول عمل ما قبل «إلا» فيما بعدها ، مع أنه ليس في المسائل الثلاث المذكورة آنفا.

وكالدّعائية في قوله [من السريع] :

٥٠٣ ـ إنّ الثّمانين ـ وبلّغتها ـ

قد أحوجت سمعي إلى ترجمان (١)

وقوله [من المنسرح] :

٥٠٤ ـ إنّ سليمى ـ والله يكلؤها ـ

ضنّت بشيء ما كان يرزؤها (٢)

وكالقسميّة في قوله [من الرجز] :

إنّي وأسطار سطرن سطرا

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) تقدم تخريجه.

٢٩٩

وكالتنزيهيّة في قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) [النحل : ٥٧] ، كذا مثّل بعضهم.

وكالاستفهامية في قوله تعالى : (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا) [آل عمران : ١٣٥] كذا مثّل ابن مالك.

فأما الأولى فلا دليل فيها إذا قدر لهم خبرا ، و «ما» مبتدأ ، والواو للاستئناف لا عاطفة جملة على جملة ، وقدّر الكلام تهديدا كقولك لعبدك : «لك عندي ما تختار» ، تريد بذلك إيعاده أو التهكّم به ، بل إذا قدر (لَهُمْ) معطوفا على (لِلَّهِ) و (ما) معطوفة على (الْبَناتِ ؛) وذلك ممتنع في الظاهر ، إذ لا يتعدّى فعل الضمير المتّصل إلى ضميره المتصل إلا في باب ظنّ وفقد وعدم ، نحو : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) [آل عمران : ١٨٨] فيمن ضم الباء ، ونحو : (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (٧) [العلق : ٧] ، ولا يجوز مثل «زيد ضربه» تريد ضرب نفسه ، وإنما يصحّ في الآية العطف المذكور إذا قدّر أن الأصل : ولأنفسهم ، ثم حذف المضاف ، وذلك تكلّف. ومن العجب أن الفرّاء والزمخشريّ والحوفيّ قدّروا العطف المذكور ، ولم يقدّروا المضاف المحذوف ، ولا يصحّ العطف إلا به.

وأما الثانية فنصّ هو وغيره على أن الاستفهام فيها بمعنى النفي ، فالجملة خبرية.

وقد فهم مما أوردته من أن المعترضة تقع طلبيّة وأن الحالية لا تقع إلا خبرية ، وذلك بالإجماع ، أما قول بعضهم في قول القائل [من السريع] :

٥٠٥ ـ اطلب ولا تضجر من مطلب

[فآفة الطالب أن يضجرا](١)

إن الواو للحال ، وإن «لا» ناهية ، فخطأ ، وإنما هي عاطفة إما مصدرا يسبك من «أن» والفعل على مصدر متوهّم من الأمر السابق ، أي : ليكن منك طلب وعدم ضجر ، أو جملة على جملة ، وعلى الأول ففتحة «تضجر» إعراب ، و «لا» : نافية ، والعطف مثله في قولك : «ائتني ولا أجفوك» بالنصب ، وقوله [من الوافر] :

٥٠٦ ـ فقلت ادعي وأدعو إنّ أندى

لصوت أن ينادي داعيان (٢)

__________________

(١) البيت من السريع ، وهو لبعض المولدين في الدرر ٤ / ١٢ ، وشرح التصريح ١ / ٣٨٩ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ٣٤٧ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٥٦.

(٢) البيت من الوافر ، وهو للأعشى في الدرر ٤ / ٨٥ ، والرد على النحاة ص ١٢٨ ، وليس في ديوانه ، وللفرزدق في أمالي القالي ٢ / ٩٠ ، وليس في ديوانه ، ولدثار بن شيبان النمري في الأغاني ٢ / ١٥٩ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ٢ / ٨٦٤ ، وأوضح المسالك ٤ / ١٨٢.

٣٠٠