محمّد بن أبي بكر الدماميني
المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢
وهذا محتمل لتقدير ضمير الشأن كما تقدّم في «إنّ من أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون».
وفيها عشر لغات مشهورة ، ولها معان :
أحدها : التوقّع ،وهو : ترجّي المحبوب والإشفاق من المكروه ، نحو : «لعل الحبيب قادم ، ولعل الرقيب حاصل» ، وتختصّ بالممكن ، وقول فرعون : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ) [غافر : ٣٦ ـ ٣٧] ، إنما قاله جهلا أو مخرقة وإفكا.
الثاني : التعليل ، أثبته جماعة منهم الأخفش والكسائي ، وحملوا عليه : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (٤٤) [طه : ٤٤] ، ومن لم يثبت ذلك يحمله على الرجاء ، ويصرفه للمخاطبين ، أي : اذهبا على رجائكما.
الثالث : الاستفهام ، أثبته الكوفيّون ، ولهذا علّق بها الفعل في نحو : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) [الطلاق : ١] ، ونحو : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) (٣) [عبس : ٣]. قال الزمخشري : وقد أشربها معنى «ليت» من قرأ (فَأَطَّلِعَ) [غافر : ٣٧] ا ه ؛ وفي الآية بحث سيجيء.
ويقترن خبرها بـ «أن» كثيرا حملا على «عسى» ، كقوله [من الطويل] :
٢٩٣ ـ [لعلّك يوما أن تلمّ ملمّة] |
|
عليك من اللّائي يدعنك أجدعا (١) |
وبحرف التّنفيس قليلا ، كقوله [من الطويل] :
٢٩٤ ـ فقولا لها قولا رقيقا لعلّها |
|
سترحمني من زفرة وعويل (٢) |
وخرّج بعضهم نصب (فَأَطَّلِعَ) على تقدير «أن» مع أبلغ كما خفض المعطوف من بيت زهير [من الطويل] :
٢٩٥ ـ بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى، |
|
ولا سابق شيئا إذا كان جائيا (٣) |
على تقدير الباء مع «مدرك».
__________________
(١) البيت من الطويل ، لمتم بن نويرة في ديوانه ص ١١٩ ، وخزانة الأدب ٥ / ٣٤٥ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٦٧ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ١٩١.
(٢) البيت من الطويل ، وهو لعبد الله بن مسلم الهذلي في شرح أشعار الهذليين ٢ / ٩٠٩ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٥ / ٣٤٥.
(٣) البيت من الطويل وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٢٨٧ ، وتخليص الشواهد ص ٥١٢ ، وخزانة الأدب ٨ / ٤٩٢ ـ ٤٩٦ ، والدرر ٦ / ١٦٣ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٨٢.
ولا يمتنع كون خبرها فعلا ماضيا خلافا للحريري ، وفي الحديث «وما يدريك لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ، وقال الشاعر [من الطويل] :
٢٩٦ ـ وبدّلت قرحا داميا بعد صحّة ، |
|
لعلّ منايانا تحوّلن أبؤسا (١) |
وأنشد سيبويه [من الطويل] :
٢٩٧ ـ أعد نظرا يا عبد قيس لعلّما |
|
أضاءت لك النّار الحمار المقيّدا (٢) |
فإن اعترض بأن «لعلّ» هنا مكفوفة بـ «ما» ، فالجواب أن شبهة المانع أن «لعلّ» للاستقبال فلا تدخل على الماضي ، ولا فرق على هذا بين كون الماضي معمولا لها أو معمولا لما في حيّزها. ومما يوضح بطلان قوله ثبوت ذلك في خبر «ليت» وهي بنمزلة «لعلّ» ، نحو : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) [مريم : ٢٣] ، (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [النبأ : ٤٠] ، (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) [الفجر : ٢٤] ، (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ) [النساء : ٧٣].
تنبيه ـ من مشكل باب «ليت» وغيره قول يزيد بن الحكم [من الطويل] :
٢٩٨ ـ فليت كفافا كان خيرك كلّه |
|
وشرّك عنّي ما ارتوى الماء مرتوي (٣) |
وإشكاله من أوجه ، أحدها : عدم ارتباط خبر «ليت» باسمها ، إذ الظاهر أن «كفافا» اسم «ليت» ، وأنّ «كان» تامّة ، وأنها وفاعلها الخبر ؛ ولا ضمير في هذه الجملة. والثاني : تعليقه «عن» بـ «مرتو». والثالث : إيقاعه «الماء» فاعلا بـ «ارتوى» ؛ وإنما يقال : ارتوى الشارب.
والجواب عن الأول أن «كفافا» إنما هو خبر لـ «كان» مقدّم عليها وهو بمعنى «كافّ» ، واسم «ليت» محذوف للضرورة ، أي : فليتك أو فليته : أي فليت الشأن ، ومثله قوله [من الطويل] :
٢٩٩ ـ فليت دفعت الهمّ عنّي ساعة |
|
[فبتنا ، على ما خيّلت ، ناعمي بال](٤) |
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١٠٧ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٣١ ، والدرر ٢ / ٥٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٩٥ ، وبلا نسبة في همع الهوامع ١ / ١١٢.
(٢) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ١ / ١٨٠ ، والدرر ٢١ / ٢٠٨ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ١١٦ ، وشرح شواهد المغني ص ٦٩٣ ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ٣١٩.
(٣) البيت من البحر الطويل ، وهو ليزيد بن الحكم في الأغاني ١٢ / ٢٩٩ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٤٧٢ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٨ / ٢٦ ، والإنصاف ١ / ١٨٤.
(٤) البيت من الطويل ، وهو لعدي بن زيد في ديوانه ص ١٦٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٩٧ ، وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ١٨٣ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٤٤٥.
و «خيرك» : اسم «كان» ، و «كله» : توكيد له ، والجملة خبر «ليت» ، وأما «وشرّك» فيروى بالرفع عطفا على «خيرك» فخبره إمّا محذوف تقديره كفافا ؛ فـ «مرتو» : فاعل بـ «ارتوى» ؛ وإما «مرتو» على أنه سكّن للضرورة ، كقوله [من الطويل] :
٣٠٠ ـ ولو أنّ واش ، باليمامة داره ، |
|
وداري بأعلى حضرموت ، اهتدى ليا (١) |
وروي بالنصب : إما على أنه اسم لـ «ليت» محذوفة ، وسهّل حذفها تقدّم ذكرها ، كما سهل ذلك حذف «كل» وبقاء الخفض في قوله [من المتقارب] :
٣٠١ ـ أكلّ امرىء تحسبين أمرأ |
|
ونار توقّد باللّيل نارا (٢) |
وإما على العطف على اسم «ليت» المذكورة إن قدّر ضمير المخاطب ، فأما ضمير الشأن فلا يعطف عليه لو ذكر فكيف وهو محذوف ، و «مرتو» على الوجهين مرفوع : إما لأنه خبر «ليت» المحذوفة ، أو لأنه عطف على خبر «ليت» المذكورة.
وعن الثاني بأنه ضمّن «مرتو» معنى «كافّ» ، لأن المرتوي يكفّ عن الشرب ، كما جاء (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [النور : ٦٣] لأن يخالفون في معنى يعدلون ويخرجون ، وإن علّقته بـ «كفافا» محذوفا على وجه مرّ ذكره فلا إشكال.
وعن الثالث أنه إما على حذف مضاف أي شارب الماء ، وإما على جعل الماء مرتويا مجازا كما جعل صاديا في قوله [من الطويل] :
وجبت هجيرا يترك الماء صاديا
ويروى «الماء» بالنصب على تقدير «من» كما في قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) [الأعراف : ١٥٥] ففاعل «ارتوى» على هذا «مرتو» ، كما تقول : ما شرب الماء شارب.
* (لكنّ) مشدّدة النون ـ حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر ، وفي معناها ثلاثة أقوال :
أحدها ، وهو المشهور : أنه واحد ، وهو الاستدراك ، وفسّر بأن تنسب لما بعدها
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو للمجنون في ديوانه ص ٢٣٣ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٤٨٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٩٨ ، وبلا نسبة فى الدرر ١ / ١٦٦ ، وشرح الأشموني ١ / ٤٤.
(٢) البيت من المتقارب ، وهو لأبي دؤاد في ديوانه ص ٣٥٣ ، والأصمعيات ص ١٩١ ، وخزانة الأدب ٩ / ٥٩٢ ، والدرر ٥ / ٣٩ ، ولعدي بن زيد في ملحق ديوانه ص ١٩٩.
حكما مخالفا لحكم ما قبلها ، ولذلك لا بدّ أن يتقدّمها كلام مناقض لما بعدها ، نحو : «ما هذا ساكنا لكنه متحرّك» ، أو ضدّ له ، نحو : «ما هذا أبيض لكنه أسود» ، قيل : أو خلاف ، نحو : «ما زيد قائما ، لكنه شارب» وقيل : لا يجوز ذلك.
والثاني : أنها ترد تارة للاستدراك وتارة للتوكيد ، قاله جماعة منهم صاحب البسيط ، وفسروا الاستدراك برفع ما يتوهّم ثبوته ، نحو : «ما زيد شجاعا ، لكنه كريم» ، لأن الشجاعة والكرم لا يكادان يفترقان ، فنفي أحدهما يوهم انتفاء الآخر ، و «ما قام زيد ، لكنّ عمرا قام» ، وذلك إذا كان بين الرجلين تلابس أو تماثل في الطريقة ، ومثّلوا للتوكيد بنحو : «لو جاءني أكرمته لكنّه لم يجىء» فأكدت ما أفادته «لو» من الامتناع.
والثالث : أنها للتوكيد دائما مثل «إنّ» ، ويصحب التوكيد معنى الاستدراك ، وهو قول ابن عصفور. قال في المقرب : «إنّ» و «أنّ» و «لكنّ» ، ومعناها التوكيد ، ولم يزد على ذلك ، وقال في الشرح : معنى «لكنّ» التوكيد ، وتعطى مع ذلك الاستدراك ، ا ه.
والبصريّون على أنها بسيطة ، وقال الفراء : أصلها «لكن أنّ» ، فطرحت الهمزة للتّخفيف ، ونون «لكن» للساكنين ، كقوله [من الطويل] :
٣٠٢ ـ [فلست بآتيه ولا أستطيعه] |
|
ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل (١) |
وقال باقي الكوفيين : مركّبة من : «لا» و «إن» ، والكاف الزائدة لا التشبيهيّة ، وحذفت الهمزة تخفيفا.
وقد يحذف اسمها ، كقوله [من الطويل] :
٣٠٣ ـ فلو كنت ضبّيّا عرفت قرابتي ، |
|
ولكنّ زنجيّ عظيم المشافر (٢) |
أي : ولكنّك زنجيّ ، وعليه بيت المتنبي [من الطويل] :
٣٠٤ ـ وما كنت ممّن يدخل العشق قلبه |
|
ولكنّ من يبصر جفونك يعشق (٣) |
وبيت الكتاب [من الطويل] :
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو للنجاشي الحارثي في ديوانه ص ١١١ ، والأزهية ص ٢٩٦ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٤١٨ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ١٣٣ ، وأوضح المسالك ١ / ٦٧١.
(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ص ٤٨١ ، وجمهرة اللغة ص ١٣١٢ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٤٤٤ ، والدرر ٢ / ١٧٦. ولسان العرب مادة (شغر) ، وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ١٨٢.
(٣) البيت من الطويل ، وهو للمتنبي في ديوانه ٢ / ٤٨ ، والأشباه والنظائر ٨ / ٤٦.
٣٠٥ ـ ولكنّ من لا يلق أمرا ينوبه |
|
بعدّته ينزل به وهو أعزل (١) |
ولا يكون الاسم فيهما «من» ، لأن الشرط لا يعمل فيه ما قبله. ولا تدخل اللام في خبرها خلافا للكوفيّين ، احتجوا بقوله [من الطويل] :
٣٠٦ ـ ................. |
|
ولكنّني من حبها لعميد (٢) |
ولا يعرف له قائل ، ولا تتمّة ، ولا نظير ، ثم هو محمول على زيادة اللام. أو على أن الأصل «لكن إنني» ثم حذفت الهمزة تخفيفا ونون لكن للساكنين.
* * * *
(لكن) ساكنة النون ـ ضربان : مخفّفة من الثقيلة ، وهي حرف ابتداء ، لا يعمل خلافا للأخفش ويونس ، لدخولها بعد التخفيف على الجملتين ، وخفيفة بأصل الوضع ، فإن وليها كلام فهي حرف ابتداء لمجرّد إفادة الاستدراك ، وليست عاطفة ، ويجوز أن تستعمل بالواو ، نحو : (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) [الزخرف : ٧٦] وبدونها ، نحو قول زهير [من البسيط] :
٣٠٧ ـ إنّ ابن ورقاء لا تخشى بوادره |
|
لكن وقائعه في الحرب تنتظر (٣) |
وزعم ابن أبي الربيع أنها حين اقترانها بالواو عاطفة جملة على جملة ، وأنه ظاهر قول سيبويه ؛ وإن وليها مفرد فهي عاطفة بشرطين :
أحدهما : أن يتقدّمها نفي أو نهي ، نحو : «ما قام زيد لكن عمرو» ، و «لا يقم زيد لكن عمرو» ، فإن قلت «قام زيد» ثم جئت بـ «لكن» جعلتها حرف ابتداء فجئت بالجملة فقلت : «لكن عمرو لم يقم» ، وأجاز الكوفيّون «لكن عمرو» على العطف ، وليس بمسموع.
الشرط الثاني : أن لا تقترن بالواو ، قاله الفارسي وأكثر النحويّين ، وقال قوم : لا تستعمل مع المفرد إلا بالواو.
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو لأمية بن أبي الصلت في الإنصاف ١ / ١٨١ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٤٥٠ وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٠٢.
(٢) عجز بيت من الطويل ، صدره : يلومونني في حب ليلى عواذلي ، وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر ٤ / ٣٨ ، والإنصاف ١ / ٢٠٩ ، والجنى الداني ص ١٣٢ ، ولسان العرب مادة (لكن).
(٣) البيت من البحر البسيط ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٣٠٦ ، والجنى الداني ص ٥٨٩ والدرر ٦ / ١٤٤ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ٣٨٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٣٧.
واختلف في نحو : «ما قام زيد ولكن عمرو» على أربعة أقوال : أحدها ليونس : إن «لكن» غير عاطفة ، والواو عاطفة مفردا على مفرد ؛ الثاني لابن مالك : إن «لكن» غير عاطفة والواو عاطفة لجملة حذف بعضها على جملة صرّح بجميعها ، قال : فالتقدير في نحو : «ما قام زيد ولكن عمرو» : ولكن قام عمرو ، وفي (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) [الأحزاب : ٤٠] : ولكن كان رسول الله ، وعلة ذلك أن الواو لا تعطف مفردا على مفرد مخالف له في الإيجاب والسلب ، بخلاف الجملتين المتعاطفتين فيجوز تخالفهما فيه ، نحو : «قام زيد ولم يقم عمرو» ؛ والثالث لابن عصفور : إن «لكن» عاطفة ، والواو زائدة لازمة ؛ والرابع لابن كيسان : إن «لكن» عاطفة ، والواو زائدة غير لازمة.
وسمع «ما مررت برجل صالح ولكن طالح» بالخفض ، فقيل : على العطف ، وقيل : بجارّ مقدر ، أي : لكن مررت بطالح ، وجاز إبقاء عمل الجار بعد حذفه لقوة الدلالة عليه بتقدّم ذكره.
* (ليس) : كلمة دالة على نفي الحال ، وتنفي غيره بالقرينة ، نحو : «ليس خلق الله مثله» ، وقول الأعشى [من الطويل] :
٣٠٨ ـ له نافلات ما يغبّ نوالها |
|
وليس عطاء اليوم مانعه غدا (١) |
وهي فعل لا يتصرّف ، وزنه «فعل» بالكسر ، ثم التزم تخفيفه ، ولم نقدره «فعل» بالفتح لأنه لا يخفف ، ولا «فعل» بالضم لأنه لم يوجد في يائي العين إلا في «هيؤ» ؛ وسمع «لست» بضمّ اللام ، فيكون على هذه اللغة كـ «هيؤ».
وزعم ابن السّراج أنه حرف بمنزلة «ما» ، وتابعه الفارسي في الحلبيات وابن شقير ، وجماعة ؛ والصواب الأوّل ، بدليل لست ولستما ولستنّ وليسا وليسوا وليست ولسن.
وتلازم رفع الاسم ونصب الخبر ، وقيل : قد تخرج عن ذلك في مواضع :
أحدها : أن تكون حرفا ناصبا للمستثنى بمنزلة «إلّا» ، نحو : «أتوني ليس زيدا» والصّحيح أنها الناسخة ، وأن اسمها ضمير راجع للبعض المفهوم مما تقدّم ، واستتاره واجب ؛ فلا يليها في اللفظ إلا المنصوب ، وهذه المسألة كانت سبب قراءة سيبويه للنحو ، وذلك أنه جاء إلى حمّاد بن سلمة لكتابة الحديث ، فاستملى منه قوله صلىاللهعليهوسلم : «ليس
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو للأعشى في ديوانه ص ١٨٧ وشرح شواهد المغني ص ٥٧٧ وللأعشى أو للنابغة الجعدي في تخليص الشواهد ص ٢٢٧.
من أصحابي أحد إلّا ولو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدّرداء» فقال سيبويه : ليس أبو الدرداء ، فصاح به حماد : لحنت يا سيبويه ، إنما هذا استثناء ، فقال سيبويه : والله لأطلبنّ علما لا يلحنني معه أحد ، ثم مضى ولزم الخليل وغيره.
والثاني : أن يقترن الخبر بعدها بـ «إلّا» نحو : «ليس الطّيب إلا المسك» بالرفع ، فإنّ بني تميم يرفعونه حملا لها على «ما» في الإهمال عند انتقاض النفي ، كما حمل أهل الحجاز «ما» على «ليس» في الإعمال عند استيفاء شروطها ، حكى ذلك عنهم أبو عمرو بن العلاء ، فبلغ ذلك عيسى بن عمر الثقفي ، فجاءه فقال له : يا أبا عمرو ما شيء بلغني عنك؟ ثم ذكر ذلك له ، فقال له أبو عمرو : نمت وأدلج الناس ، ليس في الأرض تميميّ إلا وهو يرفع ، ولا حجازي إلا وهو ينصب ، ثم قال لليزيدي ولخلف الأحمر: اذهبا إلى أبي مهدي فلقّناه الرفع فإنه لا يرفع ، وإلى المنتجع التميمي فلقّناه النصب فإنّه لا ينصب ، فأتياهما وجهدا بكلّ منهما أن يرجع عن لغته فلم يفعل ، فأخبرا أبا عمرو وعنده عيسى ، فقال له عيسى : بهذا فقت الناس.
وخرّج الفارسيّ ذلك على أوجة :
أحدها : أن في «ليس» ضمير الشأن ، ولو كان كما زعم لدخلت إلا على أول الجملة الاسمية الواقعة خبرا فقيل : ليس إلا الطيب المسك ، كما قال [من الطويل] :
٣٠٩ ـ ألا ليس إلّا ما قضى الله كائن ، |
|
وما يستطيع المرء نفعا ولا ضرّا (١) |
وأجاب بأن «إلا» قد توضع في غير موضعها مثل : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) [الجاثية : ٣٢] ، وقوله [من المتقارب] :
٣١٠ ـ [أحلّ له الشيب أثقاله] |
|
وما اغترّه الشّيب إلّا اغترارا (٢) |
أي إن نحن إلّا نظنّ ظنّا ، وما اغترّه اغترارا إلا الشيب ؛ لأن الاستثناء المفرغ لا يكون في المفعول المطلق التّوكيدي ، لعدم الفائدة فيه. وأجيب بأن المصدر في الآية والبيت نوعيّ على حذف الصفة ، أي : إلّا ظنّا ضعيفا وإلا اغترارا عظيما.
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في الجنى الداني ص ٤٩٦ ، وشرح شواهد المغني ص ٧٠٤.
(٢) البيت من المتقارب ، وهو للأعشى في ديوانه ص ٩٥ ، وخزانة الأدب ٣ / ٣٧٤ ، وبلا نسبة في شرح شواهد المغني ص ٧٠٤.
والثاني : أن «الطيب» اسمها ، وأن خبرها محذوف ، أي في الوجود ، وأن «المسك» بدل من اسمها.
الثالث : أنه كذلك ، ولكن «إلا المسك» نعت للاسم ، لأن تعريفه تعريف الجنس ، فهو نكرة معنى ، أي : ليس طيب غير المسك طيبا.
ولأبي نزار الملقّب بملك النحاة توجيه آخر ، وهو أن «الطيب» اسمها ، و «المسك» مبتدأ حذف خبره ، والجملة خبر «ليس» ، والتقدير : إلا المسك أفخره.
وما تقدّم من نقل أبي عمرو أن ذلك لغة تميم يردّ هذه التأويلات.
وزعم بعضهم عن قائل ذلك أنه قدّرها حرفا ، وأن من ذلك قولهم : «ليس خلق الله مثله» ، وقوله [من البسيط] :
٣١١ ـ هي الشّفاء لدائي لو ظفرت بها ، |
|
وليس منها شفاء النّفس مبذول (١) |
ولا دليل فيهما : لجواز كون «ليس» فيهما شأنيّة.
الموضع الثالث : أن تدخل على الجملة الفعلية ، أو على المبتدأ والخبر مرفوعين كما مثلنا ، وقد أجبنا عن ذلك.
الرابع : أن تكون حرفا عاطفا ، أثبت ذلك الكوفيّون أو البغداديّون ، على خلاف بين النّقلة ، واستدلّوا بنحو قوله [من الرجز] :
٣١٢ ـ أين المفرّ والإله الطّالب ، |
|
والأشرم المغلوب ، ليس الغالب (٢) |
وخرج على أن «الغالب» اسمها والخبر محذوف ؛ قال ابن مالك : وهو في الأصل ضمير متّصل عائد على الأشرم ، أي ليسه الغالب ، كما تقول : «الصديق كانه زيد» ثم حذف لاتّصاله. ومقتضى كلامه أنه لو لا تقديره متصلا لم يجز حذفه ، وفيه نظر.
ـ حرف الميم ـ
* (ما) : تأتي على وجهين : اسمية ، وحرفية ، وكل منهما ثلاثة أقسام. فأما أوجه الاسمية.
__________________
(١) البيت من البسيط ، وهو لهشام بن عقبة في الأزهية ص ١٩١ ، والأشباه والنظائر ٥ / ٨٥ ، والدرر ٢ / ٤٢ ، ولذي الرمة في شرح أبيات سيبوية ١ / ٤٢١.
(٢) البيت من الرجز ، وهو لنفيل بن حبيب الحميري في الدرر ٦ / ١٤٦ وشرح شواهد المغني ص ٧٠٥ ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٤٩٨.
فأحدها : أن تكون معرفة ، وهي نوعان : ناقصة ، وهي الموصولة ، نحو : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) [النحل : ٩٦] ، وتامّة ، وهي نوعان : عامّة أي : مقدّرة بقولك الشيء ، وهي التي يتقدّمها اسم تكون هي وعاملها صفة له في المعنى ، نحو : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) [البقرة : ٢٧١] ، أي : فنعم الشيء هي ؛ والأصل : فنعم الشيء إبداؤها ، لأن الكلام في الإبداء لا في الصدقات ، ثم حذف المضاف وأنيب عنه المضاف إليه ، فانفصل وارتفع ، وخاصّة وهي التي تقدمها ذلك ، وتقدّر من لفظ ذلك الاسم ، نحو : «غسلته غسلا نعمّا» و «دققته دقّا نعمّا» ، أي : نعم الغسل ونعم الدقّ. وأكثرهم لا يثبت مجيء «ما» معرفة تامة ، وأثبته جماعة منهم ابن خروف ونقله عن سيبويه.
والثاني : أن تكون نكرة مجرّدة عن معنى الحرف ، وهي أيضا نوعان : ناقصة ، وتامة.
فالناقصة هي الموصوفة ، وتقدّر بقولك : «شيء» ، كقولهم : «مررت بما معجب لك» ، أي : بشيء معجب لك ، وقوله [من الطويل] :
٣١٣ ـ لما نافع يسعى اللبيب ، فلا تكن |
|
لشيء بعيد نفعه الدّهر ساعيا (١) |
وقول الآخر [من الخفيف] :
٣١٤ ـ رّبّما تكره النّفوس من الأم |
|
ر له فرجة كحلّ العقال (٢) |
أي : رب شيء تكرهه النّفوس ، فحذف العائد من الصفة إلى الموصوف. ويجوز أن تكون «ما» كافة ، والمفعول المحذوف اسما ظاهرا ، أي قد تكره النفوس من الأمر شيئا ، أي : وصفا فيه ، أو الأصل : أمرا من الأمور ، وفي هذا إنابة المفرد عن الجمع ، وفيه وفي الأول إنابة الصّفة غير المفردة عن الموصوف ؛ إذ الجملة بعده صفة له ؛ وقد قيل في : (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) [النساء : ٥٨] : إن المعنى نعم هو شيئا يعظكم به. فـ «ما» نكرة تامّة تمييز ، والجملة صفة ، والفاعل مستتر ؛ وقيل : «ما» معرفة موصولة فاعل ، والجملة صلة ، وقيل غير ذلك. وقال سيبويه في : (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) [ق : ٢٣] : المراد : شيء لدّي عتيد ، أي : معدّ أي لجهنّم بإغوائي إياه ، أو حاضر ؛ والتفسير الأول رأي
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ٧٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٠٧.
(٢) البيت من الخفيف ، وهو لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص ٥٠ ، وحماسة البحتري ص ٢٢٣ ، وخزانة الأدب ٦ / ١٠٨ ، ١١٣ ، والدرر ١ / ٧٧.
الزمخشري ، وفيه أن «ما» حينئذ للشخص العاقل ، وإن قدرت «ما» موصولة فـ «عتيد» بدل منها ، أو خبر ثان ، أو خبر لمحذوف.
والتامة تقع في ثلاثة أبواب :
أحدها : التعجّب ،نحو : «ما أحسن زيدا» المعنى : شيء حسّن زيدا ، جزم بذلك جميع البصريين ، إلا الأخفش فجوّزه ، وجوّز أن تكون معرفة موصولة والجملة بعدها صلة لا محلّ لها ، وأن تكون نكرة موصوفة والجملة بعدها في موضع رفع نعتا لها ؛ وعليهما فخبر المبتدأ محذوف وجوبا ، وتقديره : شيء عظيم ونحوه.
الثاني : باب «نعم» و «بئس» ، نحو : «غسلته غسلا نعمّا» ، و «دققته دقّا نعمّا» ، أي : نعم شيئا ، فـ «ما» : نصب على التمييز عند جماعة من المتأخّرين منهم الزمخشري ، وظاهر كلام سيبويه أنها معرفة تامّة كأمر.
والثالث : قولهم إذا أرادوا المبالغة في الإخبار عن أحد بالإكثار من فعل كالكتابة : «إنّ زيدا ممّا أن يكتب» أي : أنه من أمر كتابة ، أي : أنه مخلوق من أمر ، وذلك الأمر هو الكتابة ، فـ «ما» بمعنى شيء ، و «أن» وصلتها في موضع خفض بدل منها ، والمعنى بمنزلته في : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء : ٣٧] جعل لكثرة عجلته كأنه خلق منها. وزعم السيرافي وابن خروف وتبعهما ابن مالك ونقله عن سيبويه أنها معرفة تامّة بمعنى الشيء أو الأمر ، و «أن» وصلتها مبتدأ ، والظرف خبره ، والجملة خبر لـ «إنّ» ، ولا يتحصّل للكلام معنى طائل على هذا التقدير.
الثالث : أن تكون نكرة مضمّنة معنى الحرف ، وهي نوعان :
أحدها : الاستفهاميّة ، ومعناها أي شيء ، نحو : (ما هِيَ) [البقرة ٢ : ٧٠] ، (ما لَوْنُها) [البقرة : ٦٩] ، (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) [طه : ١٧] ، (قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) [يونس : ٨١] ، وذلك على قراءة أبي عمرو (السِّحْرُ) بمد الألف. فـ «ما» : مبتدأ ، والجملة بعدها خبر ، و «آلسحر» : إما بدل من «ما» ، ولهذا قرن بالاستفهام ، وكأنه قيل : آلسحر جئتم به ، وإما بتقدير : أهو السحر ، أو آلسحر هو ؛ وأمّا من قرأ (السِّحْرُ) على الخبر فـ «ما» موصولة و «السحر» خبرها ، ويقوّيه قراءة عبد الله (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ).
ويجب حذف ألف «ما» الاستفهامية إذا جرّت وإبقاء الفتحة دليلا عليها ، نحو :«فيم» ، و «إلام» ، و «علام» ، و «بم» ، وقال [من الطويل] :
٣١٥ ـ فتلك ولاة السّوء قد طال مكثهم، |
|
فحتّام حتّام العناء المطوّل (١) |
وربما تبعت الفتحة الألف في الحذف ، وهو مخصوص بالشعر ، كقوله [من الرمل]:
٣١٦ ـ يا أبا الأسود لم خلفتني |
|
لهموم طارقات وذكر (٢) |
وعلّة حذف الألف الفرق بين الاستفهام والخبر ؛ فلهذا حذفت في نحو : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) (٤٣) [النازعات : ٤٣] ، (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) [النمل : ٣٥] ، (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٢] ، وثبتت في (لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) [النور : ١٤] ، (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [البقرة : ٤] ، (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] ، وكما لا تحذف الألف في الخبر لا تثبت في الاستفهام ، وأما قراءة عكرمة وعيسى عما يتساءلون [النبأ : ١] فنادر ، وأما قول حسان [من الوافر] :
٣١٧ ـ على ما قام يشتمني لئيم |
|
كخنزير تمرّغ في دمان (٣) |
فضرورة ، والدمان كالرماد وزنا ومعنى ، ويروى «في رماد» فلذلك رجحته على تفسير ابن الشجري له بالسرجين ، ومثله قول الآخر [من البسيط] :
٣١٨ ـ إنّا قتلنا بقتلانا سراتكم ، |
|
أهل اللّواء ، ففيما يكثر القيل (٤) |
ولا يجوز حمل القراءة المتواترة على ذلك لضعفه ؛ فلهذا ردّ الكسائي قول المفسّرين في (بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) [يس : ٢٧] إنها استفهامية ، وإنما هي مصدريّة ، والعجب من الزمخشري إذ جوّز كونها استفهاميّة مع ردّه على من قال في (بِما أَغْوَيْتَنِي) [الحجر : ٣٩] إن المعنى : بأي شيء أغويتني ، بأن إثبات الألف قليل شاذّ ، وأجاز هو وغيره أن تكون بمعنى : الذي ، وهو بعيد ؛ لأن الذي غفر له هو الذنوب ، ويبعد إرادة الاطّلاع عليها ، وإن غفرت. وقال جماعة منهم الإمام فخر الدين في : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) [آل عمران : ١٥٩] إنها للاستفهام التعجّبي ، أي : فبأيّ رحمة ، ويردّه ثبوت الألف ، وأن خفض «رحمة»
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو للكميت في الدرر ٦ / ٤٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٠٩ وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في الدرر ٤ / ٧٣ ، وشرح الأشموني.
(٢) البيت من الرمل ، وهو بلا نسبة في الإنصاف ١ / ٢١١ ، وخزانة الأدب ٦ / ١٠٠ ، والدرر ٦ / ٣١٠ ، وشرح المغني ٢ / ٧٠٩.
(٣) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة في مجمل اللغة ٣ / ٢٦٨ ، ومقاييس اللغة ٣ / ٣٤٥.
(٤) البيت من البسيط ، وهو لكعب بن مالك في ديوانه ص ٢٥٥ ، وخزانة الأدب ٦ / ١٠١ ـ ١٠٥ وتاج العروس مادة / لوي /.
حينئذ لا يتّجه ، لأنها لا تكون بدلا من «ما» إذ المبدل من اسم الاستفهام يجب اقترانه بهمزة الاستفهام ، نحو : «ما صنعت أخيرا أم شرّا» ، ولأن «ما» النكرة الواقعة في غير الاستفهام والشرط لا تستغني عن الوصف ، إلا في بابي التعجّب و «نعم» و «بئس» ، وإلّا في نحو قولهم : «إني ممّا أن أفعل» على خلاف فيهن ، وقد مرّ ، ولا عطف بيان ؛ لهذا ، ولأن «ما» الاستفهامية لا توصف ، وما لا يوصف كالضمير لا يعطف عليه عطف بيان ، ولا مضافا إليه ؛ لأن أسماء الاستفهام وأسماء الشرط والموصولات لا يضاف منها غير أيّ باتّفاق ، و «كم» في الاستفهام عند الزجّاج في نحو : «بكم درهم اشتريت» ، والصحيح أن جرّه بـ «من» محذوفة.
وإذا ركّبت «ما» الاستفهاميّة مع «ذا» لم تحذف ألفها ، نحو : «لماذا جئت» ، لأن ألفها قد صارت حشوا.
* * *
وهذا فصل عقدته في «لماذا»
اعلم أنها تأتي في العربيّة على أوجه :
أحدها : أن تكون «ما» استفهاميّة و «ذا» إشارة ، نحو : «ما ذا التّواني؟» و «ما ذا الوقوف»؟.
والثاني : أن تكون «ما» استفهاميّة و «ذا» موصولة ، كقول لبيد [من الطويل] :
٣١٩ ـ ألا تسألان المرء ما ذا يحاول |
|
أنحب فيقضى أم ضلال وباطل؟ (١) |
ف «ما» مبتدأ ، بدليل إبداله المرفوع منها ، و «ذا» : موصول ، بدليل افتقاره للجملة بعده ، وهو أرجح الوجهين في : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة : ٢١٩] فيمن رفع «العفو» ، أي : الذي ينفقونه العفو ، إذ الأصل أن تجاب الاسميّة بالاسميّة والفعليّة بالفعليّة.
الثالث : أن يكون «ماذا» كلّه استفهاما على التّركيب كقولك : «لماذا جئت؟» ، وقوله [من البسيط] :
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ٢٥٤ ، والأزهية ص ٢٠ ، وخزانة الأدب ٢ / ٢٥٢ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ١٥٩ ، ورصف المباني ص ١٨٨.
٣٢٠ ـ يا خزر تغلب ما ذا بال نسوتكم |
|
لا يسحتفقن إلى الدّيرين تحنانا؟ (١) |
وهو أرجح الوجهين في الآية في قراءة غير أبي عمرو (قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة : ٢١٩] بالنصب ، أي : ينفقون العفو.
الرابع : أن يكون «ماذا» كلّه اسم جنس بمعنى شيء ، أو موصولا بمعنى «الذي» ، على خلاف في تخريج قول الشاعر [من الوافر] :
٣٢١ ـ دعي ما ذا علمت سأتقيه |
|
ولكن بالمغيّب نبّئيني (٢) |
فالجمهور على أن «ماذا» كله مفعول «دعي» ، ثم اختلف فقال السيرافي وابن خروف : «ما» موصول بمعنى «الذي» ، وقال الفارسي : نكرة بمعنى «شيء» ، قال : لأن التركيب ثبت في الأجناس دون الموصولات.
وقال ابن عصفور : لا تكون «ماذا» مفعولا لـ «دعي» ؛ لأن الاستفهام له الصدر ؛ ولا لـ «علمت» ، لأنه لم يرد أن يستفهم عن معلومها ما هو ، ولا لمحذوف يفسره سأتّقيه ؛ لأن «علمت» حينئذ لا محلّ لها ، بل «ما» اسم استفهام مبتدأ ، و «ذا» موصول خبر ، و «علمت» صلة ، وعلّق «دعي» عن العمل بالاستفهام ، انتهى.
ونقول : إذا قدّرت «ماذا» بمعنى «الذي» أو بمعنى «شيء» لم يمتنع كونها مفعول «دعي» ، وقوله : «لم يرد أن يستفهم عن معلومها» لازم له إذا جعل «ماذا» مبتدأ وخبرا ؛ ودعواه تعليق «دعي» مردودة بأنها ليست من أفعال القلوب ؛ فإن قال : إنما أردت أنه قدّر الوقف على «دعي» فاستأنف ما بعده ردّه قول الشاعر : «ولكن» فإنها لا بدّ أن يخالف ما بعدها ما قبلها ، والمخالف هنا «دعي» ، فالمعنى : دعي كذا ، ولكن افعلي كذا ، وعلى هذا فلا يصح استئناف ما بعد «دعي» ، لأنه لا يقال : من في الدار فإنّني أكرمه ولكن أخبرني عن كذا.
الخامس : أن تكون «ما» زائدة و «ذا» للإشارة ، كقوله [من الوافر] :
٣٢٢ ـ أنورا سرع ما ذا ، يا فروق ، |
|
وحبل الوصل منتكث حذيق (٣) |
__________________
(١) البيت من البسيط ، وهو لجرير في ديوانه ص ١٦٧ ، والجنى الداني ص ٢٤٠ ، والدرر ١ / ٢٧٠ وبلا نسبة في همع الهوامع ١ / ٨٤.
(٢) البيت من الوافر ، وهو للمثقب العبدي في ديوانه ص ٢١٣ ، وخزانة الأدب ٧ / ٤٨٩ ، ولأبي حية النميري في ديوانه ص ١٧٧.
(٣) البيت من الوافر ، وهو لمالك بن رغبة الباهلي في لسان العربي ٥ / ٢٤٤ مادة / نور /.
«أنورا» بالنون أي : أنفارا ، سرع : أصله بضمّ الراء فخفّف ، يقال : سرع ذا خروجا ، أي : أسرع هذا في الخروج ، قال الفارسي : يجوز كون «ذا» فاعل سرع ، و «ما» زائدة ، ويجوز كون «ماذا» كله اسما كما في قوله [من الوافر] :
٣٢٣ ـ دعي ما ذا علمت سأتّقيه |
|
[ولكن بالمغيّب نبّئيني](١) |
السادس : أن تكون «ما» استفهاما و «ذا» زائدة ، أجازه جماعة منهم ابن مالك في نحو : «ماذا صنعت» ، وعلى هذا التّقدير فينبغي وجوب حذف الألف في نحو : «لم ذا جئت» ، والتّحقيق أن الأسماء لا تزاد.
* * *
النوع الثاني : الشرطية ، وهي نوعان : غير زمانيّة ، نحو : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) [البقرة : ١٩٧] ، (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦] ، وقد جوزت في (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] على أن الأصل : وما يكن ، ثم حذف فعل الشرط ، كقوله [من الطويل] :
٣٢٤ ـ إن العقل في أموالنا لا نضق بها |
|
ذراعا ، وإن صبرا فنصبر للصّبر (٢) |
أي : إن يكن العقل ، وإن نحبس حبسا ، والأرجح في الآية أنها موصولة ، وأن الفاء داخلة على الخبر ، لا شرطيّة والفاء داخلة على الجواب.
وزمانية ،أثبت ذلك الفارسي وأبو البقاء وأبو شامة وابن برّي وابن مالك ، وهو ظاهر في قوله تعالى : (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) [التوبة : ٧] ، أي : استقيموا لهم مدّة استقامتهم لكم ، والمحتمل في (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) [النساء : ٢٤].
إلا أن «ما» هذه مبتدأ لا ظرفية ، والهاء من «به» راجعة إليها ، ويجوز فيها الموصولية و «فآتوهنّ» الخبر ، والعائد محذوف أي : لأجله ، وقال [من الوافر] :
٣٢٥ ـ فما تك يا ابن عبد الله ، فينا |
|
فلا ظلما نخاف ولا افتقارا (٣) |
__________________
(١) تقدم تخريجه.
(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو لهدبة بن الخشرم في ديوانه ص ٩٨ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣٣٧ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٧٦ ، والكتاب ١ / ٢٥٩.
(٣) البيت من البحر الوافر ، وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٧١٥.
استدلّ به ابن مالك على مجيئها للزمان ، وليس بقاطع ؛ لاحتماله للمصدر ؛ أي للمفعول المطلق ، فالمعنى : أيّ كون تكون فينا طويلا أو قصيرا.
وأما أوجه الحرفية :
فأحدها : أن تكون نافية ،فإن دخلت على الجملة الاسمية أعملها الحجازيّون والتهاميّون والنجديّون عمل «ليس» بشروط معروفة ، نحو : (ما هذا بَشَراً) [يوسف : ٣١] ، (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) [المجادلة : ٢] ، وعن عاصم أنه رفع «أمهاتهم» على التميميّة ، وندر تركيبها مع النكرة تشبيها لها بـ «لا» كقوله [من الطويل] :
٣٢٦ ـ وما بأس لو ردّت علينا تحيّة |
|
قليل على من يعرف الحقّ عابها (١) |
وإن دخلت على الفعليّة لم تعمل ، نحو : (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) [البقرة : ٢٧٢] ، فأما : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) [البقرة : ٢٧٢] ، (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) [البقرة : ٢٧٢] ، فـ «ما» فيهما شرطيّة ، بدليل الفاء في الأولى والجزم في الثانية ؛ وإذا نفت المضارع تخلّص عند الجمهور للحال. وردّ عليهم ابن مالك بنحو : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ) [يونس : ١٥] وأجيب بأن شرط كونه للحال انتفاء قرينة خلافه.
والثاني : أن تكون مصدريّة ، وهي نوعان : زمانية ، وغيرها.
فغير الزمانية نحو : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) [التوبة : ١٢٨] ، (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) [آل عمران : ١١٨] ، (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) [التوبة : ٢٥ ، ١١٨] ، (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) [السجدة : ١٤] ، (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) [ص : ٢٦] ، (لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) [القصص : ٢٥] وليست هذه بمعنى «الذي» ، لأن الذي سقاه لهم الغنم ، وإنما الأجر على السّقي الذي هو فعله ، لا على الغنم ، فإن ذهبت تقدّر أجر السقي الذي سقيته لنا فذلك تكلّف لا محوج إليه ، ومنه (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة : ١٠] و [التوبة : ٧٧] ، (آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) [البقرة : ١٣] ، وكذا حيث اقترنت بكاف التشبيه بين فعلين متماثلين.
وفي هذه الآيات ردّ لقول السّهيلي : أن الفعل بعد «ما» هذه لا يكون خاصا ، فتقول : «أعجبني ما تفعل» ولا يجوز «أعجبني ما تخرج».
والزمانيّة ، نحو : (ما دُمْتُ حَيًّا) [مريم : ٣١] أصله : مدّة دوامي حيّا ، فحذف الظرف
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في تاج العروس مادة / ما /.
وخلفته «ما» وصلتها ، كما جاء في المصدر الصريح ، نحو : «جئتك صلاة العصر» ، و «آتيك قدوم الحاج» ، ومنه (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) [هود : ٨٨] ، (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] ، وقوله [من الطويل] :
٣٢٧ ـ أجارتنا إنّ الخطوب تنوب |
|
وإنّي مقيم ما أقام عسيب (١) |
ولو كان معنى كونها زمانيّة أنها تدل على الزمان بذاتها لا بالنيابة لكانت اسما ولم تكن مصدرية كما قال ابن السكيت وتبعه ابن الشجري في قوله [من البسيط] :
٣٢٨ ـ منّا الّذي هو ما إن طرّ شاربه ، |
|
والعانسون ، ومنّا المرد والشّيب (٢) |
معناه : حين طرّ ، قلت : وزيدت «أن» بعدها لشبهها في اللفظ بـ «ما» النافية ، كقوله [من الطويل] :
٣٢٩ ـ ورجّ الفتى للخير ما إن رأيته |
|
على السّنّ خيرا لا يزال يزيد (٣) |
وبعد فالأولى في البيت تقدير «ما» نافية ، لأن زيادة «إن» حينئذ قياسية ، ولأن فيه سلامة من الإخبار بالزمان عن الجثّة ، ومن إثبات معنى واستعمال لـ «ما» لم يثبتا له ـ وهما كونها للزمان مجرّدة ، وكونها مضافة ـ وكأن الذي صرفهما عن هذا الوجه مع ظهوره أن ذكر «المرد» بعد ذلك لا يحسن ؛ إذ الذي لم ينبت شاربه أمرد ، والبيت عندي فاسد التقسيم بغير هذا ، ألا ترى أن العانسين ـ وهم الذين لم يتزوّجوا ـ لا يناسبون بقية الأقسام ، وإنما العرب محميّون من الخطأ في الألفاظ دون المعاني. ـ وفي البيت ـ مع هذا العيب ـ شذوذان : إطلاق العانس على المذكر ، وإنما الأشهر استعماله في المؤنث ، وجمع الصّفة بالواو والنون مع كونها غير قابلة للتاء ولا دالة على المفاضلة.
وإنما عدلت عن قولهم : «ظرفيّة» إلى قولي «زمانيّة» ليشمل نحو : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) [البقرة : ٢٠] ، فإن الزمان المقدّر هنا مخفوض ، أي : كل وقت إضاءة ، والمخفوض لا يسمّى ظرفا.
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٣٥٧ ، وخزانة الأدب ٨ / ٥٥١ ، وشرح شواهد المغني ص ٧١٥ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٣٣٨.
(٢) البيت من البسيط ، وهو لأبي قيس بن رفاعة في إصلاح المنطق ص ٣٤١ ، ولسان العرب ٦ / ١٤٩ مادة / عنس / ، ولأبي قيس بن رفاعة ، أو قيس بن الأسلت في الدرر ١ / ١٣١.
(٣) البيت من الطويل ، وهو للمعلوط القريعي في شرح التصريح ١ / ١٨٩ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٥ ـ وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ١٨٧.
ولا تشارك «ما» في النيابة عن الزمان «أن» خلافا لابن جنّي ، وحمل عليه قوله [من الطويل] :
٣٣٠ ـ وتالله ما إن شهلة أمّ واحد |
|
بأوجد منّي أن يهان صغيرها (١) |
وتبعه الزمخشري ، وحمل عليه قوله تعالى : (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) [البقرة : ٢٥٨] ، (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) [النساء : ٩٢] ، (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) [غافر : ٢٨] ، ومعنى التعليل في البيت والآيات ممكن ، وهو متّفق عليه ؛ فلا معدل عنه.
وزعم ابن خروف أن «ما» المصدريّة حرف باتّفاق ، وردّ على من نقل فيها خلافا ، والصّواب مع ناقل الخلاف ، فقد صرّح الأخفش وأبو بكر باسميّتها ، ويرجّحه أن فيه تخلّصا من دعوى اشتراك لا داعي إليه ؛ فإن «ما» الموصولة الاسمية ثابتة باتّفاق ، وهي موضوعة لما لا يعقل ، والأحداث من جملة ما لا يعقل ، فإذا قيل : «أعجبني ما قمت» قلنا : التقدير : أعجبني الذي قمته ؛ وهو يعطي معنى قولهم : أعجبني قيامك ؛ ويردّ ذلك أن نحو : «جلست ما جلس زيد» تريد به المكان ممتنع مع أنه مما لا يعقل ، وأنه يستلزم أن يسمع كثيرا «أعجبني ما قمته» لأنه عندهما الأصل ، وذلك غير مسموع ، قيل : ولا ممكن ، لأن «قام» غير متعدّ ؛ وهذا خطأ بيّن ، لأن الهاء المقدّرة مفعول مطلق لا مفعول به. وقال ابن الشجري : أفسد النحويّون تقدير الأخفش بقوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة : ١٠] فقالوا : إن كان الضمير المحذوف للنبيّ عليهالسلام ، أو للقرآن ، صحّ المعنى وخلت الصلة عن عائد ، أو للتّكذيب فسد المعنى ، لأنهم إذا كذبوا التكذيب بالقرآن أو النبي كانوا مؤمنين ، ا ه.
وهذا سهو منه ومنهم ؛ لأن كذبوا ليس واقعا على التكذيب ، بل مؤكّد به ، لأنه مفعول مطلق ، ولا مفعول به ، والمفعول به محذوف أيضا ، أي : بما كانوا يكذّبون النبي أو القرآن تكذيبا ونظيره : (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) [النبأ : ٢٨].
ولأبي البقاء في هذه الآية أوهام متعدّدة ؛ فإنه قال : «ما» مصدرية صلتها «يكذّبون» ، و «يكذّبون» خبر «كان» ، ولا عائد على «ما» ؛ ولو قيل باسميّتها ، فتضمّنت مقالته الفصل بين «ما» الحرفية وصلتها بـ «كان» ، وكون يكذّبون في موضع نصب لأنه قدره خبر كان ، وكونه لا موضع له لأنه قدره صلة «ما» ، واستغناء الموصول الاسميّ عن عائد.
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٧١٦.
وللزمخشري غلطة عكس هذه الأخيرة ، فإنه جوّز مصدريّة «ما» في (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) [هود : ١١٦] مع أنّه قد عاد عليها الضمير.
وندر وصلها بالفعل الجامد في قوله [من الطويل] :
٣٣١ ـ أليس أميري في الأمور بأنتما |
|
بما لستما أهل الخيانة والغدر (١) |
وبهذا البيت رجّح القول بحرفيّتها ، إذ لا يتأتّى هنا تقدير الضمير.
الوجه الثالث : أن تكون زائدة ، وهي نوعان : كافّة ، وغير كافّة.
والكافّة ثلاثة أنواع :
أحدها : الكافّة عن عمل الرفع ، ولا تتّصل إلّا بثلاثة أفعال : «قلّ» ، و «كثر» ، و «طال» ، وعلّة ذلك شبههنّ بـ «ربّ». ولا يدخلن حينئذ إلا على جملة فعليّة صرّح بفعلها ، كقوله [من الخفيف] :
٣٣٢ ـ قلّما يبرح اللّبيب إلى ما |
|
يورث المجد داعيا أو مجيبا (٢) |
فأما قول المرّار [من الطويل] :
٣٣٣ ـ صددت فأطولت الصّدود ، وقلّما |
|
وصال على طول الصّدود يدوم (٣) |
فقال سيبويه : ضرورة ، فقيل وجه الضرورة أن حقّها أن يليها الفعل صريحا والشّاعر أولاها فعلا مقدّرا ، وأن «وصال» مرتفع بـ «يدوم» محذوفا مفسّرا بالمذكور ؛ وقيل :
وجهها أنه قدّم الفاعل ، وردّه ابن السيد بأن البصريّين لا يجيزون تقديم الفاعل في شعر ولا نثر ؛ وقيل : وجهها أنه أناب الجملة الاسمية عن الفعلية ، كقوله [من الطويل] :
٣٣٤ ـ [ونبّئت ليلى أرسلت بشفاعة |
|
إليّ] فهلا نفس ليلى شفيعها (٤) |
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في الجنى الداني ص ٣٣٢ وشرح شواهد المغني ٧١٧.
(٢) البيت من الخفيف ، وهو بلا نسبة في تذكرة النحاة ٣٠٤ وشرح التصريح ١ / ١٨٥ ، وشرح شواهد المغني ص ٣٠٦.
(٣) البيت من الطويل ، وهو للمرار الفقعسي في ديوانه ص ٤٨٠ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٢٢٦ والدرر ٥ / ١٩٠ ، وشرح المغني ٢ / ٧١٧.
(٤) البيت من الطويل ، وهو للمجنون في ديوانه ص ١٥٤ ، ولإبراهيم الصولي في ديوانه ص ١٨٥ ولابن الدمينة في ملحق ديوانه ص ٢٠٦.
وزعم المبرّد أن «ما» زائدة ، و «وصال» : فاعل لا مبتدأ ؛ وزعم بعضهم أن «ما» مع هذه الأفعال مصدريّة لا كافّة.
والثاني : الكافّة عن عمل النصب والرفع وهي المتّصلة بـ «إنّ» وأخواتها ، نحو : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) [النساء : ١٧١] ، (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) [الأنفال : ٦] ، ونسمّي المتلوّة بفعل مهيّئة ؛ وزعم ابن درستويه وبعض الكوفيّين أن «ما» مع هذه الحروف اسم مبهم بمنزلة ضمير الشأن في التّفخيم والإبهام ، وفي أن الجملة بعده مفسّرة له ، ومخبر بها عنه ، ويردّه أنها لا تصلح للابتداء بها ، ولا لدخول ناسخ غير «إنّ» وأخواتها ؛ وردّه ابن الخبّاز في شرح الإيضاح بامتناع «إنما أين زيد» مع صحّة تفسير ضمير الشأن بجملة الاستفهام ، وهذا سهو منه ؛ إذ لا يفسّر ضمير الشأن بالجمل غير الخبريّة اللهمّ إلا مع «أن» المخّفّفة من الثّقيلة فإنه قد يفسّر بالدعاء ، نحو : «أما أن جزاك الله خيرا» ، وقراءة بعض السبعة (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) [النور : ٩] ، على أنّا لا نسلم أن اسم «أن» المخفّفة يتعيّن كونه ضمير شأن ؛ إذ يجوز هنا أن يقدّر ضمير المخاطب في الأول والغائبة في الثاني ؛ وقد قال سيبويه في قوله تعالى : (أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) [الصافات : ١٠٤ ـ ١٠٥] إن التقدير : أنك قد صدقت ؛ وأما (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) [الأنعام : ١٣٤] ، (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) [لقمان : ٣٠] ، (إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [النحل : ٩٥] ، (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) [المؤمنون : ٥٥] ، (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) [الأنفال : ٤١] فـ «ما» في ذلك كله اسم باتّفاق ، والحرف عامل ، وأما (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) [البقرة : ١٧٣] ، فمن نصب «الميتة» فـ «ما» : كافّة ؛ ومن رفعها ـ وهو أبو رجاء العطاردي ـ فـ «ما» : اسم موصول ، والعائد محذوف ؛ وكذلك (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) [طه : ٦٩] فمن رفع «كيد» فـ «إنّ» عاملة و «ما» موصولة والعائد محذوف ، لكنه محتمل للاسميّ والحرفيّ ، أي : إن الذي صنعوه ، أو إن صنعهم ؛ ومن نصب ـ وهو ابن مسعود والربيع بن خيثم ـ فـ «ما» كافّة ؛ وجزم النحويّون بأن «ما» كافّة في (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] ، ولا يمتنع أن تكون بمعنى الذي ، والعلماء خبر ، والعائد مستتر في «يخشى».
وأطلقت «ما» على جماعة العقلاء ، كما في قوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النساء : ٣] ، (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] وأما قول النابغة [من البسيط] :
٣٣٥ ـ قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا |
|
[إلى حمامتنا أو نصفه فقد](١) |
فمن نصب «الحمام» ، وهو الأرجح عند النحويين في نحو : «ليتما زيدا قائم» فـ «ما» : زائدة غير كافّة ، و «هذا» : اسمها ، و «لنا» : الخبر ، قال سيبويه : وقد كان رؤبة بن العجّاج ينشده رفعا ، ا ه. فعلى هذا يحتمل أن تكون «ما» كافّة ، و «هذا» مبتدأ ؛ ويحتمل أن تكون موصولة و «هذا» خبر لمحذوف ، أي : ليت الذي هو هذا الحمام لنا ؛ وهو ضعيف ، لحذف الضمير المرفوع في صلة غير «أيّ» مع عدم الطول ، وسهل ذلك لتضمنه إبقاء الإعمال.
وزعم جماعة من الأصوليّين والبيانيين أن «ما» الكافّة التي مع «إنّ» نافية ، وأن ذلك سبب إفادتها للحصر ، قالوا : لأن «إنّ» للإثبات ، و «ما» للنفي ، فلا يجوز أن يتوجّها معا إلى شيء واحد ، لأنه تناقض ؛ ولا أن يحكم بتوجه النفي للمذكور بعدها ، لأنه خلاف الواقع باتّفاق ، فتعيّن صرفه لغير المذكور وصرف الإثبات للمذكور ، فجاء الحصر.
وهذا البحث مبنيّ على مقدّمتين باطلتين بإجماع النحويين ، إذ ليست «إنّ» للإثبات ، وإنما هي لتوكيد الكلام إثباتا كان مثل «إنّ زيدا قائم» ، أو نفيا مثل «إنّ زيدا ليس بقائم» ، ومنه : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) [يونس : ٤٤] ؛ وليست «ما» للنفي ، بل هي بمنزلتها في أخواتها «ليتما» و «لعلّما» و «لكنّما» و «كأنّما» ، وبعضهم ينسب القول بأنها نافية للفارسيّ في كتاب الشيرازيّات ، ولم يقل ذلك الفارسيّ لا في الشيرازيّات ولا في غيرها ، ولا قاله نحوي غيره ، وإنما قال الفارسيّ في الشيرازيّات : إن العرب عاملوا «إنما» معاملة النفي و «إلا» في فصل الضمير كقول الفرزدق [من الطويل] :
٣٣٦ ـ [أنا الذّائد الحامي الذّمار] ، وإنّما |
|
يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي (٢) |
فهذا كقول الآخر [من السريع] :
٣٣٧ ـ قد علمت سلمى وجاراتها |
|
ما قطّر الفارس إلّا أنا (٣) |
__________________
(١) البيت من البسيط ، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص ٢٤ والأزهية ص ٨٩ ـ ١١٤ والأغالي ١١ / ٣١ ، والإنصاف ٢ / ٤٧٩.
(٢) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ٢ / ١٥٣ ، وتذكرة النحاة ص ٨٥ ، وخزانة الأدب ٤ / ٤٦٥ ، والدرر ١ / ١٩٦ ، ولأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص ٤٨ ، وبلا نسبة من الأشباه والنظائر ٢ / ١١١ ـ ١١٤.
(٣) البيت من السريع ، وهو لعمرو بن معد يكرب في ديوانه ص ١٦٧ ، والأغاني ١٥ / ١٦٩ وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٤١١.