شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢
الجزء ١ الجزء ٢

وأن الجرّ بـ «ربّ» مضمرة كما مرّ.

وترد على ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون عاطفة وتفيد ثلاثة أمور :

أحدها : الترتيب : وهو نوعان : معنوي كما في «قام زيد فعمرو» ، وذكريّ وهو عطف مفصّل على مجمل ، نحو : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) [البقرة : ٣٦] ، ونحو : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] ونحو : ...

______________________________________________________

سيأتي) وظاهر كلامه أو صريحه أن الفاء حينئذ عاطفة للمصدر المسبوك من أن وصلتها على مصدر متصيد من الفعل المتقدم ، فتقدير زرني فأكرمك ليكن زيارة منك فإكرام مني ، واستشكله الرضي بأن فاء العطف لا تكون للسببية إذا عطفت جملة على جملة ، واختار هو أن تجعل الفاء للسببية لا للعطف قال : وإنما صرفوا بعد فاء السببية من الرفع إلى النصب ؛ لأنهم قصدوا التنصيص على كونها للسببية ، والمضارع المرتفع بلا قرينة تخلصه للحال أو الاستقبال ظاهر في الحال ، فلو أبقوه مرفوعا لسبق إلى الذهن أن الفاء لعطف جملة حالية الفعل على الجملة التي قبل الفاء ، فصرفه إلى النصب منبه في الظاهر على أنه ليس معطوفا إذ المضارع المنصوب بأن مفرد ، وقيل ما بعد الفاء المذكورة جملة فيكون ما بعد الفاء مبتدأ محذوف الخبر وجوبا (وأن الجر برب مضمرة كما مر) الكلام عليها في حرف الراء (وترد) الفاء (على ثلاثة أوجه :

أحدها أن تكون عاطفة وتفيد ثلاثة أمور :

أحدها الترتيب وهو نوعان معنوي كما في قام زيد فعمرو) فإن قيام عمرو في نفس الأمر وقع بعد قيام زيد.

(وذكري) وهو أن يكون وقوع المعطوف بعد المعطوف عليه إنما هو بحسب اللفظ.

والذكر ، لا أن المعنيين ترتبا في الوقوع بحسب نفس الأمر (وهو عطف مفصل على مجمل) وإنما كان كذلك ؛ لأن موضع ذكر التفصيل بعد ذكر الإجمال ، وقد تكون الفاء للترتيب الذكري في غير ذلك فتفيد في عطف الجمل كون المذكور بعدها كلاما مرتبا على ما قبلها لا أن مضمون ما بعدها عقيب مضمون ما قبلها في الزمان كقوله تعالى : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر : ٧٢] وقوله تعالى : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) [الزمر : ٧٤] فإن ذكر ذم الشيء أو مدحه يصح بعد جري ذكره (نحو (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) [البقرة : ٣٦]) وهذا إنما هو على أحد القولين في معاد ضمير عنها ، وهو القول بأنه الجنة وأما على القول بأنه الشجرة فتكون الفاء من القسم الأول ، وهو ما يفيد الترتيب المعنوي (نحو (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] ونحو :

٨١

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) [هود : ٤٥] الآية ، ونحو : «توضّأ فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه ورجليه».

وقال الفراء : إنها لا تفيد الترتيب مطلقا ، وهذا ـ مع قوله إن الواو تفيد الترتيب ـ غريب ، واحتجّ بقوله تعالى : (أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) [الأعراف : ٤].

وأجيب بأن المعنى أردنا إهلاكها أو بأنها للترتيب الذكريّ ...

______________________________________________________

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) [هود : ٤٥] الآية) يعني قوله : (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) [هود : ٤٥] وكأن المصنف يشير بإيراد هذه الآية في أمثلة عطف المفصل على المجمل إلى عدم الاحتياج لما ارتكبه الزمخشري في «الكشاف» فإنه قال أريد بالنداء إرادة النداء ولو أريد النداء نفسه لجاء كما جاء في قوله : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِ) [مريم : ٣ ـ ٤] بغير فاء فأشار المصنف إلى أنه لا داعي لما ادعاه من جعل نادى بمعنى أراد النداء ؛ فإن هذا من قبيل عطف المفصل على المجمل قال جدي صاحب «البحر» و «الانتصاف» ويجوز وجه آخر لطيف المأخذ رقيق الحاشية ، وهو أن يكون النداء على بابه لكن المعطوف عليه مجموع النداء وما بعده ، فليس من عطف الشيء على نفسه بل من عطف المجموع على أحد أجزائه وهما متغايران (نحو) ما وقع في بعض الأحاديث («توضأ فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه ورجليه») أي : وغسل رجليه ، وقد استشكل بعضهم هذا بأن المعطوف بالفاء إنما هو بعض المفصل ، وهو قوله غسل وجهه وبقية الفصل معطوفة بالواو ، وهذا ممنوع بل المعطوف بالفاء هو مجموع ما وقع بعدها لا بعضه ، وقد يقع مثل هذا في المفردات كما قيل : في قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) أن الواو الوسطى لعطف مجموع الصفتين الأخيرتين على مجموع الصفتين الأوليين (وقال الفراء : لا تفيد الترتيب وهذا مع قوله إن الواو تفيد الترتيب غريب) ؛ فإنه مخالف لقول الجمهور في الموضعين ، واحتج بقوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٤) فإن مجيء البأس لا يكون بعد الإهلاك (وأجيب بأن المعنى أردنا إهلاكها) ومجيء البأس وقع بعد الإرادة فتكون للترتيب المعنوي كما في قام زيد فعمرو (أو بأنها للترتيب الذكري) فلا يلزم كون مضمون العطف واقعا بعد زمان مضمون المعطوف عليه ؛ إذ المقصود الترتيب في الذكر فقط وهو حاصل فيكون من قبيل عطف المفصل على المجمل ؛ لأن مجيء البأس في حال البيات والقيلولة تفصيل للإهلاك المجمل ، وحمل الزمخشري الآية على الوجه الأول فقال : معنى أهلكناها أردنا إهلاكها ، كقوله : إذا قمتم إلى الصلاة وقال في جاءها بأسنا : فجاء أهلها ، ثم سأل هل يقدر حذف المضاف الذي هو الأهل قبل قرية أو قبل الضمير في أهلكناها ، وأجاب بأن المضاف إنما يقدر للحاجة ، ولا حاجة فإن القرية تهلك كما يهلك

٨٢

وقال الجرمي : لا تفيد الفاء الترتيب في البقاع ولا في الأمطار ، بدليل قوله [من الطويل]:

٤٩ ـ [قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى] بين الدّخول فحومل

وقولهم : «مطرنا مكان كذا فمكان كذا» ، وإن كان وقوع المطر فيهما في وقت واحد.

الأمر الثاني : التعقيب ، وهو في كل شيء بحسبه ، ...

______________________________________________________

أهلها ، وإنما قدرناه قبل الضمير في جاءها لقوله أو هم قائلون هذا كلامه ، يريد أنه إنما يقدر المضاف لضرورة طلب الراجع ، ولو لا هو لكنا في غنية عن تقديره لصحة إطلاق الإهلاك على القرية حقيقة ، كما يصح إطلاقه على الأهل كذلك ، وقال صاحب «الفرائد» إرادة الحقيقة مانعة المجاز وهو الأهل هنا ، فإن كان المراد من ذكر القرية هنا الأهل بدليل أو هم قائلون امتنع أن يكون مفهوم القرية مرادا ، وأجيب بأن إرادة الحقيقة والمجاز إنما يلزم إذا أريد بالقرية أهلها ونفسها معا وليس كذلك ، فإنما نقدر المضاف في الثاني لا في الأول ، فعلى هذا توجه الإهلاك إلى الأهل أصالة ليستلزم إهلاك القرية على سبيل الكناية ، وكأنه قيل وكم من قرية أردنا إهلاكها فأهلكنا أهلها ، فتبقى معطلة خاوية على عروشها فتكون عبرة ، فالضمير في أهلكناها وفي فجاءها راجع إلى القرية ، وفي أو هم راجع إلى أهل المقدر في فجاءها بأسنا (وقال الجرمي) بفتح الجيم (لا تفيد الفاء الترتيب في البقاع ، ولا في الأمطار بدليل قوله) :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللسوى (بين الدخول فحومل)

السقط بكسر السين المهملة معناه هنا منقطع الرمل ، حيث يستدق من طرفه ، واللوى بكسر اللام ، والقصر رمل يعوج ويلتوي والدخول بفتح الدال المهملة موضع ، وحومل موضع آخر فالفاء هنا بمعنى الواو أي : بين الدخول وحومل (وقولهم : مطرنا مكان كذا فمكان كذا ، وإن كان وقوع المطر فيهما في وقت واحد) فتكون الفاء في هذا أيضا كالواو وسيأتي الجواب عن ذلك.

(الأمر الثاني التعقيب) ومعناه كون ما بعد الفاء واقعا بعقب ما قبلها من غير مهملة وتراخ (وهو في كل شيء بحسبه) يشير إلى ما قاله ابن الحاجب من أن المعتبر ما يعد في العادة مرتبا من غير مهملة ؛ فقد يطول الزمان والعادة تقضي في مثله بانتفاء المهلة ، وقد يقصر والعادة تقضي بالعكس فإن الزمان الطويل قد يستقرب بالنسبة إلى عظم الأمر فيستعمل الفاء ، وقد يستبعد الزمان

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٨٣

ألا ترى أنه يقال «تزوّج فلان فولد له» ، إذا لم يكن بينهما إلا مدّة الحمل ، وإن كانت متطاولة ، و «دخلت البصرة فبغداد» إذا لم تقم في البصرة ولا بين البلدين ، وقال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج : ٦٣] ، وقيل : الفاء في هذه الآية للسببيّة ، وفاء السببيّة من المهلة. وقيل : تقع الفاء تارة بمعنى «ثمّ» ، ومنه الآية ، وقوله تعالى : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) ...

______________________________________________________

القريب بالنسبة إلى طول زمان أمر يقضي العرف بحصوله في زمن أقل منه ، قلت : والذي يظهر من كلام جماعة أن استعمال الفاء فيما تراخى زمان وقوعه عن الأول سواء استقصر في العرف أو لا إنما هو بطريق المجاز ، وظاهر كلام المصنف أن استعمالها فيما يعد بحسب العادة تعقيبا وإن طال الزمن استعمال حقيقي (ألا ترى أنه يقال : تزوج فلان فولد له إذا لم يكن بينهما) أي : بين التزوج والولادة (إلا مدة الحمل ، وإن كانت مدة متطاولة و) يقال : (دخلت البصرة فبغداد ؛ إذا لم يقم في البصرة ولا بين البلدين) بل اتصل السير ولم يقع اشتغال بما يعد في العرف أجنبيا من السفر من هذه إلى تلك (وقال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً)) ومعلوم أن اخضرار الأرض لا يعقب نزول المطر بل يقع بعد مهلة وتراخ (وقيل : الفاء في هذه الآية للسببية) لا للعطف (وفاء السببية لا تستلزم التعقيب ، بدليل صحة قولك إن يسلم فهو يدخل الجنة ، ومعلوم ما بينهما من المهلة) العظيمة ، وبهذا أجاب ابن الحاجب في «أمالي القرآن» واستدل التفتازاني على عدم دلالة الفاء الجزائية على لزوم تعقيب الجزاء بمضمون الشرط بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) قال للقطع بأنه لا يجب السعي عقيب النداء من غير تراخ ، قلت : الحق أن الأصل في الفاء السببية استلزام التعقيب ، وذلك لأن السبب التام يستعقب مسببه من غير تراخ ، ولو كانت الفاء لا تدل على ذلك لم يجز دخولها في الجزاء ، كما لم يجز دخول ثم والواو ، نعم جزاء السبب قد يقع بينه وبين المسبب تراخ لعدم استكمال ما يقتضي وقوع المسبب ، لكن إطلاق السبب على جزئه مجاز ، ومنه إن يسلم فهو يدخل الجنة إذ الإسلام ليس سببا تاما لدخول الجنة ، بل لا بد من استمرار حكمه فمجموع الإسلام واستمرار حكمه هو السبب التام لدخول الجنة ، واستدلال التفتازاني بآية الجمعة غير متجه ؛ لأن السعي يحب عقيب النداء وجوبا موسعا فلا يلزم إيقاعه على الفور ، كالظهر يجب في أول الوقت ولا يجب أداؤه فيه بل هو موسع إلى آخر الوقت ، فكيف يتجه هذا الاستدلال (وقيل : تقع الفاء تارة بمعنى ثم ومنه الآية المتلوة) آنفا (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) أي : ثم تصبح (وقوله تعالى : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً)) أي : قطعة دم والمعنى ثم أحلنا النطفة البيضاء علقة

٨٤

(فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) [المؤمنون : ١٤] ، فالفاءات في (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) ، وفي «(فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ) ، وفي (فَكَسَوْنَا) بمعنى «ثم» ، لتراخي معطوفاتها ؛ وتارة بمعنى الواو ، كقوله [من الطويل] :

٥٠ ـ [قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللّوى] بين الدّخول فحومل

وزعم الأصمعيّ أن الصّواب روايته بالواو ، لأنه لا يجوز «جلست بين زيد فعمرو» ؛ وأجيب بأن التقدير : بين مواضع الدخول فمواضع حومل ، كما يجوز «جلست بين العلماء فالزهّاد». وقال بعض البغداديّين : الأصل «ما بين» فحذف «ما» دون «بين» ، كما عكس ذلك من قال [من البسيط] :

٥١ ـ يا أحسن النّاس ما قرنا إلى قدم

[ولا حبال محبّ واصل تصل]

______________________________________________________

حمراء (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي : لحما قدر ماء يمضغ (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) أي : فصيرناها عظاما وقرأ ابن عامر وأبو بكر عظما بالإفراد (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) أي : فأنبتنا اللحم فصار لها كاللباس (فالفاآت) أي : فكل واحدة من الفاآت الثلاث (في فخلقنا العلقة ، وفي فخلقنا المضغة ، وفي فكسونا بمعنى ثم لتراخي معطوفاتها) عن المعطوف عليه ، وقد ورد في الحديث ما يقتضي التراخي (وتارة بمعنى الواو كقوله :

بسقط اللوى بين لدخول فحومل

وزعم الأصمعي أن الصواب روايته بالواو ؛ لأنه لا يجوز بين زيد فعمرو ، وأجيب بأن التقدير بين مواضع الدخول فمواضع حومل) فالإضافة في التحقيق إنما وقعت لمتعدد لا ترتيب فيه ، فجاز ذلك (كما يجوز جلست بين العلماء فالزهاد) لتحقق شرط إضافة بين ، وهو كون المضاف إليه دالا على التعدد بدون ترتيب (وقال بعض البغداديين : الأصل ما بين فحذف ما دون بين ما عكس ذلك من قال :

يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم)

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) صدر بيت من البسيط ، عجزه : ولا جبال محب واصل تصل ، وهو بلا نسبة في خزانة الأدب ١١ / ٧ ، والدرر ٦ / ٧٣ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٦٤.

٨٥

أصله : ما بين قرن ؛ فحذف «بين» وأقام قرنا مقامها ، ومثله : (ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) [البقرة : ٢٦]. قال : والفاء نائبة عن «إلى» ، ويحتاج على هذا القول إلى أن يقال : وصحت إضافة «بين» إلى «الدّخول» لاشتماله على مواضع ، أو لأنّ التقدير : بين مواضع الدّخول ، وكون الفاء للغاية بمنزلة «إلى» غريب ، وقد يستأنس له عندي بمجيء عكسه في نحو قوله [من الطويل] :

٥٢ ـ وأنت الّتي حبّبت شغبا إلى بدا

إليّ ، وأوطاني بلاد سواهما

إذ المعنى : شغبا فبدا ، وهما موضعان ، ويدل على إرادة الترتيب قوله بعده [من الطويل] :

______________________________________________________

القرن الخصلة من الشعر أي : يا أحسن الناس ما بين أعلاها إلى أسفلها (أصله ما بين قرن فحذف بينا وأقام قرنا مقامها) وهذه دعوى لا دليل عليها ، ويجوز أن تكون ما زائدة وقرنا تمييز والمغيا محذوف أي : يا أحسن الناس قرنا وما بعد إلى قدم أو على إسقاط الخافض أي : من قرن إلى قدم (ومثله) قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) قال : والفاء نائبة عن إلى) أي : ما بين بعوضة إلى ما فوقها ، وهذا لا يتعين فقد قال الزمخشري : وما هذه إبهامية وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاما وزادته شيوعا وعموما نحو أعطني كتابا ما ، أو صلة للتأكيد نحو (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) وانتصب بعوضة بأنها عطف بيان لمثلا أو مفعول ليضرب ومثلا حال عن النكرة مقدمة عليه ، أو انتصبا مفعولين بجري ضرب مجرى جعل (ويحتاج على هذا القول إلى أن يقال : وصحة إضافة بين إلى الدخول لاشتماله على مواضع أو ؛ لأن التقدير بين مواضع الدخول) ولم يتعرض إلى الاعتذار عن إضافة بين إلى بعوضة ، وقرن على هذا القول فتأمله (وكون الفاء للغاية بمنزلة إلى غريب ، وقد يستأنس له عندي بمجيء عكسه) وهو استعمال إلى للعطف بمنزلة الفاء (في قوله :

وأنت التي حببت شغبا إلى بدا

إلي وأوطاني بلاد سواهما (١)

إذ المعنى شغبا) بشين وغين معجمتين وموحدة على زنة فلس (فبدا) بموحدة مفتوحة فدال مهملة على مثال قفا وعصا وهما موضعان أما شغب فمنهل بين طريق مصر والشام ، وأما بدا فموضع بين طريق مكة والشام قال أبو عبيد البكري في المعجم ، وهي قرية الزهري الفقيه (ويدل على إرادة الترتيب قوله بعد هذا :

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لكثير عزة في ديوانه ص ٣٦٣ ، وخزانة الأدب ٩ / ٤٦٢ ، ولكثير أو لجميل في شرح شواهد المغني ١ / ٤٦٤. ا ه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ٧ / ١٠٥.

٨٦

حللت ، بهذا حلّة ، ثمّ حلّة

بهذا ، فطاب الواديان كلاهما

وهذا معنى غريب : لإلى لم أر من ذكره.

والأمر الثالث : السببية ، وذلك غالب في العاطفة جملة أو صفة ؛ فالأول نحو : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) [القصص : ١٥] ، ونحو : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٣٧] ؛ والثاني نحو : (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) [الواقعة : ٥٢ ـ ٥٤] ؛ وقد تجيء في ذلك لمجرّد الترتيب نحو : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) [الذاريات : ٢٦ ـ ٢٧] ، ونحو : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) [ق : ٢٢] ، ونحو : (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها) [الذاريات : ٢٩] ، ونحو : (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) (٣) [الصافات : ٢ ـ ٣].

______________________________________________________

حللت بهذا حلة ثم حلة

بهذا فطاب الواديان كلاهما) (١)

وفي بعض النسخ بعد حلة (وهذا معنى غريب لإلى لم أر من ذكره) وحقهم أن لا يذكروه مستندين إلى هذا الدليل ، فأنا لا نسلم إرادة الترتيب في البيت الأول ؛ لاحتمال أن تكون أن فيه للمعية كما يقول الكوفيون ، أو متعلقة بمحذوف إن لم نقل بذلك ، والمعنى وأنت التي أحببت شغبا مع بدا ، أو مضموما إلى بدا ، والبيت الثاني لا يدل على إرادة الترتيب في الأول إذ حلولها بأحد المكانين بعد حلولها بالآخرة يقتضي أن المكان الأول حبب إليه أولا بسبب حلولها فيه ، وأن الثاني حبب إليه بعد ذلك لحلولها به إذ من الجائز أن يكون حب المكانين حصل في آن واحد بعد حلولها فيهما على الترتيب ، ثم لو سلم دلالة البيت الثاني على الترتيب في الأول لم يدل على دعواه أن إلى فيه بمعنى الفاء ؛ لأن الترتيب الواقع في الثاني إنما هو بثم لا بالفاء.

(والأمر الثالث السببية وذلك غالب في العاطفة جملة أو صفة) فيكون ما قبلها سببا لما بعدها ، وقد يقع على خلاف ذلك فتدخل على العلة وهو على خلاف الأصل لاستحالة تأخر العلة عن المعلول ، إلا أنه قد خولف هذا الأصل بشرط أن يكون للعلة دوام ، لأنها إذا كانت.

وهذا آخر ما انتهى إليه العلامة العمدة الدماميني ولم يكمل الكتاب لتعذره بالوفاة إلى رحمة الله تعالى ، رحمه‌الله تعالى ونفعنا ببركاته وبركات علومه في الدنيا والآخرة (محمد) وآله والحمد لله وحده.

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لكثير في ديوانه ص ٣٦٣ ، وبلا نسبة في تاج العروس (بدو). ا ه. انظر :المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ٧ / ١٠٤.

٨٧

وقال الزمخشري : للفاء مع الصفات ثلاثة أحوال :

أحدها : أن تدلّ على ترتيب معانيها في الوجود ، كقوله [من السريع] :

٥٣ ـ يا لهف زيّابة للحارث ال

صّابح فالغانم فالآيب (١)

أي : الذي صبح فغنم فآب.

والثاني : أن تدلّ على ترتيبها في التفاوت من بعض الوجوه ، نحو قولك : «خذ الأكمل فالأفضل ، واعمل الأحسن فالأجمل».

والثالث : أن تدلّ على ترتيب موصوفاتها في ذلك نحو : «رحم الله المحلّقين فالمقصّرين» ا ه.

البيت لابن زيّابة ، يقول : يا لهف أبي على الحارث إذ صبح قومي بالغارة فغنم فآب سليمان أن لا أكون لقيته فقتلته ، وذلك لأنه يريد : يا لهف نفسي.

والثاني من أوجه الفاء : أن تكون رابطة للجواب ، وذلك حيث لا يصلح لأن يكون شرطا ، وهو منحصر في ست مسائل :

إحداها : أن يكون الجواب جملة اسمية نحو : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنعام : ١٧] ، ونحو : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١١٨) [المائدة : ١١٨].

الثانية : أن تكون فعليّة كالاسمية ، وهي التي التي فعلها جامد ، نحو : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ) [الكهف : ٣٩ ـ ٤٠] ، (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) [البقرة : ٢٧١] ، (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) [النساء : ٣٨] ، (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) [آل عمران : ٢٨].

الثالثة : أن يكون فعلها إنشائيّا ، نحو : (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران : ٣١] ، ونحو : (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) [الأنعام : ١٥٠] ، ونحو : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (٣٠) [الملك : ٣٠] ، فيه أمران : الاسمية والإنشائية ، ونحو : «إن قام زيد فو الله لأقومنّ» ، ونحو : «إن لم يتب فيا خسره رجلا».

والرابعة : أن يكون فعلها ماضيا لفظا ومعنى ، إما حقيقة نحو : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ

__________________

(١) البيت من البحر السريع ، وهو لابن زيابة في خزانة الأدب ٥ / ١٠٧ ، والدرر ٦ / ١٦.

٨٨

سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) [يوسف : ٧٧] ، ونحو : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٧) [يوسف : ٢٦ ـ ٢٧] ، و «قد» هنا مقدّرة ، وإمّا مجازا نحو : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [النمل : ٩٠] نزل هذا الفعل لتحقّق وقوعه منزلة ما وقع.

الخامسة : أن تقترن بحرف استقبال ، نحو : (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] ، ونحو : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) [آل عمران : ١١٥].

السادسة : أن تقترن بحرف له الصّدر ، كقوله [من الوافر] :

٥٤ ـ فإن أهلك فذي لهب لظاه

عليّ تكاد تلتهب التهابا (١)

لما عرفت من أن «ربّ» مقدّرة ، وأنها لها الصّدر ، وإنما دخلت في نحو : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة : ٩٥] لتقدير الفعل خبرا لمحذوف ؛ فالجملة اسمية.

وقد مر أن «إذا» الفجائية قد تنوب عن الفاء نحو : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) [الروم : ٣٦] ، وأن الفاء قد تحذف للضرورة كقوله [من البسيط] :

٥٥ ـ من يفعل الحسنات الله يشكرها

[والشّرّ بالشّرّ عند الله مثلان](٢)

وعن المبرّد أنه منع ذلك حتّى في الشعر ، وزعم أن الرواية :

من يفعل الخير فالرّحمن يشكره

وعن الأخفش أن ذلك واقع في النّثر الفصيح ، وأن منه قوله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) [البقرة : ١٨٠] وتقدّم تأويله.

وقال ابن مالك : يجوز في النثر نادرا ، ومنه حديث اللّقطة : «فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها».

تنبيه ـ كما تربط الفاء الجواب بشرطه كذلك تربط شبه الجواب بشبه الشرط ، وذلك في نحو : «الذي يأتيني فله درهم» ، وبدخلوها فهم ما أراده المتكلّم من ترتّب لزوم الدرهم على الإتيان ، ولو لم تدخل احتمل ذلك وغيره.

وهذه الفاء بمنزلة لام التّوطئة في نحو : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ) [الحشر : ١٢] في

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وهو لربيعة من مقروم في خزانة الأدب ١٠ / ٢٦ ، ٢٨ وشرح شواهد المغني ص ٤٦٦ ، وبلا نسبة في مغني اللبيب ص ١٦٤.

(٢) البيت من البحر البسيط ، وهو للحطيئة في ديوانه ص ١٠٩ والخصائص ٢ / ٤٨٩ ، وتاج العروس مادة (الفاء).

٨٩

إيذانها بما أراده المتكلّم من معنى القسم ، وقد قرىء بالإثبات والحذف قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠].

الثالث : أن تكون زائدة دخولها في الكلام كخروجها ، وهذا لا يثبته سيبويه ، وأجاز الأخفش زيادتها في الخبر مطلقا ، وحكى «أخوك فوجد» وقيّد الفراء والأعلم وجماعة الجواز بكون الخبر أمرا أو نهيا ؛ فالأمر كقوله [من الطويل] :

٥٦ ـ وقائلة : خولان فانكح فتاتهم

[وأكرومة الحيّين خلو كما هيا](١)

وقوله [من الخفيف] :

٥٧ ـ أرواح مودّع أم بكور

أنت فانظر لأيّ ذاك تصير (٢)

وحمل عليه الزّجاج (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ) [ص : ٥٧] ، والنهي نحو : «زيد فلا تضربه» وقال ابن برهان : تزاد الفاء عند أصحابنا جميعا كقوله [من الكامل] :

٥٨ ـ [لا تجزعي إن منفس أهلكته]

فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي (٣)

انتهى. وتأوّل المانعون قوله : «خولان فانكح» على أن التقدير : هذه خولان ، وقوله : «أنت فانظر» على أن التقدير : انظر فانظر ، ثم حذف «انظر» الأول وحده فبرز ضميره فقيل : أنت فانظر ؛ والبيت الثالث ضرورة ، وأما الآية فالخبر (حَمِيمٌ) وما بينهما معترض ، أو (هذا) منصوب بمحذوف يفسره (فَلْيَذُوقُوهُ) مثل (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة : ٤٠] وعلى هذا فـ «حميم» بتقدير : هو حميم.

ومن زيادتها قوله [من الكامل] :

٥٩ ـ لمّا اتّقى بيد عظيم جرمها

فتركت ضاحي جلدها يتذبذب (٤)

لأن الفاء لا تدخل في جواب «لمّا» ، خلافا لابن مالك ، وأما قوله تعالى : (فَلَمَّا

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو بلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ١٦٣ ، وخزانة الأدب ١ / ٣١٥ ـ ٤٥٥ ولسان العرب ١٤ / ٢٣٩ مادة (خلا).

(٢) البيت من البحر الخفيف ، وهو لعدي بن زيد في ديوانه ص ٨٤ ، والأغاني ٢ / ١٢٦ ، والدرر ٢ / ٣٨ ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة ص ٣٦٢ وخزانة الأدب ١ / ٣١٥.

(٣) البيت من البحر الكامل ، وهو للنمر بن تولب في ديوانه ص ٧٢ ، وخزانة الأدب ١ / ٣١٤ ، والأشباه والنظائر ٢ / ١٥١.

(٤) البيت من البحر الكامل ، وهو بلا نسبة في الأزهية ص ٢٤٨ ، وشرح شواهد المغني ص ٤٧٣.

٩٠

(نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) [لقمان : ٣٢] فالجواب محذوف ، أي : انقسموا قسمين فمنهم مقتصد ومنهم غير ذلك ، وأما قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩] ، فقيل : جواب «لمّا» الأولى «لمّا» الثانية ، وجوابها ، وهذا مردود لاقترانه بالفاء ، وقيل : (كَفَرُوا بِهِ) جواب لهما ، لأن الثانية تكرير للأولى ، وقيل : جواب الأولى محذوف ؛ أي أنكروه.

مسألة ـ الفاء في نحو : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) [الزمر : ٦٦] جواب لـ «أمّا» مقدّرة عند بعضهم ، وفيه إجحاف ؛ وزائدة عند الفارسيّ ، وفيه بعد ؛ وعاطفة عند غيره. والأصل : تنبّه فاعبد الله ، ثم حذف «تنبّه» ، وقدّم المنصوب على الفاء إصلاحا للّفظ كيلا تقع الفاء صدرا ، كما قال الجميع في الفاء في نحو : «أمّا زيدا فاضرب» ، إذ الأصل مهما يكن من شيء فاضرب زيدا ، وقد مضى شرحه في حرف الهمزة.

* * *

مسألة ـ الفاء في نحو : «خرجت فإذا الأسد» زائدة لازمة عند الفارسي والمازني وجماعة ؛ وعاطفة عند مبرمان وأبي الفتح ؛ وللسببيّة المحضة كفاء الجواب عند أبي إسحاق ؛ ويجب عندي أن يحمل على ذلك مثل : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ) [الكوثر : ١ ـ ٢]. ونحو : «ائتني فإني أكرمك» ، إذ لا يعطف الإنشاء على الخبر ولا العكس ، ولا يحسن إسقاطها ليسهل دعوى زيادتها.

* * *

مسألة ـ (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات : ١٢]

قدّر أنهم قالوا بعد الاستفهام : «لا» ، فقيل لهم : فهذا كرهتموه ، يعني والغيبة مثله فاكرهوها ، ثم حذف المبتدأ وهو «هذا».

وقال الفارسي : التّقدير : فكما كرهتموه فاكرهوا الغيبة ؛ وضعفه ابن الشجري بأن فيه حذف الموصول ـ وهو «ما» المصدرية ـ دون صلتها ، وذلك رديء ؛ وجملة (وَاتَّقُوا اللهَ) [الحجرات : ١٢] عطف على (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [الحجرات : ١٢] على التقدير الأول ، وعلى «فاكرهوا الغيبة» على تقدير الفارسي ؛ وبعد فعندي أن ابن الشجري لم يتأمّل كلام الفارسي ، فإنه قال : كأنهم قالوا في الجواب : «لا» ، فقيل لهم فكرهتموه فاكرهوا الغيبة واتقوا الله ، فـ «اتقوا» عطف على «فاكرهوا» ، وإن لم يذكر «كما» في (اضْرِبْ بِعَصاكَ

٩١

الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) [البقرة : ٦٠] والمعنى : فكما كرهتموه فاكرهوا الغيبة ، وإن لم تكن «كما» مذكورة ، كما أن «ما تأتينا فتحدّثنا» معناه فكيف تحدثنا وإن لم تكن «كيف» مذكورة ، ا ه.

وهذا يقتضي أن «كما» ليست محذوفة ، بل أن المعنى يعطيها ، فهو تفسير معنى ، لا تفسير إعراب.

تنبيه ـ قيل : الفاء تكون للاستئناف ، كقوله [من الطويل] :

٦٠ ـ ألم تسأل الرّبع القواء فينطق

[وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق](١)

أي : فهو ينطق ، لأنها لو كانت للعطف لجزم ما بعدها ، ولو كانت للسببيّة لنصب ، ومثله : (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة : ١١٧] بالرفع ، أي فهو يكون حينئذ ، وقوله [من الرجز] :

٦١ ـ الشّعر صعب وطويل سلّمه ،

إذا ارتقى فيه الّذي لا يعلمه

٦٢ ـ زلّت به إلى الحضيض قدمه ،

يريد أن يعربه فيعجمه (٢)

أي : فهو يعجمه. ولا يجوز نصبه بالعطف ، لأنه لا يريد أن يعجمه.

والتحقيق أن الفاء في ذلك كلّه للعطف ، وأن المعتمد بالعطف الجملة ، لا الفعل ، والمعطوف عليه في هذا الشّعر قوله يريد ، وإنما يقدّر النحويّون كلمة «هو» ليبيّنوا أن الفعل ليس المعتمد بالعطف.

* (في) : حرف جرّ ، له عشرة معان :

أحدها : الظرفية ، وهي إما مكانيّة أو زمانيّة ، وقد اجتمعتا في قوله تعالى : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) [الروم : ١ ـ ٤] ، أو مجازيّة ، نحو : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] ، ومن المكانيّة «أدخلت الخاتم في إصبعي ، والقلنسوة في رأسي» إلا أن فيهما قلبا.

الثاني : المصاحبة ، نحو : (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) [الأعراف : ٣٨] أي : معهم ، وقيل : التّقدير : ادخلوا في جملة أمم ، فحذف المضاف. (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) [القصص : ٧٩].

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لجميل بثينة في ديوانه ص ١٣٧ ، والأغاني ٨ / ١٤٦ ، وخزانة الأدب ٨ / ٢٥٤ والدرر ٤ / ٨١ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ١٨٥ والدرر ٦ / ٨٦.

(٢) البيت من الرجز ، وهو للحطيئة في الأغاني ٢ / ٢٨٩ ، والمزهر ٢ / ٤١٦ ، ولرؤية في لسان العرب مادة (عجم).

٩٢

والثالث : التّعليل ، نحو (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) [يوسف : ٣٢] ، (لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ) [النور : ١٤] ، وفي الحديث : «أن امرأة دخلت النّار في هرّة حبستها».

الرابع : الاستعلاء ، نحو : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١]. وقال [من الطويل] :

٦٣ ـ هم صلبوا العبديّ في جذع نخلة

[فلا عطست شيبان إلّا بأجدعا](١)

وقال آخر [من الكامل] :

٦٤ ـ بطل كأنّ ثيابه في سرحة

[يحذى نعال السّبت ليس بتوأم](٢)

والخامس : مرادفة الباء ، كقوله [من الطويل] :

٦٥ ـ ويركب يلأم الرّوع منّا فوارس

بصيرون في طعن الأباهر والكلى (٣)

وليس منه قوله تعالى : (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) [الشورى : ١١] خلافا لزاعمه ؛ بل هي للسببيّة ، أي : يكثركم بسبب هذا الجعل ؛ والأظهر قول الزمخشري إنها للظرفيّة المجازيّة. قال :جعل هذا التدبير كالمنبع أو المعدن للبثّ والتّكثير مثل : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩].

السادس : مرادفة «إلى» ، نحو : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) [إبراهيم : ٩].

السابع : مرادفة «من» ، كقوله [من الطويل] :

٦٦ ـ ألا عم صباحا أيّها الطّلل البالي

وهل يعمن من كان في العصر الخالي؟ (٤)

٦٧ ـ وهل يعمن من كان أحدث عهده

ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال؟ (٥)

وقال ابن جنّي : التقدير : في عقب ثلاثة أحوال ، ولا دليل على هذا المضاف ،

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لسويد بن أبي كاهل اليشكري في لسان العرب (شمس) ، ولامرأة من العرب في الخصائص ص ٢ / ٣١٣ ، ولسان العرب مادة (فيا) ، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص ٣٩٤.

(٢) البيت من البحر الكامل ، وهو لعنترة في ديوانه ص ٢١٢ ، وخزانة الأدب ٩ / ٤٨٥ ـ ٤٩٠ وجمهرة اللغة ص ٥٢١ ـ ١٣١٥ ، وبلا نسبة في الخصائص ٢ / ٣١٢ ، ورصف المباني ص ٣٨٩.

(٣) البيت من البحر الطويل ، وهو لزيد الخيل في لسان العرب ١٥ / ١٦٧ مادة (فيا) ، والمخصص ١٤ / ٦٦ ، وتاج العروس مادة (فيا).

(٤) البيت من البحر الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٢٧ ، وجمهرة اللغة ص ١٣١٩ ، وخزانة الأدب ١ / ٦٠ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ١٤٨ ، وخزانة الأدب ٧ / ١٠٥.

(٥) البيت من البحر الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٢٧ ، وجمهرة اللغة ص ١٣١٥ ، وخزانة الأدب ١ / ٦٢ ، وبلا نسبة في الخصائص ٢ / ٣١٣ ، ورصف المباني ص ٣٩١.

٩٣

وهذا نظير إجازته «جلست زيدا» بتقدير «جلوس زيد» مع احتماله لأن يكون أصله : إلى زيد. وقيل : «الأحوال» جمع «حال» لا حول» ، أي : في ثلاث حالات : نزول المطر ، وتعاقب الرياح ، ومرور الدهور. وقيل : يريد أن أحدث عهده خمس سنين ونصف ، فـ «في» بمعنى «مع».

الثامن : المقايسة ـ وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق ـ نحو : (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة : ٣٨].

التاسع : التعويض ، وهي الزّائدة عوضا من «في» أخرى محذوفة كقولك : «ضربت فيمن رغبت» ، أصله : ضربت من رغبت فيه ؛ أجازه ابن مالك وحده بالقياس على نحو قوله :

«فانظر بمن تثق»

على حمله على ظاهره ، وفيه نظر.

العاشر : التوكيد ، وهي الزائدة لغير التعويض ، أجازه الفارسي في الضرورة وأنشد [من الرجز] :

٦٨ ـ أنا أبو سعد ، إذا اللّيل دجا ،

يخال في سواده برندجا (١)

وأجازه بعضهم في قوله تعالى : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها) [هود : ٤١].

ـ حرف القاف ـ

* (قد) على وجهين : حرفيّة وستأتي ، واسميّة ، وهي على وجهين : اسم فعل وسيأتي ، واسم مرادف لـ «حسب» ، وهذه تستعمل على وجهين :

مبنيّة وهو الغالب لشبهها بـ «قد» الحرفيّة في لفظها ، ولكثير من الحروف في وضعها ، ويقال في هذا : «قد زيد درهم» بالسكون ، و «قدني» بالنون ، حرصا على بقاء السكون لأنه الأصل فيما يبنون.

ومعربة وهو قليل ، يقال : «قد زيد درهم» ، بالرفع ، كما يقال : «حسبه درهم» ، بالرفع ، و «قدي درهم» بغير نون كما يقال : «حسبي» ، والمستعملة اسم فعل مرادفة لـ «يكفي» ، يقال : «قد زيدا درهم» ، و «قدني درهم» ، كما يقال : «يكفي زيدا درهم» ، و «يكفيني درهم».

__________________

(١) البيت من الرجز ، وهو لسويد اليشكري في الأغاني ١٣ / ١١٤ ، والإصابة ٣ / ٢٧١.

٩٤

وقوله [من الرجز] :

٦٩ ـ قدني من نصر الخبيبين قدي

[ليس الإمام بالشّحيح الملحد](١)

تحتمل «قد» الأولى أن تكون مرادفة لـ «حسب» على لغة البناء ، وأن تكون اسم فعل ؛ وأما الثانية فتحتمل الأول وهو واضح ، والثاني على أنّ النون حذفت للضرورة ، كقوله [من الرجز] :

٧٠ ـ [عددت قومي كعديد الطّيس]

إذ ذهب القوم الكرام ليسي (٢)

ويحتمل أنّها فعللم يذكر مفعوله فالياء للإطلاق ، والكسرة للساكنينه.

وأما الحرفيّة فمختصّة بالفعل المتصرّف الخبريّ المثبت المجرّد من جازم وناصب وحرف تنفيس ، وهي معه كالجزء ؛ فلا تفصل منه بشيء ، اللهم إلا بالقسم كقوله [من الطويل]:

٧١ ـ أخالد قد والله أوطأت عشوة ،

وما قائل المعروف فينا يعنّف (٣)

وقول آخر [من الوافر] :

٧٢ ـ فقد والله بيّن لي عنائي

بوشك فراقهم صرد يصيح (٤)

وسمع «قد لعمري بتّ ساهرا» و «قد والله أحسنت».

وقد يحذف الفعل بعدها لدليل كقول النابغة [من الكامل] :

٧٣ ـ أفد الترحّل ، غير أنّ ركابنا

لمّا تزل برحالنا ، وكأن قد (٥)

أي : وكأن قد زالت.

ولها خمسة معان :

__________________

(١) البيت من الرجز ، وهو لحميد بن ثور في لسان العرب ، مادة (لحد) ، وبلا نسبة في إصلاح المنطق ١ / ٤٠١ والإنصاف في مسائل الخلاف ١ / ١٣١.

(٢) البيت من الرجز ، وهو بلا نسبة في سر صناعة الإعراب ، ولسان العرب مادة (ليس) ، والفائق ٣ / ٣٣٩.

(٣) البيت من البحر الطويل ، وهو ملفق من بيتين أو لهما للفرزدق وثانيهما لأخي يزيد بن عبد الله والبجلي ، وهو لأخي يزيد في شرح شواهد المغني ص ٤٨٨ ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة (٧٦) وشرح شواهد المغني (٨٢).

(٤) البيت من البحر الوافر ، وهو بلا نسبة في الخصائص ١ / ٣٣٠ ، ورصف المباني ص ٣٩٣.

(٥) البيت من البحر الكامل ، وهو للنابغة الذبياني في الأغاني ١١ / ١١ ، والبيان والتبيين ص ٣٥١. ولسان العرب ، مادة (قدد).

٩٥

أحدها : التوقّع ، وذلك مع المضارع واضح كقولك : «قد يقدم الغائب اليوم» إذا كنت تتوقّع قدومه.

وأما مع الماضي فأثبته الأكثرون. قال الخليل : يقال «قد فعل» لقوم ينتظرون الخبر ، ومنه قول المؤذّن : «قد قامت الصلاة» ؛ لأن الجماعة منتظرون لذلك. وقال بعضهم : تقول : «قد ركب الأمير» لمن ينتظر ركوبه ، وفي التنزيل : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ) [المجادلة : ١] لأنّها كانت تتوقّع إجابة الله سبحانه وتعالى لدعائها.

وأنكر بعضهم كونها للتوقّع مع الماضي ، وقال : التوقّع انتظار الوقوع ، والماضي قد وقع.

وقد تبيّن بما ذكرنا أن مراد المثبتين لذلك أنها تدلّ على أن الفعل الماضي كان قبل الإخبار به متوقّعا ، لا أنه الآن متوقّع. والذي يظهر لي قول ثالث ، وهو أنها قد لا تفيد التوقّع أصلا ، أما في المضارع فلأن قولك : «يقدم الغائب» يفيد التوقّع بدون «قد» ؛ إذ الظاهر من حال المخبر عن مستقبل أنه متوقّع له ، وأما في الماضي فلأنه لو صحّ إثبات التوقّع لها ، بمعنى أنّها تدخل على ما هو متوقّع ، لصحّ أن يقال في «لا رجل» بالفتح إن «لا» للاستفهام لا تدخل إلا جوابا لمن قال : هل من رجل ، ونحوه ، فالذي بعد «لا» مستفهم عنه من جهة شخص آخر ، كما أن الماضي بعد «قد» متوقّع كذلك. وعبارة ابن مالك في ذلك حسنة ، فإنه قال : إنها تدخل على ماض متوقّع ، ولم يقل إنها تفيد التوقّع ، ولم يتعرّض للتوقع في الداخلة على المضارع ألبتة ، وهذا هو الحقّ.

الثاني : تقريب الماضي من الحال ، تقول : «قام زيد» فيحتمل الماضي القريب والماضي البعيد ، فإن قلت «قد قام» اختصّ بالقريب.

وانبنى على إفادتها أحكام :

أحدها : أنها لا تدخل على «ليس» و «عسى» و «نعم» و «بئس» لأنهن للحال ؛ فلا معنى لذكر ما يقرّب ما هو حاصل ؛ ولذلك علّة أخرى ، وهي أن صيغهنّ لا يفدن الزمان ، ولا يتصرّفن ، فأشبهن الاسم ، وأما قول عديّ [من الكامل] :

٧٤ ـ لولا الحياء ، وأنّ رأسي قد عسا

فيه المشيب ، لزرت أمّ القاسم (١)

ف «عسى» هنا بمعنى «اشتدّ» ، وليست «عسى» الجامدة

__________________

(١) البيت من البحر الكامل ، وهو لعدي بن الرقاع في الأغاني ٩ / ٣٥٤ ، وبلا نسبة في كتاب اللامات ص ١٢٩.

٩٦

الثاني : وجوب دخولها ، عند البصريّين إلّا الأخفش ، على الماضي الواقع حالا إما ظاهرة ، نحو : (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) [البقرة : ٢٤٦] ، أو مقدّرة ، نحو : (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) [يوسف : ٦٥] ، ونحو : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء : ٩٠] وخالفهم الكوفيّون والأخفش ؛ فقالوا : لا تحتاج لذلك ، لكثرة وقوعها حالا بدون «قد» والأصل عدم التقدير ، لا سيما فيما كثر استعماله.

الثالث : ذكره ابن عصفور ، وهو أن القسم إذا أجيب بماض متصرّف مثبت ، فإن كان قريبا من الحال جيء باللام و «قد» جميعا ، نحو : (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) [يوسف : ٩١] ، وإن كان بعيدا جيء باللام وحدها كقوله [من الطويل] :

٧٥ ـ حلفت لها بالله حلفة فاجر

لناموا ، فما إن من حديث ولا صالي (١)

ا ه. والظّاهر في الآية والبيت عكس ما قال ، إذ المراد في الآية : فضّلك الله علينا بالصبر وسيرة المحسنين ، وذلك محكوم له به في الأزل ، وهو متّصف به مذ عقل ، والمراد في البيت أنهم ناموا قبل مجيئه.

ومقتضى كلام الزمخشري أنها في نحو : «والله لقد كان كذا» للتوقّع لا للتقريب ؛ فإنه قال في تفسير قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) [الأعراف : ٥٩] في سورةالأعراف : فإن قلت : فما بالهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إلّا مع «قد» ، وقلّ عنهم نحو قوله :«حلفت لها بالله ـ البيت» ، قلت : لأن الجملة القسميّة لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها التي هي جوابها ، فكانت مظنّة لمعنى التوقّع الذي هو معنى «قد» عند استماع المخاطب كلمة القسم ، ا ه.

ومقتضى كلام ابن مالك أنها مع الماضي إنّما تفيد التقريب كما ذكره ابن عصفور ، وأن من شرط دخولها كون الفعل متوقّعا كما قدمنا ؛ فإنه قال في تسهيله : وتدخل على فعل ماض متوقّع لا يشبه الحرف لقربه من الحال ا ه.

الرابع : دخول لام الابتداء في نحو : «إنّ زيدا لقد قام» ، وذلك لأن الأصل دخولها على الاسم ، نحو : «إنّ زيدا لقائم» وإنما دخلت على المضارع لشبهه بالاسم ، نحو :

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٣٢ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٧١ ـ ٧٣ ، والدرر ٢ / ١٠٦ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٣٧٤ ، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ٧٧ ، ورصف المباني ص ١١٠.

٩٧

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) [النحل : ١٢٤] ، فإذا قرب الماضي من الحال أشبه المضارع الذي هو شبيه بالاسم ، فجاز دخولها عليه.

المعنى الثالث ، التقليل ، وهو ضربان : تقليل وقوع الفعل ، نحو : «قد يصدق الكذوب» ، و «قد يجود البخيل» وتقليل متعلّقه ، نحو قوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) [النور : ٦٤] ، أي : ما هم عليه هو أقلّ معلوماته سبحانه. وزعم بعضهم أنها في هذه الأمثلة ونحوها للتّحقيق ، وأن التقليل في المثالين الأوّلين لم يستفد من «قد» ، بل من قولك : البخيل يجود ، والكذوب يصدق ، فإنه إن لم يحمل على أن صدور ذلك منهما قليل كان فاسدا ، إذ آخر الكلام يناقض أوّله.

الرابع : التكثير ، قاله سيبويه في قول الهذلي [من البسيط] :

٧٦ ـ قد أترك القرن مصفرّا أنامله

[كأنّ أثوابه مجّت بفرصاد](١)

وقال الزمخشري في (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) [البقرة : ١٤٤] : ربّما نرى ، ومعناه تكثير الرؤية. ثم استشهد بالبيت. واستشهد جماعة على ذلك ببيت العروض [من البسيط] :

٧٧ ـ قد أشهد الغارة الشّعواء تحملني

جرداء معروفة اللّحيين سرحوب (٢)

الخامس : التحقيق ، نحو : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) (٩) [الشمس : ٩] ، وقد مضى أن بعضهم حمل عليه قوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) [النور : ٦٤]. قال الزمخشري : دخلت لتوكيد العلم ، ويرجع ذلك إلى توكيد الوعيد. وقال غيره في : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا) [البقرة : ٦٥] : «قد» في الجملة الفعليّة المجاب بها القسم مثل «إنّ» واللام في الجملة الاسميّة المجاب بها في إفادة التوكيد. وقد مضى نقل القول بالتقليل في الأولى ، والتّقريب والتوقّع في مثل الثانية ، ولكنّ القول بالتحقيق فيهما أظهر.

والسادس : النفي ، حكى ابن سيده «قد كنت في خير فتعرفه» بنصب تعرف ، وهذا غريب ؛ وإليه أشار في التّسهيل بقوله : وربما نفي بـ «قد» فنصب الجواب بعدها ، ا ه.

ومحمله عندي على خلاف ما ذكر ، وهو أن يكون كقولك للكذوب : «هو رجل

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، وهو لعبيد بن الأبرص في ديوانه ص ٦٤ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٥٣ وبلا نسبة في تذكرة النحاة ص ٧٦ ، ورصف المباني ص ٣٩٣ ، ولسان العرب ١٣ / ١٧ مادة (أسن).

(٢) البيت من البحر البسيط ، وهو لأمرىء القيس في ديوانه ص ٢٢٥ ، وسر صناعة الإعراب ص ٢١ ، ولأمرىء القيس أو لعمران بن إبراهيم الأنصاري في شرح شواهد المغني ٢ / ٤٩٦ ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٢٥٨ وخزانة الأدب ٦ / ١٠٥.

٩٨

صادق» ، ثم جاء النّصب بعدها نظرا إلى المعنى ، وإن كانا إنما حكما بالنفي لثبوب النصب فغير مستقيم ، لمجيء قوله [من الوافر] :

٧٨ ـ [سأترك منزلي لبني تميم]

وألحق بالحجاز فأستريحا (١)

وقراءة بعضهم : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ) [الأنبياء : ١٨].

مسألة ـ قيل : يجوز النّصب على الاشتغال في نحو : «خرجت فإذا زيد يضربه عمرو» مطلقا ؛ وقيل : يمتنع مطلقا ، وهو الظاهر ؛ لأن «إذا» الفجائية لا يليها إلا الجمل الاسميّة. وقال أبو الحسن وتبعه ابن عصفور : يجوز في نحو : «فإذا زيد قد ضربه عمرو» ويمتنع بدون «قد» ووجهه عندي أن التزام الاسميّة مع «إذا» هذه إنما كان للفرق بذلك ؛ إذ لا تقترن الشرطية بها.

* (قطّ) ـ على ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون ظرف زمان لاستغراق ما مضى ، وهذه بفتح القاف وتشديد الطّاء مضمومة في أفصح اللغات ، وتختصّ بالنفي ، يقال : «ما فعلته قطّ» ، والعامة يقولون : «لا أفعله قطّ» ، وهو لحن. واشتقاقه من «قططته» ، أي : قطعته ، فمعنى : «ما فعلته قطّ» : ما فعلته فيما انقطع من عمري ؛ لأن الماضي منقطع عن الحال والاستقبال. وبنيت لتضمنها معنى «مذ» و «إلى» ، إذ المعنى : مذ أن خلقت إلى الآن ، وعلى حركة لئلّا يلتقي ساكنان ، وكانت الضّمة تشبيها بالغايات ، وقد تكسر على أصل التقاء الساكنين ، وقد تتبع قافه طاءه في الضمّ ، وقد تخفّف طاؤه مع ضمها أو إسكانها.

والثاني : أن تكون بمعنى «حسب» ، وهذه مفتوحة القاف ساكنة الطّاء ، يقال : «قطي» ، و «قطك» ، و «قط زيد درهم» كما يقال : «حسبي» ، و «حسبك» ، و «حسب زيد درهم» ، إلا أنها مبنيّة لأنها موضوعة على حرفين ، و «حسب» معربة.

والثالث : أن تكون اسم فعل بمعنى «يكفي» ، فيقال : «قطني» ـ بنون الوقاية ـ كما يقال : «يكفيني».

وتجوز نون الوقاية على الوجه الثاني ، حفظا للبناء على السكون ، كما يجوز في «لدن» و «من» و «عن» كذلك.

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وهو لمغيرة بن حبناء في خزانة الأدب ٨ / ٥٢٢ ، والدرر ١ / ٣٤٠ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٥١ ، وبة نسبة في الدرر ٥ / ١٣٠ ، ورصف المباني ص ٣٧٩.

٩٩

ـ حرف الكاف ـ

* الكاف المفردة ـ جارّة وغيرها. والجارّة حرف واسم.

والحرف له خمسة معان :

أحدها : التشبيه ، نحو : «زيد كالأسد».

والثاني : التعليل ، أثبت ذلك قوم ، ونفاه الأكثرون ، وقيّد بعضهم جوازه بأن تكون الكاف مكفوفة بـ «ما» كحكاية سيبويه : «كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه» ، والحقّ جوازه في المجرّدة من «ما» ، نحو : (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [القصص : ٨٢] ، أي : أعجب لعدم فلاحهم ، وفي المقرونة بـ «ما» الزائدة كما في المثال ، وب «ما» المصدريّة ، نحو : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ) [البقرة : ١٥١] ـ الآية. قال الأخفش : أي : لأجل إرسالي فيكم رسولا منكم فاذكروني ؛ وهو ظاهر في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة : ١٩٨] وأجاب بعضهم بأنه من وضع الخاصّ موضع العام ؛ إذ الذّكر والهداية يشتركان في أمر واحد ، وهو الإحسان ؛ فهذا في الأصل بمنزلة (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) [القصص : ١٧٧] والكاف للتشبيه ، ثم عدل عن ذلك للإعلام بخصوصيّة المطلوب. وما ذكرناه في الآيتين من أنّ «ما» مصدريّة قاله جماعة ، وهو الظاهر ، وزعم الزمخشري وابن عطية وغيرهما أنها كافّة ، وفيه إخراج الكاف عما ثبت لها من عمل الجر لغير مقتض.

اختلف في نحو قوله [من الطويل] :

٧٩ ـ وطرفك إمّا جئتنا فاحبسنّه

كما يحسبوا أنّ الهوى حيث تنظر (١)

فقال الفارسي : الأصل : «كيما» فحذف الياء ، وقال ابن مالك : هذا تكلّف ، بل هي كاف التعليل و «ما» الكافّة ، ونصب الفعل بها لشبهها بـ «كي» في المعنى ، وزعم أبو محمد الأسود في كتابه المسمّى «نزهة الأديب» أن أبا علي حرّف هذا البيت ، وأن الصواب فيه :

٨٠ ـ إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا

لكي يحسبوا ... البيت (٢)

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص ١٠١ ، وخزانة الأدب ٥ / ٣٢٠ والدرر ٤ / ٧٠ ، ولجميل بثينة ص ٩٠ ، ولعمر أو لجميل في شرح شواهد المغني ١ / ٤٩٨ وبلا نسبة في خزانة الأدب ٨ / ٥٠٢ ، ورصف المباني ص ٢١٤.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص ١٠١ ، وخزانة الأدب ٥ / ٣٢٠.

١٠٠